الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الرابع والسبعين من دروس سورة البقرة، ومع الآية السابعة عشرة بعد المئتين، وهي قوله تعالى:
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)﴾
ولابدّ من وقفةٍ قصيرة حول كلمة: ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ إذا آمن المؤمن بالله إيماناً صحيحاً؛ آمن به موجوداً، وآمن به واحداً، وآمن به كاملاً، هَمُّه الأوَّل، وشغله الشاغل أن يتحرى أمره ونهيه كي يعبده، عرفته بقي أن تعبده، عرفته من خلال الكون بقي عليك أن تعبده من خلال الأمر والنهي، فَالهَمُّ الأوَّل والشغل الشاغل الذي لا يعلو عليه شيء أن يتحرى الأمر والنهي، فعلامة المؤمن الصادق أنه يسأل: هل هذا حرام؟ هل هذا حلال؟ فيه شبهة؟ هل يرضي الله؟ أنه لا يرضي الله؟ يحجبني عن الله؟ يُقَرِّبني من الله؟ يُحْبط عملي أم يؤكِّد أَمَلي؟ لابدّ من أن تسأل، السؤال علامة الإيمان، أما هذا الذي لا يسأل لأن موضوع الدين كله خارج اهتمامه.
فقد تجد إنساناً غارقاً في المعاصي والمخالفات ولم يخطر في باله أن يسأل سؤالاً؟ هل دخلي صحيح؟ هل دخلي مشروع؟ هل تربية أولادي صحيحة؟ هل خروج بناتي بشكلٍ يرضي الله؟ هل أنا أبٌ ناجحٌ في أبوَّتي؟ ماذا أفعل؟ هذا الذي يسأل سؤاله علامة إيمانه، فأصحاب النبي عليهم رضوان الله سألوا النبي عليه الصلاة والسلام في ثلاث عشرة مسألة كلها ورد فيها آياتٌ مصدرةٌ بقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ .
الحكمة من تحريم القتال في الأشهر الحرم:
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ الحقيقة يقول الله جلّ جلاله في آيةٍ أخرى:
﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)﴾
رجب، وذو القعدة، وذو الحجَّة، ومحرَّم، ما حكمة هذه الأشهر؟ لأن الله جلّ جلاله هو خالق البشر، وهو الخبير، إن نَشِبَت حربٌ بين فئتين، أو بين جماعتين، أو بين أمَّتين، أو بين دولتين، ما الذي يحصل؟ الحرب تستعر وتستمر حتى تُحرِق الأخضر واليابس ولا تقف، وقد سمعت قبل أيام أن أفقر دولتين في العالم من دون استثناء نشبت بينهما حرب، تكاليف هذه الحرب كل يوم مليون دولار، طبعاً لصالح الطرف الآخر الذي يبيعهما السلاح.
على كل جُعِلَت هذه الأشهر الحُرُم من أجل أن يُحرَّم فيها القتال، فحينما تنشب حرب ويأتي شهر رجب تقف الحرب، لا يوجد غالب ولا يوجد مغلوب من أجل الكرامة الإنسانية.
الإنسان أحياناً يُضَحِّي بكل شيء، يُحْرِق كل شيء، يُتلف كل شيء من أجل كرامته، فإذا نشبت الحرب تعلو قضية الكرامة الإنسانية، فكل خصمٍ مصرٌ على متابعة الحرب، إذا جاء هذا الشهر الحرام، وهذا منهج الواحد الديَّان، تقف الحرب، ليس هناك منتصر ولا منهزم، ولا غالب ولا مغلوب، فإذا ذاق الناس طعم السّلم، وارتاحوا، وأمنوا، لعلَّهم يُتابعون طريق السلام، هذه حكمة الله عز وجل، حروبٌ كما تعلمون نشبت بين أمتين، أو جماعتين، أو شعبين مسلمين، كانت الكلفة مليون قتيل، لو أنهما طبَّقتا منهج الله عز وجل لما وصلا إلى هذه النتائج المدمِّرة، ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ هذه بعض الحِكَم، الحرب والقتال في الأشهر الحُرُم مُحرَّم من أجل حفظ ماء الوجه، من أجل حقن الدماء، من أجل حفظ الأموال، من أجل سلامة الحياة.
حكم القتال في الأشهر الحرم كبير:
أرسل النبي عليه الصلاة والسلام سَرِيَّةً من ثمانيةٍ من أصحابه الكرام، وأعطى قائد السريَّة عبد الله كتاباً أمره أن يفتحه بعد يومين، فتحه فإذا النبي عليه الصلاة والسلام يأمره أن يَرْقبَ عيرَ قريش فيما بين مكة والمدينة، وأن يرقُبَ حركاتها وسكناتها، يبدو أن هذا الصحابي الجليل وجد قافلةً فأسر اثنين، وقتل واحداً، وفرّ ثالثٌ، وجمع الغنائم، وجاء بالأسيرين والغنائم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، النبي عليه الصلاة والسلام لم يأمره بهذا، فلم يقبل الغنائم، ولم يقبل أن يبقى الأسيران، لأن هذه المناوشة وقعت في يومٍ هو عند قائد السريَّة مِن الأشهر غير الحُرُم من جمادى الآخرة، وبحسابٍ آخر في واحد رجب، لذلك أقامت العرب النَكِير، أقامت الدنيا ولم تُقعدها، إن محمداً ينتهك حرمة الأشهر الحرم، إن محمداً قتل في الأشهر الحرم، إن محمداً أخذ الأموال في الشهر الحرم، إن محمداً أسر الأسرى في الأشهر الحرم.
وكما تعلمون الطرف الآخر دائماً يُراقبون أهل الحق بمناظير مكبِّرة، يحسبون على المؤمن أنفاسه، فإذا حدث خطأٌ طفيف كبَّروه مئة ألف مرة، هذا الذي حدث، أن العرب أقامت الدنيا ولم تقعدها تقول: إن محمداً انتهك حرمة هذه الأشهر، وقتل في هذه الأشهر، وأخذ الغنائم في هذه الأشهر، وأسر في هذه الأشهر، واهتم النبي عليه الصلاة والسلام كثيراً، ولم يكن يريد أن يقع الذي وقع، فجاءت الآية الكريمة تُبَرِّئُ قائد هذه السرية، وتبرِّئ الذي أمره بهذا، فقال الله عز وجل: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ أي أيجوز القتال فيه؟ أيجوز أن تُنتهك حرمته؟ أيجوز أن يُقتل فيه إنسان؟ أيجوز أن يُؤْسَر فيه إنسان؟ أيجوز أن تُسْلب فيه الأموال كغنائم؟ ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ ما حكم القتال فيه؟ وكأنه تعريضٌ بما فعل قائد السرية، فقال الله عز وجل: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ كبير ولكن الإسلام ليس من السذاجة بحيث يجعل من هذه المُقَدَّسات مِتْراساً لأهل الكفر والضلال.
الحدود التي حدَّها الله إنما شُرِعِت لحماية المؤمنين لا لتكون متراساً للكفار:
فكرة دقيقة جداً لابد من التوضيح: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ صح، شيء مقدس، حدود يجب ألا تُنْتَهَك، قِيَم يجب ألا تُداس، ولكن الكفَّار حينما يصدُّون الناس عن سبيل الله، الكفَّار حينما يصدُّون الناس عن المسجد الحرام، الكفار حينما يُخرجون أهله منه عدواناً، وظلماً، وتعنُّتاً، واستكباراً، وقهراً، أليس هذا أكبر؟
لذلك الفكرة الأولى: أنه لا يمكن أن تكون بعض المقدسات التي تعارف المجتمع عليها متاريس يَتَّرِسُ بها أهل الضلال، والأمثلة كثيرة جداً؛ فاسق فاجر، يفعل المنكرات، القاعدة الأساسية يجب ألا تغتابه، هو مرتاح، هو يفعل ومطمئن أنه لن يتحدَّث مسلم عنه بسوء خوفاً من الله عز وجل، لا، لا غيبة لفاسق، لا نسمح لفاسق فاجر أن يتَّرس بحرمة الغيبة، الفاسق والفاجر لا غيبة له.
أراد أن يبيعك بيتاً فيه خلل في أساساته، فأنت ينبغي أن تخبر المشتري، أخي أنا أُفسد هذا البيع، ليس هناك مانع، اجعل هذا البيع فاسداً، ينبغي أن تُخبر، إنسان خَطَب من أسرة، وهو منحرف في سلوكه، ومنحرف في عباداته، ومنحرف في عقيدته، ينبغي أن تُبلِّغ، فأما أن تتخذ من تحريم الغيبة مِتراساً لك تَنْعُم به وأنت على ضلال هذا ينبغي ألا تحلم به، دائماً القواعد والمقدسات والحدود تحمي المؤمنين ولا تحمي غير المؤمنين.
القضية دقيقة جداً، المقدسات والمُحرّمات والحدود التي حدَّها الله عز وجل هذه إنما شُرِعِت لحماية المؤمنين، لا لأن تكون مِتراساً للكفار والمنحرفين، الفاسق ليس له غيبة، مجلس تُرتكب فيه الكبائر ليس له حرمة، إنسان يريد أن يغش الناس ليس له حرمة إطلاقاً، المؤمن لا تظلمه، ولا تُؤذه، ولا تسخر منه، أما حينما يخرج من مظلة الإسلام ويفعل ما يريد فعندئذٍ يجب أن يلقى جزاء عمله، فهذا معنى قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ﴾ أيجوز أن يُقَاتل فيه؟ أيجوز أن تُسفَك فيه الدماء؟ أيجوز أن تُسلَب فيه الأموال؟ أيجوز أن يُؤسَر الأسير في الشهر الحرام؟
لن تكون حرمة هذا الشهر سبباً لطغيان أهل الباطل:
﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ من حيث المبدأ، ولكن هناك عمل أكبر منه، ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الإنسان دون أن يشعر، تجد الشاب في أسرة -أنا أعالج قضايا جزئية صغيرة-لا يصلي، يأتي بعد منتصف الليل كل يوم، له أصدقاء سوء، مُتفلِّت، غير منضبط، لا توجد عليه مشكلة بالأسرة أبداً، أما حينما يلتزم مسجداً، ويغضُّ بصره، ويرفض أن يختلط بمَن لا تحلّ له، ويرفض أن يخرج على ما ألِفَه مَن حوله، يُقام عليه النكير، أليس هذا صدّاً عن سبيل الله؟ مادام الإنسان في فسقٍ وفجور لا أحد يحاسبه، بل إنهم يُثنون عليه، أما حينما يلتزم شرع الله، حينما يرفض الاختلاط، حينما يرفض أن يغش الناس، حينما يرفض أن يتجاوز حدوده ويلتزم ويخشى الله عز وجل تُقام عليه الدنيا ولا تقعد، أليس هذا صَدَّاً عن سبيل الله؟ من أكبر الجرائم أن تَصُدّ الناس عن سبيل الله.
هناك أسلوبٌ آخر: الشاب إذا التزم يُصَدُّ عن التزامه، الآن إذا التزم هذا الشاب مع إنسان لابد من أن يطعنوا في هذا الإنسان، لوجه الشيطان، لابد من أن يُسفِّهوا مثله الأعلى، لابدّ من أن يُسفّهوا عمله، لابد من أن يُتَّهم هذا الذي التزم معه، كصدّ عن سبيل الله، الإنسان أحياناً يصدّ عن سبيل الله وهو يشعر، وأحياناً كثيرة يصدّ عن سبيل الله وهو لا يشعر، وكأن شيطاناً يُنطقه، وكأن شيطاناً يدفعه، وكأن جهةً خبيثة تُغْرِيه، فإذا تحدَّث لا يتحدث إلا حديثاً لا يرضي الله عز وجل، لا يتثبَّت، لا يتأكَّد، لا يتحقق، لذلك: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ﴾ أكبر من أن تُنْتَهَك حُرمة هذا الشهر، لن تكون حرمةُ هذا الشهر سبباً لطغيان أهل الباطل.
الصّد عن سبيل الله له وسائل كثيرة جداً:
أيها الإخوة؛ لنحذر جميعاً دون أن نشعر أن نصدّ عن سبيل الله؛ إنسان سلك طريقاً صحيحاً، إنسان عاهد الله على أن يضبط لسانه، إنسان عاهد الله على أن يغض بصره، إنسان له جلسة مع أصدقاء، هذه الجلسة ليس فيها ما يُرضي الله فانسحب منها، دَعْهُ يصطلح مع الله، هناك شياطين الإنس يصدُّون عن سبيل الله وهم لا يشعرون، وكم من إنسانٍ يصدُّ مَن حوله عن سبيل الله وهو يحسب أنه يُحْسِن صنعاً؟!
أنت حينما لا تتأكد مما تقول، حينما تتهم إنساناً جمع الناس على الحق بلا دليل وبلا تحقق وبلا تريث، أنت ماذا فعلت؟ صددت الناس عن سبيل الله.
لمجرد أن ترى إحدى قريباتك المحارم قد تحجَّبت، إن ازدريت حجابها ولو عن طريق المزاح أنت صددت عن سبيل الله وأنت لا تشعر، يجب أن تشجعها، يجب أن تثني عليها، أن تُثني على قرارها.
أحياناً يأتي إنسان من بلادٍ بعيدة فيها كل شيء مريح، لكنه خاف على مستقبله، ومستقبل أولاده، عاد إلى وطنه ليخدم أبناء وطنه، هناك مَن يتَّهمه بالجنون، هذا الذي يتهمه بالجنون يصدّ عن سبيل الله، طبعاً حينما يأتي الإنسان من بلدٍ متطور، غني، متفوق في الدنيا، إلى بلدٍ نامٍ سيُواجه صعوبات كثيرة، يجب أن تُشَجعه، والله أنا أقول لإنسان أراد أن يعود إلى وطنه ليخدم أمَّته، أقول له: واللهِ ما اتَّخذت في حياتك كلِّها قراراً أصوب من هذا القرار، ولا أحكم من هذا القرار، والله عز وجل سوف يُوَفِّقَكَ ويأخذ بيدك، ويحمي لك أولادك، شَجِّع، الصد عن سبيل الله له وسائل كثيرة جداً، إنسان ترك بلاد الكفر، ترك بلاداً تُرتكب فيها الفواحش على قارعة الطريق، ترك بلاداً لا يمكن أن يضمن لأولاده بقاءهم فيها مسلمين؛ وجاء إلى بلده الأم ليخدم أبناء أمَّته، وقد يتحَمَّل بعض الصعوبات، لمجرد أن تُخَطِّئه بهذا القرار فأنت ممن يصدّ عن سبيل الله.
فتاة مؤمنة تعرفت إلى الله فلبست الحجاب، لمجرد أن تقول لها مثلاً: هذا الحجاب أذهب بعضاً من جمالكِ، أنت صددتها عن سبيل الله دون أن تشعر، لمجرَّد أن ترى إنساناً أراد الحلال وترك الحرام، رضي بالحلال القليل، وترك الحرام الكثير، إن قلت له: لَمْ تكن عاقلاً في هذا السلوك، يجب أن تعلم علم اليقين أنك صددت عن سبيل الله.
صدّ الناس عن سبيل الله جريمة أكبر مِن أن تُنتهك حرمة الشهر الحرام:
والله أيها الإخوة؛ أكاد أقول لكم: هناك مليون أسلوب دون أن تشعر كله صدّ عن سبيل الله، قال: هذا أكبر من أن تُنْتهك حرمة الأشهر الحرم، أن تصُدّ الناس عن سبيل الله، أن تمنع شاباً يصلي، أن تمنع شاباً أراد طاعة الله، أن تمنع شاباً رضي بالقليل وزهد بالكثير الحرام، تقول له: أنت مجنون بهذا العمل، هذا صدّ عن سبيل الله، والإنسان عليه قبل أن يقول كلمةً لا ترضي الله أن يحاسب نفسه حساباً كثيراً:
(( وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ ﷺ قَالَ : إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالى مَا يُلقِي لهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّه بهَا دَرَجاتٍ، وَإنَّ الْعبْدَ لَيَتَكلَّمُ بالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ تَعالى لا يُلْقي لهَا بَالًا يهِوي بهَا في جَهَنَّم.))
أحياناً بالمِهَن اليومية هناك أساليب مربحة وتُربّي ثروة طائلة لكن فيها مخالفة، فأنت حينما تلزم جانب الشرع، ولا تقبل الاختلاط في معهدك فرضاً، أو تلزَم جانب الشرع ولا ترضى أن تُنتهك حُرُمات الله عز وجل في عملك الرسمي، أو في عملك التجاري فيقل دخلك، أنت حينما تقول لهذا الإنسان: أخطأت، وليس هذا هو الطريق الصحيح أنت صددت الناس عن سبيل الله، فربنا عز وجل جعل صدّ الناس عن سبيل الله أكبر جريمة، بل أكبر مِن أن تُنتهك حرمة الشهر الحرام، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ لعلي ألممت بجانبٍ من معاني هذه الآية، الصّدّ عن سبيل الله في كل عصر، وفي كل مصر، وفي كل بيئة، أنت حينما تُثَبِّط عزيمة مؤمن صددت عن سبيل الله، أنت حينما تُسَفِّه عملاً مشروعاً صددت عن سبيل الله، إنك إن رأيت إنساناً يتصدَّق بماله، إذا قلت له: احفظ قرشك، كلمة، ماذا قلت؟ احفظ قرشك، أمسك يدك، هو ماذا يفعل؟ يُنفق ماله على الملاهي؟ يُنفق ماله في سبيل الله، لمجرد أن تخوفه من الفقر إذا أنفق ماله في سبيل الله أنت ماذا فعلت؟ صددت عن سبيل الله.
الموضوع يحتمل شواهد كثيرة جداً، فكل واحد منا محاسب على كل كلمة يقولها، قد يقول الكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً، لا تكن عوناً للشيطان على أخيك، كن عوناً له على الشيطان.
والله حدثني مرة أخ متألم جداً من أخ زوجته قال لي: شكوت له أخته، فقال لي: طلقها، لأول كلمة يقول طلقها! إذا دفعت الناس إلى تطليق زوجاتهم فقد صددت عن سبيل الله، إذا دفعت الناس إلى أكل المال الحرام فأنت صددت عن سبيل الله، إذا دفعتهم إلى الحرام صددت عن سبيل الله.
حينما ترفض حُكْماً من أحكام الشرع الثابتة بالكتاب والسُّنة فهذا نوعٌ من الكُفْر:
جريمة ثانية ارتكبها الكفار: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ﴾ أيضاً هذا المفهوم يجب أن يوَسَّع قليلاً، طبعاً كلمة ﴿كُفْرٌ﴾ كلمة كبيرة جداً، لكن لهذه الكلمة لها معنى ضيّقاً ولها معنى مُتَّسِع، المعنى الضيِّق: أن تُنكر وجود الله، أو أن تنكر هذه الأديان السماوية، أما المعنى الموسَّع حينما ترفض حكماً لله فهذا كفر.
إذا قلت مثلاً: إن قطع اليد، هذا الحد لا يتناسب مع هذا العصر، هذا عصر حقوق الإنسان، وكرامة الإنسان، والإنسان هو الهدف، أنت إن قلت هذا الكلام المعسول كفرت دون أن تشعر، لأنك رددت حكماً ورد في القرآن الكريم، والله عز وجل يعلم السر وأخفى، يعلم ما سيكون، حينما ترفض حكماً لله، حينما ترفض مثلاً الاستثمار الربَويّ، يُقال لك: هكذا العالم كله يُثمِّر أمواله عن طريق البنوك والربا، ماذا نفعل؟ لابد من هذا، تقول له: يا أخي هناك آية:
﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)﴾
يقول: هذا القرآن ليس لهذا العصر، أنت حينما ترفض حُكْماً من أحكام الشرع الثابتة بالكتاب والسُّنة فهذا نوعٌ من الكُفْر.
قال تعالى:
﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)﴾
لو فرضنا احتكم شخصان إلى عالم، والعالم أدلى برأي مُدَلَّلٍ بالكتاب والسُّنة، وحكم وفق كتاب الله، إذا رفض الطرف الذي حُكِم عليه هذا الحكم فقد انخلع منه الإيمان، لأن الله عز وجل قال: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ طبعاً في حياة النبي يُحَكَّم هو بالذات، أما بعد موت النبي فتحكم سُنَّته، ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ أنت حينما ترفض حكم النبي، وترفض سنة النبي، فهذا نوعٌ من الكفر، لذلك قالوا: هناك كفرٌ يُخْرِجُ من المِلَّة، وهناك كفر دون كفر، هناك إنسان ليس مقتنعاً ببعض الأوامر، ليس مقتنعاً ببعض السنَن، عدم قناعته ببعض الأوامر، وعدم قناعته ببعض السنن هذا نوعٌ من الكفر المُبَطَّن، هذا كفر دون كفر، لذلك الآية الكريمة:
﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِ ؤنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)﴾
كفروا، ﴿وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى﴾ معنى ذلك أنهم يصلون، ﴿وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ .
هَمُّ الكفار أن يأتوا بتشريعٍ أو بأسلوب غير أسلوب الدين وشريعته:
أنا حينما لا أعبأ بأمر الله ولا بنهيه، حينما لا أقيم وزناً لسنَّة النبي، حينما لا أُعَظَّم شعائر الله، فهذا نوعٌ من الكفر المُبَطَّن، كفرٌ دون كفرٍ، وما أكثر مَن يتحدث ويقول: هذا لا يصلح لهذا الزمان، وهذا لا يمكن أن يكون، وهذا لابد من تعديله، وهذا لابد من إلغائه، فهذا الذي يريد أن يُقدِّم بين يدي الله ورسوله تشريعاً أو منهجاً غير منهج النبي فهو قد وقع في كفرٍ من النوع الثاني، لذلك الآية الكريمة الدقيقة جداً وهي قوله تعالى:
﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)﴾
أي جُهْد الكافرين من عهد النبي وإلى قيام الساعة أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم، ليحلّ محل دينهم منهجٌ آخر، طريقةٌ أخرى، أسلوبٌ آخر، تشريعٌ آخر:
﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)﴾
هَمُّ الكفار أن يأتوا بتشريعٍ، أو بطريقةٍ، أو بأسلوب غير أسلوب الدين وشريعته وطريقته.
الصّد عن بيت الله الحرام هذا أيضاً من الجرائم الكبرى:
﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي هذا البيت، بيت الله المعمور، هذا البيت أول بيت وُضِع للناس اتخذه الله بيتاً له، ومن دخل هذا البيت فهو آمن، جعله الله مثابةً للناس وأمناً..
﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)﴾
فأنت حينما تُسَفِّه عظمة هذا البيت هذا أيضاً من الجرائم الكبرى، أي إذا قال لك إنسان: والله أنا مشته أن أذهب إلى بيت الله الحرام، إن سَفَّهْتَ هذه الرغبة عنده هذا نوع من الصّد عن بيت الله الحرام، إن صددت الناس عن الحج أو عن العمرة، وكانوا مشتاقين إليها فهذا نوعٌ من الصّد عن بيت الله الحرام، الله جعله مثابة للناس، وجعله أمناً، وجعل العطاء فيه جزيلاً، أي من وقف في عرفات فلم يغلب على ظنه أن الله غفر له فلا حج له، أنت في الحج كأنك تفتح مع الله صفحةً جديدة تعود كيوم ولدتك أمك، أيضاً الصّد عن سبيل الله والكفر به والصّد عن المسجد الحرام من الكبائر التي دونها انتهاك حرمة الشهر الحرام.
﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ﴾ إنسان عُذِّب لأنه قال: ربي الله!! فكل إنسان مستقر في بلده، مستقر في عمله، مستقر في بيته، لأنه قال: ربي الله، يجب أن تخرجه من بيته؟! أيضاً هذا عدوانٌ كبير جداً.
أيها الإخوة؛ هذه الآية دقيقة جداً: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أما الحقيقة الدقيقة: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ طبعاً أوضح شيء لو أن جاهلياً وَأَدَ ابنته الصغيرة التي هي كالمَلَك، فتاة بريئة طاهرة، لأن أباها كان جاهلياً دفنها في الرمل وهي حيّة، طبعاً ارتكب جريمة ما بعدها جريمة، قال تعالى:
﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)﴾
أما هذا الأب الذي يتساهل مع ابنته فتخرج بثياب فاضحة، تُبرز كل مفاتنها، ويسمح لها أن تلتقي مع مَن تشاء، وأن تجلس في أي مكان تشاء، وأن تأتي إلى البيت في ساعةٍ متأخِّرة، مثل هذا الأب لم يئِد ابنته بل العكس أطلقها، وأطلق لها حريتها، وجعلها تفعل ما تريد، فتنها عن دينها فانحرفت، وفسقت، وسقطت، أي البنتين أسلم مصيراً في يوم القيامة؟ الأولى إلى الجنة لأنها ماتت قبل التكليف، أما الثانية فتقول: يا رب لا أدخل النار حتى أُدْخِل أبي قبلي.
﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ إذا قتلت إنساناً وكان مظلوماً، وكان مؤمناً مات على الإيمان قتلاً، إلى الجنة، أما إنسان ما قتلته، فتنته عن دينه، أغريته بالمعاصي، دللته على الزنا، على شرب الخمر، علمته جعلته يرتاد نوادي القمار، فصار مخموراً مقامراً، زانياً، عربيداً، أنت لم تقتله، لكنك فتنته عن دينه.
حدثوني أن إنساناً صار يُسَجِّل ما تبثُّه الفضائيات المنحرفة، الأفلام الإباحية يسجلها، وجاء بأجهزة عرض في دكان صغيرة، ويسمح للشباب أن يروا هذه الأفلام بأجر بسيط، أقسم لي أحدهم أن شباباً كثيرين كانوا قد سلكوا طريق حفظ كتاب الله، وارتادوا المساجد، فلما دخلوا وشاهدوا هذه الأفلام خرجوا من دينهم كله؛ ترك القرآن، وترك الحفظ، وترك الجامع، لأنه شاهد شيئاً لا يعرفه، ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ إنسان قتلته، إذا كان مؤمناً مظلوماً، إلى الجنة، أما إنسان فتنته، أغريته بالمعصية، أغريته بكل منكر، والله أعرف إنساناً ترك الصلاة بسن الخامسة والخمسين، اشترى هذا الصحن وترك الصلاة ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ يجب أن نعلم علم اليقين أن الإنسان حينما ينحرف، وحينما يفسق، وحينما يفجر أهلك نفسه، فالهلاك الخطير أن يفسُقَ الإنسان، وأن يجحد شرع الله عز وجل.
الآن حقيقة جديدة؛ فالله عز وجل خالق الكون، وخالق البشر، وهو العليم الخبير:
﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ(14)﴾
قال: ﴿وَلَا يَزَالُونَ﴾ هذه لا زال غير لا يزال تفيد الاستمرار، ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ جُهد الكفار أن يردوا المؤمنين عن دينهم من خلال المعاصي والآثام، يَئِسَ الكافر أن يُواجه هذا الدين مواجهةً، ماذا يفعل؟ يُفجِّره من داخله، يصطنع اتجاهات في الدين ليست صحيحة، تُعطى فتاوى غير معقولة إطلاقاً، صار الدين غازاً، كان شيئاً صُلْبَاً له حجم، ووزن، وطول، وعرض، وارتفاع، ثم صار ليِّناً، ثم صار لزجاً، ثم صار سائلاً، ثم أصبح غازاً لا شيء فيه، فهناك أساليب لمحاربة الدين أحد هذه الأساليب محاربة السُّنة، أحد هذه الأساليب الفتاوى غير المعقولة إطلاقاً، كل شيء مباح، لكل معصيةٍ فتوى، هذا أحد الأساليب من أجل أن يرتدّ المؤمن عن إيمانه؛ هذه سُمِح بها، والربا سُمِح به، والاختلاط سُمِح به، والغناء سُمِح به، والرقص سُمِح به، والتمثيل سمح به، والربا بنسب سمح بها، ماذا بقي من الدين؟ فالارتداد عن الدين أنواع: إما الإغراء بالمعاصي والآثام، وإما إصدار الفتاوى غير المعقولة التي تُلغي هذا المنهج القَويم، وإما محاربة أصل الدين.
على كل محاربة مبادئ الدين طريقٌ مسدود، أي كاتب يتكلَّم كلمة فيها إساءة للدين تُقام عليه الدنيا ولا تقعد، إذاً الطريق الآخر وهو إغراء الناس بالمعاصي والآثام، هذا نوع من الارتداد عن الدين.
المنافق عمله يهلكه ويفسد عليه آخرته:
﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ قال: الناقة أحياناً تأكل أكلاً غير معقول فينتفخ بطنها وتموت، نقول: حَبِطت الناقة، أي ماتت وهلكت، والمنافق حينما يأخذ من الدنيا فوق ما يكفيه من طريقٍ غير مشروع، وحينما ينغمس في المعاصي إلى قمة رأسه، قال: هذا الإنسان يحبط عمله، أي عمله أهلكه وأفسد عليه آخرته، قال: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾ أحياناً يرتد الإنسان عن الدين دون أن يُعْلِن ذلك، الدين لا يعجبه، ولا أهل الدين، ولا منهج الدين، ولا سُنَّة النبي الكريم، ولا العبادات، كلها تتناقض مع هذا العصر، لا يُعجبه أن يصلي خمس صلوات في اليوم، لا يعجبه أن يصوم، طاقة، الإنسان طاقة، بالصيام تضعف طاقته، لم يعد منتجاً بالصيام مثلاً، فالذي لا تعجبه العبادات، ولا العقائد، ولا التوحيد، ولا منهج النبي عليه الصلاة والسلام، هذا مرتد عن دينه دون أن يشعر.
أعمال يُحبطها الله عز وجل:
﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ أعمالهم حَبِطت أي أهلكتهم، طبعاً هناك معانٍ أخرى لإحباط العمل، الله قال:
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)﴾
أعمال كالجبال، ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها، إذاً أعمال تمثيليّة:
(( عَنْ ثَوْبَانَ: لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَاماً مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضاً، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُوراً، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ أخوانكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا. ))
أحياناً يكون الإنسان ذكياً جداً، يعمل عملاً طيباً مقبولاً عند الناس، الناس يُثنون عليه، أما هو فليس كذلك، فربنا عز وجل يُحبط عمله، إذاً الإحباط قد يكون العمل طيباً ولكن وراءه يوجد نفاق أو نية خبيثة، هذه النية الخبيثة وهذا النفاق يحبطه.
شيء ثانٍ: أحياناً يكون العمل قرأت خبراً أن بأمريكا يوجد يانصيب، الجائزة الأولى ثلاثمئة وخمسون مليون دولار، ما هذه الثروة الطائلة؟ العمل خلاف الشرع مثلاً، فإما أن يكون العمل مخالفاً للشرع في الأساس، أو أن يكون وفق الشرع لكن نيته ليست سليمة، كلا العملين يُحبطه الله عز وجل، لذلك: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ .
سِئِل النبي الكريم:
(( عن أبي هريرة: أَتَدْرُونَ مَنْ المُفْلِسُ؟ قالُوا: المُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ الله من لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ، قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: المُفْلِسُ مِنْ أَمّتِي مَنْ يَأتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةِ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَد شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فيقعُدُ فَيَقْتَصّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصّ عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَ عَلَيْهِ، ثُمّ طُرِحَ في النّارِ.))
هذا هو إحباط العمل.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)﴾
بالمقابل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الإيمان الصحيح، ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ بالمعنيين المعنى التاريخي؛ ترك مكة إلى المدينة، بالمعنى الآخر هجر المنكر، ﴿وَجَاهَدُوا﴾ بذلوا الجهد في سبيل الله، ﴿أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ .
الملف مدقق