وضع داكن
25-12-2024
Logo
الدرس : 75 - سورة البقرة - تفسير الآيتان 218-219 الحكمة من تحريم الخمر والميسر
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

تحديد المصطلحات جزء من العلم:


أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الخامس والسبعين من دروس سورة البقرة، ومع الآية التاسعة عشرة بعد المئتين والتي قبلها: 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)﴾

[ سورة البقرة ]

الحقيقة تحديد المصطلحات جزء من العلم، فالله عز وجل حينما يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي آمنوا الإيمان الذي يريده الله عز وجل، آمنوا الإيمان الذي ينجيهم، آمنوا الإيمان الذي يحملهم على طاعة الله عز وجل، ليس كل إيمان عند الله إيماناً، وليس كل إسلام عند الله إسلاماً. 

﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)﴾

[ سورة الحجرات ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)﴾

[ سورة النساء ]

معنى ذلك أن إيمانهم ليس مقبولاً عند الله عز وجل، فالله جلّ جلاله إذا قال: ﴿آمَنُوا﴾ القصد من هذا الكلام الإيمان الذي بُنِي على بحث ودرس وتأمل، والإيمان الذي تستكمل فيه أركان الإيمان من إيمان بالله موجوداً وواحداً وكاملاً، وإيمان بأنبيائه ورسله، وإيمان بكتبه، وإيمان بالملائكة، وإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى، بمجمل هذا الإيمان ينبغي أن تُطيع الله عز وجل.
 

الجهاد ثلاث مراتب:


﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ بالمعنى الواسع والمعنى الضيق، بالمعنى الواسع هجر المنكر، هجر كل معصية، هجر كل شبهة، بالمعنى الضيق ترك بلداً مُنِع فيه من إقامة شعائر الدين وهاجر إلى بلد أتيح له أن يعبد الله فيه. 
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي بذلوا الجهد، نحن في دار عمل، في دار ابتلاء، التكليف طبيعته ذو كُلفة، هناك شهوات أُودعت في الإنسان وهناك منهج الله عز وجل يُقَنن لك هذه الشهوات، يُقَننها بقنوات نظيفة، فأن تحمل نفسك على طاعة الله وعلى أن تُقَنن هذه الشهوات في أقنية نظيفة طاهرة تُفضِي بك إلى الآخرة، إلى دار السلام هذا هو الجهاد، لذلك الجهاد ثلاث مراتب؛ أولاها: أن تجاهد نفسك وهواك لأن المهزوم أمام نفسه لا يمكن أن يفعل شيئاً مع غيره، والجهاد الثاني: الجهاد الدعوي، أن تتعلم القرآن وأن تُعلِّمه، وقد يُتاح للإنسان الجهاد القتالي، الأصل أن تحمل نفسك على طاعة الله عز وجل، أن تجاهد نفسك وهواك.
 

الجنة التي هي فضل الله لا يكفيها العمل بل لابدّ من رحمة الله:


﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ﴾ الإنسان المؤمن يرجو ويخاف، فلو بُنِيَت علاقته مع الله على الرجاء دون الخوف اختلّت هذه العلاقة، ولو بُنيت علاقته مع الله على الخوف دون الرجاء اختلّت هذه العلاقة، الأنبياء والمرسلون والمؤمنون الصادقون يعبدون الله خوفاً وطمعاً، هذا الوضع المتوازن أي ترجو رحمته وتخاف عذابه، ترجو رحمته بحيث لا تطمع فيها فتقع في معصية، وتخشى عذابه بحيث تحملك هذه الخشية على طاعته دون أن تيأس من رحمته، قضية فيها توازن دقيق، ترجوه دون أن تطمع في رحمته طمعاً يحملك على معصية الله، وتخافه خوفاً دون أن يحملك على اليأس من رحمة الله، الخوف طبيعي ما لم يحملك على يأس، والرحمة طبيعية ما لم تحملك على معصية، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، يعبدون الله رغباً ورهباً، فلذلك هؤلاء الذين آمنوا الإيمان الحقيقي وهاجروا تركوا المُنكر، وجاهدوا في سبيل الله، بذلوا الجهد ليصلوا إلى مرضاة الله عز وجل هؤلاء في الأساس يرجون رحمة الله، لذلك دعا النبي عليه الصلاة والسلام فقال: 

(( عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا. ))

[ صحيح مسلم ]

فأنت لو عملت عملاً صالحاً يجب أن تبقى قلقاً لعل في هذا العمل نية لا ترضي الله، لعل في هذا العمل حظاً من حظوظ الدنيا، استعذ بالله من عمل لا يُرْفع، لذلك ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن الجنة التي هي فضلُ الله عز وجل لا يكفيها العمل، لابدّ من رحمة الله، هذا الكلام يحتاج إلى تفصيل،  إلا أن يتغمدني الله برحمته، فالجنة محض فضل تحتاج إلى رحمة الله، إنّ كل عملك في الدنيا لا يكفي ثمناً للجنة، ولكنه قد يكون سبباً لدخول الجنة، وفرق كبير بين أن يكون العمل سبباً، وبين أن يكون العمل ثمناً، كل عملك الصالح لا يكفي ليكون ثمن الجنة، إلا أن يتغمدني الله برحمته، الجنة محض فضل، والنار محض عدل.
 

كل ما عند الله من خير متمثل في رحمته:


أيها الإخوة؛ ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ﴾ ما هي رحمة الله؟ الله عز وجل يقول: 

﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾

[ سورة الزخرف ]

شخص يملك أعمالاً تجارية تُدرّ عليه ألوف الملايين، ﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ إنسان يملك شارعاً بأكمله بكل أبنيته في أروج عواصم العالم، ﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ إنسان يملك شركة متعددة الجهات والفروع ولها حجم مالي خيالي، ﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ لأن رحمة الله عز وجل مطلق عطائه من معانيها السلامة؛ سلامة الصحة، وسلامة القلب، وسلامة النفس، من معانيها أن يُحِبك الناس، من معانيها أن تكون آمناً مطمئناً، من معانيها أن تتصل عندك نعم الدنيا بنعم الآخرة، من معانيها أن تنتهي بك دنياك إلى جنة عرضها السماوات والأرض، رحمة الله أثمن شيء يملكه الإنسان. 

﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)﴾

[ سورة الأعراف ]

كلّ عطاء الله، كل علم الله، كل رحمة الله، كل عدل الله، كل قوة الله، كل ما عند الله من خير متمثل في رحمته، لذلك: 

﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)﴾

[ سورة فاطر ]

 

رحمة الله مطلق عطاء الله عز وجل:


إذا حُجبت عنك رحمة الله وجاءتك الدنيا بحذافيرها فأنت أشقى الأشقياء، ولو حُجبت عنك الدنيا كلها ومُنِحت رحمة الله فأنت أسعد السعداء، رحمة الله أنك مع الله. 
أي أنت تستفيد من علم الله، ومن قدرة الله، ومن فضل الله، ومن غنى الله، كل ما عند الله بين يديك إذا كنت موصولاً به، كل ما عند الله محجوب عنك إذا كنت مقطوعاً عنه، إذاً رحمة الله مطلق عطاء الله عز وجل.
الصحابة الكرام عاشوا حياة خشنة لكنهم كانوا مغموسين برحمة الله، بينما أناس كثر في أعلى درجات الغنى والقوة حُجبت عنهم رحمة الله فهم في أشقى حالة، ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ النبي عليه الصلاة والسلام من شدة أدبه مع الله قال في دعائه الشريف: "نسألك موجبات رحمتك" الرحمة لها موجبات، من موجبات الرحمة أن تكون مستقيماً على أمر الله حتى تستحق رحمة الله، من موجبات الرحمة أن تكون مُخلصاً لله حتى تستحق رحمة الله، من موجبات الرحمة أن يكون لك عمل صالح يرضي الله حتى تستحق رحمة الله عز وجل.
 

السبيل إلى التقرب إلى الله عز وجل:


أيها الإخوة الكرام؛ الآية التي تليها: 

﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)﴾

[ سورة البقرة ]

تحدثت بادئ ذي بدء في درس سابق فيما أذكر أن كلمة ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ تعني الشيء الكثير، أنت حينما تعرف الله تسأل عن أمره ونهيه، حينما تعرف الله لابد من أن تتوجه إليه أو لابدّ من أن تتقرب منه، كيف السبيل إلى التقرب إلى الله عز وجل؟  إنسان من بني جلدتك تحب أن تتقرب منه تزوره، تقدم له هدية، ترعى ابنه، تُعين من حوله، هذه وسائل التقرب إلى البشر أما إن أردت التقرب إلى الله عز وجل ما السبيل؟ أن تطيعه، أن تنتهي عما عنه نهاك، وأن تأتمر بما أمرك به، أي أكبر وسيلة للتقرب إلى الله عز وجل أن تأتمر بما أمرك وأن تنتهي عما نهاك.
إذاً التسلسل المنطقي حينما تتعرف إلى الله، وحينما ترى أن الله هو كل شيء، وأن الأمر كله بيد الله، وأن العطاء كله من عند الله، وأن الله هو المعطي، وهو المانع، وهو الرافع، وهو الخافض، وهو المعز، وهو المُذل، كيف السبيل إلى التقرب إليه؟ نحن في حياتنا الدنيا إذا التقيت بإنسان على شيء من العلم أو شيء من الخُلُق تتمنى أن تلتقي به، تتمنى أن تزوره، كيف السبيل إلى أن نلتقي؟ إلى أن نجلس معاً؟ إلى أن نزورك؟ إلى أن تزورنا؟ أنت حينما ترى إنساناً متفوقاً قليلاً تتمنى أن تلتقي به. 
إنك إن عرفت الله عز وجل الشيء الأول بعد هذه المعرفة كيف أتقرب منه؟ كيف أتصل به؟ كيف أنتفع برحمته؟ كيف أنال من عطائه؟ كيف أسعد بقربه؟ لذلك ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ معنى ذلك الذي لا يعرف الله لا يسأل أبداً، لمَ السؤال؟ كله عنده سواء، أما الذي يسأل فهو الذي يعرف الله، هل هذا يُرضي الله؟ هل هذا العمل يحجبني عن الله؟ هل هذا العمل يُسخِط الله عليّ؟ ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ مادام هناك سؤال معنى هناك اهتمام، معنى هناك معرفة.
 

القرآن الكريم فيه تشدد يفوق حدّ الخيال في شؤون العقيدة:


﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ أولاً: هناك حقيقة لابد من أن تكون واضحة،  أمور العقيدة لا مهادنة فيها، ولا تدرج فيها، ولا مداراة فيها، الحق هو الحق. 

﴿ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)﴾

[ سورة القلم ]

﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)﴾

[ سورة محمد ]

تجد القرآن الكريم فيه تشدد يفوق حدّ الخيال في شؤون العقيدة، ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ .

﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)﴾

[ سورة الحاقة ]

﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)﴾

[ سورة الإسراء ]

 

هناك تشدد مذهل في شؤون العقيدة أما في شؤون التشريع فهناك تدرج:


هناك تشدد مذهل في شؤون العقيدة والتوحيد والرسالة، أما في شؤون التشريع فهناك تدرج، ليس معنى التدرج أنه نقيض التشدد، لا، لكن مادام الناس قد أَلِفُوا شيئاً فلابد من أن نأخذ بيدهم برفق إلى الصواب، هذا ماذا يُعَلِمنا؟ لو أنك التقيت مع إنسان يجهل كل شيء عن الدين ورأيت في بيته مئات المعاصي ينبغي أن تبدأ بعقيدته، وأن تتعامى عن هذه المعاصي إلى حين، ثم تأخذ بيده مرحلةً مرحلة، درجة درجة، خطوة خطوة، كي تُخَلصه من كل هذه المعاصي والآثام، أما لو قلت له: في بيتك مئة شيء محرم يجب أن تُقْلِع عنها فوراً، هناك على سبيل الطرفة أناس في بعض البلاد الإسلامية أسلم على أيديهم عدد كبير من وثنيي آسيا، أول خطوة أمروهم بها أن يختتنوا، لم يقبلوا، جعلوا الختان شرطاً لازماً لقبول إسلامهم، الاختتان لابدّ منه، لكن تمهل قليلاً، بدؤوا بالختان فرُفِض الإسلام.
لا مهادنة في أمور العقيدة، ولا يوجد حل وسط، ولا يوجد تساهل، ولا يوجد مساومة، ولا يوجد قبول، أما في أمور التشريع فهناك تدرج، والتدرج لا يتناقض مع التشدد، لا، هذه نقطة مهمة جداً، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ .
 

في الآية التالية أول إشارة في القرآن الكريم إلى أن الخمر مادة ضارة:


قال الله عز وجل: 

﴿ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)﴾

[ سورة النحل ]

أي التمر والعنب تصنعون منه مادة مُسْكِرةً من دون تعليق، ورزقاً حسناً، فُهِم أن هذه المادة المُسكرة ليست رزقاً حسناً، هذه أول إشارة في القرآن الكريم إلى أن الخمر مادة ضارة، ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً﴾ قد أقول: هذه مادة غذائية أمامك، وهذه مادة غذائية نافعة، لما وصفت المادة الثانية بأنها نافعة فُهِم أن المادة الأولى ليست نافعة، هذه مادة غذائية، وهذه مادة نافعة، معنى هذه المادة الغذائية فيها فساد، ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً﴾ هذه أول إشارة في كتاب الله إلى الخمر، ثم كان بعض أصحاب رسول الله يصلي فقرأ قوله تعالى: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون، وكان في سكر، فنزل قوله تعالى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)﴾

[ سورة النساء ]

المرحلة الثانية، إذاً متى يشرب؟ ينبغي أن يصلي الفجر في وقته، يذهب إلى عمله ينبغي أن يصلي الظهر وبعدها العصر وبعدها المغرب وبعدها العشاء، ما بقي إلا أن يشرب كأساً في منتصف الليل ضاق.
 

تدرج القرآن الكريم في تحريم الخمر:


أول آية: ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً﴾ الآية الثانية: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ الآن: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ﴾ الخمر هو الستر، الخمار هو الحجاب، خامره خالطه، فالخمر مأخوذة من الستر، والعقل يغيب بالخمر، دققوا: العقل الذي هو أشرف شيء في الإنسان، حينما يشرب الإنسان الخمر يغيب عقله عنه، وقد سمعت مرة عن رجل مرموق جداً اجتماعياً، وله مكانة كبيرة جداً، كان في جلسة وتناول الخمر فتكلم كلاماً صار في الوحل لأنه غاب عقله فانحرف قوله.
فالله عز وجل منح الإنسان أعظم نعمة على الإطلاق نعمة العقل، وقد جعل الله العقل مناط التكليف، أي هو سبب التكليف هو العقل، هل يُعْقَل أن يأتي الإنسان مختاراً بفعل يغيب عقله عنه وهو أشرف شيء في حياته؟ وهل يخفى أن مقاصد الدين الكبرى حِفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العِرض، وحفظ المال، وحفظ العقل؟ وأن العقل سبب في حفظ هؤلاء جميعاً، متى تبحث عن طريقة تحفظ بها دينك؟ إذا كان عقلك يقظاً، ومتى تبحث عن وسيلة تحفظ بها حياتك؟ إذا كان عقلك سليماً، ومتى تبحث عن أساس تحفظ به عِرضك؟ إذا كان عقلك سليماً، والشواهد لا تُعدّ ولا تحصى أن الإنسان يمكن وهو في حالة سكر -وقد ورد هذا في بعض الأحاديث-أن يقع على أمه أو على عمته أو خالته أو على ابنته، تعطل العقل، يمكن أن يأتي عملاً يجعله في الوحل، يمكن أن يُقْدِم على قتل أولاده والشواهد كثيرة جداً.
 

الخمر يحجب عنك عقلك والميسر يُفقدك مالك:


لماذا الخمر محرمة؟ لأن أشرف شيء منحك الله إياه هو العقل، وهذا الخمر يُغَيّب عنك عقلك، فإذا أنت تتحرك حركة عشوائية ضالة منحرفة، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ﴾ الخمر التي تحجب عقل الإنسان عنه، ﴿وَالْمَيْسِرِ﴾ الميسر من اليسر، أي إنسان يعمل سنة بأكملها ليجمع مبلغاً من المال يُنفق منه طوال العام، قد يكسب في جلسة واحدة أضعاف هذا المبلغ بالقمار، تجد إنساناً سافر واشترى بضائع وباع البضائع وجمع ثمن البضائع وهناك بضائع رجعت له، مشكلات لا تنتهي، يأتي المقامر في جلسة واحدة يكسب أضعاف أضعَاف هذه التجارة المشروعة الرابحة في ليلة واحدة.
فسمّي الميسر ميسراً من هذا القبيل، لكن لماذا هو حرام؟ لأنك حينما تجلس إلى أخيك هدفك أن تأخذ كل ما في جيبه، أية أخوة هذه؟! تجلس إلى أخيك لتأخذ كل ما في جيبه، أو أن يأخذ كل ما في جيبك، فالذي يلعب القمار يألف الكسب السهل بلا جهد، وقد يدفع كل ما يملكه بهذه الجلسة، قال بعض الشعراء: 

هو الداء الذي لا بُرء منه          وليس لذنب صاحبه اغتفار

تُشاد له المنازل شاهقات          وفي تشييد ساحتها الدمــار

نصيب النازلين بها سهاد          وإفــلاس فيـــأس فانتحـــار

[ نجيب الحداد ]

* * *

الآن إن لم يجد المُقامر من يُقَامر معه تعود على الكسب السهل لجأ إلى السرقة أو إلى الاحتيال، وحينما يفور دم المُقامر فمن أجل أن يكيدَ لصاحبه قد يبيع أثاث بيته، وقد يُضحي بعِرضه، وقد يفعل شيئاً لا يفعله عاقل في الأرض، فهذا الخمر الذي يحجب عنك عقلك وهذا الميسر الذي يُفقدك مالك.
 

أساس الميسر كسب غير مشروع:


أساس الميسر كسب غير مشروع، كسب مال بلا عمل، نحن عندنا قاعدة: الأموال تأتي في الإسلام من الأعمال، وإذا أتت الأموال من الأعمال هذه الكتلة النقدية التي بين أيدي الناس توزعت بين الناس جميعاً، أما إذا وَلَد المالُ المالَ، أو لم تأتِ الأموال عن طريق الأعمال فهذه مشكلة كبيرة جداً، فأنت حينما تسمح في مجتمع ما أن تُكْتَسب الأموال من دون أعمال تجمعت الأموال في أيد قليلة وحرمت منها الكثرة الكثيرة، فالآية الكريمة: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ هذه الآية ليست هي الآية الفاصلة في الخمر لازلنا في التدريج، ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ إنسان يُضَيّع عقله باختياره، أو إنسان باختياره يأخذ ما في جيب أخيه، أو يسمح له أن يأخذ ما في جيبه، أي كسب للمال أو فقد للمال بلا سبب مُقنع،  كسب للمال أو فقد له، كَسِب المال من دون عمل وفقده من دون خطأ. 
﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ المنفعة هنا بقَدْرِ تصور أصحابها أن هناك تجارة رابحة بالخمر، أحياناً الإنسان ينسى همومه بالخمر هكذا يدّعي بعضهم، وهذه نقطة عليها جواب دقيق، يا ترى إذا غاب الإنسان عن همومه هل أُلغيت همومه؟ إذا غاب عن همومه هل توقف مصدر الهم؟ لا، الهم قائم، ماذا ينبغي أن يفعل؟ بدل أن يأخذ المنوم ليغيب عن همه يجب أن يكون يقظاً ليعالج مشكلته، هذا الجواب الدقيق، أنا حينما أكون غارقاً بالديون أيهما أفضل؛ أن يشرب الإنسان الخمر لينسى هذه الديون أم أن يبحث عن عمل يسُدّ هذه الديون؟ فالجواب الدقيق أنه من يدّعي أن شرب الخمر ينسيه الهموم هذه دعوى باطلة كما تفعل النعامة  يتبعها عدو مخيف فتغمس رأسها بالرمل لئلا تراه، هل عدم رؤية العدو يُلغي وجوده؟ يلغي بطشه؟ أبداً، العدو موجود، شارب الخمر تماماً حينما يشرب الخمر لينسى همومه كالنعامة تماماً تغمس رأسها بالرمل لئلا ترى العدو والعدو وراءها وسينهشها.
 

الأشياء المحرمة إثمها أكبر من نفعها:


إذاً هذه المنافع للناس، شاربو الخمر يتوهمون أن شرب الخمر ينسيهم همومهم، قال تعالى: ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ الإثم أكبر بكثير ونحن في حياتنا اليومية، لو فرضنا أن إنساناً عمل عملاً ربح منه مئة وخسر مليوناً هل يفعله؟ مستحيل، ربح مئة وخسر مليوناً لا يفعله، والخير المطلق والشر المطلق لا وجود له، الأشياء المحرمة إثمها أكبر من نفعها، أي سهرة مختلطة فيها شيء من السرور لكن يوجد لها عقابيل وخيمة جداً، تخرب البيوت، وتُنَفر الأزواج من زوجاتهم، أما في أثناء السهرة فقد تبدو ممتعة للحاضرين ولكن كل واحد ينظر إلى زوجة الآخر ويتمناها له تقع مشكلة.
فلذلك أيها الإخوة؛ الشر قد ينطوي على بعض الخير، والخمرة التي حرمها الله بنص القرآن الكريم أثبت الله لها بعض النفع: ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ هذا اسمه: أمر إرشادي، نحن عندنا أمران أمر تكليفي وأمر إرشادي، أنا أقول لإنسان: إن شئت فعلت هذا، وإن شئت لا تفعل، هذا اسمه: أمر إرشادي، لازلنا في الأمر الإرشادي. ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ انتبهوا.
 

التدرج يبدأ بإشارة ثم تحريم زمني ثم توجيه إرشادي ثم أمر تشريعي:


أما حينما قال الله عز وجل: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)﴾

[ سورة المائدة ]

صار هناك أمر تحريم، هنا أمر إرشاد، ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً﴾ هذا إشارة ثم تحريم زمني، ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ إشارة إلى أن الخمرة ليست رزقاً حسناً إلى تحريم زمني إلى توجيه إرشادي إلى حكم شرعي، إشارة، تحريم زمني، توجيه إرشادي.
 

المعاصي الخطيرة يجب أن تُبقي بينك وبينها هامش أمان:


ثم تُوِّجت هذه المراحل بالأمر التشريعي ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أما كلمة ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ فهي أشد أنواع التحريم على الإطلاق، لو أن الله عز وجل قال: حرمت عليكم الخمرة مثلاً يجوز أن تبيعها، حُرِم عليك شربها، يجوز أن تبيعها، يجوز أن تتاجر بها، يجوز أن تنشئ معصرةً لعصرها، يجوز أن تُرَوِّج لها، يجوز أن تعلن عنها، يجوز، أما حينما قال الله عز وجل: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ أي يجب أن تُبقي بينك وبينها هامش أمان كبير، كلمة ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ دقيقة، أي وزير الكهرباء إن نصب أعمدةً لتيار عالي التوتر يضع لوحات يقول: توتر عالٍ، لا يقول: ممنوع اللمس، يقول: ممنوع الاقتراب، لأن التوتر العالي له ساحة، والإنسان إذا دخل هذه الساحة يجذبه التيار، سيحرقه فوراً، فالبلاغ الحكيم لا أن تقول: ممنوع مس التيار، ممنوع الاقتراب من التيار لشدة خطره، إذاً المعاصي الخطيرة يجب أن تُبقي بينك وبينها هامش أمان، قال: 

﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)﴾

[ سورة الإسراء ]

معنى هذا الزنا معصية خطيرة، ولها مقدمات، ولها منطقة محرمة، فإذا اقتربت من هذه المنطقة المحرمة وقعت بالزنا دون أن تدري، فالشريف هو الذي يهرب من أسباب المعصية لا من المعصية بذاتها، إذاً هناك آية كريمة: 

﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)﴾

[ سورة البقرة ]

يجب أن تُبقي بينك وبين حدود الله هامش أمان.
 

الدعاة يحتاجون إلى حكمة في نقل هذا الدين:


﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ انتهى الأمر، الصحابة الكرام وفي آخر الآية: 

﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)﴾

[ سورة المائدة ]

قالوا: لقد انتهينا يا رب، في ليلة واحدة أغرقت كل دِنان الخمر وانتهى الأمر، ولكن أرأيت إلى هذه الحكمة التشريعية، إشارة لطيفة ثم تحريم زمني ثم أمر إرشادي ثم حكم شرعي هكذا التدرج، هذا درس للدعاة، أي يمكن أن تتساهل، وأن تغض البصر عن إنسان تأخذ بيده إلى الله عن بعض المخالفات، ليس معنى هذا أن تقول له: إنها مباحة، لا، اسكت عنها، غضّ البصر إلى أن يقوى عوده.
طبعاً ممنوع الآن بعد آية الخمر التحريمية أن تقول: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، الآيات السابقة كلها نُسِخت، ولكن يجوز أن تستضيء بهذا التدرج التشريعي في معاملتك لمن كان بعيداً عن الدين، أن تأخذ بيده خطوة خطْوة دون أن تقول له: هذا مباح، الحرام حرام، لكن بين أن تجعل له كل حياته معصية فيبتعد عنك، وبين أن تتغافل عن بعض مخالفاته كي تأخذ بيده إلى الله عز وجل.
الآيات التي سبقت آية التحريم كلها الآن منسوخة، أي لا يجوز أن نقول لشارب خمر: صلِّ ولكن اشرب بين الصلوات، هذا كلام مرفوض الآن، إلا لك أن تغض البصر عن بعض المخالفات تطبيقاً لمنهج هذه الآية في التدرج التشريعي، هذا ممكن، هناك شخص يدخل إلى بيت فيجد فيه عصفوراً معلقاً، حرام، نعم حرام ولكن عنده ألف مخالفة أهم من هذه، هو لا يصلي بالأساس، فقبل أن تعطيه قائمة المحرمات التي رأيتها في بيته دله على الله أولاً.
أنا أقول: الدعاة يحتاجون إلى حكمة في نقل هذا الدين، فالإنسان متعلق بأشياء كثيرة جداً غُضّ البصر عنها مؤقتاً، وعَرِّفه بالله عز وجل، فإذا عرف الله عز وجل باع روحه في سبيله.
 

الآية التالية جاءت قبل آيات الزكاة الدقيقة:


﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ قال العلماء: الزيادة، الشيء الذي يزيد عن حاجتك يجب أن تُنْفق منه، هذه الآية جاءت قبل آية الزكاة المُقننة. 

﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)﴾

[ سورة المعارج ]

﴿ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)﴾

[ سورة الذاريات ]

هذه الآية: ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ أي أنت آكل، شارب، مرتاح، ساكن في بيت، يوجد عندك شيء زائد عن حاجتك، هذا ينبغي أن تُنفقه تقرباً إلى الله عز وجل، في آية أخرى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)﴾

[ سورة البقرة ]

أي من تُرِكَ له، فالشيء المتروك أو الشيء الزائد هذا الذي يمكن أن تنفقه في أصل الإنفاق قبل أن تأتي آيات الزكاة الدقيقة.
 

في أمور العلم هناك وسيط أما في أمور القرب فليس بينك وبين الله حجاب:


قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ بالمناسبة مثل هذه الآيات ﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾ وردت في القرآن الكريم في أكثر من ثلاث عشرة آية، إلا في آية واحدة لم تأتِ كلمة (قل) بين السؤال والجواب: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ ، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ .

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)﴾

[ سورة البقرة ]

إلى آخره، إلا في آية واحدة: 

﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)﴾

[ سورة البقرة ]

لا يوجد قل، استنبط العلماء أنه ليس بين العبد وربه حجاب، في أمور العلم هناك وسيط أما في أمور القرب فليس بينك وبين الله حجاب.
 

الخمر أمّ الخبائث:


قبل أن ينهار الاتحاد السوفييتي قديماً بسنوات حرم الخمر كلياً، وفي حيثيات هذا القرار شيء لا يصدق، أي تقريباً خُمْسُ ساعات العمل التي يبذلها الناس في العمل تذهب سدى لأنهم مخمورون، الإنفاق على الخمر أرقام فلكية، الخمر أعاقت تَقدُّم أمة، لذلك حُرِّم الخمر لا لأمر تعبدي بل لأمر مصلحي، أي دائماً يجب أن نعلم أن الشيء الذي حرّمه الله ضار في كل زمان ومكان، وفي كل عصر ومصر، فالخمر حرمتها أمريكا في عام 1933، وبذلت جهداً في تحريمها، مئات الأشخاص أُعدموا، ومليارات المبالغ أصبحت غرامات، ومئات المطبوعات، ثم أُطلق الأمر لاستحالة التحريم، هذا حينما يُحَرم بشر أما حينما يُحَرِّم خالق البشر ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ انتهى الأمر.
تروي بعض الكتب أن إنساناً خُيِّرَ بين أن يَقتُل وبين أن يزني وبين أن يشرب الخمر، هو بوهمه رأى أهون شيء أن يشرب الخمر، فلما شربها زنى وقتل، سماها النبي: أمّ الكبائر، جُمِعَ الشر كله في بيت ثم أُرْتج عليه فكان مفتاحه السُّكر، الخمر أم الخبائث، فالله عز وجل عافانا جميعاً من هذا الشراب الذي يُضَيِّع عقل الإنسان، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ .

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور