الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الدين كله يُجمع بكلمتين؛ اتصال بالخالق وإحسان للمخلوق:
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثالث والعشرين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الثالثة والأربعين:
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)﴾
الإنسان له علاقتان؛ علاقةٌ مع الخلق، وعلاقةٌ مع الحق، العلاقة مع الحق الاتصال به عن طريق الاستقامة على أمره، وعلاقته مع الخلق الإحسان إليهم، فإذا أردت أن تجمع الدين كلَّه في كلمتين: اتصالٌ بالخالق وإحسانٌ إلى المخلوق، وإن أردت أن تبحث عن علاقةٍ بينهما، إن هناك علاقة ترابطيَّة بينهما، فكل اتصالٍ بالخالق يُعينك على أن تُحْسِن إلى المخلوق، إنك بهذا الاتصال تشتقُّ من كمال الله، وكل إحسانٍ إلى المخلوق يُعينك على الاتصال بالخالق، أي الاتصال بالخالق والإحسان إلى المخلوق كلّ منهما سبب ونتيجة، يُعَبَّر عن هذا بالعلاقة الترابطيَّة، كل منهما سبب ونتيجة، فالإحسان يجعلك تثق برضاء الله عنك فتُقْبِلُ عليه، والاتصال يجعلك تصطبغ بصبغة الكمال فتُحسن إلى المخلوقات، أي إن أردنا أن نضغط الدين كلَّه في كلمتين نقول: اتصال بالخالق، وإحسان للمخلوق.
والكفر إعراض عن الخالق، وإساءة إلى المخلوق، إن أردت أيضاً وصفين جامعين مانعين لأهل الكفر، إعراضٌ عن الله وإساءةٌ إلى الخلق، المؤمن يبني حياته على العطاء والكافر يبنيها على الأخذ، المؤمن بالإحسان، الكافر بالإساءة، المؤمن بالاستقامة، الكافر بالانحراف، المؤمن بالصدق، الكافر بالكذب، المؤمن بالإنصاف، الكافر بالجحود، هوية المؤمن مجموعة قيم أخلاقيَّة، هوية الكافر مجموعة نقائص أخلاقيَّة، بقي الكافر على نوعين؛ كافر ذكي وكافر غبي، الكافر الذكي يُخفي نقائصه ويضع أقنعة مزيَّفة على وجهه، والكافر الغبي يُظْهِر نقائصه صراحةً، يوجد كافر يغُشُّك، يغريك أنه على حق، وهو كافر منحرف.
المؤمن بين خيارين صَعبين إما الدنيا وإما الآخرة:
على كلّ كلمة: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ هي الدين كلُّه، أي أحسنوا إلى المخلوقات واتصلوا بي، أو اتصلوا بي كي تُحْسِنوا إلى المخلوقات، والإحسان إلى الخلق ثمن الجنَّة، أي هناك سعادة أبديَّة، نحن مخلوقون لدار إكرام ثمنها الإحسان للخلق، فلذلك حينما تؤمن بالآخرة لك ميزان آخر، ميزان آخر بخلاف موازين الدنيا، أهل الدنيا مثلاً إذا أُتيح لك مغنم كبير ولم تأخذه تُتهم بالجنون، أما أهل الإيمان فيضعون الدنيا تحت أقدامهم ابتغاء مرضاة ربِّهم، ولله حكمةٌ بالغة حينما يضع المؤمن بين خيارين صَعبين، فإما الدنيا وإما الآخرة، إما مصالحه الماديَّة وإما طاعة ربِّه، أما أن تتوافق مصالحك الماديَّة توافقاً تامَّاً مع طاعة الله فهذا شيء لا تحلم به أبداً، مستحيل، مستحيل أن تجد أن كل مصالحك وكل رغباتك موفَّرةٌ في طريق الجنَّة، لابدّ أن تضحِّي، لابدّ من أن توضع في خيارٍ صعب إما الدين وإما الدنيا، إما طاعة الله وإما مكاسب الدنيا، هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ .
أمَّا معنى: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ أي ينبغي أن تكون ضمن جماعة، لأن الجماعة رحمة والفرقة عذاب:
(( عن أبي الدرداء: ما من ثلاثةٍ في قريةِ ولا بَدوٍ لا تقامُ فيهمُ الصلاةُ إلا قد استحوذَ عليْهِمُ الشيطانُ، عليكَ بالجماعةِ فإنَّما يأكلُ الذئبُ منَ الغنمِ القاصيةَ. ))
[ أخرجه أبو داود : خلاصة حكم المحدث : إسناده حسن ]
النبي معصومٌ بمفرده بينما أمَّته معصومةٌ بمجموعها:
ضمن الجماعة هناك منافسة، ضمن الجماعة هناك تصحيح مسار دائماً، ضمن الجماعة هناك رغبة بالتفوُّق، هل سمعت بكل حياتك مسابقة بلا جماعة؟! هل يمكن لإنسان أن يركض وحده ويقول لك: أنا كنت الأول، على من فزت بالأول؟ المسابقة فيها مجموع، هناك فريق، فلمَّا قال الله تعالى:
﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)﴾
معنى هذا أنك ضمن جماعة، كلمة مسابقة تعني أنك ضمن جماعة، ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ الجماعة رحمة.
النبي معصومٌ بمفرده بينما أمَّته معصومةٌ بمجموعها، إذا تكلَّم الإنسان وفق الحق الكل ساكتون هذا اسمه: إجماع سكوتي، الآن كتاب يُطْرَح في الأسواق صحيح، أدلَّته قويَّة، وفق منهج الله، فيه روح الدين الإسلامي، تحقَّقت فيه مقاصد الشريعة، لا تجد أحداً يتكلم، لكنهم يثنون عليه، الثناء على هذا الكتاب دليل أن الناس تلقَّوْه بالقبول، أما لو كان فيه انحراف عقائدي لهاجمه الناس، فسكوت الناس عن شيء صحيح هذا اسمه إجماع ولكنَّه سكوتي، إجماع سلبي، يقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( عن أنس بن مالك: إِنَّ أُمَّتِي لا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلالَةٍ. ))
[ أخرجه ابن ماجه : العراقي : تخريج مختصر المنهاج: خلاصة حكم المحدث: فيه نظر ]
على المؤمن أن يكون مع جمهور المؤمنين لا مع مطلق الجمهور:
﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ أي صومكم يوم تصومون، لا يوجد انفراد، فطركم يوم تُفْطرون، كن مع المجموع، حتى إذا قرأت الكتب كن مع الجمهور لا مع الآراء الشاذَّة النادرة القليلة، هناك آراء شاذة، يوجد أدلَّة ضعيفة، كن مع الجمهور؛ مع جمهور العلماء، لأن الجمهور رحمة، طبعاً جمهور العلماء وليس الجمهور العادي:
﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)﴾
كن مع جمهور المؤمنين لا مع مطلق الجمهور:
(( عن حذيفة بن اليمان: لا تَكونوا إمَّعةً، تقولونَ: إن أحسنَ النَّاسُ أحسنَّا، وإن ظلموا ظلَمنا، ولَكن وطِّنوا أنفسَكم ، إن أحسنَ النَّاسُ أن تُحسِنوا، وإن أساءوا فلا تظلِموا. ))
[ سنن الترمذي : خلاصة حكم المحدث : حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ]
من هو الإمَّعة؟ قال: إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساؤوا أسأت، هذا ليس صحيحاً، يجب أن تكون لك استقامتك، ويجب ألا تعبأ بقول الناس إذا كانوا على انحرافٍ لا يرضي الله عزَّ وجل.
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ يتوهم الإنسان بالعُزلة أوهاماً مضحكة، يبني قصوراً من الأوهام، ولكنه يتحجم عندما يلتقي مع الآخرين، وهذا التحجيم صحِّي، قد تتوهِّم أنك أكبر مؤمن، عندما تجلس مع مؤمن أكبر منك ترى أن عملك لا شيء أمام عمله، إخلاصك أقل من إخلاصه، طموحك أقل من طموحه، تتحجَّم، فهذا التحجيم ضروري جداً للإنسان، هذا التحجيم منطلق العطاء، منطلق التفوّق، أما لو أنت توهَّمت أنك في مستوى رفيع جداً، وأنت بعيد عن المجتمع هذا الوهم غير صحيح، هذا يُقْعِدُكَ عن طلب العُلا.
من فوائد الجماعة أنها رحمة؛ أولاً: تصحِّح لك المسار، ثانياً: تحفزك على التفوُّق، ثالثاً: تأخذ بيدك إذا تعثَّرت، إذا كان للإنسان أخوان كرام أحياناً يغلط يأخذون بيده، يشرد يعيدونه إلى الصواب، يجتهد اجتهاداً مغلوطاً يصحِّحون له اجتهاده، لذلك صلاة الجماعة تعدل صلاة الفرد بسبعة وعشرين ضعفاً، السبب؟ الصلاة صلاة، السبب الاجتماع، وكم من أخ يأتي إلى بيتٍ من بيوت الله ينزل على قلبه من السّكينة والراحة النفسية والطمأنينة، يلتقي بإخوانه، ينسى همومه، هذه ساعات النفحات الإلهيَّة؛ نفحات تعين على مصاعب الحياة: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ كن مع المجموع، اتبع لا تبتدع، اتضع لا ترتفع، الورع لا يتَّسع.
النقطة الدقيقة جداً:
﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)﴾
أي العلم في الإسلام وسيلة وليس هدفاً، سهل جداً أن تتكلَّم بالأخلاق، سهل جداً أن تتحدَّث عن العبادات، من السهل جداً أن تجلس والناس يتحلَّقون حولك وتُحدِّثهم، ولكن البطولة أن تكون إماماً لهم، فيجب أن يكون الإمام أمام المؤْتَمّين لا وراءهم، يجب أن يكون الإمام في الأمام قدوة: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ﴾ أن تأمر الناس بالبر قضيَّة لا تكلِّف شيئاً، سهلة جداً، أنت لاحظ الناس إذا أصيب إنسان بمصيبة كل من حوله يقولون له: بسيطة، لا يوجد مشكلة، طوِّل بالك، سهل عليك أن تُصَبِّره، لكن لو وقعت معك هذه المصيبة قد تفعل أكثر مما يفعل، فالتصبير سهل، الكلام سهل، كل الكلام سهل، أما أن تكون في مستوى كلامك فهذا الشيء الذي يجعلك بطلاً.
الكلمة الطيّبة بضاعة الأنبياء والكلمة الخبيثة تنتشر لكنَّ ما لها من قرار:
عظمة الأنبياء أن الذي قالوه فعلوه، وأنهم ما أمروا بأمرٍ إلا كانوا سبَّاقين إليه، ولا نهوا عن شيءٍ إلا كانوا أبعد الناس عنه، لم يكن في حياتهم ازدواجيَّة أبداً، لا تجد في حياتهم تناقضاً بين أقوالهم وأفعالهم، حينما ينطلق الإنسان من مصداقيَّة يعيد للكلمة تألُّقها، وقد ذكرت في درسٍ سابق: أن الأنبياء بماذا جاؤوا؟ بالكلمة، جاؤوا بكلمة صادقة غيَّرت مفهومات الحياة، نشروا الحق في العالَم، الأنبياء بمصداقيّتهم أعطوا الكلمة قدسيَّتها، كلمة، الطغاة جاؤوا بأسلحة فتَّاكة، جاؤوا بأجهزة دقيقة جداً، بطائرات فتَّاكة، جاؤوا بمخترعات مذهلة، لكنَّهم مع كل هذه الإنجازات ما قدَّموا للإنسان سعادة، قدَّموا له الشقاء، فالأنبياء أعطوا كل شيء من خلال كلمةٍ صادقة، لذلك قال تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ(24)تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)﴾
فالكلمة الطيّبة هي بضاعة الأنبياء، والكلمة الخبيثة تنتشر لكنَّها ما لها من قرار، ليس لها أساس علمي ، ليس لها أساس واقعي: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ ابن آدم عظ نفسك فإن وعظتها فعظ غيرك وإلا فاستحي مني.
حينما يُطَبِّق الإنسان ما يقول يجعل الله لكلامه قوَّةً تأثيريَّةً عجيبة:
وقاحة بالإنسان أن ينصح بشيءٍ لا يفعله، أي دعوة الغني المُتْرَف إلى التقَشُّف دعوةٌ مضحكة، دعوة المنحرف إلى الاستقامة دعوة مُخجلة، دعوة الإنسان اللاأخلاقي إلى الخُلق دعوة ساخرة، وهذا ما جعل الناس ينفرون من الدين، إن صحَّ التعبير:
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1)وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً(2)فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً(3)﴾
أما حينما تنشأ مسافة كبيرة جداً بين أقوالهم وأفعالهم يخرج الناس من دين الله أفواجاً، حينما لا يرون المصداقيَّة في الدعاة يخرج الناس من دين الله أفواجاً، حينما لا يرون في الداعية المَثَل الأعلى يخرج الناس من دين الله أفواجاً: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ .
يا أيها الرجل المُعَلِّـم غيـره هلا لنفسك كان ذا التعليــم
ابدأ بنفسك فانهها عن غَيِّها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ
يجب أن يكون الإنسان صادقاً مع نفسه، وحينما يُطَبِّق ما يقول يجعل الله لكلامه قوَّةً تأثيريَّةً عجيبة، حينما ينطلق من واقع يفعل فعل السحر في كلماته، تجد الدعاة إلى الله في التاريخ لهم أعمال كالجبال.
الصفة الجامعة المانعة فيمَنْ يدعو إلى الله عزَّ وجل ألا تأخذه في الله لومة لائم:
يُروى أن عالِماً جليلاً كان له تلميذ، وهذا التلميذ له عبد، وهذا العبد عندما رأى سيِّده يحترم شيخه احتراماً لا حدود له رجا الشيخ أن يعطي إشارةً لتلميذه أن يُعْتِق العبد، فقال له الشيخ: إن شاء الله أفعل هذا، مضى شهر، وشهران، وثلاثة أشهر ولا توجد أي حركة، من شدَّة ما رأى محبّة هذا التلميذ لشيخه، هو يعتقد العبد أن الشيخ لو أعطاه إشارة أن أعتق هذا العبد يعتقه فورا، والشيخ وعده لكن لم يحصل شيء، ثم زاره مرَّةً ثانية وذكَّره فقال له الشيخ: إن شاء الله أفعل هذا ، ولم يحدث شيء خلال أشهر، ثم زاره مرَّةً ثالثة، وقد مضى على طلبه سنة، فقال له: أفعل هذا إن شاء الله ، بعد أيَّام استدعاه سيِده وأعتقه تنفيذاً لتوجيه شيخه، فلمَّا التقى العبد بالشيخ قال له: يا سيدي كلمةٌ منك تدعو سيدي إلى إعتاقي فلماذا تأخَّرت كل هذه المدَّة؟ قال له: يا بني حمَّلتنا فوق ما نطيق، أنا وفَّرت من مصروف البيت مالاً أعتقت به عبداً، ثم أمرت سيدك أن يعتقك، أي أنا ما أمرته أن يعتقك إلا بعد أن كنت قدوةً له.
لو الدعاة لا يتكلَّمون كلمة واحدة إلا وقد طبَّقوها لكنَّا في حالٍ آخر غير هذا الحال.
قلت لكم في الدرس الماضي قوله تعالى :
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً(39)﴾
أي هذا الذي يبلِّغُ رسالات الله ينبغي أن يخشى الله وحده، فإذا خشي غير الله فسكت عن الحق إرضاءً لمن خشيه، ونطق بالباطل إرضاءً لمن خشيه، ماذا بقي من دعوته؟ انتهت دعوته، لذلك الصفة الجامعة المانعة فيمَن يدعو إلى الله عزَّ وجل ألا تأخذه في الله لومة لائم: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ .
أكبر وسيلة فعَّالة في التربية أن تأمر ابنك بما تفعله لا بما لا تفعله:
ذكرت لكم من قبل: كيف أن الله عزَّ وجل استخدم الأسلوب التربوي الفَعَّال في الحديث عن أمراض بني إسرائيل، مع أن هذه الأمراض في مُجْمَلِها قد تلبَّسنا بها، فنحن مُعَرَّضون أن نصاب بأمراضهم تماماً، حدَّثني شخص كطرفة، قال لي: في أحد المعاهد الشرعية رجل له باع طويل في إلقاء الدروس، ألقى درساً عن التواضع ببيان رائع ووصف دقيق جداً، ولكنه بعد ما خرج من الدرس كان جالساً بغرفة المدرِّسين بدرجة من الاستعلاء لا تُحْتَمَل!! هو أتقن درس التواضع لكنَّه لم يتواضع أبداً، لذلك الناس يتعلَّمون بعيونهم لا بآذانهم، ماذا يرى؟ يجب أن ترى التواضع، ورد: ((... وعليّ جمع الحطب -سيد الخلق-قالوا له: نكفيك ذلك، قال: أعلم أنكم تكفونني، ولكنَّ الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه)) .
﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ هذا الكلام موجَّه للآباء في الدرجة الأولى، أي أكبر وسيلة فعَّالة في التربية أن تكون أنت قدوته، أكبر وسيلة فعَّالة في التربية أن تأمر ابنك بما تفعله لا بما لا تفعله، بالتعليم أحياناً إذا ضُبِطَ طالب يدخِّن يُعَاقب عقاباً شديداً، وأستاذه يدخِّن أمامه، وإذا دخَّن الطالب يعاقبه، هو المثل الأعلى، فأخطر شيء يفعله الآباء أنهم لا يطبِّقون توجيهاتهم، إذاً سقطت الكلمة كقيمة، الأنبياء جاؤوا بالكلمة، فإن لم تُطَبَّق سقطت هذه الكلمة، وعندئذٍ لا جدوى منها، والدليل يقولون لك: كلام بكلام، وإذا تلاسن اثنان يقول لك: بلا فلسفة، لأن الكلمة سقطت، لم يعد لها قيمة، يمكن أن تتكلَّم كلاماً ليس له معنى، تتكلَّم كلاماً كلَّه كذب، تتكلّم كلاماً غير واقعي، تتكلَّم كلاماً لا تفعله أنت، تتكلَّم كلاماً أنت بعيدٌ عنه بعد الأرض عن السماء، فالكلام حينما يبتعد عن الواقع وعن التطبيق لم يعُد له قيمة، لذلك الآن أزمَّة المسلمين في العالَم أن العالَم لا يقنع بالكلام، أعطه مجتمعاً إسلامياً طُبِقَ فيه الإسلام وقُطِفَت ثماره كلها حتى يسلم، لكن لا يوجد مجتمع، يسلمون من الكتب، يأتون إلى الشرق الأوسط فيرون العكس، يحمدون الله على أنهم أسلموا قبل أن يأتوا إلى هنا، الإسلام بالكتب سهل، كلام جميل ودقيق، يأتي إلى هنا يجد أن هناك كذباً، وانحرافاً، وتقصيراً، وازدواجيَّة، ونِفاقاً.
حينما يتصل الإنسان بالله تصطبغ نفسه بالكمال:
﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ المنهج بين أيديكم، الكتاب بين أيديكم، افعل ولا تفعل بين يديك في متناول كل إنسان، الأمر والنهي سهل جداً:
﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)﴾
الآية دقيقة جداً، حينما يتصل الإنسان بالله تصطبغ نفسه بالكمال، يضعف الجهد في حمل النفس على طاعة الله، صار سهلاً، شخص نظيف جداً لا يحتاج إلى معاكفة لنفسه من أجل تنظيف جسمه، هو نظيف، يُمارس النظافة مع راحةٍ نفسيَّة، أما إذا كان بعيداً هو عن النظافة، ويوجد عليه ضغط من أبيه أن غسِّل، واعتنِ بنفسك، صار عليه عبء، فالإنسان قبل أن يصل إلى الله عزَّ وجل، أو قبل أن يصطبغ بصبغة الكمال يحتاج إلى صبر، يحتاج إلى مجاهدة، هناك مثل أوضح من ذلك: الإنسان في بدايات توبته قبل أن يتوب كان متعلِّقاً ببعض الأغنيات، الآن هو تاب إلى الله وامتنع عن سماع الغناء كلِّياً، لكن نفسه تتوق لهذه الأغنية، فلو سمعها في مركبةٍ عامَّة تجاوب معها تجاوباً عجيباً، هو لا يسمعها بقصد، ولكنه سمعها عَرَضَاً، لكن بعد حين، بعد سنوات، بعد أن تصطبغ نفسه بالكمال يحتقر هذه الأغنيات، ويشمئز منها، ويترفَّع عنها، فهذا الإنسان مرَّ بمرحلة المجاهدة يوم كانت نفسه بعيدةً عن مثله الأعلى، ثم انتقل إلى مرحلة الانسجام يوم أصبح مصطبغاً بالكمال.
إذا كان بينك وبين الكمال مسافة فاستعن بالله والصبر إلى أن تصل إليها:
ربنا عزَّ وجل قال: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ الاتصال بالله يُكسبك الكمال إذاً لا تحتاج إلى مجاهدة كبيرة، الصادق الحليم فعلاً لا يحتاج إلى بذل جهد في الحلم، أما الذي يتحلَّم، "إنما العلم بالتعلُّم، إنما الحلم بالتحلُّم"، الذي يتصنَّع الحلم يقول لك: أغلي من داخلي كالمرجل ولكني ضبطت أعصابي، هذا يتحلَّم، وليس حليماً، إذا كان هناك جهد كبير بالضبط، معنى هذا هناك مسافة بينك وبين الكمال، جيدة على كل حال، جيد جداً أن تُحْمل نفسك على الكمال عن طريق التصنُّع، لكن بعد حين حينما تتصل بالله عزَّ وجل وتصطبغ النفس بالكمال صار الحلم عندك سهلاً جداً، صار جزءاً من طبيعتك، صار جزءاً من جبلَّتك، فأنت حليم بحكم سجيَّتك الطيّبة الطاهرة، الآية دقيقة، بينك وبين الكمال مسافة استعن بالصبر إلى أن تصل إليها، فإذا وصلت إليها يعينك اتصالك بالله عزَّ وجل المحكم على تطبيق هذا المنهج الكامل: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾ الصلاة كبيرة، كبيرة على المنافق:
﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)﴾
كبيرة عليه، يصعب عليه أن يصلي، قد يمضي ساعات طويلة في كلام فارغ أما أن يصلي التراويح فهي صعبة عليه، لا يحتمل، أنا والله أعرف أناساً في التراويح كأنهم في جنَّة، في جنَّة من جنَّات القُرب، واقف يسمع إلى القرآن الكريم وكأن الله يحدِّثنا، قال: "إن أردت أن تُحدِّث الله فادعه، وإن أردت أن يحدِّثك الله فاقرأ القرآن" ، أنت حينما تقرأ القرآن أو تستمع إلى القرآن كأن الله يحَدِّثك، فالتراويح فيها راحة للنفس، والفرق بين صلاة المنافق وصلاة المؤمن أن صلاة المنافق أرحنا منها، المؤمن أرحنا بها، هذا الفرق بين (من) وبين (الباء)، المنافق يقول: أرحنا منها، المؤمن يقول: أرحنا بها.
الصلاة كبيرة إلا على الخاشعين:
﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ إنسان متفلِّت يُطلق بصره في الحرام، ماله حرام، عمله سيِّئ، وقف ليصلي تجد أنه محجوب عن الله عزَّ وجل، فصلاته حركات ليس لها معنى بالنسبة له، أحياناً تجد صلاة سريعة جداً غير معقولة إطلاقاً، هذه الصلاة السريعة أو هذه الصلاة التي لا يوجد فيها خشوع سببها الحجاب، فإذا صلى الإنسان ولم يشعر بشيء، قرأ القرآن ولـم يشعر بشيء، ذكر الله ولم يشعر بشيء، عنده مشكلة كبيرة جداً، إذا انقطع عند إنسان إخراج البول هذه ليست مشكلة عرضيَّة، هذه علامة كبيرة جداً، هذا عنده مشكلة، عنده فشل كلوي وسيعاني معاناة كبيرة، يوجد في الجسم أعراض يمكن أن يقول الناس: ليس فيها شيء، خطيرة جداً، ويوجد أعراض مؤلمة ولكنَّها غير خطيرة، فإذا صلى الإنسان ما شعر بشيء، قرأ القرآن ما شعر أيضاً، ذكر الله ما شعر بشيء، عنده مشكلة كبيرة جداً، أي الطريق مقطوع، واقع بحجاب شديد.
فهذه الصلاة كبيرة إلا على الخاشعين، إذا تحرّى الإنسان الحلال وجهه أبيض، خدم الخلق وجهه أبيض، أحسن إليهم وجهه أبيض، أنصفهم وجهه أبيض، ما أكل مالاً حراماً وجهه أبيض، ما ابتزَّ أموال الناس وجهه أبيض، ما استغلَّ جهلهم وجهه أبيض، هناك نقطة لا ينتبه إليها أحد، قد تكون شاطراً، قد تحقِّق نجاحاً كبيراً جداً في الحياة لكن أساليب غير أخلاقيَّة، عندما يسلك الإنسان طريقاً غير أخلاقي يحدث عنده انهيار داخلي، فتجد ردود فعله عنيفة جداً غير متوازنة، لأنه عندما خالف فطرته عذَّبته فطرته فصار عنده انهيار داخلي، الذي يراعي نفسه، يراعي راحة نفسه الأخلاقيَّة، يراعي أنه هو منسجم تماماً مع نفسه هذا مؤمن، فهذه الصلاة كبيرة إلا على الخاشعين.
المفتاح الدقيق للآيـة أن تؤمن بالآخرة:
من هم هؤلاء الخاشعون؟ قال:
﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)﴾
كل عمل يعمله يتصوَّر أنه واقفٌ بين يدي الله عزَّ وجل، لماذا فعلت كذا؟ لماذا أعطيت ظلماً؟ لماذا منعت؟ لماذا طلَّقت؟ لماذا غدرت؟ لماذا كذبت؟ لماذا احتلت؟ لماذا اغتصبت هذا البيت؟ لماذا لم تنصح فلاناً؟ إذا كان كل يومه أخطاء ومعاصي وآثاماً فأي صلاة هذه؟! نقول له : صلِّ، ولكن استقم من أجل أن تتصل بالله عزَّ وجل: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ* الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ المفتاح الدقيق للآية حينما أن تؤمن بالآخرة، حينما تؤمن أنه لابدّ من أن تقف بين يدي الله عزَّ وجل ليسألك: لـماذا فعلت هذا؟
عندما تدخل الآخرة بحساباتك اليوميَّة تنعكس كل موازينك:
عندما يؤمن الإنسان بالآخرة يتصوَّر أنه سوف يُسأل عن كل عمل يفعله، هذا الإنسان إذا صلَّى فصلاته مقبولة، وصلاته مجدية، وصلاته طيّبة، وصلاته مسعدة لأن وجهه أبيض، سأحضر مثالين واضحين: رجل في الحي محترم جداً، يحتل أعلى منصب في الجيش فرضاً، قائد فرقة، وله ابن، وعنده جندي غر التحق بالخدمة من يومين، فهذا الجندي الغر لا يستطيع أن يقابل لواء ولا في المنام، توجد عنده مئة رتبة يقابلها قبله؛ لو وجد هذا الجندي ابن هذا اللواء يغرق في مسبح وأنقذه، في اليوم الثاني يدخل ويقابله بكل جرأة وبلا استئذان، يقول للحاجب: قل له فلاناً، يدخل فوراً لأنه عمل عملاً طيّباً، هذا العمل الطيب يلغي الروتين كلَّه، يلغي كل التسلسل بالمقابلات، أما لو كان ابنه معه باللعب وضربه ضرباً مبرِّحاً، وعطبه، وهو لا يعرف أنه ابن معلِّمه، وعرف في اليوم التالي أنه ابن معلِّمه وقال له: تعال لعندي، كيف يدخل لعنده في المكتب؟ لا يستطيع أن يدخل لعنده.
هذه القصَّة كلها، كل الخلق عباد الله عزَّ وجل، تغشهم غشّهم لكن الله حجبك عنه، تكذب عليهم اكذب عليهم، تبتز مالهم بأسلوب ذكي، ممكن، هناك ألف أسلوب ذكي لابتزاز الأموال، ولكن الله كاشفك وأنت كاشف نفسك:
﴿ بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14)وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ(15)﴾
قد تصبح غنياً كبيراً بالكذب والاحتيال، قد تبيع بيعة سيِّئة جداً بأعلى سعر، قد تستغل جهل إنسان، قد تأكل مالاً بالحرام، عندما تدخل الآخرة بحساباتك تنعكس كل موازينك، عندما تدخل الآخرة بحساباتك اليوميَّة تنعكس كل موازينك، أما إن لم تدخل الآخرة في حساباتك تعد نفسك شاطراً لو أكلت مالاً حراماً، توجد ألف قصَّة، مليون قصَّة، إنسان اغتصب شركة، اغتصب بيتاً، يرى نفسه أنه ذكي، شاطر، وكِّل محامياً قوياً، قدَّم وثيقة مزوَّرة، يعد نفسه بطلاً، أنه استطاع أن يغتصب هذا البيت، ولكنه أمام الله عزَّ وجل محتقر، لماذا يتصل المؤمن بالله؟ لأنه لم يعمل شيئاً أبداً، ينام على فراش وثير من استقامته، أما المنافق فينام على شوك القتاد من ذنوبه وأخطائه.
البطل الذي يحل مشكلته مع الله وليس مع عبد الله:
يوجد فندق في ألمانيا ذكرت عنه كثيراً مكتوب على السرير: "إذا لم تستطع النوم فالعلَّة ليست في فراشنا بل في ذنوبك" العلَّة بالذنوب، إذا عمل الإنسان عملاً سيِّئاً، كسب مالاً حراماً، أخطأ مع فتاة فرضاً، باع بيعة سيئة جداً بسعر عالٍ جداً، حلَّ مشكلته الماديَّة ولكن مشكلته مع الله لم تُحَل، هو في انهيار.
قال له: "بعني هذه الشاة وخذ ثمنها" ، قال: "ليست لي" ، قال له: "خذ ثمنها" ، قال: "والله إني لفي أشدِّ الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها: ماتت أو أكلها الذئب لصدَّقني، فإني عنده صادقٌ أمين، ولكن أين الله؟!!"
توجد حالات كثيرة، أصحاب المصالح أحياناً يحفر يقول لك: حفرت ثلاثين أو أربعين متراً، يكون قد حفر عشرة أمتار، يضع القمصان أثناء غيابك ويعطيك حساباً عالياً، هو حلَّ مشكلته الماديَّة ولكنه لم يحلَّها مع الله، البطل الذي يحل مشكلته مع الله وليس مع عبد الله، هنا: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ لا تستقيم إلا إذا آمنت باليوم الآخر، إن أردت كلاماً دقيقاً، واضحاً، جلياً، بسيطاً، علمياً، واقعيَّاً أسباب الاستقامة الحقيقي إيمانك أن الله سيحاسبك، تقول لي: ضمير، ما ضمير، هذا كلام فارغ، حينما تؤمن أن هناك حساباً لا تعصي الله أبداً، حينما تؤمن أن هناك حساباً وأن الله لا تخفى عليه خافية، وأن الله سيسأل الناس جميعاً:
﴿ فَو َرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)﴾
انتهى الأمر، قضية إيمان بالآخرة، إيمان لابد من أن تقف بين يدي الله عزَّ وجل، ولا يخفى على الله شيء، وسيعرض الله عليك كل أعمالك مصوَّرة، أبداً، المخالفة مع صورتها، الصورة مسكتة، تجاوز شخص القوانين فبعثوا له المخالفة فقال: أنا لم أكن في المكان الفلاني، فعندما رأى الصورة صورة سيَّارته، والتاريخ، والسرعة، الصورة مسكتة، لذلك في الآخرة يوجد صور، صور المخالفات، شريط يُعرض عليك:
﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)﴾
هم لماذا اتصلوا بالله؟ قال: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ* الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ .
وفي درسٍ آخر إن شاء الله نتابع هذا الموضوع.
الملف مدقق