وضع داكن
26-12-2024
Logo
الدرس : 88 - سورة البقرة - تفسير الآيات 270-274 الإنفاق 2
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

الإنفاق بكل مستوياته ودرجاته وصفاته في علم الله عز وجل:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثامن والثمانين من دروس سورة البقرة، ومع الآية السبعين بعد المئتين، وهي قوله تعالى: 

﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)﴾

[ سورة البقرة ]

أيَّةُ نفقة تُنفقها؛ صغيرة أو كبيرة، جليلة أو حقيرة، سرّاً أو علانية، وأنت في ضيقٍ مادي وأنت في بحبوحة مادية، في حياتك وبعد مماتك، ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ﴾ هذه الــ (من) تفيد استغراق أفراد النوع، تفيد استغراق أفراد النوع مهما قَلَّت، ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ﴾ لو أنفقت ليرة واحدة، أو لو أنفقت مليون ليرة، لو أنفقت نفقة سرّاً أو علانية، وأنت متضايق مادياً، وأنت في بحبوحة، كل أنواع النفقات، وقد يكون الإنفاق مادياً وقد يكون من نوعٍ آخر، كل أنواع الإنفاق بكل مستوياته وكمياته ودرجاته وصفاته وملابساته بعلم الله عز وجل.
 

من أنفق نفقة في سبيل الله اطمأن إلى أن الله يعلم وهذا يبعده عن النفاق:


أنت دقق لو زرت مريضاً ومعك هدية، أنت ماذا تفعل؟ تضع بطاقة على الهدية، ليعلم هذا الذي زرته أن هذه الهدية منك، إذاً المُنفق حريص أن يعلم من أنفقت من أجله أن هذا الإنفاق منك، هذه القضية الأساسية في الإنفاق مُغطاة بهذه الآية، معك إيصال، ليس معك إيصال، هناك شهود، ليس من شهود، نوَّهت، ما نوهت، سكتَّ، تكلمت، صرَّحت، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾ لذلك المؤمن إذا أنفق نفقة في سبيل الله مطمئنٌ أشدّ الطمأنينة إلى أن الله يعلم، وهذا الذي يُبعدك عن النفاق، وهذا الذي يُبعدك عن استجداء المديح، وهذا الذي يُزَهِّدك في أن يُكتب اسمك مع المحسنين، وأن يكون لك وجاهة عند الناس، كل هذا أنت مستغنٍ عنه لأن الله يعلم، وإذا كان الله يعلم فغيره إن عَلِم أو لم يعلم سيَّان، علم أو لم يعلم. 
﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ﴾ شخص نذر إن شفى الله ابنه ليوزِّعنّ لحماً على الفقراء، هذا نوع من الإنفاق، لكن إنفاق مشروط، الإنفاق الأول إنفاق من دون شرط، والإنفاق الثاني إنفاق مشروط، لكن أنا أضع بين أيديكم هذه الحقيقة: الله عز وجل لا يُشارَط، ولا يُجَرب، والأولى أن تنفق من دون شرط؛ لأن الله يعلم، يعلم أن الابن مريض، وأن هذا الأب حريص على شفاء ابنه، يا رب أنا أنفقتُ هذه النفقة لعلك تنظر له بالشفاء، أما إن شفيته أدفع، مقبول، ولكن الأكمل أن تُنفق بلا شرط، مقبول أن تنذر نذراً، ولكن الأكمل والأقوى والأبلغ والأرقى أن تُنفق النفقة من دون شرط، ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾ لذلك قالوا: الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير، باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها، الله جلّ جلاله على علو مكانه، وعلى علو قدره يُسترضَى، ويُسترضَى بالصدقة، فإذا وجدت أنك بعيدٌ عن الحق قليلاً، أو أن شبح مصيبة لاح أمامك، أو أن شيئاً تخافه يقترب منك، أو أن عدواً متربِّصاً يريد أن يُوقِع بك، وليس لك أحدٌ يُعينك إلا الله، فاسترضِ الله بالصدقة فإن البلاء لا يتخطَّاها، وتقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير، وصدقة السر تُطْفئ غضب الرب، وكم من بلاءٍ صرفه الله بالصدقة؟! وكم من مرضٍ شُفي الإنسان منه بالصدقة؟!
 

الصدقة سُمِّيَت صدقةً لأنها تؤكد صدق الإنسان في محبة الله:


سُمِّيَت الصدقة صدقةً لأنها تُؤَكد صدق الإنسان في محبة الله، فالمال رخيص عنده أمام رضوان الله، والمال محبب، فإذا أنفقت المُحبب من أجل مَن تُحبه أكثر، الصدقة برهان على أنك مؤمن، هناك أعمال تفعلها لك، هذه لا ترقى بها، أما هناك أفعال تفعلها تُعَارض فيها رغبتك. 

﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)﴾

[ سورة آل عمران ]

ما قيمة الإنفاق لو أنك لا تحب المال؟! لأنك تحب المال للإنفاق قيمة.

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)﴾

[ سورة المعارج ]

يحب المال، يحب أن يُكثر منه، يحب أن يكنزه، يحب أن يكون مُطمئناً لرصيدٍ مرتفع له، فإذا أنفقت الشيء المحبب ترقى عند الله عز وجل، لولا أنك تحب المال لما ارتقيت بإنفاقه، لولا أن الله رَكَّبَ فينا حبّ المال لما ارتقى الإنسان بإنفاقه.
 

الإنفاق له ملابسات كثيرة:


أيها الإخوة؛ مادمنا قد وصلنا إلى هذه النقطة، إذا كنت في فقرٍ فالإنفاق له أجرٌ أكبر، إذا كنت في حاجة إلى المال وقد أنفقته في سبيل الله فلك أجر أكبر، إذا كنت في شبابك صحيحاً شحيحاً، ترجو الغنى وتخشى الفقر وأنفقت المال فالأجر أكبر، إذا كان الذي أنفقته يساوي نصف ما تملك فالأجر أكبر.
قد ينفق شاب ألف ليرة، وهو يملك ألفاً وخمسمئة، هذا الألف يزيد عن مليون يملك صاحبه مئتي مليون، ربّ درهم سبق ألف درهم، درهم تنفقه في إخلاص خير من مئة ألف درهم يُنفق في رياء، درهم تنفقه في حياتك خير من مئة ألف درهم يُنفقُ بعد مماتك، الإنسان على فراش الموت قد يتصدق: أعطوا فلاناً مئة ألف، أعطوا فلاناً مليوناً، لكن في هذه اللحظات لا قيمة للمال عندك، لك أجر، لكن ليس كما لو أنفقته وأنت صحيح، وأنت تحتاج هذا المال.
على كل أيها الإخوة؛ الآية عالجت نقطة بالإنفاق مهمة جداً أنك إذا أنفقت نفقةً بلا قيد أو شرط، أو مشروطة هي النذر﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾ إذاً لا قيمة للإيصال، ولا قيمة لمديح الناس، ولا قيمة للشهود، يكفي أن الله يعلم أنك أنفقت هذا المال ابتغاء وجهه ورضوانه.
الإنفاق له ملابسات كثيرة؛ الإخلاص يرفع قيمة الإنفاق، أن يكون المال قليلاً يرفع قيمة الإنفاق، أن يُنفق المال وأنت صحيح شحيح يرفع قيمة الإنفاق، هناك عوامل كثيرة ترفع قيمة الإنفاق، وهناك عوامل كثيرة أيضاً تُخفف من قيمة الإنفاق، مَن أنفق رياءً لا قيمة لإنفاقه، ومَن أنفق وقد زهد بالمال، وقد صار المال لا يعني عنده شيئاً، ليس هناك كبير قيمة لإنفاقه.
 

لو أنفقت نفقة في غير محلها فأنت ظالمٌ لنفسك:


﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ الآن ما معنى الظالمين هنا؟ ما علاقة الظالمين بالإنفاق؟ أي إذا أنفقت رياءً فأنت ظالمٌ لنفسك، هذه واحدة، إذا أنفقت وأتبعت ما أنفقت المَنَّ والأذى فأنت ظالم لنفسك، إذا أنفقت نفقةً قليلةً إلى جنب ما تملك فأنت ظالم لنفسك، ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ﴾ بالرياء والمن والأذى، أو لو أنفقت نفقة في غير محلها فأنت ظالمٌ لنفسك، لو أنفقت نفقة من أجل شهوتك وميولك فأنت ظالم لنفسك، هذا الذي يظلم نفسه سوف يُعَاقب، لن يجد أحداً يمنع عنه عقاب الله عز وجل، لو أن الله أراد أن يُهْلِك مال إنسانٍ أنفق ماله رئاء الناس لن يجد مصيراً يحول بينه وبين عقاب الله عز وجل.

﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)﴾

[ سورة البقرة ]

أي في أمكنة مناسبة، في مواقف مناسبة جداً يجب أن تُعلن أنني أدفع هذا المبلغ،  مرة حضرت في حفل في دار الأيتام وصار التبرع علناً، جُمِع مبلغ كبير جداً، يقول: أنا أدفع مئة ألف، يستحيي أن يدفع أقل من ذلك، لأن حجمه المالي كبير جداً، فكل واحد يُعطي رقماً يتناسب مع حجمه المالي، فكان المجموع كبيراً جداً، في بعض السنوات كان هناك توجيه آخر ألا يُعلَن عن الأسماء والأرقام، فكان المبلغ أقل من العُشر، تجربة عاينتها بنفسي، هناك مواطن يجب أن تُعلِن: أنا أنفقت كذا، ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ﴾ .
 

الإنفاق عما تجود به النفس له عدة محاسن:


الآن أولاً تشجعون الآخرين، أنت شَجَّعت، وثانياً: ليست هذه النفقة متعلقة بالإنسان، متعلقة ببناء مسجد، متعلقة بدار أيتام، متعلقة بمعهد شرعي، متعلقة مثلاً بصندوق العافية، متعلقة بصندوق الزواج، لا تجرحُ أحداً بهذا الإنفاق، أما إذا كان هذا الإنفاق متعلقاً بإنسان، فلان الفلاني يحتاج إلى مساعدة: أنا دفعت له عشرة آلاف، إذا كان الإنفاق متعلقاً بإنسان ينبغي ألا تعلن هذا الإنفاق، أن يكون بينك وبين الله، هناك مواطن الإعلان أولى إذا لم يتعلق بإنسان، ونوى المُنفق التشجيع، وفي مواطن أخرى الكتمان أولى، إذا تعلَّق بإنسان وليس هناك منافسة في الدفع، ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ الذي عنده احتمال أن يرائي، الإنسان ضعيف المقاومة أمام الرياء ينبغي أن يُنفق من دون رياء، أن يُنفق سراً، أن يُنفق مع الكتمان، حينما تشعر أن نفسك تُحدثك أنك محسن كبير، وأنك بهذا أصبحت فوق الناس، إن شعرت بهذا ينبغي أن تكتم إنفاقك، وإن كان إيمانك قوياً جداً، ولا تعبأ بهذه الوساوس، ولا تُعَلِّق كبير أهمية على ما يقول الناس عن إحسانك، ولم يتعلق الإنفاق بإنسان، وأردت التشجيع، أعلن هذا الإنفاق لتكون قدوةً للآخرين. 
﴿وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي خبير ما إذا أردت بهذا الإعلان المُراءاة أو أردت التشجيع، مَن يعرف ذلك؟ لا يعلم هذا إلا الله، أنا أعلنت عن إنفاق، يا ترى هل أريد سمعة؟ ثناءً؟ مديحاً؟ مكانة؟ تألقاً؟ وجاهةً أو أريد أن أُشجِّع المنفقين؟ هذا لا يعلمه إلا الله، وهو وحده يعلم ويكافئ.
 

الهدى بيد الله وحده ولا يملكه أحد سواه:


قال تعالى: 

﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)﴾

[ سورة البقرة ]

أي أنت يا محمد لا تستطيع أن تهدي أحداً قسراً، إنهم مخيَّرون، الهدى الذي يقودهم إلى الإنفاق لا تملكه أنت.

﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)﴾

[ سورة القصص ]

﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ إنك لا تستطيع أن تهدي من تشاء لأنهم مخيَّرون، و: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ لست محاسباً عن ضلالهم، ولكن الله حينما يقول: 

﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)﴾

[ سورة الشورى ]

أي فحوى دعوتك حق، ولكنك لن تستطيع أن تهدي مَن تشاء، كل إنسان له اختيار، فليس عليك هداهم، ليس عليك أن تهديهم الهدى الذي يدفعهم إلى أن يُنفقوا، ليس عليك، عليك أن تُبيِّن لهم، عليك أن تُبَلغهم، عليك أن تُذَكرهم، عليك أن تحثهم، ليس عليك أن تُجبرهم على ذلك، لأن الله عز وجل يقول: 

﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)﴾

[ سورة البقرة ]

 

الإنسان مخير فيما يتعلق بالهداية:


﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ مَن يشاء أن يهتدي إليه يهديه الله عز وجل، والأولى أن يعود فاعل يشاء على الإنسان، ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ الهداية، أنت مخير، إن شئت الهداية يهديك الله عز وجل، وإن أردت خلاف الهداية الله عز وجل يدفعك إلى ما تريد لأنك مخير، ولأن مشيئته متعلقة برغبتك أنت، مشيئته سماحٌ لك، المشيئة هنا إذا ارتبطت باختيار الإنسان مشيئة سماح، أنت أصررت على هذا الشيء فسمح الله لك أن تهتدي أو أن تبقى في ضلال، ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ لو فرضنا أن إنساناً عنده صندوق حديدي وله فتحة، فكلما زاد من مصروفه شيء وضعه في هذا الصندوق، أي هذا الذي وضعه في الصندوق خَسِرَهُ؟ الصندوق كله له، فكيف إذا كان كل شيء يدفعه في هذا الصندوق سيتضاعف ملايين المرات؟! ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾ تروي كتب السيرة أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يُوَزّع لحم شاةٍ ومعه السيدة عائشة، وَزَّع أعضاءها، وأجزاءها، ولم يبق منها إلا كتفها، السيدة عائشة تريد أن تأكل من هذا الطعام، قالت: يا رسول الله لم يبق إلا كتفها دعه لنا، فقال عليه الصلاة والسلام: 

(( عن عائشة رضي الله عنها: ما بقي منها؟ قالت منها إلا كتفها، قال: بقي كلها غير كتفها. ))

[ صحيح الترغيب ]

تروي القصص أن سيدنا عمر أمسك تفاحة قال: "أكلتها ذهبت أطعمتها بقيت" ، بين أيديك مال، المال الذي تنفقه يذهب، تُنفقه على طعامك وشرابك ولباسك ولذائذك ومُتَعك يذهب، والمال الذي تعطيه للفقراء يبقى، ومن قدَّم ماله أمامه سَرَّهُ اللحاق به.
 

لا يسمَّى الإنفاق إنفاقاً إلا إذا كان ابتغاء وجه الله:


﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ من ألطف توجيهات هذه الآية أن هذه الآية خبرية، ولكن جاءت بمعرض الإنشاء، أي أنفقوا ابتغاء وجه الله، كأن يقول الله عز وجل: 

﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)﴾

[ سورة البقرة ]

هذا شأن الوالدات، وكأن الله يقول: يا أيتها الوالدات أرضعن أولادكن حولين كاملين، هذا يشبه قوله تعالى: 

﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)﴾

[ سورة آل عمران ]

على بيت الله الحرام، أي يا أيها المؤمنون اجعلوه آمناً، ينبغي أن يكون آمناً، هذا على شاكلة قوله تعالى: 

﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)﴾

[ سورة النور ]

أي يا أيها الذين آمنوا زوّجوا الطيبين للطيبات، هي آيات جاءت على شكل خبر، لكن قصدها الإنشاء والطلَب، كذلك هنا: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ أي الأصل في الإنفاق أن يكون ابتغاء وجه الله، لا يسمَّى الإنفاق إنفاقاً إلا إذا كان ابتغاء وجه الله، لا يكون الإنفاق عبادة إلا إذا كان ابتغاء وجه الله، هكذا، ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ هذا المعنى الثاني.
 

في الإنفاق معنيان أساسيان:


إخواننا الكرام؛ بالإنفاق يوجد معنيان أساسيان؛ أن تعلم أن الله يعلم، وأن يُعَوّض عليك الذي أنفقته، فأول آية: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾ الآية الثانية: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ لكن طبعاً بالتأكيد ليس معنى هذه الآية أنك إذا أنفقت ألف ليرة الساعة السادسة صباحاً يأتيك الساعة السابعة عشرة آلاف، لا، لو أن الأمر كذلك لالتغى الاختيار، قل للناس: ادفع مئة، خذ ألفاً، سوف تجد مليون إنسان واقفين بالدور، لا، تدفع ولكن بعد حين، تدفع ابتغاء وجه الله، تدفع ولا تنتظر التعويض، تدفع ولا تنتظر المقابل، تدفع ولا تنتظر أن يُوفَّى إليك، تدفع ابتغاء وجه الله، ولكن الله جلّ جلاله لابد من أن يضاعف لك الذي أنفقته أضعافاً كثيرة، وقد يصل هذا إلى سبعمئة ضعف، أي مستحيل وألف ألف مستحيل أن تُنفق شيئاً دون أن يُعوَّض عليك أضعافاً مضاعفة.
 

لا يمنعك من الإنفاق إلا ضعف إيمانك وجهلك بما عند الله من التعويض بعطاء  كبير:


قال تعالى: 

﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)﴾

[ سورة البقرة ]

والله يا إخوان لو أن الإنسان عرف كرم الله عز وجل، وعرف ما عند الله في الدنيا والآخرة، والله لأنفق إنفاقاً بغير حساب، وهؤلاء الذين ينفقون أموالهم أصبح عندهم رغبة في الإنفاق لدرجة أنهم كلما أنفقوا ازدادوا قوةً وثراءً.
سيدنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، يقول: ماذا أفعل إذا كنت أُنفق مئة في الصباح فيعطيني الله ألفاً في المساء؟ أي ماذا أفعل في نفسي؟ كل واحد منا حوله ناس أغنياء لكن محسنين، تجده ينفق بغير حساب، والله يعطيه بغير حساب، التعامل مع الله مُدهش، أحد إخواننا الكرام -والله أنا أروي هذه القصة لأنها نادرة جداً-يعمل عملاً بسيطاً جداً، عمل تجاري محدود جداً، فجاءه أخ مؤمن، قال له: أنا فقدت عملي ولا دخل لي، لا يوجد أمل، قال له: تعال أتقاسم معك هذا الدخل دخلي، الله ألهمهم شيئاً جديداً ببيع معين، أول شهر بعد هذه المناصفة جاءهم خمسة عشر ألف ليرة، مستحيل وألف ألف أَلف مستحيل أن تُنفق ابتغاء وجه الله وألا يعوض عليك الأضعاف المضاعفة، لأن الله كريم، لكن إيَّاك أن تُنفق وأنت تنتظر التعويض، أنفق ابتغاء وجه الله، أنفق ولا تنتظر أن يُوَفَّى إليك شيء، لكن الله عز وجل لا ينساك من فضله، ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ هذه الآيات فيها معنيان، الأول: أن الله يعلم ما تُنفق، والمعنى الثاني: أن الله يُوَفّي إليك ما تُنفق أضعافاً مضاعفة، ما الذي يمنعك أن تُنفق؟ إلا الضعف ضعف الإيمان، وإلا الجهل بما عند الله عز وجل، لا يمنعك من الإنفاق إلا ضعف إيمانك، وجهلك بما عند الله من عطاء كبير. 

الفقراء أولى الناس أن تُنفِق عليهم:


ثم يقول الله عز وجل: 

﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)﴾

[ سورة البقرة ]

مَن أولى الناس أن تنفق عليهم؟ قال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾ يجب أن نُفرق بين الفقير والمسكين على اختلافٍ في التعريف، على كل أحدهما ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، والثاني لا يجد حاجته. 
الإنسان له دخل، لكن مرض ابنه مرضاً شديداً، دخله يكاد يكفي طعامه وشرابه، مرض ابنه مرضاً شديداً هذا يحتاج إلى مساعدة لو أن له دخلاً، فالفقير هو الذي لا يجد حاجته، أي دخله أقل من حاجته، أما المسكين فترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، هذا موضوع آخر، أي ممكن أن تعطي إنساناً أنيقاً يسكن ببيت يملكه، عنده سيارة صغيرة جداً، أساسية جداً في حياته، لكن بحاجة إلى عمليه جراحية لابنه، هذا فقير لا يجد حاجته، والفقير يجب أن يُؤَمّن له طعامه، وشرابه، وكسوته، ومركبه وقد يكون دراجة، ويُؤَمن له تطبيب أولاده، وحرفته، وأدوات حرفته، هذه أساسيات، هناك شخص لا يدفع إلا للمتسول، وقد يكون أغنى من الدافع بكثير.
 

تعريف الفقير:


على كل ما دام هذا الفقير الذي يحتاج أن تساعده، دقق: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً﴾ هذا الذي يجب أن تُنفق عليه لا يسألك، ويتجَمَّل، ولا يُلحُّ إطلاقاً، وتحسبه غنياً، يقتضي هذا الكلام الإلهي أن تبحث أنت عنه، هو لا يسألك، لا يقتحم عليك، لا يطلب منك بقوة، لا يُلح، هو متعفف، لا يسأل، في وجهه ماء، عزيز النفس، متجمِّل، أنيق، لا يرتدي ثياباً بالية كي تُشفق عليه، يتأنق في ملبسه، يتجمّل في حركاته وسكناته، لا يتضعضع لغني، لا يَذلّ نفسه أمامه، يطلب حاجته بعِزَّة النفس، هذا الذي ينبغي أن تُعطيه، هذا لا يسألك، كيف أعرفه؟ هذا ينبغي أن تبحث عنه، ينبغي أن تبحث، وأن تسأل، وأن تُدقق، كلما التقيت بإنسان مؤمن عزيز النفس مُتَجمل اسأله عن أحواله: أعليه دين؟ ما شأنه؟ أولاده؟ في المواسم الأساسية؛ موسم البرد، موسم المدارس هل هو بحاجة إلى شيء؟ هو لا يسألك: 

﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)﴾

[ سورة المعارج ]

السائل يسأل، وقد يسأل بوقاحة، وقد يسأل بقوَّة، وقد يُعيد عليك السؤال، وقد يقف أمامك، لا يغادر، واقف بوجهك، وقد يُلِح عليك، وقد يقسو عليك بالكلام، أما الذي يستحق أن تعطيه لا يسألك، لذلك ينبغي أن تبحث أنت، الذي يستحق لا تعرفه، يجب أن تتعرَّف عليه، مَن هم الفقراء؟ قال: الفقراء ﴿الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يُعَلِّم أولادنا القرآن الكريم، يُعلِّم الطلاب بالمدارس، معاشه لا يكفي أياماً معدودة، هو عنده دوام كامل ستة أيام بالأسبوع.
 

الضرب في الأرض يعني التجارة:


﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ﴾ ليس عنده وقت ليتاجر، ولا يوجد عنده رأسمال يتاجر، ولا يوجد عنده خبرات بالتجارة، لكن له عمل مهم جداً في الحياة، أحياناً ببعض البلاد الأجنبية يستقدمون طالب علم من بلاد مسلمة ليُعَلِّم أبناءهم، لا يعمل إلا بتعليم الأبناء، يجب أن يُؤَمن له مبلغ يعيش به، نحن مدرسي الديانة فرضاً، مدرس كل وقته في التعليم، ست وثلاثون ساعة بالأسبوع يُعلِّم أبناءنا التربية الإسلامية، يجب أن يأخذ دخلاً يعيش كريماً هو وأولاده، الضرب في الأرض التجارة، في بعض الجامعات هناك أستاذ باحث لا يُدّرس، يُؤَلف كتباً، هناك من يُؤَلّف، هناك من يُدرِّس، هناك من يُعَلِّم، هناك مُدرّس تربية دينية، هناك مدرّس لغة عربية، هناك مؤذن، هناك إمام، هناك أعمال كثيرة جداً في الدعوة والتعليم تحتاج إلى تفرُّغ، ويحتاج التفرغ إلى إنفاق، إذاً هؤلاء يستحقون أن يأخذوا من بيت مال المسلمين ما يسد حاجتهم ويوفر لهم كرامتهم، ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ .
 

البطولة لا أن تنفق بل أن تضع النفقة في مكانها:


يوجد نقطة أحبّ أن تكون واضحة عندكم؛ هناك أغنياء عندهم نظر بعيد جداً، يبحثون عن أناس إيمانهم كبير، وعِفَّتهم عالية، وكرامتهم عالية جداً، يُمدُّونهم بما يحتاجون، بلا ضجيج، بلا جلبة، بلا تباه، بلا مَنّ، بلا أذى، البطولة لا أن تنفق، أن تضع النفقة في مكانها، البطولة ألا تُعطي للمتسول، البطولة أن تعطي العفيف الذي لا يسألك شيئاً، هذه البطولة، لذلك أنا أتصور أنك إذا أنفقت مبلغاً بعد بحث دقيق ودرس عميق، وبعد سؤال وجواب، حتى عرفت هذا المؤمن الذي لا يسأل ولا يطلب ولا يبذل ماء وجهه، ووضعت هذا المبلغ عنده سراً بينك وبينه دون أن تُعلِم أحداً، ودون أن تذكر اسمه، ودون أن تُشهِّر به، هذا الإنفاق يتضاعف أضعافاً كثيرة، هناك أشخاص لمجرد أن يُنفق المال ارتاح، لا، هناك مهمة بعد أن تُقَرر إنفاق المال، أين تضع هذا المال؟ يجب أن تضعه في مكانه الصحيح، قد تعطيه لإنسان يبدو لك غنياً، ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ لكنه صفر اليدين، لا يملك شيئاً إطلاقاً، لكنه كريم النفس، حتى إِن بعض علماء الفقه قال: هذا الذي كان غنياً فافتقر يصح أن يأخذ من مال الزكاة، هو قوي، الغني ممنوع أن يأخذ صدقة، القوي ممنوع أن يأخذ صدقة، معقول إنسان كان غنياً كبيراً وافتقر فجأة تقول له: اعمل حمَّالاً، أنت قوي!! الإسلام عظيم، الإسلام واقعي، هذا الغني الذي افتقر يُعطى من بيت مال المسلمين ما يسدّ حاجته ولو كان قوياً حفظاً لماء وجهه.
 

النبي جعل المنفق في مستوى الداعي تماماً لأن المال شقيق الروح:


طبعاً إذاً يجوز أن نُعطي المؤذن راتباً، والإمام راتباً، والمدرّس راتباً، والذي يعمل على جمع الزكاة راتباً، وكل مَن له عمل يستغرق كل وقته في سبيل الله، والذي يجاهد في سبيل الله يستحق راتباً، هذا غير منتج، إنسان يعمل في الخدمة يدافع عن بلاده، يدعو إلى الله عز وجل، يُجاهد في سبيل الله، هذا من أين يأكل؟ هذا الذي يستحق أن نعطيه. 

﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)﴾  

[ سورة البقرة ]

والله أيها الإخوة؛ الذي ينفق ماله ابتغاء وجه الله يتألَّق تألُّقاً لا يعلمه إلا الله؛ قريب من الله، يشعر بقيمته، يشعر أنه ذو خير عميم، يشعر بعمله الطيب، هذا المال الذي وهبك الله إياه يمكن أن ترقى به إلى أعلى عليين إذا أُنفق في طاعة الله، أنا حضرت مرة حفل تخريج طلاب من حفظة القرآن الكريم، أُلقيَت كلمة رائعة، قال المتكلم: أنا أشكر هؤلاء الطلاب الذين حفظوا كتاب الله، وأشكر الذين علّموهم كتاب الله، وأشكر الشيوخ الأفاضل الذين امتحنوهم -كلام طيب-قال: وأشكر هؤلاء الأغنياء الذين تبرعوا لكل حافظ كتاب الله بعمرة إلى بيت الله الحرام.
قال: المال شقيق الروح، هذا تعلّم، وهذا علَّم، وهذا فحص، وهذا الغني ماذا فعل؟ شجّع، قال: كل واحد حافظ كتاب الله له عندي عُمرة، شاب صغير ركب طائرة، ذهب إلى بيت الله الحرام، نزل بفندق، وجد نفسه مُكرماً بالمجتمع تكريماً كبيراً، يبدو أن هذا الذي شجَّع الصغار على حفظ كتاب الله ليس أقل أجراً من الذي علَّمهم، المال شقيق الروح، هؤلاء الذين معهم أموال والله متاح لهم أن يكونوا في مرتبة العلماء والدعاة، لأن المال عنصر أساسي في الحياة: 

(( عن أبي هريرة: لا حَسَدَ إِلاّ في اثْنَتَيْنِ: رَجلٌ آتَاهُ الله مَالاً فَهُوَ يُنْفِقُ منهُ آنَاءَ اللّيْلِ وآنَاءَ النّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ الله القُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللّيْلِ وَآنَاءَ النّهَار. ))

[ صحيح البخاري ]

كيف أن النبي جعل المنفق في مستوى الداعي تماماً، المال شقيق الروح، نحن بحاجة إلى دعاة، وبحاجة إلى أغنياء يُنفقون.
 

على الإنسان أن ينفق ويعطي كي يرحمه الله عز وجل:


فيا أيها الإخوة الكرام؛ ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ألا تُحب أن يطمئنك الله عز وجل؟ وأن يحفظ لك صحتك وأهلك وأولادك ومالَك؟ وأن يهبك سكينة تملأ قلبك سعادة؟ أنفق:

(( عن أبي هريرة: أن النبيَّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم - دخل على بلالٍ وعنده صُبْرَةٌ من تَمْرٍ، فقال: ما هذا يا بلالُ؟!، قال : شيءٌ ادَّخَرْتُهُ لِغَدٍ، فقال: أَمَا تَخْشَى أن تَرَى له غَدًا بُخَارًا في نارِ جهنمَ يومَ القيامةِ؟! أَنْفِقْ بلالُ! ولا تَخْشَ من ذِي العرشِ إِقْلالًا. ))

[  هداية الرواة : خلاصة حكم المحدث : صحيح بمجموع طرقه ]

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ» . وَقَالَ: «يَدُ اللَّهِ مَلأَى لا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ». وَقَالَ: «أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ».  ))

[ صحيح البخاري ]

﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ لهم أجرهم الذي يُكَافئ عملهم، ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ من المستقبل، ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ عن الماضي.
أيها الإخوة؛ أنا لا أقول لكم: يجب أن تكونوا أغنياء حتى تنفقوا، لا، يمكن أن تنفق خمس ليرات بإخلاص شديد، كنت أقول حينما أدعو للتبرع: الخمس ليرات على العين والرأس، قد يدفع طفل، أعجبني مرة في مؤتمر للأوقاف حضرته أن هناك وقفاً في بعض الدول الإسلامية للصغار، مثلاً تأسيس معهد شرعي، خصصوا أسهماً، كل سهم فرضاً مئة ليرة، حتى نشَّجَّع أطفال المدارس، أن ادفع مئة ليرة وأنت لك وقف، حجزت من مالك جزءاً لوقف مستمر إلى آلاف السنين، كل مَن تعلَّم في هذا المعهد في صحيفة مَن وقف هذا المال لبنائه، وقف خاص للصغار، نُعوِّد أنفسنا أن ننفق ونعطي ونحل مشكلات الناس حتى يرحمنا الله عز وجل، لأنه ارحموا مَن في الأرض يرحمكم من في السماء، هناك من يُنفق على ملذاته الملايين المملينة، هذا بعيد عن الله بعد الأرض عن السماء، هؤلاء ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ .
 

الإنفاق برهان عملي حقيقي على شفاء النفس وسلامتها من داء البخل وأدرانه:


والله أيها الإخوة؛ نحن في بلدٍ طيب، وهناك مَن يُنفق بغير حساب.
فيا أيها الإخوة؛ عليكم بالإنفاق، الإنفاق يجعلكم تتألَّقون عند الله عز وجل، الإنفاق دليل حبك لله عز وجل، الإنفاق برهان على أنك محب لله، برهان عملي حقيقي.
ونتابع هذه الآيات في الدرس القادم.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور