وضع داكن
25-12-2024
Logo
العقيدة الطحاوية - الدرس : 15 - المشيئة والاختيار
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

من ظنّ بالله ظن السوء ما عرفه :

لا تبتأس للمحن فكلها لحكمة بالغة نجهلها
أيها الأخوة المؤمنون، قبل أن نُنْهِيَ موضوع الإلهِيَّات في كتاب العقيدة الطَّحاوِيَّة، أُريد أنْ أقْرأ لكم فقراتٍ للإمام الجليل ابن القَيِّم حول معرِفَة الله، وحُسْن الظنّ به.
يقول هذا العالم الجليل:

((مَن ظنَّ أنَّ الله سبحانه وتعالى لا ينْصُرُ رُسَلَهُ ولا يُتِمُّ أمْرَهُ، ولا يُؤَيِّدُ جُنْدَهُ، ولا يُعْليهم، ولا يُظْفِرُهم على أعدائِهم، وأنَّهُ لا ينْصُرُ دينهُ، ولا كتابَهُ، وأنَّهُ يُديل الشِّرْك على التَّوحيد، والباطل على الحق إدالَةً مُسْتَحِقَّةً يَضْمَحِلُّ معها التَّوْحيد والحق اضْمِحْلالاً فقد ظنَّ بالله ظنَّ السَّوْء، ونسَبَهُ إلى خِلاف ما يليقُ به وكمالِه وجلاله وصِفاته ونُعوتِه، فإنَّ عِزَّتَهُ وحِكْمَتَهُ تأبى ذلك، ويأبى أن يُذِلَّ حِزْبَهُ وجنْدَهُ، ويأبى أن تكون النُّصْرة المُسْتَقِرَّة، والظَّفْر الدائِمَ لأعْدائِهِ المشركين، فَمَن ظنَّ به ذلك فما عرَفَه، ولا عرف أسْماءَهُ، ولا عرفَ رُبوبِيَّتهُ وأسماءَهُ، وكذلك مَن أنْكَرَ أن يكون قد قدَّر ما قَدَّرَهُ من ذلك لِغَيْر حِكْمَةٍ بالِغَة، وغايَةٍ مَحْمودَة يسْتَحِقُّ الحَمْد عليها، وأنَّ ذلك إنَّما نشأ عن مشيئَةِ مُجَرَّدة عن حكْمةٍ وغايَةٍ مطْلوبة))

فالله تعالى ما يفعله هو عن حِكْمَةٍ بالِغَةٍ بالِغَةٍ، ورحْمَةٍ بالِغَةٍ بالِغَةٍ، وعَدْلٍ بالِغٍ بَالِغٍ.
وأكثر الناس يَظُنُّون بالله غير الحقّ، ظنَّ السَّوْء، فَمَن ظنَّ بالله ذلك فما عرَفَهُ، ولا عرف أسْماءَهُ، وصِفاته، ولا عرف موجِبَ حَمْدِهِ، وحِكْمَته، فَمَن قنَطَ من رحمة الله، ويأسَ من روحِهِ فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْء، ومن جوَّز عليه أن يُعَذِّب أوْلياءَهُ مع إحْسانِهم وإخْلاصِهم، ويُسَوِّي بينهم وبين أعْدائِهِ، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْء، ومن ظنَّ أنَّ الله جل جلاله يخْلق خلْقَهُ سُدىً مُعَطَّلين من الأمْر والنَّهْي، ولا يُرْسِلُ، ولا يُنْزِلُ عليهم كتبهُ بل يتْرُكهم هَمَلاً كالأنعام فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْء، ومن ظنَّ أنّ الله جلَّ جلاله لن يجْمَعَ عبيده بعد موتِهم للثَّواب، والعِقاب في دارٍ يُجازى فيها المُحْسِنُ بِإحْسانِه، والمسيء بِإساءَتِه، ويُبَيِّن لِخَلْقِهِ حقيقة ما اخْتَلَفوا فيه، ويُظْهِرُ للعالمين كلَّهم صِدْقَهُ وصِدْق رُسلِه، وأنّ أعْداءَهُ كانوا هم الكاذبين؛ فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْء.

 

علينا أن نتفكر في مخلوقاته سبحانه لا أن نتفكر فيه فنهلك :

خلقنا مخيرون ونحاسب تبعاً لاختياراتنا
من ظنَّ أنَّ الله تعالى يُضَيِّعُ على عبْده عملهُ الصالِح الذي عَمِلَهُ خالِصاً لِوَجْههِ الكريم على امْتِثال أمْرِهِ، ويُبْطِلُهُ عليهم بلا سبب من العَبْد، وأنَّهُ يُعاقِبُه بما لا صنيع له؛ لأنَّهُ قدَّر عليه ذلك قبل أن يُخْلَق، ولا اخْتِيار له، ولا قُدرة، ولا إرادة في حُصوله، بل يُعاقِبُه على فعْلِهِ هو سبحانه، أو ظنَّ أنَّهُ يُجَوِّزُ عليه أن يُؤَيِّد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجِزات التي يُؤَيِّدُ بها أنبياءه ورسله، ويُجْريها على أيْديهم يُذِلُّون بها عباده، الآن دَقِّقوا، ومن ظنَّ أنَّهُ يَحْسُنُ منه كل شيء حتى تعذيب من أفْنى عمره في طاعته؛ فَيُخَلِّدُهُ في الجحيم أسْفَل سافِلين، ويُنَعِّمُ من اسْتَنْفَذَ عمره في عداوته وعداوة رسلهِ وأنبيائِه فيَرْفَعُهُ إلى أعلى عِلِيِّين، فهذا الإله العظيم يضع مَن أمْضى كلّ حياتِه، وكلّ عمره في طاعة الله، وخدْمة عباده، والإيمان برُسُلِه، والدَّعوة إليه، ومع ذلك يَضَعُهُ في جهَنَّم أسفل سافلين،، ويُنَعِّمُ من اسْتَنْفَذَ عمره في عداوته وعداوة رسلهِ وأنبيائِه فيَرْفَعُهُ إلى أعلى عِلِيِّين!! كل شيء يَصْدُر عنه يَحْسُن، وكِلا الأمْرَين؛ أن يَضَعَ أولْياءه في النار، وأعْداءَهُ في الجنَّة، في الحُسْنِ سواء عنده، ولا يُعْرفُ امْتِناع أحدهما ووُقوع الآخر إلا بالخَبَر الصادِق؛ أي لو ثبت بالخبر الصادِق وَضع المؤمنين في جهنَّم، والمذنِبين في الجنَّة كان هذا الكلام صحيحاً، وإلا فالعَقْل لا يقضي بِقُبْح أحدهما، وحُسْن الآخر، فالعقل ليس مقْياساً صحيحاً، ومَن ظنَّ به أنَّهُ أخبَر عن نفْسِهِ وصِفاتِه بِما ظاهرهُ باطل، وتشْبيهاً وتمْثيلاً،، وترك الحق لم يُخْبِر به، فأصبح المعنى أنَّ الله تعالى يُضَلِّلُ عباده!! لكنَّ الله تعالى كلامُهُ الصِّدْق، وإذا قال لك: أنت مُخَيَّر يعني أنَّكَ مُخَيَّر، فلا تُحاوِل أن تدْخُل في شؤون الله الذاتِيَّة، فالنبي عليه الصَّلاة والسَّلام نهاكَ عن ذلك؛ تَفَكَّروا في مخلوقات الله ولا تفَكَّروا فيه فَتَهْلَكوا.
ومن ظنَّ به أنَّهُ أخْبر عن نفسِه، وصِفاتِه، وأفعالِه بما ظاهرُهُ باطِل وتشْبيهاً وتمْثيلاً، وترك الحق، ولم يُخْبِر به، وإنَّما رمَزَ به رُموز البعيد، وأشار إليه إشارات مُلْغِزَة؛ ولم يُصَرِّح به، وصَرَّح دائِماً بالتَّشبيه والتَّمثيل الباطل، وأراد من خلْقِهِ أن يُتْعِبوا أذْهانهم، وقِواهُم، وأفْكارِهم في تَحْريف كلامِه عن مواضِعِه، وتأويلهِ على غير تأويلِه، ويتطَلَّبُ له وُجوه الاحْتِمالات المُسْتَكْرَهَة، والتأويلات التي هي بالألْغاز والأحاجي أشبَه، وأحاله في معرفة صفاتِه وأسْمائِه على عُقولِهم وآرائِهم لا على كتابه، بل أراد منهم ألاّ يَحْمِلوا كلامهم على ما يعْرِفونه من خِطابِهم.
أكبر حُجَّة يقولها بعض الناس عَدْلُهُ غير عَدْلِنَا، لأنَّهُ لو وَضَع هذا الإنسان الطائع في النار فهذا ليس ظلماً لأنَّنا في مُلْكِهِ.

المؤمن يُحْسِنُ الظنَّ بالله تعالى :

دَقِّقوا؛ وأحاله في معرفة صفاتِه وأسْمائِه على عُقولِهم وآرائِهم لا على كتابه، بل أراد منهم ألاّ يَحْمِلوا كلامهم على ما يعْرِفونه من خِطابِهم ولُغاتِهم، والله عز وجل قال بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبين، معنى ذلك أنَّ كلامَ الله عز وجل يُفْهَم وَِفْقَ كلام اللُّغَة العرَبِيَّة، وَوِفْقَ أساليب العَرَبِيَّة في التَّعْبير؛ وهل مِنَ المَعقول أن يُخاطِبَ الناسَ بِلُغَتِهِم، وبِلِسانٍ عرَبِيٍّ مُبين، ويريد منَّا غير الذي حكاه؟! هذا لا يليق بالله عز وجل، فالله تعالى خلقك لِيَرْحَمَك، فهو كذلك، وليس لِيُعَذِّبَك، وإن قال لك: أنت مُخَيَّر، فأنت كذلك، وإن قال لك: أنا أعلم، فهُوَ تعالى حقيقَةً يعْلَم، فأنا أريد أن نكْتَفي بِما قالهُ الإله الكريم في كتابه، وأنا لا أتمنَّى على الله إلا كتاباً في العقيدة لا ينطلق إلا من القرآن والحديث فقط، أما عِلْمُ الكلام إن دخَلَ في العقيدة يجْعَلُها ألْغازاً، وأحاجيّ.
نُكْمِلُ؛ قال: بل أراد منهم ألاّ يَحْمِلوا كلامهم على ما يعْرِفونه من خِطابِهم، ولُغَتِهم، مع قُدْرَتِه على أن يُصَرِّح لهم بالحقّ الذي ينبغي التَّصْريح به، ويُريحُهم من الألفاظ التي توقِعُهم في اعْتِقاد باطل، بل سلك بهم خِلاف طريق الهُدى والبيان، ومن ظنَّ ذلك فقد ظنَّ بالله ظنَّ السَّوْء؛ فَكُلُّ هذا الكلام على قوله تعالى:

﴿ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾

[ سورة آل عمران: 154 ]

وتَوْضيحاً لهذه الحقيقة أقول: أنتم تسْكُنون في الشام، ولو أنّ أحدكم ذَهَبَ إلى أمْريكا، واشْتَرى كتاب جغرافيا مِن أرْقى مُسْتوى، وأكبر دار نَشْر نشَرَتْهُ، مِن ألف ومئتي صفْحة، تأليف مجموعة من الخبراء، فَتَح على الشَّرْق الأوْسَط، فإذا دمشق تحت بيروت على الساحِل؛ أَيُّهُما أصْدَقُ عنده، دِمَشْق في الداخِل، أم أن يرى دمشق على الساحِل؟ فالمؤمن شُعوراً بِكَمال الله عز وجل أقوى مِن أيِّة مناقَشَةٍ عِلْمِيَّة، فَلِذلك المؤمن يُحْسِنُ الظنَّ بالله تعالى.
فإن ظنَّ قائل أنَّهُ غير قادِرٍ على التَّعْبير عن الحق باللَّفْظ الصَّريح الذي عبَّرَ به هو وسَلَفُه فقد ظنَّ بِقُدْرَتِهِ العَجْز، فإذا لا يَقْدِرُ الله تعالى أن يُعَبِّر تعبيراً واضِحاً يُريحُنا من هذه الخِلافات، معنى ذلك أنَّ الله عاجز عن الكلام، وإن قال: إنَّهُ قادِر ولم يُبَيِّن، وإنَّه عدَلَ عن البيان، وعن تَصْريح الحق، وأنَّهُ يوهِم خِلاف ما قال فقد ظنَّ بِحِكْمَتِه ورحْمَتِه ظنَّ السَّوْء، فهو إمَّا أن يظنّ بقُدْرَتِه عن التعبير ظنَّ السَّوء، وإما أن يظنّ بِرَحْمَتِه وقُدْرَتِه ظنَّ السَّوْء.

 

كمالُ الخَلْق يدُلّ على كمال التًّصرُّف :

بالجُمْلَة من ظنَّ به خِلاف ما وَصَفَ به نفْسَهُ فقد خاب وخسر؛ فالله عز وجل وصَفَ نفْسَهُ بالعَدْل بالآية، أو عطَل حقائق ما وصَفَ به نفْسَهُ، آية واضِحة بِلِسانٍ عربيٍّ مبين؛ لو قرَأتَها على مليون عربي لقال لك: هذا هو معناها!
ومن ظنَّ أنَّ أحَداً يشْفَعُ عنده من دون إِذْنِهِ، أو أنَّ بينه وبين خَلْقِهِ وسائِط يرْفَعون حوائِجَهم إليه، أو أنَّ أحَداً نصَر عباده وأوْلِيائَه من دونه، ويتقَرَّبون بهم إليه، ويتوَسَّلون بهم إليه، ويَجْعَلونهم وسائط بينه وبينهم فَيَدْعونهم ويخافونهم ويَرْجونهم فقد ظنَّ به أقْبَحَ الظنّ وأسوَأهُ. ومن ظنَّ أنَّهُ يُسَلِّطُ على رُسُلُه أعْداءَهُ تَسْليطاً مُسْتَقِرّاً دائِماً في حياتِه وفي مماتِه، ولا يُفارِقونَهُ، فلَمَّا مات اسْتَبَدُّوا بالأمن دون وَصِيَّتِه، و ظَلموا أهل بيْتِه، وسَلَبُوهم حُقوقهم، وأذَلُّوهم وكانت العِزَّة والغَلَبة والقهْر لأعْدائِه وأعْدائِهم دائِماً، مِن غير جُرْمٍ ولا ذَنْبٍ لأوْلِيائِه وأهل الحق، وهو يرى قَهْرَهم لهم، وغَصْبَهم إياهم حقَّهُم، وتَبْديلهم دين نبِيِّهم وهو يَقْدِرُ على نُصْرتهم، وحِزْبُهُ وجُنْدُه فقد ظنَّ بالله ظنَّ السَّوْء.
مخلوقاته تدل عليه سبحانه وتعالى
والذي أريده بهذا الكلام أنَّ هذا الكَوْن ينْطلق بكمال الله ووَحْدانِيَّتِه وينطقُ بِوُجوده، وهو الشيء الثابت، وكمالُ الخَلْق يدُلّ على كمال التًّصرُّف، ولكنَّ البشر جميعاً لا يسْتطيعون أن يُحيطوا بِعِلْمِ الله، ولا أن يَفْهموا ذات الله، فهذا شيء فوق طاقتنا، إلا أنَّهُ يَكْفينا أنْ نفى الله تعالى عن نفْسِهِ الظُّلْم، فهل في هذا إشْكال؟ يَكفينا أنّ الله تعالى بآياتٍ صريحة وغير صريحة أكَّدَ أنَّنا مُخَيَّرون، وأنّ الله تعالى لا يظْلِمُنا ولا النبي عليه الصلاة والسلام يستطيع أن يُحيط بالله تعالى، وأنا أتَمَنَّى من أخواننا أنْ يمسكوا موضوع القضاء والقَدَر؛ والنبي عليه الصلاة والسلام وصَانا وقال:

((إذا ذكر القضاء فأمسِكوا ))

[ رواه المناوي في الفيض ]

أنت معك دليل، وكلُّ هذا الكون ينْطِقُ بِكَمال الله وبِوَحْدانِيَّتِه ووُجودِه، وهذا المنهج الذي بين أيْدينا مَنْهَجٌ كامٍل وموصِل إليه، أما أن ندْخل في ذات الله؛ فَكَيف نُوَفِّق بين أنَّه تعالى يعْلم، وبين أنَّ الإنسان مُخَيَّر؟ فهو تعالى يعْلَم، قال تعالى:

﴿ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾

[ سورة الحجرات: 16 ]

تَعَلَّق عِلْمُ الله بِكُلِّ شيء، وقال تعالى:

﴿ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾

[ سورة الأنعام: 148 ]

العقل ميزانٌ مَحْدود وَلَهُ مُهِمَّات مَحْدودة :

عقلك محدود فلا ترهقه بتجاوز حدوده
قالوا: أنت مُخَيَّر بِمئة آية، ويعلم بِألف آية، فأنا حتَّى أجعل مُلَخَّصاً لما جرى في الأسبوع الماضي أقول: الله عز وجل كامِل، ثمَّ أصبحنا أيها الأخوة وكأنَّنا لا نفهم معنى العُبودِيَّة! ما العُبودِيَّة؟ أنت عَبْدٌ ومُهِمَّتُك أن تتحَرَّى أمْرَهُ تعالى وتُطَبِّقَهُ وعندها تنتهي مُهِمَّتُك، والدليل قوله تعالى:

﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾

[ سورة الزُّمَر: 66 ]

فقد أصبح بعضنا يتطاوَل إلى أن يُناقِشَ الله عز وجل، لِمَ فَعَلْتَ؟ ولِمَ لمْ تَفْعَل؟ ولِمَ تَعْلَم؟ ولِمَ لا تعلَم؟ ليس هذا هو مقام الإنسان! فالعَبْدُ عَبْدٌ والربُّ ربٌّ.
أنا أحْياناً أميل إلى السَّلَف الصالِح من حيث أنَّنا عِباد، وما علينا إلا أن نُطيعَهُ، وانْتَهى الأمْر، وهذا عِلْمٌ عالٍ، فأنت في أعلى درَجات العلْم حينما تقول: لا أدْري! والعَجْزُ عن الإدْراك إدْراك، فالذي يدْخُل في متاهات، ويتَّهِمُ الله تعالى في عَدْلِه وعِلْمِهِ ويقول: الله تعالى لا يعْلَم! فهل هذا هو مقامُك؟ أن تنفي عن الله العِلْم مِن أجل أن تُثْبت بِبَساطة وسذاجَةٍ أنَّهُ عادِل!! ألا يكْفي أنَّه نفى عن نفْسِه الظُّلم في كثير من الآيات؟ عِلْماً أنَّك لن تستطيع أن تُثْبِتَ عدالتَهُ بِعَقْلِك إلا في حالةٍ واحِدَة، وهي أن يكون لك عِلْمٌ كَعِلْمِ الله؛ كُلُّ هذا الكون لا يَكْفيك! فأنت لو دَخَلْتَ إلى طبيب، ووجدْتَ على الحائط شَهادة بورد، وهي أكبر شهادة طبّ في العالم! فيُمْكِن لهذا الطبيب أن يُعْطيك دواءً لا ترْضَى به أنت! فلا أعْتَقِدُ أنْ يَشُكَّ المريض بالطبيب العالم والمُخْتَصّ ولو جاءَتْ التَّعْليمات خِلاف المرغوب، أفلا يسْتَحِقُّ الله جلّ جلاله، وهذا الكَوْن الذي خلقَهُ لنا أن نسْتَسْلِمَ له؟ لذا أنْصَحُكم؛ هناك موضوعات عليكم أن تُريحوا أنفسَكم منها، والوَقْت ثَمين والمُهِمَّة كبيرة، والجنَّة عرْضُها السَّماوات والأرض، وهي تَحْتاج إلى اسْتِسْلام، فأكبر خطأ نرْتَكِبُه جميعاً هو: هل عَقْلَنا قادِرٌ على فَهْمِ كلِّ شيء؟! لا، عَقْلُكَ ميزانٌ مَحْدود، وَلَهُ مُهِمَّات مَحْدودة، فما دُمْتَ تَصْرِفُهُ إلى هذه المُهِمَّات فَهُوَ يُعْطيك أرْوَع النَّتائِج، أما حينما تتجاوَزُ المُهِمَّات التي أُنيطَتْ به؛ فرُبَّما يعْطيك نتائِج غير مُتَوَقَّعة، وتكون بهذا قد حَطَّمْتَ عَقْلَك.

 

العقيدة يجب أن تكون وفق منهج الله تعالى ومنهج رسوله صلى الله عليه وسلَّم :

اليوم سَنُكْمِل الإلهِيَّات إن شاء الله عز وجل، وبعدها ننتَقِلُ إلى النبوَّات إن شاء الله تعالى.
بالمناسبة أقول حول سؤال ذُكِر: أنَّه لا بدّ علينا أنْ نُعْمِلَ عقولَنا، وأن نُفَوِّض في آنٍ واحِدٍ، أنْ نُعْمِلَ عقلنا فيما قاله الله عز وجل لا في رَدِّهِ، ثمَّ إنَّ كلام الشيخ ابن القَيِّم أَعُدُّهُ أنا حُجَّةً، وهو شيء مُهِمّ جداً، فالله تعالى قال:

﴿ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾

[ سورة الأعراف: 180 ]

وقال تعالى:

﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾

[ سورة الأعراف: 156 ]

فالحاصل من كلامنا أنَّه لا يمكننا أن نُصَدِّق أن يُعَذَّب إنسانٌ إلى الأبد ولا ذَنْبَ له! وقال العلماء: الجَنَّـةُ مَحْضُّ فَضْلٍ، والنار مَحْضُ عَدْلٍ، فَهَل يُعْقل أنَّ إنساناً لا ذَنْب له ولا اختِيار ولا إثْم يَخْلُدُ في النار إلى أبَدِ الآبدين، فَعَدْلُهُ تعالى يُفْهَمُ وَفْق مقاييِسِنا، وكلامه يُفْهَمُ وَفْق لُغَتِنا.
فالعقيدة شيء خطير إذا كانت على غير منهج الله تعالى، ومنهج رسوله صلى الله عليه وسلَّم، وقد ذَكَرْتُ لأحدهم فقُلْتُ: لو أنَّ الإنسان مصاب بضَغْط ثمانية عشر؛ وهذا يعني أنَّه يمكن أن تنتج عنه عواقب وخيمة؛ انفجار شريان بالدِّماغ! يُسَبِّب خَثرة دِماغِيَّة؛ إما شللاً أو فقْدَ ذاكرة، فلو أنّ أحدنا اعتَقِدُ أنّ المِلْح ينزِّل الضَّغْط؛ ما هذا الرأي؟ هذا رأيٌ قاتِل، أما لو نوى أن يأكل سُكَّراً فإذا به يأكل الملْح! فهذا خطأ لا يتكَرَّر، أما خطأ أنَّ الملح يُنَزِّل الضَّغْط فهو قاتِل، فأخْشى ما أخْشاه أن يكون في العقيدة خلل، وسوء ظنٍّ بالله، ولا تقلْ: الله يعلم كلّ شيء، وانتهى الأمر، لكنّ العلماء قالوا كلاماً نفيساً، وهو أنَّ عِلْمَ الله تعالى عِلْمُ كَشْفٍ وليس جَبْرٍ، وأنت مُخَيَّر بِنَصِّ القرآن الكريم.

 

القضاء والقدَر كالناظِر في الشَّمْس كلَّما ازْداد تَحْديقاً بها ازْداد عمى :

قال تعالى:

﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾

[ سورة البقرة: 148 ]

وقال تعالى:

﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾

[ سورة البقرة: 148 ]

وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
فأنت مُخَيَّر بِعَشرات الآيات، والله تعالى يعْلم بِعَشَرات الآيات، وانتهى الأمر، وإلى هنا قِف! لأنَّ القضاء والقدَر كالناظِر في الشَّمْس؛ كلَّما ازْداد تَحْديقاً بها ازْداد عمًى، والنبي عليه الصلاة والسلام قال:

((إذا ذكر القضاء فأمسِكوا ))

[ رواه المناوي في الفيض ]

يُمْكِن أن تُفَكِّر في الكَون فَتَذوب كالشَّمْعَة تَعْظيماً لله تعالى ولِعِلْمِهِ مِن خِلال صَنْعَتِهِ، فهذا باب مُسْتَحْسَن، ومَطْلوب، ومَرْغوب فيه؛ فَكِّرفي مخلوقات الله، أما إنْ فَكَّرْتَ في الله فإنَّك تَهْلَك، وهذا كلام نقوله لكل البَشَر، قال تعالى:

﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾

[ سورة البقرة: 148 ]

وقال تعالى:

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ﴾

[ سورة الإسراء:85]

لا يعرف الله إلا الله ولا يعرف رسول الله إلا الله ورسول الله :

لا يعرف الله إلا الله، ولا يعرف رسول الله إلا الله ورسول الله، فَنحن نَقِفُ عند حَدِّنا، ورَحِمَ الله عبْداً عرف حَدَّهُ فَوَقَفَ عنده.
أضرب لكم مثَلاً، لو قيل لك: لك عندي قصْرٌ في آخر هذا الطريق! فالأوْلى أن أسير أم أنْ أبقى أُفَكِّر في القَصْر؟‌‍‍! عَمَلٌ غير حكيم، ادُّخِرَ سرّ القضاء والقدر إلى يوم القيامة، فالله تعالى ادَّخَر لنا مُفاجأة، والأمر إذا كان واضحاً واضِحاً يصبح لا قيمة له، فنحن ليس بالضرورة أن نعْرِفَ كلّ شيء، فَمَثَلاً مثلَّث بَرْمُودا! لا أعرف كنهه، والله تعالى جعَلَ هذا المثلَّث تَحَدِّيّاً للبشر، وليس شرْطاً أن أعرف ظروفه؛ تَمُرُّ طائرة فَتَنْزِل، أو باخرة فتَغوص! ماذا بهذا المثلثّ؟! هو لغزٌ في العالم، ولا أحَدَ يعرف!!! مثلَّث قبل أمريكا، ومرض الإيدز أليس سرّاً؟ وكذا مرض الرَّشَح أخْطر مرض يتحَدَّى العصْر؛ يقول لك: إن أخَذْتَ الدَّواء أو لم تأخذْهُ فَمُدَّة التخلُّص منه واحِدَة!! لذا لا تظنّ مِن السَّهْل الإحاطة بالله تعالى! وهل يمكن أنْ تعرف نِهايَة الكَوْن؟! دَعْكَ من خالق الكون، وتعال إلى الكون؛ هل هذه المجرات تعرف دقائقها بالتَّفْصيل؟! فالمجَرَّة تمشي بِسُرعة مئتين وأربعين ألف كيلومتر في الثانية، والآن أين هي؟ وإذا كانت المُوَرِّثات؛ خَمْسَة آلاف مليون معلومة مُبَرْمَجَة مَوْضوعة على نُوِيَّة خَلِيَّة، لم يعرفوا الآن إلا ثمانمئة فقط! كرموزومات؛ هذا طويل وذاك قصير، وذاك عُيونه سود، والآخر خضر، وذلك زرق، شَعْر كثيف ومُجَعَّد؛ وهذا عصبي وآخر هادئ، خمْسة آلاف مليون مَعْلومة تُسْهِم في تَشْكيل الإنسان.
الشرايين تضيق، وفَقْدُ الإنسان لِشَوارِد البوتاسيوم يجعله يسقط حينما يقفُ، فإذا تَقَدَّم الإنسان في السِنّ، وضَعُفَت عنده هذه الشَّوارِد تجده عندما يقف يسقط رأساً! ما هذه الآلِيَّة؟ لا يزال جسم الإنسان يحوي ملايين المجاهيل التي لم يكتشِفْها الإنسان، وكذا النبات والحيوان، مئة وأربعون مليار خَلِيَّة سمْراء لم تُعْرَف وظيفتها بعْدُ في الدِّماغ! فأنت إذا كنت لا تستطيع أن تعرف مخْلوقاتِه، فكيف تريد أن تعرفه هو تعالى؟!!

علم الله مطلق :

قال: ولم يَخْفَ عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلِمَ ما هم عامِلوه قبل أن يخلقهم، الآن هذا سؤال: إذا قلنا: فألْهَمَها فُجورَها وتَقْواها، إذا قيل لك: ألْهَمَها فُجورَها،أي: أَجْبَرَها على أن تكون فاجِرَة! هكذا فَهِمَها، وقال لك آخر: ليس هذا هو المعنى، ولكن إذا فَجَرَتْ تَكْشِفُ فِطْرَتُها العالِيَة أنَّها فَجَرَت، فأيُّ المعنى الذي يليق بذات الله؟ الثاني طَبْعاً إذْ لو قلنا بالقَول الأوَّل لكان فُجورها من فِعْل الله تعالى، ولا ذَنْبَ لها به لكنَّهُ يُعَذِّبُه على فُجورها.
هناك معنىً آخر وهو أنَّهُ تعالى فطَرَها فِطْرَةً بِحَيْث إذا فَجَرتْ تَعْلمُ أنَّها فَجَرَت مِن دون مُعَلِّم، ومن دون مُوَجِّه، فلا تقل: ولكن، وإن سَرَق، وزنا! فهذا الأمر بالماضي؛ قال: سرقَ ولم يقل يسْرق، فالإنسان إذا أسْلَم فإسلامه يَجُبُّ ما قبله.
بالمناسبة؛ سيِّدُنا يوسف عليه السلام هل كان معه كتاب سماوي؟ ولكن كان معه شيء لا يقل عن مرتبة الكتاب، قال تعالى:

﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة يوسف: 21]

فَتَأويل النَّص عِلْمٌ قائِمٌ بذاتِه! والقُدْرة على فَهْم النَّص اخْتِصاص.
قال: فإنَّه سبحانه يعْلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كما قال تعالى:

﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾

[سورة الأنعام: 28]

وإن كان يعلم أنَّهم لا يُرَدُّون، ولكن أخبر أنَّهُم لو رُدُّوا لعادوا كما قال تعالى:

﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾

[ سورة الأنفال: 23 ]

الله تعالى خلَقَ الخَلْق لِعِبادَتِه :

غاية الخلق عبادة الخالق
في ذلك رَدٌّ على الرافضة والقَدَرِيَّة الذين قالوا: إنَّهُ لا يعْلمُ الشيء قبل أنْ يَخْلُقَهُ! فلو كان الأمر كذلك فما الفرق بيننا وبين الله تعالى؟ فلو كنت بِبُسْتانٍ ورأيْتَ ورَقَةً تسقط، فأنت الآن علِمْتَ وهي تَسْقُط أنَّها تسْقُط! والله تعالى قال:

﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾

[ سورة الأنعام: 59 ]

فإذا أنت كنت تعلم حينما تسقط، والله تعالى يعلم حينما تسقط فهل هناك فرق بين عِلْمِكَ وعِلْمه؟! سِيَّان!!
قال: وأمَرَهُم بِطَاعتِهِ ونهاهُم عن مَعْصِيَّتِه، وذكرُ الشيخ رحمه الله تعالى الأمْرَ والنَّهْي بعد ذِكْرِه الخلْقَ والقَدَر إشارَةً إلى أنّ الله تعالى خلَقَ الخَلْق لِعِبادَتِه، كما قال تعالى:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

[ سورة الذاريات: 56 ]

وقال تعالى:

﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾

[ سورة الملك: 2]

قوله: كلّ شيء يجْري بِتَقْديرِهِ ومشيئَتِه، ومشيئَتُهُ تنْفُذ، ولا مشيئَةَ للعِباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن.

 

مشيئة الله تَسْتَوْعِبُ مشيئة الإنسان :

اسْمَحوا لي الآن أن أقْرَأ الآيات، وأُفَسِّر معناها، فهذا الكونُ كَوْنُ الله تعالى، ولا يقَعُ شيء إلا بِمَشيئة الله تعالى، ولا يستطيعُ عَبْدٌ مهما كان كبيراً أن يفعَلَ شيئاً ما أراده الله، وإنّ كلّ شيء وقع أراده الله تعالى، وكل شيء أراده الله وقَع، وإرادة الله تعالى مُتَعَلِّقَةٌ بالحِكْمَة المطلقة، وحِكْمَتُهُ المطلَقَة مُتَعَلِّقَةٌ بالخير المطلق، فَكُلُّ شيء يجري بِتَقْديره ومشيئَتِه، ومشيئتُهُ تنْفذ لا مشيئة العبد، فما شاء لهم كان وما لم يشأ لم يكن، وهذا الكلام يحْتاج إلى تَوْضيح، فَمَشيئةُ الله تَسْتَوْعِبُ مشيئة العِباد، فأنت مُخَيَّر، ثم أَراَدَ لا سَمَحَ الله إنسانٌ فاجر وفاسق أن يسْرِق، فأراد الله له أن يُحَقِّقَ له اخْتِيارَهُ، فمشيئةُ الإنسان تَعَلَّقَتْ بالسَّرِقَة، ولأنَّ الإنسان مُخَيَّر تَعَلَّقَتْ مشيئة الله تعالى بِتَمْكينِهِ من السَّرِقَة، ولكنَّ الله تعالى يُنَسِّق؛ اِسْرِق مِن هذا!! فهو يُحَقِّق لِهذا السارِق مشيئَتَهُ، ويُؤَدِّب هذا المَسْروق، والظالم سوْط الله ينْتَقِمُ به ثمّ ينْتَقِمُ منه، وهذا الكلام معناه أنَّ مشيئة الله تَسْتَوْعِبُ مشيئة الإنسان، فلَمَّا يسرق هذا الكافر أو يقتل فهو ما فعَلَ إلا ما أراده الله تعالى، لِحِكْمَةٍ بالِغَة، حَقَّقَ لِهذا مشيئتَهُ لأنَّهُ مُخَيَّر، وأدَّب بِهذه المشيئة بَقِيَّة خلقِه، وهذا هو التَّنسيق، وكل شيء يجْري بتَقْديرِهِ ومشيئته، ومشيئتُهُ تنْفذ، ولا مشيئَةَ للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان وما لم يشأ لم يكن، فالشيء إذا وَقَعَ يعني أنَّ الله تعالى قد شاءَهُ، وإذا اخْتَرْتَ شيئاً ونفَذتَ ما شئتَ فالمعنى أنّ خطَّة الله اسْتَوْعَبتْ مشيئتك، فما كان لك أن تشاء، وأن تُحَقِّق ما تشاء؛ لولا أنَّ الله تعالى شاء لك أن تُحَقِّقَ ما تشاء، فأنت تبقى مُخَيَّراً، ولكن فعْلَك يُنَسَّق من قِبَلِ الله تعالى. قال تعالى:

﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ﴾

[ سورة الإنسان: 30 ]

وقال تعالى:

﴿ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾

[ سورة الإنسان: 29 ]

مشيئة الله سبحانه مُقَنَّنة بِكمالِهِ :

أنت مُخَيَّر، ومشيئتُكَ لا تَتَحَقَّق إلا أن يسْمَحَ لك الله تعالى، فالفِعْلُ فِعْلُهُ ولا يُحَقِّق لك مِن مشيئتِك إلا ما يشاء، ثمّ قال تعالى:

﴿ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً*وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً* يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾

[ سورة الإنسان: 29-31]

فالقَضِيَّة ليْسَت مِزاجِيَّة، فهو تعالى أدْخَلَ المُقْسِطين، ولم يُدْخِل الظالمين، وأدخل المستقيمين، وهذا يعني أنّ مشيئته مُقَنَّنة بِكمالِهِ.
فأنت لك مشيئة لكنَّ هذه المشيئة تفْتَقِرُ إلى فِعْل، والله عز وجل فعَّال لِما يُريد أما أنت وأنا نشاء ولا نفْعَل، فمثَلاً أتمنَّى أنا أن يكون معي ألف مليون، ولكن لا أسْتطيع، إلا أنّ الله تعال فعَّال لما يريد، ومشيئة الإنسان يتحَقَّقُ منها ما يُريدُه الله تعالى فإذا انْقَلَبَتْ إلى فِعْل، فَمَشيئة الله تعالى شاءت أن تقَعَ هذه المشيئة، فَتَنْفيذ المشيئة تحتاج إلى مشيئة الله تعالى. فأنت ـ حسب أصحّ الكلام ـ سُمِحَ لك أن تخْتار، وشاءتْ مشيئة الله أن تكون أنت ذا مشيئة، فأنت مُكَرَّم، أما كل الخَلْق فمُسَيَّرون؛ الحيوان والملائكة والجماد؛ إلا الإنس والجنّ اللَّذَيْنِ شاءت لهما مشيئة الله أن يشاؤوا، قال تعالى:

﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ﴾

[ سورة الإنسان: 30]

الله تعالى رسَمَ للإيمان طريقَهُ فلن يؤمن الإنسان إلا من خِلال هذه الطريق :

وقال تعالى:

﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ﴾

[ سورة الأنعام: 111]

ما معنى هذه الآية؟ إذا صعد شخصٌ إلى السماء ورجع بعد ساعتين وقال: رأيت الذات الإلهِيَّة فالآن أُومِن، أما الآخر فقال: لا، أنا لا أومن، وإذا خرج شخصٌ من قبره، وقال: هناك آخرة أُصَدِّقُه، وذاك قال: إذا مشى الجبل أُصَدِّق، فالله تعالى قال:

﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ﴾

[ سورة الأنعام: 111]

طريق الايمان واضح لمن يريد رؤيته
فالله رسم للإيمان طريقه، وبشَكْلٍ مُبَسَّط لو أنَّك تقرأ الطب خمْس سنوات فلن تحصل على شهادة طبّ، ولو بقيتَ في المستشْفيات خمْس سنوات كذلك لن تنالها إلا إذا تحَصَّلْتَ على شهادة البكالوريا بِتَفَوُّق؛ فلن تكون طبيباً حتَّى تسْلك الطريق التي رُسِمَتْ للأطِبَّاء؛ بكالوريا زائد سبع سنوات دراسة طب، وإلى آخره، فلو أنَّكَ طَلَبْتَ الإيمان بالله عن طريق المعْجزات فلن تؤمن إلا إذا شاء الله، فاليهود رَأوْا المُعْجِزات؛ عصاً أصْبَحَتْ ثعباناً ‍‍فمنهم مَن انحرف وضلّ! فالآية هذه دقيقة جداً، والله تعالى رسَمَ للإيمان طريقَهُ، فلن تؤمن إلا من خِلال هذه الطريق، قال تعالى:

﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾

[ سورة الأنعام: 112]

لأنَّ الفعْلَ فِعْلُهُ، هناك مَثَلٌ أُوَضِّحُهُ لكم كثيراً، وأذْكرهُ كثيراً، أنت صَيْدلي وتطلب مُوَظَّفاً على مستوى عالٍ من الثَّقافة، وأرَدْتَ أن تمْتَحِنَهُ، فأتَيْتَ بِكَمِيَّة من الدواء، وقلتَ له: ضعْ هنا الفيتامينات، وهنا الحبوب، وهنا السُّموم، ثمّ قلت له: وَزِّع هذه الأدْوِيَة! فلو أنَّه وضَع الفيتامينات مع السُّموم، ومنَعْتَهُ من الإتْمام فأنت لم تمْتَحِنْهُ! لكنَّك تشاء له أن يتَحرَّكَ خطأً، لأنَّهُ في مَوْطِن الامتِحان، فالله تعالى ما أمَرَ بالكُفْر، فإن كفَرَ شخصٌ فهو تعالى أراد ولم يرْضَ، ومعنى أراد أي سَمَحَ.

 

الله تعالى أعْطانا الحُرِيَّة كي نرْقى بها ونكون مخلوقات مُتَمَيِّزَة جداً :

ومِن ثَمّ قال تعالى:

﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾

[ سورة يونس: 99]

لو أنَّ الله تعالى ألغى الاخْتِيار وجعلنا كالملائكة والحيوانات، لا تكليف، ولا أمانة، ولا شَهَوات، فالله تعالى أعْطانا الحُرِيَّة كي نرْقى بها، ونكون مخلوقات مُتَمَيِّزَة جداً.
هناك آية فيها إشكال، وهي قوله تعالى:

﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾

[ سورة الأنعام: 125]

الله تعالى يُعينُ المؤمن إذا اخْتار الطريق الصحيح، ويشْرح صدْره؛ فهذه اسمُها مُعينات، فالإنسان إذا صلى واستقام يُسَرُّ ويرتاح، فهذا خلق الله فيه السرور والراحة تَشْجيعاً لك، وإذا انتَكَس الشخصُ، وترك الصَّلاة، وخرق الاستقامة فإنَّهُ يجدُ ضيقاً، فالقلوب بِيَد الرحمن، يشْرحها لك تشْجيعاً لك، ويُضَيّقُها رَدْعاً لك، ليس المعنى أنّ الإنسان مَجْبور، فأنا أُحاول أن أُبَيِّنَ معنى الآيات التي يُفهَم منها خطأً عقيدة الجبْر.

 

الضلال الجزائي :

قال تعالى:

﴿ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾

[ سورة هود: 34]

كيف نُفَسِّرُ هذه الآية؟ معنى كلمة يُغْوِيَكم؛ أيْ يُخْرِج ما في نُفوسِكم من شرّ! الإغْواء هو الإضلال، فالله تعالى لو أراد أن يُغْوِيَكم لما أفادكم نصحي، وهناك معنى ثانٍ؛ وهو لو اعْتِقَدْتم أنَّ الله خلقكم لِيُغْوِيَكم لن تسْتفيدوا من دَعْوتي. قال تعالى:

﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾

[ سورة الأنعام: 39]

هذا ضَلال جَزائي، المَبْني على ضَلال اخْتِياري، فمَثلاً لو أنَّ الإنسان له زوْجة ممتازة، وعاملَها باللُّطْف، وأحْسَنَ إليها، فهذا لم يفْعَلَ شيئاً، أما لو أُصيبَتْ زَوْجَتُهُ بشَلل، ثمَّ تضايَقَ منها، وأهْمَلَها، فهذا كذَّاب، ومنافق، لأنَّه صاحب مصْلَحَة، فالخبث الكامن لا يظهر إلا بالامْتِحان، فالله عز وجل لمَّا علِمَ أنّ فيهم خبْثاً، وضَعَهُم بِظَرْفٍ أخْرج به خُبْثَهم.

 

ذَمَّ الله تعالى المشركين حيث جَعَلوا الشِّرْك كائِناً منهم بِمَشيئَةِ الله فعَزَوا شِرْكَهم إليه:

إن قيل: يُشْكِلُ على هذا قوله تعالى:

﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾

[ سورة الأنعام: 148 ]

وقوله تعالى:

﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾

[ سورة النَّحل: 35 ]

وقوله تعالى:

﴿ وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾

[ سورة الزخرف: 20 ]

فقد ذَمَّهم الله تعالى حيث جَعَلوا الشِّرْك كائِناً منهم بِمَشيئَةِ الله، فعَزَوا أخْطاءَهم وشِرْكَهم إلى الله عز وجل.
وكذلك ذمّ إبليس حيث أضاف الإغواء إلى الله، إذْ قال في قوله تعالى:

﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾

[ سورة الحجر: 39]

فالله تعالى ما أقَرَّهُ على هذا الكلام، وهي دَعْوى إبليس!

 

مشيئة الله تعالى ليسَتْ دليلاً على أمرِهِ ولا على رِضاه :

قال: قد أُجيب على هذه الآيات بِأجْوِبَة؛ أحْسَنُها أنَّهُ أنْكر عليهم ذلك، لأنَّهم احْتَجُّوا بِمَشيئَتِه على رِضاه وَمَحَبَّتِه، فالمشيئة شيء وأمْرُهُ ورِضاه شيء آخر، فأحْياناً يكون الأب مُثَقَّفاً ثقافَةً عالِيَة، فيَكون كلّ طُموح الأب أن يكون ابنه مُثَقَّفاً، فإن لم يكن كذلك يَضَعُهُ في صَنْعَة يتعلمها، فالأب شاء له العلم، ولم يرْضَ لابنه أن يكون صاحب صَنْعة، بل صاحب ثقافة دراسِيَّة، فأكْبَر خلط أن تظن أنَّ مشيئته هي عَيْنُ رِضاه، وأنَّ مشيئته عين أمْرِه! لا، ثم لا، ما معنى ليس في إمكاني أبْدعُ مِمَّا أعْطاني؟ هل يوجد أبٌ يَتَمَنَّى لابنِه عَمَلِيَّة جِراحِيَّة؟ ولكنه يرضاها له، فَمَشيئته غير رضاه وغير أمْرِه.
وقالوا: لو كرِهَ ذلك وسَخِطَه لما شاءَهُ، فجعلوا مشيئتَهُ دليل رِضاه، فرَدَّ الله عليهم ذلك، أو أنَّهُ أنْكر عليهم اعْتِقادهم أنَّ مشيئة الله تعالى دليل على أمرِه به فليسَتْ مشيئة الله تعالى دليلاً على أمرِهِ، ولا على رِضاه، وهذا واضِحٌ.
أو أنَّهُ أنكر عليهم معارضَتَهُ شرْعَهُ، وأمْرَهُ الذي أرْسَل به رسله، وأنْزل به كُتُبَهُ بِقضائه وقدره، فجعلوا المشيئة العامَّة دافِعَةً للأمْر، فلم يذْكروا المشيئة على جهة التوحيد، وإنَّما ذكروها مُعارضين بها لأمْره، دافِعين بها لِشَرْعِهِ، كَفِعْل الزنادِقَةِ والجُهَّال إذا أُمِروا، أو نُهوا احْتَجُّوا بالقَدَر، وهناك رواية قال: وقد احْتَجَّ سارق على عمر رضي الله عنه بالقَدَر، فقال: إنَّ الله قدَّر عليَّ ذلك، قال: وأنا أقْطَعُ يدك بِقَضاء الله وقدَرِهِ! إذا كنتَ تظنّ أنَّ هذه الجريمة التي قد ارْتَكَبْتَها بِقَضاء الله وقدره، فنحن نقطع يدك بِقَضاء الله وقدرِه، فهذا أراد أنَّ الله تعالى هو الذي أجْبره على ذلك، ويشهد لِذلك قوله:

﴿ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾

[ سورة الأنعام: 148 ]

فَعَلِمَ أنَّ مُرادهم التَّكْذيب، فهو مِن قبل الفِعْل مِن أين له أنْ يعلمَ أنَّ الله تعالى قدَّره أو لم يُقَدِّرْهُ؟ أطَّلَعَ الغيْب؟! فما دُمْتَ لا تعلم الذي يعْلمُه الله فهذا العِلْم لا يمكن أن يكون حجَّةً لك.
وإن شاء الله تعالى في درْس قادِم نُتابع الموضوع، ونَصِل إلى النبوَّات، ونكون قد تجاوزنا أصعب جزء من الكتاب، والباقي سيَكون سهْلاً إن شاء الله تعالى.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور