- العقيدة الإسلامية
- /
- ٠4موضوعات مختلفة في العقيدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
بعض معاني التعدية :
أيها الأخوة المؤمنون، في الدرس الماضي تحدثت عن بعض المعاني الدقيقة التي يعبر بها عن تعدية الفعل، ورأيتم كيف أن الإنسان إذا فهم حقيقة لغته العربية، ثم قرأ القرآن الكريم يفهم المعنى الذي أراده الله صواباً، أما إذا كان ضعيفاً في فهمه لقواعد اللغة، ولأسرارها، ولمدلولات ألفاظها، فقد يفهم عكس المعنى الذي أراده الله، فإذا فهم عكس المعنى الذي أراده الله قد يقع في سوء ظن بالله، قد يظن بالله غير الحق ظن الجاهلية.
وقد ضربت على ذلك أمثلة كثيرة، حيث إن من معاني تعدية الفاعل إلى المفعول به ليس الخلق فحسب، بل الوجدان أيضاً، أبخلته أي: وجدته بخيلاً، أغويته أي: وجدته غاوياً، أغفلته أي: وجدته غافلاً.
من معاني التعدية الوجدان، ومن معاني التعدية الحكم، ومن معاني التعدية القضاء، ومن معاني التعدية الاتهام، هذه بعض المعاني.
فلو قرأت آية وبدا لك لأول وهلة أن كمال الله عز وجل لا يتناسب مع هذا المعنى، فهل يعقل أن الله سبحانه وتعالى يخلق في نفس الإنسان الغفلة، وقد خلقه ليعرفه، خلقه ليرحمه، وهل يعقل أن يخلق الله في نفس الإنسان الضلال؟ فإذا قال الله: أضله الله، كان المعنى: وجده ضالاً، نظر إليه فوجده ضالاً، فهل يعقل أن يخلق الله في نفس الإنسان الغواية؟ لا، ثم لا، بل نظر إليه فوجده غاوياً، وهكذا.
أخوة كثر تأثروا كما قالوا لي تأثراً بالغاً من الدرس السابق، لأنهم اتجهوا اتجاهاً آخر، لأن هذه اللغة لها أسرار، ولها قواعد، وحينما نعلمها علماً صحيحاً، أو حينما نعرفها معرفةً صحيحة فماذا فعلنا؟ فهمنا كلام ربنا، وأحسنا الظن به، وازداد حبنا له، وانطلقنا إلى العمل الصالح، لذلك أتابع هذا الموضوع في هذا الدرس.
معاني الفعل في القرآن الكريم :
لدينا موضوع جديد، وهو معاني الأفعال، الدرس الماضي كان معاني تعدية الأفعال، اليوم موضوع الدرس: معاني الفعل في القرآن الكريم.
1 ـ أول معنى من معاني الفعل وقوع الفعل :
أول معنى من معاني الفعل وقوع الفعل، قال تعالى:
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ*وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً *فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ﴾
(جاء) بمعنى وقع، هذا اليوم جاء، أي وصلْنا إليه، إلا أن اللغة دقيقة جداً، إذ نستخدمها كثيراً، لكن لها معانٍ دقيقة هذه، فكلمة (إذا) فيها معنى الظرف، وفيها معنى الشرط، وفيها معنى الاستقبال في آن واحد، والإعراب التقليدي لها: ظرف لما يستقبل من الزمن، خافض لشرطه، متعلق بجوابه، مبني على السكون في محل نصب مفعول فيه ظرف زمان.
لكن إذا قرأتَ الآية الكريمة،
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾
تجد أنّ العلماء قالوا: (إذا) تفيد تحقق الوقوع، فإذا قال الله عز وجل:
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾
فنصر الله لا محالة آتٍ فاطمئن، ونحن في أمسِّ الحاجة إلى هذا المعنى.
أحياناً الإنسان لحكمة أرادها الله عز وجل يرى أن المسلمين ضعاف في العالم، وأن أعداءهم أقوياء جداً، وأنهم يكيدون لهم بكل وسيلة، فإذا كنت مع الله عز وجل لا يمكن أن يتخلى الله عنك، وقد مرَّ معنا في درس سابقٍ آية كريمة، قال تعالى:
﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ﴾
أولاً الآية التي وجهت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن توجه إلينا، لكن بقدر إيماننا، فإذا خاطب الله النبي بقوله:
﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ﴾
وأنت أيها المؤمن إذا كنت مستقيماً، إذا كنت متبعاً لسنة النبي، وإذا كنت محباً لله عز وجل، مخلصاً له، لا تخشَ أحداً، فتوكَّلْ على الله، هناك معنى يسميه العلماء: ما بين السطور، معنى ضمني، أنّ الله لا يتخلى عن المؤمنين، فإن كنت مؤمناً صادقاً فتوكل عليه فهو لا يتخلى عنك، فتوكل على الله إنك على الحق المبين، وما دمت على الحق المبين فإنّ الله لا يخذلك.
مؤاثرة مرضاة الله وطاعته يخضعك الله لمنظومة قوانين أخرى :
لدينا نقطة دقيقة جداً، أرجو الله أن يمكنني من توضيحها لكم، في أثناء حركة الحياة نستنبط قوانين، مِن هذه القوانين المستنبطة من حركة الحياة مثلاً: إذا ملَك الرجل مئة ألف ثم أنفقها فعندئذٍ يغدو بلا شيء، وإذا أقرض إنسان مئة ألف، ثم استردها بعد عام خسر في المئة سبعة عشر، وهذه نسبة التضخم النقدي، الحسابات الأرضية: الإقراض خسارة، والإنفاق خسارة، لكنّ الإنسان حينما يضحي بماله في سبيل مرضاة ربه، يخضعه الله لمنظومة قوانين جديدة:
(( ما نقص مال من صدقة.))
قال تعالى:
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ والله لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾
أنت بحسب قوانين الأرض، بحسب القواعد المستنبطة من حركة الحياة إنفاق المال خسارة، فإذا آثرت مرضاة الله عز وجل على ما بيدك من المال، إكراماً لك، ومكافأةً لك، وتشجيعاً لك يخضعك الله لمنظومة قوانين جديدة أخرى، وخلاصة هذه القوانين أن الله سبحانه وتعالى يربي لك هذا المال، وينميه لك بالعناية الإلهية المباشرة.
الحَجَّاج بَطَاش، وقتْلُ الإنسان عنده سهل جداً، الإمام الحسن البصري أدى أمانة العلم، ولم يعبأ ببطشه، فبحسب القوانين المستنبطة من حركة الحياة ينبغي أن يُقتَل، وبالفعل أمَرَ بقتله واستدعاه، لكن حينما ضحى بكل شيء يملكه من أجل أداء أمانة العلم، أخضع اللهُ عز وجل الإمامَ الحسن البصري إلى قانون آخر، فألقى في قلب الحجاج تعظيمه، وإكباره، وكأن الله سبحانه وتعالى قَلَبَ قلْبَ الحجّاج بين أصبعيه، فغدا معظِّماً، محباً، ورحّب به، وأجلسه على سريره، وعطره، وضيفه، واستفتاه، وودعه. فهذه نقطة مهمة جداً، فحين يبدو لك مِن قوانين الأرض أنك إذا أطعتَ الله عز وجل سوف تخسر، لكنْ لو أنك ضحيت بمصالحك في الدنيا وأطعته يخضعك الله لمنظومة قوانين أخرى، عندئذ تربح.
2 ـمن معاني الفعل في القرآن الكريم المشارفة على الشيء :
أوَّلُ معاني (إذا): تعني لتحقق الوقوع، أما حينما يقول الله عز وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾
هل تفيد (إن) التحقق؟ لا، بل تفيد الاحتمال، قد يأتي وربما لا يأتي، أول نقطة في الدرس يجب أن تفرِّق بين (إنْ) وبين (إذَا)، (إذا) ظرف وشرط واستقبال، إذا اقترنت بالفعل فهو لا محالة آتٍ، أما (إنْ) فهي تفيد الاحتمال، فقد يقع الفعل وربما لا يقع.
من معاني الفعل في القرآن الكريم المشارفة على الشيء، فحينما قال الله عز وجل:
﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾
﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾
الأجل هنا العدة، إذا بلغت المرأة عدتها ملكت نفسها وأصبحت في حل من عقد الزواج ولن يستطيع زوجها أن يعيدها إليه إلا بعقد جديد ومهر جديد، هل معنى (بلغن) هنا أن الفعل وقع، أي العدة انتهت؟ لا، معنى (بلغن) هنا ليس أن يقع الفعل، بل اقترب وقوع الفعل.
الطلاق السني :
أخواننا الكرام، أحياناً الدين مع امتداد الأمل يضعف فهْمُه في نفوس الناس، أحياناً يُفرَغ من مضمونه، وقد شرع الله عز وجل الطلاق، ولكن الطلاق السني غير الطلاق البدعي. الطلاق السني، لو اختلف الزوجان، وحلف الزوجُ بالطلاق، تبقى عنده في بيته، تأكل معه، وتشرب معه، وتتزين له، فإذا كانت هذه اليمين فيها طابع التسرع، ولسبب صغير غير كبير، فسريعاً ما يندم الزوج، وبمجرد أن يضع يده عليها، أو يقول لها: راجعتك، عادت إليه، وانتهى الأمر، أما إذا مضى القرء الأول، والقرء الثاني، والقرء الثالث، أول حيضة، وثاني حيضة، وثالث حيضة، ولم يراجعها عندئذ ملكتْ نفسَها، وطُلِّقتْ تطليقةً واحدة، وهذه التطليقة هي البينونة الصغرى، يمكن أن يعيدها إليه بعقد جديد.
﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾
أي اقترب بلوغ أجلهن، فأمسكوهن بمعروف، أو طلقوهن بمعروف، إما أن تبقيها وفق الأصول، ووفق القواعد، وإما أن تسرحها، فإذا دخلتْ إلى الحمام، وأرادت أن تغتسل من القرء الثالث، فحينما تسكب على نفسها أول وعاء من الماء مَلَكَتْ نفسها، أما قبل أن تفعل هذا فأنت الذي تملكها، تعيدها بكلمة، أو تعيدها بلمسة وانتهى الأمر، الفعل هنا في القرآن لا يعني أنه وقع بل يعني أنه اقترب من الوقوع. عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((اقْرَءُوا يس عَلَى مَوْتَاكُمْ))
على الذي مات؟ لا، بل على الذي يشارف على الموت، وهو في النزع الأخير اقرؤوا عليه يس، كما قال عليه الصلاة والسلام، هذا المعنى الثاني.
3 ـالفعل في القرآن الكريم له معنى آخر وهو إرادة الشيء :
الفعل في القرآن الكريم له معنى ثالث، أول معنى الوقوع، والمعنى الثاني المشارفة على الوقوع، والمعنى الثالث إرادة الشيء، قال تعالى:
﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾
هل بعد أن تقرأ تستعيذ بالله؟ لا، إذا أردت أن تقرأ فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، إذاً إمّا أنْ يُعبَّر الفعل عن وقوع الحدث، أو عن اقترابه، أو عن إرادته فقط.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾
إذا أردتم أن تصلُّوا فاغسلوا أيديكم، ذكرت لكم من قبل أن علماء الأصول هم في قمة سلم العلم، بل إن العلماء العاديين أمام علماء الأصول عوام، لأن علم الأصول أخطر ما فيه أنه قواعد قطعية الدلالة، نفهم في ضوئها الأحكام الشرعية، قال الله عز وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾
ليس هناك خلاف في حدود الوجه، مِن منبت الشعر إلى أسفل الذقن، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن الأخرى، هذا هو الوضوء، أما هنا فكلمة (يد) احتمالية، يُفهَم منها الكف والساعد والمرفق.
الآيات الظنية الدلالة تأتي لتكون متسعاً ورحمة للناس :
قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾
جاء هنا التحديد، الوجه ليس مختلفاً على حدوده، مطلق، أما اليد فمختلف في حدودها، فجاءت مقيدة بالمرافق، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾
الباء هنا زائدة، أي امسحوا رؤوسكم، أهي باء الإلصاق أم باء التبعيض؟ هنا الاجتهاد، هذه الباء في قوله:
﴿ بِرُءُوسِكُمْ ﴾
تحتمل معنى الإلصاق، أي ألصِقوا أيديكم برؤوسكم، وتحتمل معنى التبعيض، امسحوا بعض رؤوسكم، وتحتمل أنها زائدة أي: وامسحوا رؤوسكم، ولكن رحمة الله عز وجل واضحة جداً في هذه الآية، في الشتاء هناك ماء بارد، وليس كل بيت فيه ماء ساخن أو دافئ، فلو أمَرَنا الله عز وجل أن نغسل رؤوسنا، وشعورنا فإنّ احتمال المرض يصير كبيراً جداً، لكنْ أن تمسحوا بربع رؤوسكم، أو أن تمسحوا كل رؤوسكم في الصيف، أو أن تعدها زائدة، والمعنى: أن تمسحوا رؤوسكم كلها، إذاً الاحتماليُّ فيه رحمة دائماً، والاختلاف في اجتهاد المجتهدين رحمة للخلق، وامسحوا برؤوسكم، ثم انظر إلى دقة اللغة في قوله:
﴿ وَأَرْجُلَكُمْ ﴾
فأرجلكم معطوفة على
﴿ وُجُوهَكُمْ ﴾
﴿ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾
أيضاً صار هناك تحديد، وبالمناسبة كان من الممكن أن تأتي الأحكام الشرعية في القرآن الكريم قطعية الدلالة عندئذ لا اختلاف، ولا اجتهاد، ولا استنباط، ولا مذاهب، ولكن الله سبحانه وتعالى شاءت حكمته أن تأتي الآيات القطعية في الدلالة لتغطي الثوابت في الإنسان، وأن تأتي الآيات الظنية الدلالة لتكون متسعاً ورحمة للناس، فحينما يأتي نص قرآني احتمالي الدلالة فالله سبحانه وتعالى أراد كل هذه الاحتمالات.
الفرق بين الآيات القطعية الدلالة والآيات الظنية الدلالة :
لعلي لم أوضح تماماً معنى نص احتمالي ونص قطعي، ولنضربْ مثالاً: أعطِ فلاناً ألفاً وخمسمئة درهم، فهل هذه قضية تحتمل شكاً؟ اعرضْ هذا النص على ألف إنسان لن تجد خلافاً، إذاً هذا نص قطعي الدلالة، أما أعطِ فلاناً ألف درهم، ونصفه، فهذا النص احتمالي الدلالة، يا ترى ألف وخمسمئة، أو ألف ونصف درهم؟ وقد ذكر لي أخ في مجمع اللغة العربية أنّ متعهداً قام بمشروع ضخم لجهات حكومية، فلما انتهى المشروع، وسلمه لأولي الأمر حذفوا له خمسمئة ألف ليرة، لأنه وضَع أشياء ليست من الدرجة الأولى، حَزَمَ، وأقام دعوى، وأحيلت هذه الدعوى إلى مجمع اللغة العربية، وفي الشروط كان عليه أن يقدم المواد من أجود الأنواع، هم فهموها (أجودَ الأنواع)، المواد ليست أجود الأنواع، لكنها مِن أجود الأنواع، فالخلاف على معنى (من)، أحيل الموضوع على مجمع اللغة العربية لتحديد معنى (مِن)، فلما أجاب المجمع بأن (مِن) تعني التبعيض، ولا تعني الإطلاق كسب الدعوى، واسترد خمسمئة ألف ليرة، بسببِ معنى (مِن)، التي تفيد التبعيض، مثلاً أنت تقرأ القرآن قوْلَه تعالى:
﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
لماذا قال الله: (مِن)؟ لأن هناك ذنوباً لا تُغفَر، فما كان بينك وبين العباد لا يُغفر إلا بالأداء أو المسامحة، فإِمّا أن تؤدي، وإما أن يسامحك خصمُك، أمّا ما كان بينك وبين الله فإنّ الله يغفره، فجاءت الآية الكريمة:
﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
فأنت لتََتَنبَّهْ لهذا، (مِن) للتبعيض.
4 ـ المعنى الرابع توقع الفعل :
أول معنى: وقوع الفعل، المعنى الثاني: اقترابه، المعنى الثالث: إرادته، المعنى الرابع: توقعه، قال تعالى:
﴿ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
الفعل (خاف) لا وقوع، ولا اقتراب، ولا إرادة، ولكن: توقّع، توقّع الشيء عبر عنه بالفعل خاف.
إذا فهم الإنسانُ الأفعال على معنى واحد يكون فهمه سقيماً وعليلاً ومختلاً، قال تعالى:
﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾
هل خاف النبي؟ لا، وهل اقترب من الخوف؟، لا، وهل أراد الخوف؟ لا، لكنّه توقع الخوف، وهذه القصة معروفة عندكم، يوم نقض بعض المشركين عهد النبي عليه الصلاة والسلام، فنبذ إليهم عهدهم، وخشي كفار قريش أن يتوجه إليهم محارباً، فأرسلوا أبا سفيان زعيمهم إلى المدينة المنورة ليسترضي النبي عليه الصلاة والسلام، فأبو سفيان مَن له مِن الأقرباء في المدينة؟ ابنته زوجة رسول الله، أم حبيبة، فدخل عليها وعلى الأرض فراش، فجلس عليه فأزاحته، وطوته، وأبعدته عنه، فلم يفهم صنيعَها هذا، قال: يا بنيتي، أرغبت بي عن الفراش، أم رغبت بالفراش عني؟ فقالت: إنه فراش رسول الله، وإنك مشرك نجس. هذا هو الولاء، وعندما ضعف الولاء في المسلمين، وضعف البراء، واختلطوا بغير المسلمين، أو بغير المؤمنين، أو بغير الطائعين تلوثوا، فضعفت همتهم، وضعفت عزيمتهم.
5 ـ المعنى الخامس القدرة على الشيء :
المعنى الخامس: القدرة على الشيء، قال تعالى:
﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾
الله ما طوى السماء، قال: يوم نطوي السماء، إنا كنا فاعلين، أي إنا كنا قادرين على أن نفعل هذا، فمعنى الفعل هنا القدرةُ عليه، فصارت معاني الفعل: وقوع الشيء، ومقاربته، ثم إرادته، ثم توقعه، ثم القدرة عليه.
الحقيقة عندما قال سيدنا عمر: تعلموا العربية فإنها من الدين، وهذا الكلام بليغ، هذا الكلام خطير، لأنه بقدر فهمك البليغ للقرآن الكريم يغدو فهمك لأحكام الله عز وجل صحيحاً.
المياه العذبة والمالحة من نعم الله الدالة على عظمته :
قال تعالى:
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
منَ الممكن للإنسان أنْ يركب البحر، ويموت عطشاً، وهو على أكبر كتلة مائية في الأرض، البحر أربعة أخماس اليابسة، وفي البحر أماكن عمقها اثنا عشر ألف متر، ومع ذلك يمكن أن يموت الإنسان عطشاً وهو على ظهر سفينة في البحر، فلذلك:
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
المؤمن كلما شرب كأس ماء يجب أن يتذكّر أن الله سبحانه وتعالى هو الذي حلّى لنا هذا الماء، وجعله عذباً فراتاً بعد أن كان مِلحاً أجاجاً، ولا تزال نظريات ملوحة البحار موضع شك وأخذ وردٍّ، هناك بحيرات عذبة في الأرض نشرب ماءها، وبحيرات مالحة، البحر الميت أشد البحار ملوحةً، وفي الكون بحيرات عذبة، والبحار كلها مالحة.
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
6 ـ المعنى السادس الاستمتاع بالشيء :
أيها المؤمنون، هل ثمّة رجل يلبس حليّاً؟ هل هنا معنى الفعل (تلبسونها) أنه وقع؟ لا، اقترب؟ لا، أردناه؟ لا، توقعناه؟ لا، قدرنا عليه؟ لا، معنى الفعل هنا استمتعنا به، هذه الحلي تلبسها زوجاتكم لكم، فتستمتعون أنتم بها، فالحلي مؤداها للأزواج، لذلك قال تعالى:
﴿ وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
أي تستمتعون بها، وهي على أعضاء زوجاتكم، قال تعالى:
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
سمعت عن طريق أنشئ في البحر بين السعودية والبحرين كلَّف أرقاماً فلكية، كلف ميزانيات دول، لو أردنا أن ننشئ طرقاً في البحار لم يكن شيء اسمه ملاحة، لكن الله عز وجل جعل من خصائص هذا الماء أنْ يدفع الأشياء إلى الأعلى، فمثلاً احمل دلواً و املأه ماءً، ضعه في البحرة يذهب منه نصف وزنه، أو ثلثا وزنه، لماذا؟ لأنّ الماء دفعه نحو الأعلى، هذا مبدأ أرخميدس، لولا هذه الظاهرة في الماء لما كانت هناك ملاحة بحرية، الآن يمخر البحارَ سفنٌ تحمل مليون طن، كأنها مدن، واليابان تفتقر إلى المواد الأولية أشد الافتقار، هناك سفن لليابان تأخذ المواد الأولية من الستانلس من أستراليا، وتصنِّعها في طريقها إلى الشرق الأوسط، وتسلِّمها في موانئ دول هذه المنطقة، كانت معادن جاهزة، وفي الطريق صنِّعت، لولا قانون أرخميدس لما استفدنا من هذا، لأنه طريق أرضي يحتاج إلى ألوف الملايين هذا الجسر كلف فيما أذكر ميزانيات دول، وهو خمسة وعشرون كيلو متر بين السعودية والبحرين في البحر، قال تعالى:
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
جعل الله السفنَ همزات وصلٍ بين البحار، وجعل الملاحة طريقاً ميسراً.
هناك حالتان لابدّ للزوج أن يعتد فيهما :
قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴾
العدة مَن يعتدها، الزوج أم الزوجة؟ هنا في الآية الزوج، وهذه مسألة فقهية لطيفة، ليس لها علاقة بدرسنا، هل يمكن للزوج أن يدخل في العدة؟ لا يمكن إلا في حالتين؛ لو أنه طلق زوجته، وخطب أختها هل يستطيع أن يدخل بأختها قبل أن تمضي عدة زوجته الأولى؟ إن لم تمض يكون قد جمع بين الأختين، ويكون مخالفاً لقول الله عز وجل، فلا بد أن يدخل في عدة، وينتظر أربعة أشهر وعشرة أيام حتى يسمح له بالدخول على أختها، أو لو أنه خطب عمتها، أو خالتها، وهذه حالة نادرة على الرجل أن يدخل في العدة أيضاً، أو لو أنّ في عصمتِه أربع نساء، وطلّق إحداهن ليتزوج أخرى، فلو تزوج الأخرى مباشرةً يكون قد جمع بين خمس زوجات، فيكون حينئذٍ مخالفاً لنص القرآن الكريم.
إذاً هناك حالتان لا بد للزوج أن يعتد فيهما، ولكنْ في هذه الآية معنى آخر، ذلك أنّ المرأة أحياناً قد تكتم ما في بطنها من حمل، لكن الزوج هو المسؤول، الزوج هو القيوم على تنفيذ العدة، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴾
إذا عقد إنسانٌ قرانه على فتاة، ولم يدخل بها فلا عدة لها إذا طلَّقها، إلا أن العلماء جميعاً قالوا: إذا أغلق الباب، وأرخى الستار، ولو لم يدخل بها وجب عليه كل مهرها، وهذا حكم شرعي.
7 ـالمعنى السابع أن الفعل لم يقع إطلاقاً ولكنّه سيقع يوم القيامة :
أحياناً يأتي الفعل في القرآن الكريم مِن غير أنْ يقع، ولا شارفنا على وقوعه، ولا أردناه، ولا قدرنا عليه، ولا استمتعنا به، بمعنى آخر، الفعل لم يقع إطلاقاً، ولكنّه سيقع يوم القيامة، قال تعالى:
﴿ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
هذا الفعل جاء في الماضي، والفعل لم يقع، ولن يقع إلا في المستقبل يوم القيامة، ومن بلاغة القرآن الكريم أنه يعبر عن المستقبل بالفعل الماضي، مثلاً قال تعالى:
﴿ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
المعنى أنه ما أتى، هذا معنىً آخر من معاني الفعل في القرآن الكريم، لذلك فالإنسان المسلم إذاً له أحد احتمالين؛ إما أنه ضليع في اللغة العربية، يفهمها فهماً عميقاً، ويعرف مدلولات الألفاظ، ويعرف قواعدها، ويعرف فقهها، أو أن يسأل به خبيراً، أو أن يسأل أهل الذكر إن كان لا يعلم، لكن أخطر شيء أن تكون معلومات المسلم محدودة، وأن يستنبط حكماً شرعيّاً مع جهلِه باللغة العربية، وأن يشيعه بين الناس، فيقرأ مثلاً قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
فيدّعي أن المعنى في هذه الآية: أن الله ما كان يعلم، إلاّ أن الله فَعَل هذا ليعلم، وهذا استنباط سطحي فجٌّ يخالف أصول العقيدة الإسلامية، وهذا له معنى آخر؛ فالإنسان ليس مسموحاً له على ضعفه في اللغة أن يستنبط حكماً شرعياً، أو قاعدةً في العقيدة، أو فكرةً في أصول الدين استنباطاً شخصياً، قبل أن يرجع إلى أهلِ الذكر.
هناك علمان علم بالله وعلم بأمره وخلقه :
نحن أمام علمين؛ عِلم بأمره، وعلم به، العلم به:
﴿ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً ﴾
والعلم بأمره:
﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
علوم بأمره وخلقِهِ:
﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
وعلوم به:
﴿ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً ﴾
معانٍ عدة للباء :
أيها الأخوة الكرام، النبي عليه الصلاة والسلام قال: بعثت بمداراة الناس، لِمَ لمْ يقل: بعثت لمداراة الناس؟ نحن ربما لا نفهم هذا الفرق الدقيق، بمداراة هنا الباء للاستعانة، كأن تقول: كتبت بالقلم، أكلت بالملعقة، أحياناً تأتي الباء زائدة، كما في قوله:
﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾
ومعنى زائدة أنه يمكن أن تحذف، فلا يتعلق بها المعنى تعلقاً أصلياً:
﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾
تقول: أليس الله أحكم الحاكمين، فلماذا زدنا هذه الباء؟ للتوكيد، أما إذا قلت: أكلت بالملعقة فهل بإمكانك أن تحذف الباء؟ إن حذفتها معنى هذا أنك أكلت الملعقة، الباء أصلية إذاً، وفي قوله:
﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾
زائدة، أما: أكلت بالملعقة فالباء أصلية.
الباء الأصلية لها معانٍ كثيرة، أكلت بالملعقة، أي: استعنت على الأكل بالملعقة، مررت بدمشق فالباء ظرفية، أمسكت به، إلصاق:
﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ ﴾
الباء سببية، كذلك:
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾
هذه الباء سببية، أي بسببِ رحمة استقرت في قلبك لِنْتَ لهم، الباء فيما أذكر لها خمسة عشر معنى، ولقد درسنا معاني الأدوات خلال سنة كاملة في الجامعة، وأذكر أنّ لـ (ما) ثمانية وأربعين معنىً، وكل شاهد على هذه الكلمة (ما) آية قرآنية، فدقة اللغة متناهية، وفيها متعة بالغة. وإن شاء الله مِن حين إلى آخر حتى لا تملوا أعرِّج على درسٍ من دروس القواعد في اللغة ودقائقها، فالنبي قال: بعثت بمداراة الناس، ولو قال: بعثت لمداراتهم لأصبحت المداراة هدفاً، لكنها في الحديث وسيلةٌ، فأنا أستعين على هدايتهم بمداراتهم.
(بسم الله الرحمن الرحيم) لها معانٍ كثيرة جداً :
حينما تقول: بسم الله الرحمن الرحيم، وهذه الآية يردِّدها الناس دائماً، ولها معانٍ كثيرة جداً، فأنت حينما تلقي النبتة في الأرض أأنت الذي تنبتها؟ قال تعالى:
﴿ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ ﴾
أنت ألقيتها، وانتهى الأمر، فمَن الذي تولى إنباتها؟ الله عز وجل، فأنت حينما تلقي الحبة تقول: بسم الله، يا رب أنا أرجو قدرتك، وعلمك، ورحمتك في إنبات هذه البذرة، فالله وضَع قوانين، فالنبات مَن ينبته؟ الله جل جلاله، فمعنى بسم الله الرحمن الرحيم أي: أستعين بقدرتك يا رب على إنبات النبات، فأنا ضعيف، حينما تأكل تقول: بسم الله، أفأنت الذي تهضم الطعام بذكائك وخبرتك؟ هل أنت مفرَّغ لهضم الطعام، تأكل وتنام، تأكل وتمشي، تأكل وتسافر، مِن هذا الطعام المنوع، مِن خبز وجبن، إلى فواكه، حلويات، مَن جعله سائلاً أبيضَ؟ هضمٌ ميكانيكي، وهضمٌ كيماوي، والصفراء ألقت إفرازاتها، والبنكرياس ألقى إفرازاته، والأمعاء الدقيقة، وعمر الخلية بالأمعاء الدقيقة يومان فقط أي ثمان وأربعين ساعة، وهذا أقصر عمر لخليةٍ، وهذا الغذاء امتُصَّ إلى الدم، وأصبح دماً، والفضلات خرجت، فأنت إذا قلت: بسم الله، أي: يا رب أنت خلقت الأجهزة،، وأنت خلقت الغدد، وأنت خلقت المعدة، وأنت خلقت العصارات، أنا أكلت، وانتهى الأمر، أي لا تنسَ فضل الله عليك، فليس هذا العمل بجهدك، ولا بعلمك، ولا بخبرتك، تأكل بسم الله، وتركب دابةً بسم الله.
معنيان أساسيان في البسملة :
1 ـأن تذكر النعمة على أنها مِن عطاء الله وفضلِه لا بقدرتك ولا بعلمك :
أيها الأخوة الأكارم، كلمات كثيرة في الإسلام أحياناً فرغت من مضمونها لدى كثيرٍ مِن الناسِ، البسملة مرة أخرى لو فكرنا في معناها، مثلاً دخلت إلى بيتك، فهذا البيت مشيَّدٌ مِن الإسمنت والحديد، فمَن يضمن لك ألاّ تهتز الأرض اهتزازاً بسيطاً فيصبح البيتُ أنقاضاً، من أعطى الحديد قوته؟ من أعطى الإسمنت تحمُّلَه للضغوط؟ إذا دخلت إلى بيت فقلْ: بسم الله، هذا البيت متانته واستقراره وبقاؤه بفضل الله.
ركبت مركبة، فهذا الوقود السائل الذي يحترق، ويدفع مركبة وزنُها طن ونصف، مع زوجة وخمسة أولاد، هذه الحركة بفضل مَن؟ هل بفضل ذكائك؟ لا، أنت اكتشفت البنزين، لكن مَن أعطاه قوة الانفجار والدفع؟ إنه الله عز وجل، فكلما قلت: بسم الله يعني أنت تستخدم خصائص الأشياء باسم الله، وقدرته لا بقدرتك، وبعلم الله لا بعلمك، وبرحمة الله لا برحمتك، وبعناية الله لا بعنايتك، بحفظ الله لا بحفظك، هذه بسم الله، كأنك تعرف أنّ كل النعم تستخدَم باسم الله، إذا أكلت فمَن صنع هذا الطعام؟ وهذه الفواكه مَن صنعها؟ هذا الحليب مَن خلَقه في ثدي البقرة؟ هذا الماء مَن جعله عذباً فراتاً؟ هذا القمح مَن أنبته؟ هذه الباء في (بسم الله) للاستعانة.
2 ـالمعنى الآخر أنّك دائماً مع المنهج بعونِ الله :
المعنى الثاني: أنا آكل بسم الله، وفق منهج الله، أركب هذه الدابة أو المركبة وفق منهج الله، وبهدف يرضي الله، أنا أدخل بيتي لأطبق منهج الله في معاملة زوجتي، أنا أسافر لأطبق منهج الله في السفر، هناك معنيان أساسيان في البسملة، المعنى الأول: أنك تذكر النعمة على أنها مِن عطاء الله وفضلِه، وأنك تتحرك، وتستفيد من الأشياء لا بذكائك، ولا بقدرتك، ولا بعلمك، ولكن بفضل الله ورحمته، فأنت دائماً مع المنعِم بسم الله، والمعنى الآخر أنّك دائماً مع المنهج بعونِ الله، فعلى الإنسان أنْ يقول: بسم الله في حياته اليومية كلها، إنْ دخل إلى بيته، أو خرج منه، فكل أمرٍ ذي بال لا يبدأ باسم الله فهو أبتر.
لأن البسملة تذكرك بشيئين، تذكرك بنعمة الله عليك، وتذكرك بمنهج الله عز وجل، حتى إنّ الإنسان إذا تزوج فعليه أن يسمِّيَ، اللهم ارزقني ولداً صالحاً ينفع الناس من بعدي، فهل أنت أيها العبد الفقير مَن خلقته في بطن أمه؟ لا، لقد ألقيت البذرة، وانتهى الأمر، مَن يعلم ما سيكون؟ الله عز وجل، فأنا أرجو الله عز وجل أن نستخدم كلمة بسم الله كما أرادها الله عز وجل، فهي تذكرك بفضل الله، وتذكرك بمنهج الله.
حركة الإنسان في الأرض والحياة يجب أن تنضبط بأمر الله ونهيِه :
كل حركتك في الأرض، وفي الحياة يجب أن تنضبط بأمر الله ونهيِه، أما الآن فبعضُ الناس يسمي ويذهب إلى معصية، يسمي ويغش في البيع والشراء، وقد كتب على محله (بسم الله الرحمن الرحيم) بخط جميل، وفي بيعه كذب، وغش، وتدليس، أفرغت من مضمونها، وليس لها معنى بل هي كلمات على الشفتين.
هذه البسملة تعني أن تذكر نعمة الله عليك، وأنك تستفيد من هذه الأشياء لا بقدرتك، ولا بعلمك، ولا بذكائك، ولكن بفضل الله، وأنت حينما تتعامل مع هذه الأشياء يجب أن تتعامل معها وفق منهج الله وأمره، فلذلك نحن الآن إذا بسملنا نستخدم البسملة لنذكر نعمة الله، ولنذكر منهج الله، النبي صلى الله عليه وسلم علمنا كذلك إذا دخلنا المسجد أن نقول:
((اللَّهمَّ افْتح لي أبواب رحمتك))
أنت في المسجد تنتظر رحمة الله، أما إذا خرجت منه تقول:
((اللَّهمَّ افْتح لي أبواب رحمتك))
أنت تنتظر فضل الله، أي أن يرزقك عملاً صالحاً لتحقق ما سمعته في الدرس، في الدرس رحمة وعلم، وخارج الدرس تطبيق وعمل، فدعاء الدخول رائع، ودعاء الخروج مفيد، بسملة في كل حركاتك وسكناتك، عوِّد نفسك، في بعض المدارس يقولون: فلان عنده فكر فيزيائي، فكر رياضي، فكر أدبي، الممارسة تخلق ملكات، فإذا مارست البسملة والتدقيق في الذي أمامك ينشأ عندك فكر توحيدي، دائماً تعزو النعم إلى الله، والنبي الكريم كانت تعظم عنده النعمة مهما دقَّت.
سُئِل ملِكٌ: بكم تشتري هذه الكأس من الماء إذا مُنِعَتْ عنك؟ قال: بنصف ملكي، قالوا: وإذا منع إخراجه؟ قال: بنصف ملكي الآخر، مُلْكُ مَلِكٍ يساوي كأس ماء، وأنت تشربه ثم تخرجه بسم الله، فمَن جعل هذا الماء عذباً فراتاً؟ إنّه الله عز وجل، ونحن بفضل الله تعالى في الشام نعيش بنعمة لا تقدر بثمن، أنا في الحج، أو في العمرة سكنتُ في بيت في مكة مِن أفخر البيوت، وأنا داخل إلى هذا البيت وجدت مستودع ماء فيه نباتات وحشرات، قال أحدُهم: هذا الماء للاستخدام، وللغسيل فقط، أما ماء الشرب فنستورده مِن خارج البلاد، يجب أن يكون عندك سيارة لتشتري الماء من محطات كمحطات البنزين تماماً، أنت في الشام تفتح الصنبور وتشرب بسم الله، فمَن خزّن هذا المستودع؟ مستودع الفيجة حدوده المعروفة الآن بين دمشق وحمص شرقاً، ونصف لبنان غرباً إلى حمص شمالاً، إلى الفيجة جنوباً، هذا خزان ماء مهيأ لخمسة ملايين إنسان يشربون الماء النقيَّ الصافي في الشام، تفتح الصنبور فتجد الماء. لي صديق ذهب إلى قبرص فقال لي هناك: أين صنبور الفيجة؟ فكلمة الفيجة لا تفارقنا.
التسمية تذكِّر الإنسان بفضل الله وبمنهجه :
إذا قال الإنسانُ: بسم الله يعرف مَن جعله عذباً فراتاً، ويذكر المنهج، مصُّوا الماء مصاً، ولا تعبوه عباً، المنهج اشرب على ثلاث دفعات، المنهج لا تنفخ في الإناء، المنهج لا تشرب من إناء مكسور، هذا هو المنهج.
أُتِيتَ بفاكهة: بسم الله، مَن خلَق الموز؟ أحدُهم قال: البذرة كبيرة جداً، وأكل القشرة، كيف ينبغي أن تأكلها؟ هل غسلتها، من أكل التراب فقد أعان على قتل نفسه، يقولون: سمِّ اللهَ وكُلْ، هذه ليست من الدين، فأنا أريد البسملة، أول كلمة في الإسلام، بسم الله الرحمن الرحيم تذكر فضل الله، وقدرته، وعلمه، وحكمته، ورحمته، وتسخير الكون لك، كل شيء، المعنى الثاني تذكر أمر الله ونهيه في هذا الشيء.
إذا دخل الإنسان بيته، ولم يسمِ قال الشيطان لمَن معه: أدركتم المبيت، طوال الليل يثير مشاكل، إذا أكل الإنسان، ولم يسمِ قال الشيطان لمَن معه: أدركتم العشاء، فإذا دخل ولم يسلم، وأكل ولم يسمِ قال الشيطان: أدركتم المبيت والعشاء:
((إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان : لا مبيت لكم ولا عشاء، فإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان : أدركتم المبيت وان لم يذكر الله عند طعامه قال الشيطان : أدركتم المبيت والعشاء))
التسمية تذكِّرك بفضل الله، وبمنهجه، وهي مهمة جداً في حياتنا اليومية، في السفر: بسم الله، في السفر اختلاط؟ فلا تسافرْ إذا لابَسَ السفرَ معصيةٌ، يجب ألاّ تلبي الدعوة، هناك مغالطات في حياتنا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( مَنْ دُعِيَ إِلَى عُرْسٍ أَوْ نَحْوِهِ فَلْيُجِبْ))
الدعوة إذا قارنَها منكرٌ يجب ألاَّ تلبَّى، اختلاط، غيبة، نميمة، فهذه موانع فاحفظها، كذلك إذا دعاك إنسان ليبدو أمامك عظيماً، فهذه الدعوة ما أريد بها وجه الله، هذه قضية منافسة، قضية استعلاء، قضية عرض عضلات، قضية إظهار زينة، هذه دعوة شيطانية، الدعوات التي لا تكون لوجه الله لا تلَبِّها، بسم الله، أين ذاهب؟ هناك اختلاط، وكِبْر، إنه مجلس غيبة، ومجلس كذب، فأين تذهب؟ لا تذهب، فكلما قلتَ: بسم الله تذكرتَ فضل الله، وتذكرتَ منهج الله عز وجل.