- الفقه الإسلامي / ٠6العبادات التعاملية
- /
- ٠2الربا
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
تلخيص لما سبق :
أيها الأخوة الأكارم، لا زلنا في موضوع الربا، وقد سار الموضوع وفق الخطة التالية: تحريم الربا في القرآن والسنة، ثم كيف أن التدابير الوقائية لعدم الوقوع في هذه المعصية الكبيرة تقوم على الإيمان بالله عز وجل، والصلح معه، ومعرفة ما ينتظر العبد من ثواب إذا أطاعه، ومن عذاب أليم إذا عصاه، ولكن معظم الناس حينما يلجؤون إلى التعامل الربوي وهم يخشون الله عز وجل فيما يبدو يستخدمون الحيل الشرعية لأكل الربا تحت أسماء شرعية كالبيع والشراء. لذلك هذا الدرس مخصص للحيل الشرعية وكيف أن بعض المسلمين تزل أقدامهم فيحتالون على الشرع، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ولكن الحقيقة أن الله الذي يعلم السر وأخفى لا تخفى عليه الحيل، وربما كما ترون بعد قليل كان إثم المحتال أكبر من إثم الذي يرتكب المعصية من دون حيلة.
على كلٍّ هناك من يتعامل بالربا ويسمي هذا التعامل بغير اسمه ويظهر غير ما يبطن ويحاول عبثاً الاحتيال على الله عز وجل.
الله يعلم السّرّ و أخفى :
قلت لكم من قبل: إن بعض الناس يحتالون على الله، وكأن الله عز وجل لا يعلم سرهم ونجواهم، ولا يعلم نواياهم ومقاصدهم، إن هذا الاحتيال ينطوي على جهل بالله، جهل خطير.
أحد العلماء يقول: يخادعون الله كأنهم يخادعون آدمياً، لو أتوا الأمر عياناً كان أهون عند الله، أي حينما يعلن الإنسان ضعفه ويرتكب المعصية فهذا أخف في ميزان المعصية مما لو لجأ إلى حيلة وأظهر نفسه أنه لم يعص، ونسي أن الذي يحتال عليه هو خالق الكون، والموضوع أيها الأخوة له علاقة بالربا، ولكن أردت من موضوع الحيل الشرعية أن نعالج موضوع الحيلة مطلقاً، لأن أيّ إنسان يحتال ليتهرب من أداء ما عليه أو ليقترف ما نهى الله عنه إنسان يسلك طريق الحيلة، وهو إنما يفعل شيئاً يعبر عن جهله بالله، ولا أكتمكم أن إثم المحتال أشد من إثم العاصي من دون حيلة.
النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي روي عنه ضيّق على المحتالين الخناق.
فقال صلى الله عليه وسلم:
((لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل))
أنتم وطنوا أنفسكم أن أي إنسان أفتى لكم فتوى تنطوي على حيلة فهذه الحيلة مرفوضة لأنك تعامل الله، والله عز وجل لا تنطلي عليه الحيل، يعرف السر وأخفى، يعرف ما أظهرت وما أبطنت، ما أسررت وما أعلنت، فقال صلى الله عليه وسلم:
((لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل))
الحيلة في العرف اللغوي :
لو عدنا إلى معاجم اللغة ما معنى الحيلة في العرف اللغوي؟ في أوسع معجم من معاجم العربية معجم لسان العرب لابن منظور يقول: "الحيلة اسم من الاحتيال، الاحتيال مصدر والحيلة اسم، كأن تقول: غِشٌ وغَشٌ. غِش هو المادة المضافة إلى المادة المغشوشة، أما الغش فآلية الإضافة، السِّتر الرداء الذي تستر نفسك به أما السَّتر فعملية إرخاء الستار، السَترُ والسِتر والغَشُ والغِش والشَقُ والشِق، أي حينما تعمل هكذا بالخشب مثلاً فهذه العملية تسمى الشَّق أما هذا فاسمه شِق، الاحتيال، الحيلة اسم من الاحتيال والاحتيال مصدر.
فالاحتيال والحَوَل والحيل والحَوْل والحيلة والحويل والمحالة والاحتيال والتحول والتحيل كل ذلك بمعنى واحد.
الحِذق وجودة النظر والقدرة على دقة التصرف هذا معنى الحيلة أو الاحتيال في معاجم اللغة، هذا المعنى اللغوي كما تعلمون نحن نستعرض المعنى اللغوي والمعنى الشرعي.
المعنى الشرعي للحيلة :
أما المعنى الشرعي للحيلة أو المعنى الذي غلب على استعمالها قبل الشرعي فهو: ما يتوصل به إلى حالة ما خفية، هي ما يتوصل به إلى مقصود بطريق خفي، أي إما أن تصل إلى هدفك بطريقة جلية واضحة مكشوفة معلنة وإما أن تصل إلى هدفك بطريقة خفية، أنت تريد أن تغادر هذا المجلس، هذا قصدك، يجوز لإنسان أن يقف ويقول للحاضرين: أنا عندي موعد السلام عليكم.
هذه طريقة لمغادرة المجلس بشكل جلي، أما إذا تصنّع أنه قد رعف وقد خرج إلى الحمام وبعدها لم يعد، الآن خرج بطريقة احتيال، فإذا خرجت بطريقة جلية شيء وإذا حققت مقصودك بطريقة خفية فهذه هي الحيلة التي وردت في العرف الاجتماعي وهي: ما يتوصل به إلى حالةٍ ما خفية، ما يتوصل به إلى مقصود عن طريق خفي.
أنواع الحيل :
لكن أيها الأخوة الحيلة تختلف اختلافاً بيناً بحسب الباعث عليها، قد يكون الباعث على الحيلة إبطال حق أو إحقاق باطل، وهذا أخطر شيء في أنواع الحيل أي: أن تستهدف بهذه الحيلة إبطال حق أو إحقاق باطل. هذا نوع.
وقد يكون الباعث على الحيلة إثبات حق أو دفع باطل، وهذا مقبول، بل الحيلة واجبة، وقد يكون الباعث على الحيلة السلامة من مكروه، أو من أذى، أو من عطب، وهذا جيد، وقد يكون الباعث على الحيلة الهروب من مندوب أو واجب.
تُقيّم الحيلة بحسب الباعث عليها، تقيّم الحيلة بحسب الهدف منها، فما كل حيلة حيلة، الحيل من صفات الأذكياء، أما أنت فيجوز لك مثلاً أن تحتال على زوجين متخاصمين للتوفيق بينهما بأسلوب لطيف، هذه حيلة مندوبة.
قد تحتال على إنسان بحمله على الصلاة وهذا ممكن، قد تحتال على إنسان لحمله على حضور مجالس العلم كذلك، فالحيلة أنواع كثيرة، لكن أخطر نوع فيها أن تستخدمها لإبطال حق أو لإحقاق باطل، الحيلة من أجل إحقاق حق أو إبطال باطل فهذه واجبة، بل ربما ترتقي أحياناً إلى مستوى الفرض بأن تحق الحق وأن تبطل الباطل.
لذلك بعض العلماء قسم الحيل وأعطاها أحكامها الشرعية فقال: إذا توصلت بطريق مباح إلى إبطال حق وإثبات باطل فهذه الحيلة حرام باتفاق العلماء، كأن وقعت فلاناً على ورقة فارغة من أجل وكالة لاستلام بريد، فإذا بهذا التوكيل الذي كان لاستلام البريد استخدم لبيع بيت، بين وكالة لاستلام بريد وبين بيع بيت هذه حيلة، اغتصبت منه البيت بهذه الطريقة.
وآخر كتب لك إيصالاً ووقع في أسفل الورقة وأنت انتبهت أنه يوجد مسافة كبيرة فأثبت بين آخر سطر وبين التوقيع عشرات الدفعات هذه حيلة، وممكن أن تستخدم الحيل لاغتصاب أموال الناس، يمكن أن تستخدم الحيل لإبطال الحق أو لإحقاق الباطل، الحيل التي يستخدمها الناس لإبطال الحق أو لإحقاق الباطل حرام أشد التحريم باتفاق علماء المسلمين.
استخدام الحيلة لإحقاق حق ولإبطال باطل فقط :
إن توصلت بالحيلة بطريق مباح إلى إثبات حق أو دفع باطل فهي واجبة أو مستحبة، والواجب قريب من الفرض، وعند بعض المذاهب هو الفرض بعينه، إحقاق حق أو دفع باطل، وإن توصلت بها بطريق مباح إلى السلامة من مكروه فهي مستحبة أو مباحة، سَلمْتَ من مكروه أو من أذى بحيلة فهذا جائز لك.
تذكرون قصة السمكات الثلاث، السمكة العاقلة قالت: العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها؛ وخلاصة القصة: مرّ صيادان بغدير ماء فيه سمكات ثلاث، كيسة وأكيس منها وعاجزة، وتواعد الصيادان أن يرجعا ومعهما شباكهما ليصيدا ما فيه من السمك فسمعت السمكات قولهما - وهي قصة رمزية لكن بليغة- فأما أكيسهن فإنها ارتابت وتخوفت ولم تعرج على شيء حتى خرجت من الغدير، وقالت: العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها، أما الأقل ذكاء وهي الكيسة فبقيت في مكانها حتى عاد الصيادان فذهبت لتخرج من حيث خرجت رفيقتها فإذا بالمكان قد سدّ فقالت: فرطت وهذه عاقبة التفريط، غير أن العاقل لا يعدم من منافع الرأي، ثم إنها تماوتت منقلبة على ظهرها تارة وعلى بطنها تارة، فأخذها الصياد ووضعها على الأرض بين النهر والغدير، فوثبت في النهر فنجت، فهذه احتالت وأنقذت نفسها من صيد محقق وأنقذت نفسها من الهلاك، وأما الثالثة فوقعت في شباك الصيد وأخذها الصيادان وذلك لعجزها عن الاحتيال لعدم فهمها فهلكت.
فالمؤمن كيس فطن حذر، إذا كان هناك هلاك محقق عليه أن ينقذ نفسه بطريقة أو بأخرى، سيدنا حذيفة بن اليمان أمره النبي أن يذهب إلى معسكر العدو لكي يتقصى الأخبار فلما أصبح بين ظهرانيهم قال أبو سفيان: لعل فيكم غريباً ليتفقد كل منكم صاحبه بأسرع من لمح البصر وضع يده على يد من بجانبه وقال له: من أنت؟ بهذه الحيلة نجا من الموت المحقق، فالمؤمن كيس فطن حذر، فالحيلة التي تستخدمها لتنجو من عذاب محقق، أو من ظلم، أو من هلاك، أو من مكروه، فهذا شيء سليم وطبيعي، وهذا يعبر عن ذكائك وتوفيق الله لك، والحيلة التي تستخدمها لإحقاق حق ولإبطال باطل هي مستحبة وترقى إلى مستوى الواجب، وأحياناً تكون الحيلة في التغابي:
ليس الغبي سيداً في قومه لكن سيد قومه المتغابي
***
أما أن تستخدم الحيلة لإبطال حق فأعوذ بالله أو لإحقاق باطل فهذه محرمة أشد التحريم.
تقييم الحيلة ببواعثها وأهدافها :
الحيلة الشرعية، الحيلة تقيّم ببواعثها وأهدافها، الآن إذا توصلت بالحيلة إلى ترك مندوب فهي مكروهة، شيء ندبك الله أن تفعله وبالحيلة تملصت منه، فهذا صواب.
وهاأنذا أعود وأكرر: إذا توصلت بالحيلة إلى النجاة من مكروه أو أذى فهي واجبة ومستحبة، وإذا أردت بالحيلة إحقاق الحق فهي واجبة. أما الشيء الخطير في الحيلة إذا استخدمت الحيلة لإحقاق الباطل أو لإبطال الحق فهي محرمة أشد التحريم.
الحقيقة كلمة الحيلة إذا أطلقت انصرفت إلى النوع الأول؛ وهو أن تبطل بالحيلة الحق وأن تحق الباطل، كلمة حيلة تعني أبطلت الحق أو أثبت الباطل وهي أنواع كثيرة: لإحقاق الحق ومنع الباطل واجب، وللنجاة من ظلم وهلاك محقق مستحبة بل واجبة، ولترك مندوب مكروهة.
لكن إذا أطلقت الحيلة انصرفت إلى النوع الأول وهي الحيلة التي تحق الباطل وتبطل الحق.
العلماء قالوا: الحيل كلها محرمة غير جائزة في شيء من الدين، أية حيلة؟ نقصد بالحيلة الحيلة التي نستخدمها لإبطال الحق أو إحقاق الباطل، لذلك فالعلماء قالوا: الحيل كلها محرمة غير جائزة في شيء من الدين وهو أن يظهر عقداً مباحاً يريد به محرماً مخادعةً وتوصُّلاً إلى فعل ما حرم الله، واستباحة محظوراته، أي في دور البغاء في العصور القديمة كانت البغي تغطي نفسها فيدخل الرجل ويعمل عقداً وعندما يخرج يطلق، هذه كلها حيل وكل حيلة يقصد بها إحقاق باطل أو إبطال حق فهي محرمة بإجماع العلماء والمسلمين.
فالحيل كلها محرمة وغير جائزة في أيّ شيء من الدين وهو أن يظهر عقداً مباحاً يريد به عقداً محرماً مخادعةً وتوصُّلاً إلى فعل ما حرم الله، واستباحة محظوراته، أو إسقاط واجب، أو دفع حق أو نحو ذلك. فمثلاً: قبل أن يحول الحول على المال يهب الزوج بعضَه لزوجته فيقلّ عن نصاب الزكاة فيعفى من الزكاة، بعد أن يحول الحول تعود الزوجة وتهب زوجها ما وهبها قبل أيام فعاد المال لحوزته هذا منتهى الجهل والغباء، هذا كالمستهزئ بالله عز وجل وسوف ترون بعد قليل أن له عقاباً عند الله كبيراً.
حقيقة الحيل :
الإمام الشاطبي يقول: حقيقة الحيل أنها تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي و تحويله في الظاهر إلى حكم آخر، فمآل العمل فيها خرم القواعد الشرعية في الواقع، أي تفريغ الشرع من مضمونه.
لا تنسوا أيها الأخوة أن هناك قولاً رائعاً: "إن الشريعة عدل كلها، الشريعة رحمة كلها، الشريعة مصالح كلها، فكل قضية خرجت من العدل إلى الجور، ومن المصلحة إلى المفسدة، ومن الرحمة إلى القسوة، فليست من الشريعة ولو أُدخلتْ عليها بألف قول وقول".
الطلاق مباح. هناك أزواج قبيل وفاتهم يطلقون زوجاتهم لئلا يأخذن من ميراثهم، يكون متأخرها أقل بكثير من نصيبها من الميراث، أي بالكلمة الدارجة مثل هؤلاء سوف يفرمون فرماً من قبل الله عز وجل، هذه الحيل استهزاء بالله عز وجل، ولعب بالشرع، واستخفاف بقواعد الشريعة.
الحقيقة وهناك حيل منها: إنسان سافر إلى بلد أجنبي أراد الزواج المؤقت وهو سيقيم أربع سنوات، فعند الإمام الأوزاعي التأبيد شرط لصحة عقد الزواج، أما هو لو جاء بفتاة ووقف أمام القاضي وحصل الإيجاب والقبول والشاهدان والمهر فالزواج فقهياً صحيح، لكنّه ماذا أضمر في صدره؟ أنه مؤقت، أضمر التوقيت، وأعلن التأبيد، فصار هذا الزواج صحيحاً قضاءً فاسداً ديانةً، هذه أيضاً حيلة ولابد من التأبيد في الزواج، هل تقبل لابنتك زواجاً مؤقتاً لأمد قصير لصيفية يقضيها سائح في بلدك؟ هل ترضى أن يأتي سائح من بلد عربي يتزوج ابنتك شهرين فقط أو شهراً واحداً؟ أنا متأكد أنك لن ترضاه، إذاً فكيف بك تحتال على الآخرين؟ فهذا مما لا يرضاه الله عز وجل، والمحتال مسؤول وسوف يسأل ويحاسب.
العلماء بعضهم أبطل الحيل قضاء وديانة، وبعضهم أبطلها ديانة وأثبتها قضاءً، وبعضهم أثبتها ديانة وقضاءً، والموضوع خلافي، ولكل أدلته التي سوف نمر بها بعد قليل إن شاء الله.
تغيير الاسم لا يغير المسمى :
على كلٍّ من الحيل أن تسمي الشيء بغير اسمه، فقد ظهرت فتوى بمصر مفادها أن المواطن يقرض الدولة مبلغاً يضعه في المصرف، والدولة تكافئه عليه بمكافأة في نهاية العام، فسمينا العقد الربوي قرضاً وسمينا الفائدة مكافأة.
يا ترى تَغَيُّر الاسم هل يُغير الحقيقة؟ إذا جئنا بخنزير وقلنا: هذا خروف، هل يصبح خروفاً؟ من السذاجة والبساطة أن تغير الاسم وتتوهم أن الحقيقة تغيرت، الخنزير يبقى خنزيراً، ضع عليه لوحة "خروف" اكتبها بالثلثي، بالرقعي، بالفارسي، بالكوفي، والإنكليزي يبقى خنزيراً، ومهما تفننت باللوحة والخطوط واللغات فهو خنزير لا تتغير حقيقته.
تغير الاسم لا يغير المسمى، فأية حيلة يبتغي المرء بها التحايل على تحليل الحرام عن طريق الاسم فهي مرفوضة، فالحرام حرام والحلال حلال.
الأمر بالمقاصد والمعاني بالنوايا :
نعود إلى الربا؛ عندنا قاعدة أصولية: إن العبرة بما أضمر لا بما أظهر، أنت لو قلت لإنسان: بعتك هذا الكتاب ب، ع، ت، كاف الخطاب، بعتك هذا الكتاب بلا ثمن هذا عند الفقهاء عقد هبة لأنه بلا ثمن، وإذا قلت لإنسان وأنت ورع جداً وصاحب مكتبة: وهبتك هذا المصحف بألف ليرة هذا عقد بيع، تخاف من كلمة بيع لأن كتاب الله لا يباع، يقول له: بكم وِهبتُهُ؟ يقول له: بألف ليرة فقط، هذا عقد بيع لا عقد هبة، فالعبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني هذه قاعدة أساسية، تغير الاسم لا يغير حقيقة الشيء، فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام أو القرآن الكريم شدد على المنافقين. من هم المنافقون؟ الذين أعلنوا بألسنتهم الإيمان بالله ورسوله والآية الدقيقة قال تعالى:
﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾
إذاً العبرة بالألفاظ والمباني. فالمنافقون مؤمنون ظاهراً لأنهم قالوا: نشهد إنك لرسول الله، والله عز وجل أثبت كذبهم وتوعدهم بعذاب أليم قال تعالى:
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾
فلو عددنا أن اللفظ وحده يكفي فالمنافق مؤمن أعلن الإيمان بلسانه، وشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وهو عند الله ليس مؤمناً، إن المنافقين هم الكافرون.
إذاً لو أن الأمر كما يدعي أصحاب الحيل بالألفاظ والمباني لأصبح المنافقون مؤمنين، لكن الأمر بالمقاصد والمعاني بالنوايا.
الحديث التالي أصل في منع الحيل :
الحديث الشريف الذي يعد أصلاً كبيراً في منع الحيل هو الحديث المتواتر الذي يقول فيه عليه الصلاة والسلام وقد رواه الإمام البخاري:
((إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ))
إنما يعني أنّ العمل يقيّم حصراً بنية فاعله، هذا الحديث يبطل كل الحيل الشرعية، ينسفها من أساسها، ونحن نسميها حيلاً شرعية تجاوزاً، أي الحيل التي يحتال بها على الشرع.
يقول بعض العلماء: هذا الحديث أصل في إبطال الحيل، وبه احتج البخاري على ذلك، فإن من أراد أن يعامل رجلاً معاملة يعطيه بها ألفاً بألف وخمسمئة إلى أجل، هذا عقد ربوي كمن أقرضه تسعمئة قرضاً حسناً وباعه ثوباً يساوي مئة بستمئة، ثم استرد التسعمئة وأخـذ المئة من ثمن الثوب، والخمسمئة هي فائدة الألف، أما الصورة فبيع وشراء، أقرضه قرضاً حسناً بتسعمئة ليرة وباعه ثوباً قيمته مئة بستمئة فالذي حصل أنه أقرضه ألفاً واسترد ألفاً وخمسمئة.
((إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ...))
يقول بعض الأئمة الكبار: النية روح العمل ولبه وقوامه، وهو تابع لها يصح بصحتها، ويفسد بفسادها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال كلمتين كفتا وشفتا وتحتهما كنوز العلم وهما قوله:
((إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ...))
والله يا أخوان، هذا الحديث أصل في الدين إذا عقلناه وفهمنا أبعاده ومراميه ومعانيه الدقيقة نتحرك عندئذ وفق الشرع تماماً لكن هناك آلاف التصرفات وهي كلها باطلة.
هذا الحديث يعم العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال، وهذا دليل على أنه من نوى بالبيع عقد الربا حصل له الربا، ولا يعصمه من ذلك صورة البيع، هذه الصورة الشكلية لا تعفيه من إثم الربا.
العبرة بما أضمر الإنسان لا بما أظهر :
القاعدة التي شرحناها قبل قليل: العبرة بما أضمر لا بما أظهر، إليكم الأدلة: فالنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن النجش، فما هو النجش؟ قالوا: أنت أمام بائع تسوم سلعة فجاء شخص ودفع بها مبلغاً كبيراً، وأنت بحاجة إليها، فلما سمع المشتري أن هذا الشاري دفع ثمناً باهظاً رغب في هذه السلعة، واشتراها، وقال له: أنا جئت أولاً أعطني إياها، لكن الزبون الثاني قادم خلبي وممثل، قد كلفه البائع بهذا الدور التمثيلي، وهذا يجري أيضاً في بيع البيوت وغيرها.
((إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ...))
فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن النجش.
تعريفه الشرعي: الزيادة التي يقصد من خلالها الإضرار بالآخرين.
((حَدَّثَنا عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ النَّجْشِ ))
النجش هو حيلة، دخل إنسان متجراً، طلب هذه البضاعة، ودفع بها ثمناً غالياً، والشاري الأول بحاجة إليها، وكان يظن أنها غالية، فلما دفع الآخر هذا الرقم ثمناً لها، فإن الأول تقدم واشتراها.
في حياتنا اليومية آلاف بل عشرات الألوف من أساليب البيع والشراء المبنية على الحيلة التي يسمونها شرعية، فمن يضيع؟ الذي يضيع الجاهل، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( غبن المسترسل ربا))
إذا انسان جاهل ونيته طيبة ومعه مال ليشتري به حاجة، وأنت احتلت عليه، فهذا احتيال، فقد يقول لك الطبيب: تحتاج الزوجة لعملية قيصرية، ويستعظم الأمر، ويهوِّله للزوج ويصرّ على أن هذه الصورة خطيرة، ولا بد من قيصرية، بينما الولادة العادية تكلف ألفين أما القيصرية فتكلفتها ستة عشر ألفاً وينخدع الزوج.
الله عز وجل كبير، والذي يعرف الله لا يستطيع أن يتكلم خلاف الحق، ولا خلاف مصلحة المريض، ولا خلاف مصلحة الموكل، ولا خلاف مصلحة الطالب، ولا خلاف مصلحة الشاري، لأنك تعرف الله وهو مطلع على السر وأخفى، ومطلع على نواياك وعلى أساليبك. ولقد ذكرت مرةً قصةً: زارنا أخ كريم طبيب مشهور، فبعدما انتهت الخطبة أحب أن يجلس معي قليلاً، فمن حديث لحديث قال لي: زارتني مريضة معها ورم خبيث بالثدي، وقد وصل إلى كتفها، والمرأة فقيرة، ولها سبعة أولاد وزوجها موظف، وقال هذا الطبيب: وهو معروف بالصلاح والاستقامة والتفوق العلمي وقد تخرج خلال خمسين سنة أطباء كثيرون في الجامعة ممن درسهم، ورأى الأمر قد تفاقم إلى درجة كبيرة، والأمر يستعصي على الاستئصال الجراحي، والمعالجة بالأشعة، وعلى المعالجة بالدواء، وشعر أن هذه امرأة فقيرة، ولها أولاد كثر، وزوجها فقير، ثم قال: تألمت أشد الألم وكأنها ابنتي لكنني صببت نقمتي على زوجها، دخلت معه إلى غرفة أخرى وقلت له: أنت مجرم، قال: لماذا؟ قلت له: تأتيني في مثل هذا الوقت بعد أن تفاقم المرض إلى كتفها حتى صار لا يجدي لا استئصال جراحي، ولا معالجة دوائية، قال: أنا عند الطبيب الفلاني منذ سنة زميلك ولم يقل لي: إنه سرطان، جئنا وذهبنا مئات المرات، مرة يقول لي: التهاب ومرة كورتيزون ومرة... أدرك هذا الطبيب وزوج المريضة أن الأول قد ابتز أموالهما بهذا العام الطويل ولم يخبرهما بحقيقة المرض، فلو أخبرهما بالوقت المناسب لكان الأمل بالشفاء كبيراً جداً، ثم قال لي هذا الطبيب الكريم: فجأة وقع زوج المريضة على الأرض ساجداً وقال: يا رب أنت موجود، إن كان هذا الطبيب الأول قد فعل بنا هذا ابتزازاً فابتله بالمرض نفسه، ودعا دعاء اقشعر منه جلدي، وخففت عنه ما استطعت، لكن بعد أسبوعين توفيت المرأة، لأن الوضع كان خطيراً جداً، والقصة طوتها الأيام ونسيها هذا الطبيب، وبعد تسعة أشهر يأتيه مريض شاب مصاب بمرض السرطان بالصدر قد وصل إلى كتفه، وجلس على المقعد نفسه متهالكاً ضعيف المعنويات، فلما سألته عما يشكو قال: سرطان في الصدر، وقد وصل إلى كتفي فلما سألته عن اسمه قال: أنا زميلك يا طبيب، فلما عرف الاسم بالضبط فإذا هو الطبيب نفسه الذي ابتز الزوج ودعا عليه، وعمره خمس وثلاثون سنة.
نهي النبي عن النجش :
الله عز وجل كبير، الإنسان قبل أن يحتال، ويبتز أموال الناس، وقبل أن يكذب عليهم، وقبل أن يوهمهم، وقبل أن يتفق مع المحلل بأن يقوم بتحليل أول بند مسجل والباقي يهمله والمال مناصفةً، قبل أن يعمل أساليب ويظن أنه ذكي فليعلم أنّ الله عز وجل كبير، وهذه الحيل مبنية على جهل بالله، وابتزاز أموال الناس وإيهامهم، هذه كلها أساليب يعاقَب عليها الإنسان بالدنيا قبل الآخرة.
فالنجش محرم، تُحضر زبوناً خلبياً يدفع سعراً عالياً حتى تثبت البيعة، فهذا حرام حرام.
مرة كنت في الحج وهناك أخ كريم روى لي قصة أن شخصاً يسكن في شمال جدة، وعنده أرض، ولما توسعت جدة أصبحت أرضه ضمن المخطط التنظيمي، فذهب لبيع هذه الأرض في مكتب عقاري، فرأوه جاهلاً فاحتالوا عليه، واشتروها بثلث قيمتها، وعمروا بناء من ثلاثة وعشرين طابقاً وهم ثلاثة شركاء، أول شريك وقع من سطح البناء فدقت عنقه ومات، الشريك الثاني مات بحادث، أما الثالث فقد بحث عن صاحب الأرض طيلة ستة أشهر حتى عثر عليه وأعطاه الفرق، وقال له: هذه الأرض كانت تساوي مليوناً ونصف وأخذناها منك بخمسمئة وأنا عليَّ ثلث هذه القيمة، ونقده ثلاثمائة وخمسين فقال له البدوي: "ترى أنت لحَّقْتَ نفسك "، أي أدرك نفسه قبل أن يعاقبه الله سبحانه.
الحيلة عاقبتها عقاب أليم فالنبي نهى عن النجش، أي تستعين بزبون خلبي حتى توهم الشاري أن هذه السلعة غالية الثمن ويشتريها، وهناك ألف نوع من الأساليب كله مبني على الغش وعلى الخداع.
النجش كما يقول العلامة العيني رحمه الله تعالى: "هو أن يزيد في الثمن بلا رغبة فيه ليوقع الغير فيه وأنه ضرب من التحيل في تكثير الثمن".
خيار المجلس :
هناك حالة ثانية: أنت في مجلس البيع جاءك رجل ليشتري حاجة، وصار في إيجاب وقبول وصار بيع، ولكن ما دمت أنت وإياه في مجلس واحد يتمكن في المجلس نفسه أن يقول لك: اعذرني لا رغبة لي بالشراء وذلك من حقه. وهذا اسمه خيار المجلس، ما دام البائع والمشتري في مجلس واحد فمن حق المشتري أن يفسخ العقد، فماذا يفعل البائع؟ لما صار إيجاب وقبول يقول: عندي موعد اسمح لي ويخرج، إذا خرج البائع من المجلس فالبيع ثبت، لأنه لم يُعطِه مهلة أن يفكر، سألك عن السعر وقال لك: اشتريت، قلت له: اشتريت؟ قال: نعم. ثم قال: وأنا عندي موعد وخرج من مكتب البيع ليمنع المشتري من التفكير ويقتنع بصحة هذا الشراء، لكن إذا كان البائع ما زال موجوداً فحق فسخ البيع قائم بخيار المجلس فالنبي عليه الصلاة والسلام أيضاً قال:
(( الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلا أَنْ يَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ وَلا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ ))
أجل ليس له حق أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله، أساس البيع فيه خيار، اشتريت بيتاً يجب أن تعرف أعليه رهن أو تنظيم، قال لك: اكشف عنه إذا ثبت لك أنه ليس عليه شيء البيع قائم، هذا الخيار بأصل العقد وقلت له: إني على عجلة من أمري ليس هناك مانع، لكن إذا البيع ليس فيه خيار، لم يبق سوى خيار واحد وهو خيار المجلس، بمجرد أن أجاب صار هناك إيجاب وقبول لكن إن قلت له: إني على عجل من أمري وغادرت، فأنت منعته من خيار المجلس والنبي الكريم نهى عن ذلك:
(( ... وَلا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ ))
إذاً النبي نهى عن هذه الحيلة، الخروج السريع من المجلس من أجل أن يمنع الشاري من أن يستفيد من خيار المجلس، هذه حيلة نهى عنها النبي عليه الصلاة والسلام.
نهي النبي عن الاحتيال:
كلكم يعلم أنه لا يجوز للمحرم أن يصيد في أثناء إحرامه أما المتحلل فيجوز أن يصيد، فإذا متحلل صاد لمحرم فهذه حيلة شرعية، أنت لا يجوز أن تصيد أنا سوف أصيد لك وأطعمك لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام:
((صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلالٌ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ))
أنت كحاج أكلت لحماً من صيد قد صاده الصائد لك فهذا حرام، أنت لم تصطده لكن صيد لك.
ما دام النبي نهى عن النجش ونهى عن المفارقة لإسقاط خيار المجلس ونهى عن الاحتيال في إطعام المحرم طعاماً صادَهُ له المتحلل، إذاً النبي في هذه الأحاديث الثلاث منع الحيلة الشرعية.
الاحتيال الشرعي خداع لله واستهزاء بآياته:
أحد العلماء يقول: الاحتيال الشرعي خداع لله، واستهزاء بآيات الله، وتلاعب بحدود الله.
مثلاً: حلف بالطلاق ثلاث مرات، فإن حلل لك شيخ يحرمه لك عشرة، فماذا يفعلون عندئذ؟ يزوجونها لشخص آخر مدة يوم واحد وهذا سماه النبي التيس المستعار:
((أَلا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: هُوَ الْمُحَلِّلُ لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ ))
التيس المستعار حيلة يسمونها شرعية، وهي غير صحيحة، فلذلك الإنسان قبل أن يتكلم، قبل أن يقف هذا الموقف، قبل أن يسلك هذا السبيل، فهناك عقوبات قاصمة وشديدة للمحتالين.
المحتال أسوأ حالاً من مرتكب المعصية بغير حيلة :
قد تستغربون أن المحتال أسوأ حالاً وعاقبةً من مرتكب المعصية بغير حيلة، أنت على مستوى بسيط إذا كنت تملك بضاعة تنتقل من بلد إلى بلد، فإذا صرحت عنها فلك شأن، لكن إذا قلت: ليس معي شيء. فلما فتشوا الأغراض وجدوا في ثنيات هذه المحفظة مبلغاً من النقود فالجرم عندئذ يتضاعف، وقانون الجمارك إذا أنت صرحت أخف بكثير مما لو ضبط هذا الشيء من دون أن تصرح، ومعنى هذا أنك تحتال عليهم، لذلك المحتالون أسوأ حالاً من مرتكبي المعاصي من غير حيلة، لأن المرتكب معصية من غير حيلة ترجى توبته، فهو أولاً شاعر بذنبه، ونادم على فعله، ويرجو التوبة من الله، حاله النفسي أفضل بكثير من حال شخص يقول: لم أفعل شيئاً، وأنا أسير ضمن الشرع، لكنه في الحقيقة مرتكب لمعصية كبيرة بحيلة يتوهم أنها شرعية، وليس مستعداً أن يتوب، فحال العاصي من دون حيلة أفضل بكثير من حال مرتكب المعصية بحيلة شرعية، أما الدليل ففي قصة أصحاب الجنة، هذه القصة التي وردت في سورة القلم، هؤلاء احتالوا على الفقراء وأرادوا أن يقطفوا ثمارهم ليلاً ليمنعوا الفقراء من حقهم، فربنا عز وجل ابتلاهم بتدمير كل محصولهم قال تعالى:
﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ﴾
هذه القصة تفيد أن مرتكب المعصية بحيلة أشد إثماً وأسرع عقوبة من مرتكبيها من دون حيلة.
اليهود قصتهم شهيرة فقد حرم عليهم الصيد يوم السبت، فاحتالوا بعمل أحواض على الشاطئ ففي يوم الجمعة تأتي الأسماك لهذه الأحواض ويوم السبت يغلقون هذه الأحواض ويوم الأحد أو الاثنين يصطادون السمك، فهم لم يصطادوا يوم السبت. إن السمك دخل الأحواض يوم الجمعة ثم قفلوا الأحواض ويوم الأحد أو الاثنين اصطادوا السمك فربنا عز وجل قال:
﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ *فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾
قال بعض العلماء: اليهود أكلوا الربا، وأكلوا أموالهم بينهم بالباطل، وأكل المال الباطل أشد إثماً من أن يصطاد الإنسان ما أباحه الله أن يصطاده كل يوم ما عدا يوم السبت، ومع ذلك لأنهم ارتكبوا هذه المعصية عن طريق الاحتيال كان العقاب أسرع وأشد ومسخهم الله قردة خاسئين.
ملخص الكلام أن حال مرتكب المعصية من دون حيلة أفضل من حال مرتكبها بحيلة، وحال مرتكب المعصية بحيلة أشد عقاباً وأسرع انتقاماً من الله عز وجل ممن يرتكبها من دون حيلة فهذا، الدرس أعتقد كأنه يكفي لاستئصال ما يتوهم بعض الناس أنه يمكن أن يفعل المعاصي بحيلة يسمونها شرعية.
سوء حال المحتالين :
النبي عليه الصلاة والسلام أخبر عن سوء حال المحتالين فقال:
((لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ يَأْتِيهِمْ يَعْنِي الْفَقِيرَ لِحَاجَةٍ، فَيَقُولُونَ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ وَيَضَعُ الْعَلَمَ وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ))
يقولون: هذه بيرة من دون كحول، بيرة هذه حيلة، خمر باسم آخر، نوعوا الأسماء وأضافوا إضافات، على كلٍّ حينما يضيع الإسلام في هذه الحيل صار السلوك سلوكاً فاسداً، المظهر إسلامي والمخبر فيه معاصٍ، لذلك هؤلاء يدعون الله فلا يستجيب لهم، يا رب يا رب.
"يقول العبد: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له."
هذا التلفاز خيال وليس حقيقة، والمرأة التي ترقص خيالٌ، والتحريم يتناول المرأة الحقيقية، وهذا الغناء صدى وليس صوتاً حقيقياً منقولاً عبر الأمواج الصوتية، والغناء صدى والصور خيال هكذا يدعون، وكل معصية لها تعليل ولها تبرير ولها تفسير، ترى المسلم نموذجه نموذج إنسان عادي، ومثله مثل أيّ إنسان يرتكب كل المخالفات ضمن حيل شرعية، أرجو الله سبحانه وتعالى أن أكون وفيت هذا الدرس حقه، وأن أكون وضحت أن الحيلة معناها كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "خداع لله واستهزاء بآيات الله وتلاعب بحدود الله"، إلا الحيلة التي تبتغي منها إحقاق حق وإبطال باطل، أو نجاة من ظلم محقق فهذه ليست حيلة بل هي واجبة ومستحبة، أما أن تبطل حقاً وأن تحق باطلاً، أو أن تتهرب من واجب ديني، أو فريضة، أو أن تقع فيما نهى الله عنه بأساليب خادعة فأساسها مرفوض، لقول النبي عليه الصلاة والسلام:
((إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ...))
أحياناً الإنسان يطلق زوجته بلا مؤخر عن طريق الخُلع يضايقها ويضايقها حتى تفتدي نفسها منه بلا شيء، هذا طلاق وقد أكل متأخرها لذلك كما قال عليه الصلاة والسلام:
((أَيُّمَا رَجُلٍ يَدِينُ دَيْنًا وَهُوَ مُجْمِعٌ أَنْ لا يُوَفِّيَهُ إِيَّاهُ لَقِيَ اللَّهَ سَارِقًا))
فأنت إذاً راقب نفسك، المدار هو نفسك، والمدار هو ما تنطوي عليه نفسك، الأمور بمقاصدها والعبرة في العقود، ليس للألفاظ والمباني ولكن للمقاصد والمعاني.
هذه كلها حقائق، العبرة فيما أضمرت لا بما أظهرت، فكل هذا الدرس يحوم حول أن الحيل الذي اعتادها الناس ليتهربوا من تكاليف الشرع، أو من واجبات الشرع، أو ليقعوا فيما حرم الله عز وجل هي في أساسها خداع لله، واستهزاء بآياته، وتلاعب بحدود الله تعالى.