- الفقه الإسلامي / ٠6العبادات التعاملية
- /
- ٠2الربا
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
التوازن التشريعي :
أيها الأخوة الأكارم، نحن في الإطار العام في موضوع الربا، ولكن في الموضوعات التي عولجت في الأسابيع السابقة دخلنا في موضوع القرض لأن القرض الحسن هو بديل الربا.
في مجتمع الاستغلال: الربا، وفي مجتمع الإحسان: القرض الحسن، من يريد الدنيا يرابي، و من يريد الآخرة يقرض القرض الحسن، لكن قبل أن نتابع موضوع القرض أحب أن أضع بين أيديكم حقيقة أساسية من حقائق الإسلام ألا وهي التوازن التشريعي مثلاً: النبي عليه الصلاة والسلام يقول لمن سأله عن علاقة أبيه بماله قال له: "أنت ومالك لأبيك"، وتوجه إلى الآباء فقال: "رحم الله والداً أعان ولده على بره".
الله عز وجل يرحم أباً رحم ابنه، أحياناً يجعله عنده في المحل ويقول له أبوه: ألا تأكل؟ و يقول هو: أريد أن أتزوج وأفتح بيتاً، لا يصح أن يتوازى ابن يعمل مع أبيه ليلاً نهاراً مع ابن لا يعمل معه.
"رحم الله والداً أعان ولده على بره"، توجه للرجال فقال: "أكرموا النساء فوالله ما أكرمهن إلا كريم ولا أهانهن إلا لئيم، يغلبن كل كريم ويغلبهن لئيم، وأنا أحب أن أكون كريماً مغلوباً من أن أكون لئيماً غالباً".
لما توجه إلى النساء قال: "اعلمي أيتها المرأة وأعلمي من دونك من النساء أن حسن تبعل المرأة زوجها يعدل الجهاد في سبيل الله"، في الإسلام توازن، مثلاً إذا عقد إنسان عقداً على امرأة ولم يدخل بها ثم بدا له أن يطلقها قال تعالى:
﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾
فلها نصف المهر، فإن كان المهر مئتي ألف فلها مئة ألف، العقد تمّ البارحة واليوم بدا لك أن تنسحب من هذا العقد، و أن تطلق ادفع مئة ألف، أمرَ الزوجَ أن يدفع نصف المهر، فللبنت المخطوبة و أهلها كرامة، لكن لفت نظر الأهل، قال تعالى:
﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾
ليلة واحدة مئة ألف ليس معقولاً، جلس دقيقتين معها بحضور أهلها، اسمح لنا بمئة ألف، لكنهم سامحوك هي و أهلها، توجه للشاب قال تعالى:
﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾
قدم لها سواراً، عَفَوْكَ من مئة ألف فقط قدم سواراً، هناك توازن، الأطراف المتقابلة دائماً يأمر كل طرف أن يكون محسناً، وفق هذا الموضوع هناك أمثلة كثيرة، الآباء والأبناء، الأزواج والزوجات، كل إنسان أعطاه الله عز وجل الموقف الكامل وأنصفه.
قصتان ملحقتان بالدرس السابق :
الدرس الماضي والذي قبله والذي قبله كلها فيها حثٌّ على الإقراض الحسن، مرة مثل الصدقة، ومرة مثلا الصدقة، ومرة شطر الصدقة، إذا أردت أن تنفرج كربتك فأَنظرْ المعسر.
آيات وأحاديث وتوجيهات ومواقف من النبي عليه الصلاة والسلام ومن أصحاب رسول الله تدعونا إلى أن نقرض، وأن ننظر المعسر، اليوم موضوع آخر هو: التوازن في الإسلام.
دعوة الله عز وجل ودعوة نبيه إلى المقترض أن يفي بالقرض، وإلا لو أنه مات شهيداً في سبيل الله، فشهادته لا تعفيه من الدين، لكن قبل أن نمضي في موضوع الحث والتشديد على أداء الدين هناك قصتان ملحقتان بالدرس السابق وردتا في حديثين، فاسمعوهما؛ و كونوا ممن يستمع القول فيتبعون أحسنه.
طبعاً تحدثنا عن إنظار المعسر، وكيف أن إنظار المعسر عمل طيب و كبير، وقد ذكرت لكم آيات وأحاديث كثيرة جداً تبين فضل إنظار المعسر، بل تبين فضل أن تضع شطراً من دَينه، بل تبين فضل أن تعفيه من هذا الدين أما الموقف العملي فما رواه عبد الله عن أبي قتادة عن أبيه أنه كان يطلب رجلاً بحق فاختبأ منه. عبد الله بن أبي قتادة روى عن أبيه، أي أن أباه كان يطلب رجلاً بحق فاختبأ منه فقال له: ما حملك على ذلك؟ قال: العسر، فاستحلفه على ذلك فحلف، فدعا بصكه فأعطاه إياه، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((من أنظر معسراً أو وضع له أنجاه الله من كرب يوم القيامة ))
هذا موقف من أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم.
الموقف الثاني:
(( عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي نَطْلُبُ الْعِلْمَ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الأنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يَهْلِكُوا فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِينَا أَبَا الْيَسَرِ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ غُلامٌ لَهُ مَعَهُ ضِمَامَةٌ مِنْ صُحُفٍ وَعَلَى أَبِي الْيَسَرِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيَّ وَعَلَى غُلامِهِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيَّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا عَمِّ إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِكَ سَفْعَةً مِنْ غَضَبٍ، قَالَ: أَجَلْ كَانَ لِي عَلَى فُلانِ ابْنِ فُلانٍ الْحَرَامِيِّ مَالٌ فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ فَسَلَّمْتُ فَقُلْتُ: ثَمَّ هُوَ قَالُوا لا، فَخَرَجَ عَلَيَّ ابْنٌ لَهُ جَفْرٌ، فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ أَبُوكَ؟ قَالَ: سَمِعَ صَوْتَكَ فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي، فَقُلْتُ: اخْرُجْ إِلَيَّ فَقَدْ عَلِمْتُ أَيْنَ أَنْتَ، فَخَرَجَ فَقُلْتُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنِ اخْتَبَأْتَ مِنِّي، قَالَ: أَنَا وَاللَّهِ أُحَدِّثُكَ ثُمَّ لا أَكْذِبُكَ خَشِيتُ وَاللَّهِ أَنْ أُحَدِّثَكَ فَأَكْذِبَكَ وَأَنْ أَعِدَكَ فَأُخْلِفَكَ وَكُنْتَ صَاحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُنْتُ وَاللَّهِ مُعْسِرًا قَالَ: قُلْتُ آللَّهِ، قَالَ: اللَّهِ، قُلْتُ: آللَّهِ، قَالَ: اللَّهِ، قُلْت: آللَّهِ، قَالَ: آللَّهِ قَالَ: فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ فَمَحَاهَا بِيَدِهِ، فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتَ قَضَاءً فَاقْضِنِي وَإِلا أَنْتَ فِي حِلٍّ ))
هذا موقف أصحاب رسول الله، إذا أيقنت واستحلفته أنه معسر، وأنت في بحبوحة تصدق بهذا الدين عليه، هاتان القصتان ملحقتان بالدرس الماضي، أدركنا الوقت قبل أن نتابع الحديث عنهما.
الدرس الماضي كله حثٌّ من الله ورسوله على إنظار المعسر وعلى إعفائه من بعض الدين أو من كل الدين والآية الأساسية قال تعالى:
﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
أمر الشرع من استقرض بـ :
1 ـ أداء الدين :
اليوم الدرس يتناول الطرفَ الثاني: هذا الذي استقرض بماذا أمره الشرع؟ أمره بأداء الدين بنص الآية الكريمة:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾
والدين أمانة كما قال علماء التفسير، في الآية وجوب ردّ كل وديعة من أمانة وقرض وغير ذلك، القرض والقراض والوديعة أمانة في عنق المدين.
(( عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَبْصَرَ يَعْنِي أُحُدًا قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّهُ تَحَوَّلَ لِي ذَهَبًا يَمْكُثُ عِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ فَوْقَ ثَلاثٍ إِلا دِينَارًا أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ ))
يتمنى أن يتحول هذا الجبل ذهباً خالصاً، وأن النبي عليه الصلاة والسلام ينفقه في ثلاثة أيام إلا ديناراً يرصده لدين لأن الدين مقدس، أي يمكن أن يدع بعض هذا الجبل لأداء الدين، لعظم حق الدائن على المدين.
الله جل جلاله ونبيه عليه الصلاة والسلام بينّا أن الدين من الأمانات التي تؤدى إلى أهلها، إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها.
2 ـ أن يؤدي الدين بإحسان :
الأمر الثاني: ليس الأمر أن تؤدي الدين بل أن تحسن قضاء الدين، أن تحسن القضاء فالله سبحانه وتعالى يحب الذي يؤدي الدين بإحسان:
((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ سَمْحَ الْبَيْعِ سَمْحَ الشِّرَاءِ سَمْحَ الْقَضَاءِ))
كيف؟ أنت عليك سند بعشرة آلاف ليرة تستحق بعد سنة، وأنت الآن في بحبوحة وبقي شهران، ادفعها رأساً، يا أخي: أنا أدفع عند حلول الوقت، لا. ادفع إذا كان معك، وهذا من حسن القضاء، من حسن القضاء تعال إلى عندي وخذ مالك، لا. قال تعالى:
﴿ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
من أين أخذت الدَّين، كل التجار يجب أن تدور عليهم لتأخذ منهم ديْنك وكله خلاف السنة، المؤمن يذهب هو إلى مَدينِهِ ليعطيه المبلغ، جالس ومرتاح و الكل يأتون لعنده ويقفون بذل وأدب حتى يعطيهم الجمعية، لماذا؟ اذهب إليه، و أداء إليه بإحسان.
فمن حسن القضاء أن تعطيه الدين قبل أوانه إذا تيسر لك.
ومن حسن القضاء أن تأتي إليه، لا أن تقول له: تعال إلي لأعطيك الدين.
ومن حسن القضاء أن تؤدي أداء حسناً، جاء إلى محلك ليأخذ الدين أنت تبيع سكاكر أعطه كيلو سكاكر، أكرمه، أنت تبيع حاجات وهو بحاجة إليها أكرمه نظير هذه الخدمة.
((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ سَمْحَ الْبَيْعِ سَمْحَ الشِّرَاءِ سَمْحَ الْقَضَاءِ))
وفي حديث آخر:
((إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً ))
الناس يقولون: الديْن هالك إلا ما رده الله، هذا مجتمع بعيد عن الله عز وجل، لكن المؤمن الصادق دَيْنكَ عنده كأنه في صندوقك، لتكن مطمئناً أبداً لأنه يخاف الله عز وجل، ولأنه يخاف أن يملك المال ولا يؤديه لك.
فضلاً عن أن الله عز وجل ورسوله الكريم حثا المؤمنين الصادقين على أداء الدين حثا أيضاً على حسن أداء الدين.
الله ورسوله حثا المؤمنين على أداء الدين:
الموضوع يتوسع معنا أكثر و هذه أمثلة، استعرت كتاباً ذات يوم من بيت صديقك، والكتاب سميك، و التقيت به في الطريق، تفضل هذا الكتاب، هو لا يريد أن يحمله في الطريق وأنت أخذته من بيته، فعليك أن تؤديه إليه إلى البيت وهذا من حسن الأداء، أخذت الكتاب غير مجلد جلده، فهذا من حسن الأداء، الله يحب الإحسان وأنت دائماً مهمتك أن تشجع على الخير، إذا إنسان قدم لك خدمة، ديَّنك وكنت مضطراً، فعندما يستقرض أحدهم يكون أذل من الشاة، وعندما يملك المال ما الذي صار؟ اذهب عنا و يتهرب من الدائن صاحب المال.
أيرضيك أن يقف الدائن أمامك ذليلاً ليأخذ حقه؟ مثل هذا الموقف يمنع الخير ويمنع المعروف بين الناس، هذا من سنته القولية أما من سنته العملية صلى الله عليه وسلم:
((فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَكَانَ لِي عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَانِي وَزَادَنِي))
هكذا فعل النبي فلن تجد مسافة بين ما يفعل و بين ما يقول، دعانا إلى أداء الدين ودعانا إلى حسن أداء الدين، وحينما استقرض النبي من هذا الصحابي قال: قضاني وزادني و هذا اسمه حسن الأداء.
الأمر بالأداء والأمر بحسن الأداء.
3 ـ تحريم المماطلة :
الآن: تحريم المماطلة، اسمعوا ماذا قيل في تحريم المماطلة:
((مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ ))
الظلم من الكبائر، يقترف الإنسان الكبيرة إذا استقرض قرضاً وملك المال وطولب بهذا القرض وبدأ يماطل، تأتيه صباحاً يقول لك: مساءً إن شاء الله، تأتيه مساءً لا تجده، تذهب إليه ثانية فيقول: أنا سوف آتي إليك ولا يأتي، هذا إذا كان في نفس المدينة سهلة جداً أما إذا سافرت و أبعدت وتجشمت المشاق ومصاريف السفر والفندق، تذهب إليه صباحاً فيقال لك: تعال بعد الظهر. فهذه كبيرة.
((مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ ))
كان السلف الصالح لا يجرؤ أن يأكل لونين إذا عليه دين ولا فاكهتين، بل يأكل مثلاً برتقالاً فقط.
الحد الأدنى لا يجوز لمن عليه دين أن يتوسع بالطعام والشراب ولا أن يتوسع بالأثاث ولا في الأدوات الكهربائية، عليه دين، قبل أن تتوسع أدّ للناس حقوقهم.
المماطل يفسق، مرتكب كبيرة و فاسق، والأغربُ من ذلك أنه ترد شهادته، أي يفقد حقوقه المدنية، لو أن مديناً يملك مالَ مدينِهِ وماطله في الأداء ودعي لأداء الشهادة ترد شهادته، لأنه مرتكب كبيرة وهو فاسق وهو ظالم.
أيها الأخوة، هذا هو الدِين، ليس الدين بالصلاة والصوم والحج والزكاة، هذا هو الدين، الدُرج مليء وله عندك مال والبضاعة بعتها فأدّه حقه.
الآن يستدين ويشتري سيارة شاحنة، تطالبه يقول لك: أخذنا سيارة، كأنما أنا مكلف بأن أشتري له سيارة، وأنا لي عنده مال، معظم الأزمات الآن أسبابها السيارات، كل إنسان عليه دين اشترى بهذا المال سيارات ويماطل الناس، أهذا هو الدين؟ لا. إن الدين وفاء وحسن أداء.
هنا عندنا خلاف بين العلماء فالإمام النووي يقول: "المماطل لا يسمى ظالماً ولا فاسقاً ولا مرتكب كبيرة إلا إذا كرر المماطلة"، لمرة واحدة لا يسمى مماطلاً وهذا رأي الإمام النووي، لكن الإمام السّبكي ردّ عليه و قال: "هذه كبيرة ومرتكب الكبيرة يكفي أن يرتكبها مرة واحدة".
وأنا أرجح القول الثاني، ومادام المطل كبيراً يكفي أن تماطل مرة واحدة فأنت مرتكب كبيرة ترد شهادتك وتفسق.
التوازن بالتشريع كم حثنا على الإقراض الحسن بالمقابل كم حذر المدين من المماطلة، المشكلة أنه عندما ذوو الأعمال الصالحة يقابلون بالإساءة ينكمشون، أقرب مثل: كان قبلاً إذا الإنسان رأى في الطريق حادثاً يسعف المصاب، يوصله إلى المشفى فيعتقلونه ويبقى ثلاثة أيام موقوفاً، كثير من الناس ماتوا من النزيف لأنه لم يعد أحد يسعف أحداً. هذا اسمه منع الماعون حتى صدر قرار أنه إذا إنسان أسعف مصاباً فلا يُسأل إطلاقاً فليس من المعقول أن يفعل الإنسان عملاً صالحاً ويحجز عدة أيام حتى يظهر أنه ليس له علاقة.
أخطر شيء في المجتمع أن تواجه المحسن بالإساءة :
منع الماعون هو الإساءة للمحسن، والقصة التي تعرفونها هي قصة لص الخيل في الصحراء الذي تظاهر بالفقر، وكان الحر شديداً والرمال محرقة، مرَّ به فارس على فرسه رق له ودعاه إلى ركوب فرسه، فما إن ركب خلفه حتى دفعه أرضاً وعدا بالفرس لا يلوي على شيء، قال له صاحب الفرس: يا هذا لقد وهبتك الفرس ولن أسأل عنها بعد اليوم، ولكن إياك أن تشيع هذا الخبر في الصحراء، فإذا أشيع هذا الخبر ذهبت منها المروءة، وبذهاب المروءة يذهب أجمل ما فيها.
سبعمئة شقة في الشام فارغة لا أحد يؤجرك، لأنَّ المستأجر إن دخل إلى البيت صار مالك البيت، ثم يقول: بلط الزرقاء، هذا القضاء أمامك، لا أحد يعيدها، ليس في الشام أزمة سكن بل أزمة إسكان فقط.
أخطر شيء في المجتمع أن تواجه المحسن بالإساءة، فينعدم الإحسان وينكمش المحسنون، مر بالسيارة فيشير لك إنسان، لماذا لا تركبه معك؟ احتمال أن يكون معه مخدرات فلا يرحمك القانون، شيء مخيف. أمّا إذا كان هناك معاونة وإحسان فيختلف الوضع.
النبي عليه الصلاة والسلام بالإضافة إلى هذا التشديد فهو نفسه امتنع عن الصلاة على من ترك ديناً، والقصة معروفة وكان يؤتى بالرجل الميت وعليه الدين فيسأل النبي عليه الصلاة والسلام هل ترك لدينه قضاءً؟ فإن قيل: إنه ترك صلى عليه وإلا قال: صلوا على صاحبكم، صحابي! لا. صلوا عليه، مجاهد! لا. صلوا على صاحبكم، خاض أحد وبدر والخندق صلوا على صاحبكم لأن عليه ديناً، هل يوجد أشد من هذا؟
صحيح أَمَرَك أن تدين لكن أمر المدين أن يؤدي، هناك نقطة بالشرع دقيقة جداً، الله أمرك ألا تسرق، أو أمرك بالتزام أمر معين، فإذا كان هناك ألف مليون مسلم فهؤلاء الألف مليون مسلم مأمورون أيضاً ألا يسرقوا منك.
أمرََك أن تؤدي الأمانة إلى أهلها كذلك أمر الألف مليون مسلم أن يؤدوا الأمانة لك، المؤمن إذا كان عنده أخٌ من الإخوان المستقيمين يعمل لديه، فلماذا يطمئن ويرتاح؟ لأنه لا يخاف أن يسرقه.
حقوق العباد وحقوق الله:
الله سبحانه عندما أمرك بالاستقامة أمر الناس أن يستقيموا معك، والأمر مُوَجّه و له مفعول آخر، الإمام النووي رضي الله عنه له توجيه قال: "إنما كان يترك النبي الصلاةَ على المدين ليحرض الناس على قضاء الدين في حياتهم، والتوصل إلى البراءة منها، لئلا تفوتهم صلاة النبي عليهم عند وفاتهم".
كان يأخذ موقفاً حازماً وقاسياً لئلا يطمع الناس، النبي لا يصلي عليهم إذا كان عليهم دين.
((نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ ))
موقوف رهن التحقيق، في ذمة التحقيق، ما دام عليه دين فنفسه معلقة بدينه، معنى ذلك أن على الإنسان قبل أن يستدين أن يعد للألف بل للمليون، و قبل أن يستقرض من مال المسلمين فعليه ألا يستقرض إلا لسبب خطير وجوهري.
(( عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ سَمِعَهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَامَ فِيهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالإيمَانَ بِاللَّهِ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ يَا رَسُولَ: اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ قُلْتَ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ إِلا الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلام قَالَ لِي ذَلِكَ ))
و هنا يعرض سؤال لماذا في المرة الأولى عليه الصلاة والسلام قال له: نعم إذا قتلت في سبيل الله وأنت صابر والمرة الثانية قال له: أعد السؤال فلما أعاده قال له: إلا الدين؟ حتى يوضح النبي الكريم للسائل سبب التناقض، فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلام قَالَ لِي ذَلِك، جبريل صحح.
لو قتلت في سبيل الله، أغلى شيء هي النفس والجود بالنفس أقصى غاية الجود، لو قتل الإنسان في سبيل الله لا تكفّر عنه خطايا من نوع الدين، لا يكفّر إلا بالأداء.
و لقد قلت في خطبة الحج: إن الحاج يتوهم أنه إذا حج بيت الله الحرام رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، أجمع العلماء على أن الذنوب التي تكفّر بالحج هي الذنوب التي بينك وبين الله فقط أما الذنوب التي بينك وبين العباد فهذه لا تسقط ولا تغفر إلا بالأداء أو بالمسامحة، فانتبهوا.
حقوق العباد مبنية على المشاححة وحقوق الله عز وجل مبنية على المسامحة، وترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد الإسلام، ومن لم يكن له ورع يصده عن معصية الله إذا خلا، لم يعبأ الله بشيء من عمله.
حرص الشرع على أداء الحقوق :
الإمام النووي في شرح حديث مسلم رضي الله عنه يقول: " إلا الدين فيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وإن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر لا يكفّر حقوق الآدميين إنما يكفّر حقوق الله عز وجل".
((عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ وَضَعَ رَاحَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا نُزِّلَ مِنَ التَّشْدِيدِ فَسَكَتْنَا وَفَزِعْنَا فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ سَأَلْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا هَذَا التَّشْدِيدُ الَّذِي نُزِّلَ، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ رَجُلاً قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيِيَ ثُمَّ قُتِلَ ثُمَّ أُحْيِيَ ثُمَّ قُتِلَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ ))
حديث صحيح يا أخوان، والنبي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، لهذا سيدنا سعد بن أبي وقاص يقول: " ثلاثة أنا فيهن رجل وفيما عدا ذلك فأنا واحد من الناس، ما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حق من الله سبحانه وتعالى".
أرأيتم أيها الأخوة حرص الشرع الحنيف على أداء الحقوق، أمرنا أن نقرض القرض الحسن لكن أمر المدين أن يؤدي أداء حسناً وحذره أشد التحذير.
عندنا قاعدة: أحياناً يوجد أمر ويوجد نهي، لكن يا ترى لو أن قانون السير نصه: يُرجَى السير على اليمين فقط، يُرجى...من دون أن ينص على عقوبات، هل يطبق هذا القانون؟ لا. فهذا القانون عندئذ بالتعبير القانوني يفتقر إلى المؤيد القانوني، ألا و هو: العقوبات الرادعة.
عقوبات رادعة لمن استدان و لم يوفِ دينه :
1 ـ الحجر على المدين :
نحن الآن أمام التوجيهات المقنعة، النبي وجّه لكن يا ترى بالنظام الإسلامي، بالنظام التشريعي هل عندنا مؤيدات قانونية وعندنا عقوبات رادعة؟ نعم.
أولاً: المدين يحجر عليه و الحجر في الشريعة هو منع الإنسان من التصرف بماله، أول عقاب للمدين يفقد حريته في التصرف بماله، أصبح سفيهاً، يتدين ولا يوجد عنده إمكان أن يوفي، و له بيت لا يستطيع أن يبيعه، لو عمل عقداً لا ينفذ العقد، يصدر قرار من القاضي الشرعي بالحجر عليه أي فقد حق التصرف، فقد حقه الطبيعي.
الإمام النووي يقول: "من عليه ديون حالّة استحقت، زائدة على ماله يحجر عليه بسؤال الغرماء".
عليه ديون أكثر من ماله، والغرماء طلبوا من القاضي، والقاضي يصدر أمراً بالحجر عليه، أصبح بيته ليس ملكه و كذلك محله ومركبته من حق الغرماء.
الآن لو جاء هذا المحجور عليه وتصرف في ماله بعد الحجر لا ينفذ تصرفه، روى الإمام أحمد:
((عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلاً مَاتَ وَتَرَكَ مُدَبَّرًا وَدَيْنًا فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعُوهُ فِي دَيْنِهِ فَبَاعُوهُ بِثَمَانِ مِائَةٍ ))
المدبر: عبد قال له سيده: أنت حر بعد موتي، وصية سيده لم تنفذ ولم يؤخذ بها النبي عليه الصلاة والسلام نظراً لما عليه من دين.
لو أن إنساناً محجوراً عليه تصدق بالمال فصدقته مردودة عليه:
(( بَاب لا صَدَقَةَ إِلا عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ تَصَدَّقَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ أَوْ أَهْلُهُ مُحْتَاجٌ أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالدَّيْنُ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى مِنَ الصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُتْلِفَ أَمْوَالَ النَّاسِ))
تتصدق وأنت عليك دين. لا، وفِّ الدين ثم تصدق.
(( ....َمَنْ أَخَذَ أموال الناس يُرِيدُ إِتْلافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ ))
2 ـ حبس المدين :
ثانياً: حبس المدين، في قطر عربي إسلامي هذا التشريع قائم، المدين على السجن، لكن يوجد هاتف في السجن لا يخرج حتى يقضي الدين، خبّر أهلك، إذا كان عليه سند دين لم يدفع يساق صاحبه إلى السجن، فقد قال عليه الصلاة و السلام:
(( لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عُقُوبَتَهُ وَعِرْضَهُ، قَالَ سُفْيَانُ: عِرْضُهُ يَقُولُ مَطَلْتَنِي وَعُقُوبَتُهُ الْحَبْسُ))
قال لي: تعال غداً، عرضه: أن يتكلم الناس بحقه، يقال: هذا يأكل مالاً حراماً، وهذه ليست غيبة، ما الذي يحصل بين التجار؟ يأتي زبون ناعم فيستدين ثم لا يدفع، و لقد أمرنا النبي أن نشهّر به؛ أنه لا يدفع، إذا سألك جارك: فلان يريد أن يستدين مني هل أدينه؟ قل له: إياك أن تدينه، وقل عنه: إنه لا يدفع، هذا يأخذ ولا يعطي.
الإمام البخاري نقل عن سفيان أن عقوبته الحبس حتى يؤدي الدين، فالحبس مشروع حتى يؤدي الدين.
العلامة العيني قال في شرح هذا الحديث: مشروعية حبس المديون إذا كان قادراً على الوفاء تاديباً له لأنه ظالم عندئذ، والظلم محرم وإن قل.
والقاضي شريح أمر بحبس شخص لم يؤدِّ الدين.
هناك خلاف بين العلماء إذا كان المديون معسراً قالوا: الأولى ألا يحبس، أما إذا كان ميسوراً فيحبس حتى يؤدي الدين، إن كان معسراً له حق بالآية الكريمة قال تعالى:
﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
3 ـ مَنعُ المدين من السفر :
و بعد هذه مشكلة ثانية: تديَّنَ وعمل جواز سفر وهرب، أين ذاهب؟ مَنعُ المدين من السفر:
هذه كلها إجراءات قانونية أساسها شرعي، من أراد سفراً وعليه حق يُستحق قبل مدة سفره فلصاحب الحق منعه، تزوج وطلق ولم يدفع المهر، يتمكن والد المطلقة من تقديم كتاب للقضاء، ويبلغون دائرة الهجرة والجوازات و يمنعون سفره، المدين ممنوع أن يسافر، المدين يحبس، المدين لك أن تفضحه، المدين يحجر على أمواله، المدين يفقد حق التصرف بماله.
لا أشتري شيئاً لا أملك ثمنه، لا نستقرض إلا لسبب قاهر، لأمر خطير وأمر مصيري، لعملية جراحية فقط، أما لأشياء تافهة فهذا شيء مخيف.
الغارمون :
أمرنا الله عز وجل بالإقراض الحسن، وحثنا عليه وأمرنا بإنظار المعسر، وأمرنا أن نضع عنه شطر دينه أو كل دينه، وأمر المدين أن يؤدي واعتبره ظالماً مرتكب كبيرة وفاسقاً، وأمر بحبسه، وبالحجر على أمواله، وأمر بمنعه من السفر، وقال لنا نحن الطرف الثالث: ساعدوا المدين، يستحق المدين من أموال الزكاة والغارمين، انظر التوازن في التشريع، أنت كإنسان معك مال زكاة فيجوز لك أن تدفع من مال الزكاة لهذا المديون لكي يفي دينه، قال تعالى:
﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
الغارمون كما قال الإمام القرطبي: "هم الذين ركبهم الدين ولا وفاء عندهم به ولا خلاف فيه"، أي يا إخوان: إذا إنسان أحبّ أن يدفع زكاة ماله له أقرباء اسأله أعليك دين؟ عليك عشرة آلاف ليرة فهذا مصرف للزكاة رائع جداً، الدَّيْن هَمّ عليه، ودخله محدود، فإذا أردت أن تدفع زكاة مالك خصص جزءاً من زكاة مالك للغارمين والمديونين.
"هم الذين ركبهم الدين، ولا وفاء عندهم به، ولا خلاف فيه"، الدين ثابت ، اللهم إلا من استدان في سفاهة فإنه لا يعطى منها، استدان ليشتري جهاز فيديو، و الله لا ندفع له من الزكاة، هذا مديون مسكين لا ندفع له. احذروا لا ندفع له، إذا شخص تدين ليشتري جهازَ فسادٍ فهذا لا يجوز أن تدفع له من زكاتك وفاءً لهذا الدّين، الدين لعملية جراحية، أشياء أساسية قاهرة، أي بحاجة إلى جهاز أساسي في حياته، "و من استدان في سفاهة فإنه لا يعطى منها و لا من غيرها إلا أن يتوب" فإذا تاب فلا مانع، و يعطى منها من له مال و عليه دين محيط به ما يقضي به دينه، فإن لم يكن له مال و عليه دين فهو فقير و غارم فيعطى بالوصفين، الذي عليه دين و ليس معه الوفاء هذا صار فقيراً و غارماً بآن واحد، اجتمعت صفتان، من عليه دين و ليس معه الوفاء، أحياناً معه مال و لكن لا يكفي دَينه، عليه مئة ألف و معه ثلاثون ألفاً يقال: معه ثلاثون ألفاً لكن لا يكفي. فدينه أكبر، فهذا اسمه غارم أما الذي لا يملك مالاً إطلاقاً فاسمه فقير و غارم يستحق الزكاة من جهتين، وأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالصدقة على من لزمته الديون:
(( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ ))
أحياناً يغرم المرء بالضمان، يضمن المشمش بعشر ليرات، فيصبح ثمنه خمس ليرات، صار مديوناً وكل شيء قطفه لا يكفي ثمن الضمان، هذا غارم.
لو فرضنا أن الناس لم يتقدموا لمساعدة المدين، فالغارم يستحق جزءاً من بيت مال المسلمين هذا التشريع المتوازن.
من تفقه بالدين ارتقت معرفته :
على كلٍّ هناك أبحاث متعلقة بالدين، و يجب أن تعلموا علم اليقين أن هذا الشرع الحنيف نظام خالق الكون، نظام متكامل، الدين ضرورة وأداؤه ضرورة، والزكاة ضرورة، والصدقة ضرورة، والإنسان كلما تفقه بالدين ارتقت معرفته، أصبح عمله حكيماً قال تعالى:
﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾
أحياناً يشعر الإنسان أن هناك فتوراً في عبادته، يوازن نفسه مع إنسان جاهل من أصدقائه، يرى فضل الله عليه، والعلم نعمة من أفضل النعم، ما من نعمة تفضل نعمة العلم، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، العلم يحتاج إلى وقت، وإلى مكان، بيوت الله عز وجل هي المكان الصحيح لتلقي العلم، أي أن الجامع له دور كبير، دور التعليم، ودور التوجيه، ودور التعاون، و يجب على الإنسان أن يكون له مشرب علمي دائماً، هذا مما حضّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
من علامة التوفيق أن يكون معروف الإنسان عند أهل الحفاظ :
الحقيقة أن الإنسان كما أقول لكم دائماً يتألق لمّا يطبق ما علم، ولما ينوي أن يقرض قرضاً حسناً، والله عز وجل متطلع على نيته، فأولاً يسوقه إلى إنسان يستحق هذا القرض، لأن من علامة التوفيق أن يكون معروفك عند أهل الحفاظ، و الإنسان أحياناً يصنع معروفاً مع أهل الجحود فيتألم ألماً شديداً، مع أن الإنسان مأمور كما ورد قال: اصنع المعروف مع أهله ومع غير أهله فإن أصبت أهله أصبت أهله، وإن لم تصب أهله فأنت أهله، لكن من نعم الله الكبرى أن يكون المعروف مع إنسان يستحق المعروف، مع إنسان من أهل الوفاء، إنسان كريم، إنسان محسن، لا ينسى لك هذا الفضل، والقاعدة الثابتة: إن فعلت معروفاً يجب أن تنساه، وإن فعل أحد معك معروفاً يجب ألّا تنساه أبداً، أكمل شيء في الإنسان أنه إذا قدم لك أحد معروفاً فكلما شاهدته قل له: أنا لن أنسى فضلك عليّ، هذا كمال، وإن فعلت معروفاً مع إنسان فلتكن كأنك لا تعرفه ولا يعرفك. انسه فوراً، انسَ معروفك وتذكر معروف الآخرين هذا مما ينمي العلاقة بين المؤمنين، وهذا مما ينمي الود بينهم.
التعاون في أمور الدنيا والآخرة :
الإنسان من سعادته العظمى أن أعماله الصالحة مع إخوانه المؤمنين، فيعرفون قيمة أعماله ولا ينسون فضله عليهم، و تتوثق بينهم عرى المودة، والآية الأساسية قال تعالى:
﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾
الحياة أصبحت معقدة جداً أيها الأخوة كان الإنسان قديماً يعاون أباه، وله غرفة في البيت العربي، والبيت عبارة عن ثلاثين غرفة، و عندما يتزوج الشاب فإنه يختص بغرفة من البيت، وانتهى الأمر، الآن لابد من التعاون، لأن الحياة معقدة، و الأعمال تحتم على الناس المعاونة، معي مئة ألف ليرة لا تساوي شيئاً والمحل فروغه بمليوني ليرة، ولابد من التعاون في أمور الدنيا والآخرة، قال تعالى:
﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾
قيل: البر صلاح الدنيا والتقوى صلاح الآخرة، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، والحقيقة عندما الأخ يأتي إلى الجامع، وله أخوان طيبون طاهرون، وله علاقات طيبة، يشعر بالأنس الاجتماعي ليس وحدك في الحياة.
((تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى))
هذه علامة المجتمع المؤمن الصادق، فالإنسان يقدم ويُعَاوِن حتى يعاوَن، الحياة أخذ وعطاء، قلت لكم سابقاً: الأنبياء أعطوا كل شيء ولم يأخذوا شيئاً، النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن يصلي قيام الليل ترفع زوجته رجليها لأن غرفته الصغيرة لا تتسع لصلاته ونومها، ما أخذ شيئاً، أعطى البشرية كل شيء ولم يأخذ شيئاً، والمنحرفون أشد الانحراف أخذوا كل شيء ولم يعطوا شيئاً، أما عامة المؤمنين الحياة أخذ وعطاء، أنت عاون، تتعاون بعد ذلك، أبسط مثل إنسان تزوج، له ثلاثون أو عشرون أخاً، جمعوا ألفاً ألفاً وأخذوا له براد و ثريا، رأى حاله بضائقة شديدة والأمور كلها تيسرت، بعد أن تزوج واستقر، الذي قدم له السجادة، الآن سوف يوفي الدين، الهدايا كلها ديون، والتعاون في الزواج، والعمل، والمرض، والصحة، والسفر، والإقامة، وتأسيس شركة، ومشروع، الله عز وجل يحب التعاون، يد الله مع الجماعة، يد الله على الجماعة والجماعة رحمة والفرقة عذاب:
((... فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ بَحْبَحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ لا يَخْلُوَنَّ أَحَدُكُمْ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمَا وَمَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ))
من أراد أن يعمل عملاً صالحاً ألهمه الله أعمالاً رائعة :
الإنسان لا يكفي أن تحضر الدرس، لابد من أن يكون لك أخوان طيبون، ولك معهم علاقة طيبة، هناك معرفة ومذاكرة بالدين والعلاقة الطيبة مع إخوانك المؤمنين تجعلك عضواً في جماعة مؤمنة، وأنت عنصر فعال إيجابي، وهذا الذي يرضي الله عز وجل، أن المؤمن يكون متعاوناً مع أخوانه المؤمنين.
إنسان بالرياضيات متفوق، فليقم بعدد من الدروس لإخوانه الضعاف بالرياضيات، عندهم بكالوريا، لا يوجد مانع أن نتعاون، إنسان مختص باللغة الأجنبية إن كان أخوانه عندهم ضعف في هذه الدروس، باب التعاون كبير جداً، والإنسان عندما يريد أن يعمل عملاً صالحاً يلهمه الله أعمالاً غريبة ورائعة.
في بعض البلاد الإسلامية إذا توفي إنسان كل المعزين يعزونه مع مبلغ من المال، فيجمع مبلغ ضخم، هناك العرف يستخدم المال وإذا كان من أخذ العزاء لا يحتاجه يتصدق به، والتعزية فيها مشاركة مادية أيضاً، الوالد مات توقف العمل والدخل قل، الحياة أساسها التعاون والتعاون البناء والصادق والمخلص لله عز وجل.
وأنت كلما شعرت نفسك تعطي وتأخذ تمتنت علاقتك بالمؤمنين، وكلما رأيت نفسك مستمعاً فقط، وكلما كلفت بعمل قلت: لا يوجد معي نقدي، يوجد أناس أذكياء جداً بالاعتذار ينسحب انسحاباً لطيفاً، وأرجو الله عز وجل أن يترجم هذا الدرس إلى سلوك يومي وإلى واقع.