وضع داكن
23-11-2024
Logo
الدرس : 72 - سورة البقرة - تفسير الآيات 213-214 الاختلاف بين البشر
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

محور الآية التالية موضوع الاختلاف بين البشر:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني والسبعين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الثالثة عشرة بعد المئتين، وهي قوله تعالى: 

﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)﴾

[ سورة البقرة ]

أيها الإخوة الكرام؛ محور هذه الآية موضوع الاختلاف بين البشر، الواقع أن هناك خلافات بين البشر لا تُعدّ ولا تحصى، الناس اليوم مذاهب، واتجاهات، وشِيع، وملل، ونِحَل، وأعراق، وأقوام، وقبائل، وعشائر، ما سبب هذا الاختلاف بين الناس؟ متى يكون الاختلاف طبيعياً؟ ومتى يكون اختلافاً عدوانياً؟ ومتى يكون اختلافاً محموداً؟ الإجابة عن هذه الأسئلة في هذه الآية، وكتمهيد لهذه الآية لابد من التنويه بأن الله جلّ جلاله جبل الناس جِبلةً واحدة، هذه الجِبِلة تعني أن طبعهم وهو أقرب إلى الجسد متناقض مع التكليف، وكلمة تكليف تعني أنه ذو كلفة، شيء يحتاج إلى جهد، طبعاً الدراسة أصعب من عدم الدراسة، وأن تؤسس عملاً أصعب بكثير من أن تبقى بلا عمل، كلمة تكليف تعني شيئاً يحتاج إلى جهد، لحكمة بالغة بالغةٍ أرادها الله عز وجل كان التكليف متناقضاً مع الطبع، والطبع أقرب إلى الجسم، والتكليف متوافق مع الفطرة، والفطرة أقرب إلى النفس، لك جسم، ولك نفس، ومعك تكليف، هذا التكليف يتناقض مع خصائص الجسم.
 

التكليف يتناقض مع الطبع ولذلك كان ثمنه الجنة:


التكليف يأمرك أن تصلي الفجر في وقته، والإنسان في الشتاء غارق في نوم عميق، وعلى فراش وثير، وتحت لحاف دافئ، فهذا التكليف أن تُصلي الفجر في وقته يتناقض مع حاجة الجسم إلى الاستمرار في النوم، والتكليف يأمرك أن تغض البصر عن امرأة حسناء، والطبع يقتضي أن تملأ عينيك من محاسنها، والتكليف يأمرك أن تنفق المال، وقد حُبِّب المال إليك، والطبع يقتضي أن تأخذ المال لا أن تنفقه، أن تجمعه، التكليف يأمرك أن تَكُفّ عن الخوض في قصص الآخرين، وفي فضائحهم، وفي سقطاتهم، أما الطبع فيقتضي أن تستمع، أن تتابع قصص الآخرين، أن تكشف أسرار ما في البيوت، التكليف يتناقض مع الطبع، ولأنه يتناقض مع الطبع هو ثمن الجنة. 

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)﴾

[ سورة النازعات ]

لكن التكليف يتوافق مع الفطرة، أنت حينما تُصلي الفجر في وقته ثم تنام، تستيقظ مرتاحاً إلى أقصى حدود الراحة، لأنك كنت عبداً طائعاً لله عز وجل، تنام بعد صلاة الفجر نوماً هنيئاً، أنت حينما تغض بصرك عن محارم الله وقد مَنَعت نفسك فيما يبدو أن تملأ عينيك من محاسن امرأة لا تَحِلُّ لك، تشعر أن الله يُحِبك، وأنك في ظلّ الله، أنت حينما تُنفق المال الذي أنت في أمس الحاجة إليه تشعر أنك آثرت رضاء الله على حظوظ نفسك فترقى، أنت حينما تضبط لسانك، وتسكت، وتتمنى أن تتكلم، تشعر أن الله يحبك، فشتان بين أن تأخذ لذةً عابرةً منقطعةً تعقِبها كآبة، وبين أن تَسْعد بقرب الله عز وجل لأنك كنت عبداً مطيعاً، إذاً معنا تكليف، ولنا جسم، وفي حنايا هذا الجسم نفس، والنفس متوافقة مع التكليف، والدليل:

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)﴾

[ سورة الروم ]

 

طبيعة النفس متوافقة تماماً مع خصائص ديننا:


كل خصائص النفس متوافقة مع التكليف، أنت حينما تَصدُق، وحينما تكون أميناً، وحينما تعتز بالله، وحينما توحد، وحينما تنصف، وحينما تقف موقفاً عادلاً، وحينما ترحم الآخرين، وحينما تكون أباً كاملاً تشعر بسعادة لا توصف، لأن طبيعة النفس متوافقة تماماً مع خصائص هذا الدين، الذي أنزل هذا الكتاب هو الذي جَبَل هذه النفس، فلذلك يضيع الإنسان، ويشقى، ويتمزق، وينشأ عنده صراعات إلى أن يصل إلى الله، فإذا وصل إليه كان أسعد الناس، إذا وصل إليه سكنت نفسه، واطمأن قلبه، وصَحّت رؤيته، وسدّد الله كلامه، ووفقه في الدنيا وفي الآخرة. 

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾

[ سورة السجدة  ]

﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾

[ سورة القلم  ]

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾

[  سورة القصص ]

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

[ سورة الجاثية ]

 

معنى التكليف:


أيها الإخوة؛ كل هذا تمهيد لفكرة خطيرة، التكليف أن تتعاون، أن تعمل ضمن فريق، التكليف أن يكون المؤمنون يداً واحدة، صفاً واحداً، كجسم إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، هذا التكليف. 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)﴾

[ سورة المائدة  ]

﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)﴾

[ سورة آل عمران ]

هذا التكليف، التكليف أن نتعاون، التكليف أن يتواضع بعضنا لبعض.

﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)﴾

[ سورة الشعراء ]

(( عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمنون تكافأُ دماؤُهم، وهم يدٌ على من سِواهُم ، يسعى بذمَّتِهم أدناهم، لا يُقتلُ مؤمنٌ بكافرٍ, ولا ذو عهدٍ، في عهدِه. ))

[ صحيح النسائي ]

اقرأ الآيات والأحاديث تجد العجب العجاب، التكليف إن في الكتاب أو في السنة يأمرك أن تتعاون مع إخوانك، وأن تُنْكِر ذاتك أمام مصلحة المسلمين، أيعقل أن يأتي كتاب لقائد جيش وهو في ساحة المعركة: ارجع جُندياً، وكلّف فلاناً بالقيادة، فيُقبّل الكتاب، ويُبَلغ هذا القائد الجديد ويرجع جندياً، من يفعل هذا؟ هذه لن تكون إلا في عالم المسلمين، في عالم آخر يستعصي هذا القائد، وينشق، ويُشَكّل خطراً على من عزله، أما المسلمون! 
أذكر قصة من الصعب أن تُصَدق أن بلاد سمرقند حينما فُتِحت، بعد أن فُتحت نُمِيَ إلى أهلها أن فتحها لم يكن شرعياً، فذهب وفد خِلسةً إلى مركز الخلافة في دمشق، والتقوا بسيدنا عمر بن عبد العزيز، وقد نعته المؤرخون بأنه خامس الخلفاء الراشدين، وذكروا له أن بلادهم فتحت على غير ما شرع الله عز وجل، الذي شرعه الله عز وجل أن يُعْرَض على هؤلاء الإسلام، فإن أسلموا لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، وانتهى الأمر، فإن لم يُسلموا يُعرض عليهم دفع الجزية، وهي بمثابة البدل النقدي، فإن أبّوا يُقاتلوا، هم قوتلوا مباشرةً، وفتحت بلادهم، واستولى المسلمون على أرضهم، فعلموا فيما بعد أن فتح بلادهم لم يكن شرعياً أرسلوا وفداً إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، فلما عَلِم الأمر كتب قُصاصة صغيرة إلى قائد المسلمين في سمرقند أن يخرج من سمرقند، وأن يُعِيد فتحها وفق شريعة الله عز وجل، هذا الوفد ما صدَّق أن جيشاً بأكمله ينسحب لقصاصة، والذي كان أنه حينما عُرِض على قائد الجيش هذه القصاصة قبّلَها، وأمر بالانسحاب، عندئذٍ أسلموا، ولم يرضوا أن ينسحب جيش المسلمين.
 

الطبع فردي والتكليف جماعي:


أيها الإخوة؛ موضوع الدرس اليوم دقيق جداً، أنت كمؤمن مكلف أن تتعاون، مكلف أن تعمل ضمن فريق، مكلف أن تكون لبنة في بناء، مكلف أن تكون حجراً في هرم، لا أن تكون شيئاً نافذاً شاذاً منحرفاً، ما يجري بين المسلمين اليوم من خلافات، وقتال، وخصومات، وحرب بقيت عشرين عاماً بين فصائل في بعض البلاد في أقصى الشرق، الحرب فيما بينهم وكلهم يرفعون شعارات واحدة، عشرون عاماً!! هذا الاختلاف بين المسلمين، وهذا القتال بين المسلمين، لأنهم بعيدون جداً عن منهج الله عز وجل، التكليف يأمرهم أن يتعاونوا، التكليف يأمرهم أن يُنكروا ذواتهم، التكليف يأمرهم أن يضع أحدهم خده لأخيه كي يدوسَ عليه، هذا هو التكليف، أما لأنهم تفلتوا من طاعة الله الطبع يقتضي الفردية، هنا الشاهد، الطبع فردي والتكليف جماعي، فأنت تتعاون مع إخوانك المؤمنين بقدر طاعتك لله، وتشاكسهم، وتشذّ عنهم، وتكون عبئاً عليهم، وتُؤَرث بينهم العداوة والبغضاء بقدر بعدك عن الله.
إذاً الحقيقة الأولى: التكليف يأمرك أن تكون اجتماعياً، متعاوناً، مُنكراً لذاتك، والطبع يقتضي أن تكون فردياً، إنسان عدواني، شرير، يريد أن يُحطِم الناس ليبقى وحده، هذا نموذج ما يعانيه المسلمون اليوم، كلما ابتعدوا عن الله عز وجل كانوا فرديين، وآثروا مصالحهم الخاصة على مصلحة المسلمين، وكلما اقتربوا من الله عز وجل، وأخلصوا له تعاونوا، النبي عليه الصلاة والسلام وصف المؤمنين بأنهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، والله عز وجل وصف المؤمنين أنهم كالبنيان المرصوص: 

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)﴾

[ سورة الصف ]

هذا وصف الله عز وجل ووصف النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمؤمنين.
الآن أنواع الاختلاف بين الناس، هذا تمهيد، الطبع فردي التكليف جماعي، الطبع متعلق بمصالح الإنسان المادية والتكليف متعلق بمصالحه النفسية، فالتكليف متوافق مع الفطرة، متناقض مع الطبع، والطبع فردي والتكليف جماعي.
 

الأهواء تُحطِّم والحق يجمع ويوحد:


﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي سيدنا آدم هو والسيدة حواء وأولاده وهو نبي كريم، التوجيه واحد، التغذية واحدة، المنبع واحد هو الوحي، لكن حينما نشأت المصالح والأهواء اختلفوا، ما الذي يجمعنا؟ الحق، ما الذي يُفَرِقنا؟ الهوى، أبداً، قاعدة، الأهواء تُفَرِق والحق يَجْمع، عظمة الحق أنه من الله، أما حينما يأتيك التشريع من إنسان، والتشريع مرتب لمصلحته أنت قد ترفضه، هو إنسان مثلك، شرع ومنعك، أما حينما يأتيك التشريع من خالق الأكوان ترضاه، فالناس لا ينصاعون إلا لتشريع سماوي، أما التشريع الأرضي فهو في الأعم الأغلب هو لمصلحة من وضع هذا التشريع دائماً وأبداً، الذي يُشَرّع تأتي المواد كلها لمصلحته، وقد تُغْفل مصالح الآخرين، ولذلك ما دام التشريع أرضياً هناك حروب، وهناك خصومات، وهناك مذابح لا تنتهي إلى يوم القيامة، مادام التشريع أرضياً، أما إذا كان التشريع علوياً من عند الله عز وجل  انتهى الأمر، هذا كلام ربنا، حينما ينتفع المُشرع بما شرع تنشأ خصومات لا تنتهي، إذا كان المشرِّع من بني البشر، حينما ينتفع بما شرّع صار هناك خصوم، صار هناك طرف آخر يرفض هذا التشريع، أما حينما يأتي التشريع من عند خالق الأرض والسماء ينصاع الناس: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ سيدنا آدم وزوجته وأولاده كانوا على منهج واحد، وعلى وحي واحد، وعلى توجيه واحد، فاتفقوا وتعاونوا، تفرَّقوا عندما دخل الهوى، والآن أحياناً يجتمع أناس على عمل طيب، هذا العمل درّ عليهم أرباحاً طائلة يختلفون، صار هناك مال، صار هناك مكاسب مادية، صار الإنسان يريد أن يأخذ أكبر حصة له ويتجاهل حقّ أخيه فتنشأ الخلافات، وكم من شركة انهارت؟! وكم من مشروع رائع تحطّم بسبب الأهواء؟! فالأهواء تُحطم، والحق يُجمع ويُوحد، وهذه قاعدة أساسية.
 

المبادئ متكاملة أما المصالح فمتناقضة:


الحق يجمع والأهواء تفرق، المبادئ تجمع والمصالح تُفرّق، المبادئ متكاملة أما المصالح فمتناقضة: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ عندما اختلفوا، ودخلت الأهواء، صار الأنبياء يأتون تباعاً، كلما جاء نبي وضّح منهج الله عز وجل، وأمر الناس بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وحكّم الشرع الذي هو من عند الله محل الأهواء التي هي من عند البشر: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ﴾ لمن أطاعهم ﴿وَمُنذِرِينَ﴾ لمن عصاهم ﴿وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ﴾ منهج، أي أنت آلة بالغة التعقيد، لك صانع حكيم، ولهذا الصانع الحكيم تعليمات التشغيل والصيانة، فهذه الآلة لا تَسلم ولا تُؤْتي مردوداً عالياً إلا باتباع تعليمات الصانع، فربنا عز وجل كلما رأى عباده مزّقتهم الأهواء، وانحازوا إلى مصالحهم، وأثمر هذا عداءً، وقتالاً، وخصومات، وعداوات، أرسل نبيّاً آخر مع منهج قويم، أمرهم ونهاهم، وبّشرهم وحذّرهم، وأعطاهم كتاباً افعل ولا تفعل، ﴿وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ﴾ إذا جاءت كلمة الكتاب في القرآن معرفة بـــ ال أي مطلق منهج الله عز وجل، مُطْلق المنهج، ﴿بالحق﴾ هذا الكتاب بالحق، من عند الحق، من عند العدل، من عند الرحيم، من عند الحكيم، كتاب بالحق أي لابَسَ نزوله الحق، الحق لابسه أي هو من عند الحق، والحق في كل دقائقه وجزئياته.
 

ربنا عز وجل غني عن أن ينتفع بالتشريع:


﴿ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه﴾ اختلفوا الناس، اختلفوا باختلاف أهوائهم، واختلفوا باختلاف مصالحهم، فإذا جاء التشريع من عند خالق البشر ممن لا ينتفع بتشريعه، عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ:

(( عن أبي ذر الغفاري عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. وفي روايةٍ: إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا. ))

[  صحيح مسلم ]

فربنا عز وجل غنيّ عن أن ينتفع بالتشريع، لكن الإنسان إذا شرّع مفتقر إلى أن ينتفع بالتشريع، فإذا انتفع بالتشريع كان له خصوم يرفضون هذا التشريع، وإذا دققت وعمقت تجد أن ما هم عليه البشر في الأرض كلّ خلافاتهم اختلاف مصالح، وأهواء، وثروات، يقول لك: حروب، الحروب عند المسلمين حروب دعوة، حروب نشر حق، حروب ريادة أمم، أما الحروب الآن فهي ساعة حروب نفط، ثم حروب ماء، ثم حروب قمح، حروب مناطق نفوذ، الحروب كلها من أجل المصالح والثروات والمكتسبات، حروب أحياناً من أجل الإذلال والتدمير والإهلاك، فاختلفوا، ﴿كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه﴾ العدل يسَع الجميع. 
 

العدل يسع الجميع:


قاضٍ في العهد العباسي فيما أذكر طُرِق بابه، فسأل خادمه: مَن بالباب؟ فإذا بطبق من التمر، أو من الرطب في بواكيره، وكان هذا القاضي عُرِف بأنه يحب هذا الرطب في بواكيره، أي أكلٌ نفيس جداً، فاكهة غالية بمستوى عالٍ جداً في أولها، فسأل خادمه من قدم هذا الطبق يا بني؟ قال: رجل بالباب، قال: صفه لي؟ قال: صفته كيت وكيت، فعَلِم أنه أحد الخصوم، أحد المُتَدَاعيين، فردّ الطبق، وبعد أيام طلب مقابلة الخليفة، وطلب منه أن يُعفيه من منصب القضاء، قال: ولمَ؟ قال: والله جاءني غلامي قبل أيام بطبق من الرُّطب في بواكيره، وعلمت أنه من أحد المتخَاصِمين، وفي اليوم التالي تمنيت أن يكون الحق مع الذي قدّم هذا الطبق، مع أني لم أقبله فكيف لو قبلته؟ هذا العدل، فالعدل يَسَع الجميع: ﴿ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه﴾ إذا كان التشريع إلهياً انصاع كل الناس له.
بالمناسبة لو أن واحداً يدّعي أنه مسلم وجئته بحكم شرعي قرآني، وتلكأت نفسه في قبوله فليس مؤمناً، لأن الله عز وجل يقول:

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)﴾

[ سورة الأحزاب ]

مستحيل، أنت عبد والذي جاء بهذا الكتاب نبيّ كريم، وهذا الكتاب من عند خالق عظيم، فإذا وضعت أحكام الكتاب على بساط البحث والمناقشة فلست مؤمناً: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ .

﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)﴾

[ سورة النساء ]

 

أنواع الاختلاف:


لماذا يجتمع المسلمون؟ لأن إلههم واحد، وكتابهم واحد، ونبيهم واحد، ولأن التشريع الذي ينصاعون له ليس من عندهم، من عند خالقهم، وهذا أحد أسباب وحدتهم، وحينما يدعون هذا التشريع تركهم لهذا التشريع أحد أسباب فرقتهم. 
أحد الأصدقاء كلما ذهب إلى بلد غربي يطعنون بواقع المسلمين، وتخلفهم، وفقرهم، وخصوماتهم، وحروبهم الداخلية، قال لي: ضقت ذرعاً أينما أذهب هم هؤلاء لا يرون الإسلام من خلال الكتاب والسنة، من خلال واقع المسلمين، قال لي: فصار عندي قناعة أن أقول لهم: انظروا إلى واقعنا المتخلف، انظروا إلى فقرنا، انظروا إلى الخصومات فيما بيننا، هذا كله بسبب تركنا لمنهج ربنا، صار حجة معاكسة، والدليل على أن منهجنا صحيح نحن حينما تركناه انظروا ماذا حلّ بنا؟!  

1 ـ اختلاف نقص المعلومات وهو طبيعي لا يُمدح ولا يذم:

الخلاف الأول اختلاف نقص المعلومات طبيعي، في آية أخرى: 

﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)﴾

[ سورة يونس ]

خلاف نقص معلومات، طبيعي، لو فرضنا نحن في يوم التاسع والعشرين من رمضان وسمعنا صوت مدفع، يا ترى مدفع الإثبات أم هناك عقدة في الجبل صخرة تُفَجّر من أجل شقّ طريق؟ صار هناك اختلاف، لماذا اختلفنا؟ لنقص المعلومات، فإذا استمعنا إلى أنه قد ثبت أن غداً أول أيام عيد الفطر انتهى الاختلاف، توضحت المعلومات، هناك اختلاف طبيعي جداً لا يُمدح ولا يُذم، اختلاف نقص معلومات. 

2 ـ اختلاف عدوان وبغي وأهواء ومصالح:

أما إذا جاء الحق هنا يوجد المشكلة: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ البينات جاءت. 
المسلمون الآن لا تبتعدوا كثيراً؛ المسلمون معهم كتاب واحد من المشرق إلى المغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، كتاب واحد، ومعهم سنة واحدة، ومعهم نبي واحد، ومع ذلك مختلفون، ملل ونحل، وطوائف ومذاهب، ونزعات واتجاهات، إلى درجة أنك تحار ما هذه الفرقة مع أن عوامل الوحدة بين أيدينا؟ لماذا يتعاون أعداؤنا وبينهم قواسم مشتركة لا تزيد عن خمسة بالمئة ولماذا نحن نتقاتل وبيننا قواسم مشتركة تزيد عن خمسة وتسعين بالمئة؟ اختلاف أهواء، واختلاف مصالح: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ البغي هو العدوان، أنا حينما أريد أن آخذ ما ليس لي أعتدي، وحينما أريد العدوان أبحث في النصوص عن شيء يغطي عدواني، أنا حينما أريد أن آخذ ما ليس لي أنا معتدٍ، ولأن الإنسان مُفلسف بالأساس، فيبحث عن تبرير لعدوانه، يختلق أنواع التبريرات، فالاختلاف الأول اختلاف حيادي، لا يُمدح ولا يُذم، اختلاف نقص المعلومات، الاختلاف الثاني اختلاف عدوان، اختلاف بغي، اختلاف أهواء، اختلاف مصالح، لذلك تجد أكثر الأديان على أنها في النصوص واحدة اختلفت، وتشعبت، وتشرذمت، وتمزقت، ونشأت بينها العداوة والبغضاء، ثم الخصومات، ثم القتال، ثم سالت الدماء بينهم: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ بغياً أي عدواناً، بغى عليه أي اعتدى عليه: ﴿بغياً بينهم﴾ لذلك استعيذوا بالله من اختلاف العدوان، واشكروا الله على اختلاف التنافس، وسيأتي بعد قليل اختلاف راقٍ جداً، أنا قد أختلف معك، وكلانا يحبه الله عز وجل، قد أختلف معك لضعف المعلومات، هذا اختلاف طبيعي، وقد أختلف معك بسبب عدواني، وهذا اختلاف قذر، اختلاف يُبغضه الله عز وجل، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ احملوا هموم المسلمين، وتعاونوا. 

3 ـ اختلاف التنافس:

القسم الثالث: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾ إنسان وجد أن الدعوة إلى الله عز وجل هي أعظم الأعمال، إنسان آخر وجد أن تأليف الكتب أطول أمداً، الدعوة الشفهية أعمق أثراً لكنها قصيرة تنتهي بموت الداعي، أما تأليف الكتاب فقد يكون الكتاب أضعف تأثيراً لكنه أطول أمداً، إنسان آخر يتجه إلى بناء المساجد، إنسان رابع أسّس المياتم، إنسان خامس أسّس جمعية خيرية، إنسان سادس أصدر كتباً إسلاميةً، كل إنسان اجتهد أن يُرضي الله بطريق فتنافسوا، هذا شيء مقبول، مقبول منهم جميعاً، ما قيمة الدعاة من دون مسجد؟ فهذا الذي بنى المسجد، وهيّأ راحة المصلين فيه، المسجد دافئ في الشتاء بارد في الصيف، مفروش فرشاً نظيفاً، فيه مرافق عامة جيدة، هذا الذي عَمِل بيديه وبجهده وخبرته، واستخدم علمه في الهندسة ليوفر للمصلين مكاناً مريحاً، هذا وصل إلى الله من خلال هندسته، والذي طلب العلم من وقت مبكر، وتعلّم، ودرّس في هذا المسجد هذا وصل إلى الله من طريق التعليم، وهذا أمَّ الناس في الصلاة، وهذا ألَّف كتاباً صار مرجعاً، أنا لا أنسى مرة عدت إلى آية في بعض التفاسير، وجعلتها محور خطبتي، ولاقت عند الناس قبولاً طيباً جداً، وأنا اعتمدت في خطبتي على تفسير قديم، انتبهت إلى أن هذا المفسر مات قبل ألف عام، ولكن خيره مستمر، هو ماذا فعل؟ ترك تفسيراً رائعاً، ثم توفاه الله عز وجل، كل من قرأ هذا التفسير، واستفاد منه، ونقل ما فيه للناس، في صفيحة المُفسر الذي ألّف هذا الكتاب، قد تجد كتاباً في الحديث الشريف متداولاً بين المسلمين تداولاً عجيباً، ما من مسجد، ما من بيت، ما من معهد إلا وفيه هذا الكتاب، الذي ألّفه له نوايا عالية جداً، فالله عز وجل جعل هذا الكتاب متداولاً بين كل المسلمين، فإنسان يرى التأليف، إنسان يرى الدعوة، إنسان يرى الرد على الخصوم، إنسان يرى خدمة الآخرين، إطعام الطعام، العناية بالأيتام، بالأرامل، هذا كله مقبول. 
الآن بالعلم هذا يرى أن علم العقيدة هو كل شيء، علم التوحيد أصل الدين، جيد، يأتي إنسان يرى التفسير، أهم شيء أن تُفَسِر هذا القرآن، يأتي إنسان آخر في علم الحديث، يتعمق إما بالمتن أو بالمصطلح، يقول لك: السنة فيها تبيان كتاب الله عز وجل، إنسان يُؤَرخ لهذا التاريخ المجيد، ويُنقّي هذا التاريخ مما دخل فيه، مما ليس منه، إنسان عظيم، إنسان يجدد هذا الدين، قد نختلف اختلاف تنافس، قد نختلف اختلاف نقص معلومات، معذورون، قد نختلف اختلاف -لا سمح الله-عدوان وبغي، اختلاف مصالح وأهواء، نحن ساقطون من عين الله عز وجل، وقد نختلف اختلاف تنافس، فاختلاف التنافس يحبه الله، في النهاية كلنا متكاملون، كل واحد منا يُكمّل أخاه، لذلك قال علماء التوحيد: أمة النبي عليه الصلاة والسلام معصومة بمجموعها، بينما شخص النبي معصوم بمفرده.
 

في اختلاف التنافس نتكامل جميعاً وهذا هو المنطق:


﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾ أي وأنت في دائرة الحق هناك خلافات، هذا خلاف تنافس مقبول. 
الفقيه نحن بحاجة ماسة إليه، فقيه متشدد، متعمق، يأتي بكل الوسائل، ويمحّصها، نحن في أمس الحاجة إليه، وهو على العين والرأس، يأتي مفسر نحن في أمس الحاجة إليه، يأتي المُحدّث نحن في أمس الحاجة إليه وعلى العين والرأس، يأتي الموحّد صاحب علم التوحيد نحن في أمس الحاجة إليه وعلى العين والرأس، يأتي المؤرخ ونحن في أمس الحاجة إليه، يأتي اللغوي، لولا فهمنا لهذه اللغة، ومعرفة دقائقها وقواعدها ما فهمنا كتاب الله عز وجل، فهذا اشتغل باللغة، وهذا اشتغل بالتاريخ، وهذا اشتغل بعلم التوحيد، إنسان اشتغل بالتجويد ونحن في أمس الحاجة إليه وعلى العين والرأس، إنسان اشتغل بالمواريث نحن في أمس الحاجة إليه، نختلف اختلاف تنافس، أما في النهاية فكلنا يُكمِّل بعضنا بعضاً، نتكامل جميعاً، وهذا هو المنطق، وهذا هو الشيء الذي ينبغي أن يكون؛ ينبغي ألا نتنافس، ينبغي أن نتعاون، ينبغي أن نتكامل: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ . 

الامتحان الصعب الذي يُفرز فيه المؤمنون هو امتحان الشدة:


الآية التي تليها: 

﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)﴾

[ سورة البقرة ]

هذه حقيقة أخرى أيها الإخوة، هناك عبادتان؛ عبادة أن تعبده في الرخاء، وهذه عبادة مقبولة، وترقى بك، ولكن لابد من عبادة أخرى؛ أن تعبده وأنت في الشِّدة، إن لم تنجح في هذه العبادة فهناك مشكلة كبيرة، الإنسان بالرخاء يشكر، شيء طبيعي، وأضعف الناس إيماناً يشكر في الرخاء، أما المكان الذي يتفاوت فيه المؤمنون، الامتحان الصعب الذي يُفْرَز فيه المؤمنون هو امتحان الشدة، ولا ينجو من هذا الامتحان أحد، والدليل هذه الآية: ﴿أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا﴾ مثلاً الصحابة الكرام ومعهم سيد الأنام عليه الصلاة والسلام في الخندق:

﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)﴾

[ سورة الأحزاب ]

أيعدنا صاحبكم -لم يعد يقول: رسول الله، أحدهم-أن تُفتح علينا بلاد قيصر وكسرى، وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته؟ كأنه لم يؤمن برسالة رسول الله: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ :

﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)﴾

[ سورة الأحزاب ]

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)﴾

[ سورة الأحزاب ]

 

مصائب التأديب مهمتها نقل الإنسان من المعصية إلى الطاعة:


هذه سنة الله في خلقه، أنا لست متشائماً ولكن الحقيقة المُرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح، وطن نفسك إذا كنت في الرخاء فلابد من امتحان في الشدة، الشدة لا تدوم، تنقضي سريعاً، المحنة إن صبرت عليها، وقِبلتها من الله، ورضيت عن الله بها، انقلبت إلى مِنحة، والشِّدَّة إن صبرت عليها، وقبِلتَها من الله، ورضيتَ عن الله بها انقلبت إلى شَدَّة إليه، كانت شِدَّة فأصبحت شَدَّة، وكانت مِحْنَة فأصبحت مِنْحَة، ولم ينجُ النبي عليه الصلاة والسلام من الابتلاء:

(( سئل النبي صلى الله عليه و آله و سلم: سعد بن أبي و قاص أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. ))

[ صحيح الترمذي ]

أيعقل أن يخرج إلى الطائف مشياً على قدميه ثمانين كيلو متراً؟ أنت حاول أن تمشي إلى النبك مشياً مع الخوف، والملاحقة، والتكذيب، والإخراج، وتصل بعد لأيٍ إلى هذه المدينة، فإذا أهلها يكذبونك، ويستهزؤون بك، ويُغرون سفهاءهم أن يؤذوك، فتلجأ إلى حائط تقول: يا رب إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ولك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي، سيد الخلق، سيد الخلق وحبيب الحق، أما حينما جاءه جبريل، وقال: أمرني ربي أن أكون طوع إرادتك، لو شئت لأطبقت عليهم الجبلين:

(( عن عائشة رضي الله عنها أنَّها سألَتِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هل أتَى عليكَ يومٌ كانَ أشدَّ مِن يومِ أحدٍ؟ فقالَ: لقد لقيتُ مِن قومِكِ، وَكانَ أشدَّ ما لقيتُ منهُم يومَ العقبةِ إذ عرضتُ نفسي على ابنِ عبدِ ياليلَ بنِ عبدِ كلالٍ، فلَم يجبْني إلى ما أردتُ، فانطلقتُ وأَنا مَهْمومٌ علَى وجهي، فلَم أستفِقْ إلَّا وأَنا بقرنِ الثَّعالبِ، فرفعتُ رأسي، فإذا بسحابةٍ قد أظلَّتني، فنظرتُ فإذا فيها جبريلُ عليهِ السَّلامُ، فَناداني فقالَ: يا محمَّد، إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ، قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ، وما ردُّوا عليكَ، وقد بعثَ اللَّهُ ملَكَ الجبالِ لتأمرَهُ بما شئتَ فيهِم قالَ: فَناداني ملَكُ الجبالِ: فسلَّمَ عليَّ، ثمَّ قالَ: يا محمَّدُ إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ، وأَنا ملَكُ الجبالِ، وقد بعثَني ربُّكَ إليكَ لتأمرَني أمرَكَ، وبما شئتَ، إن شئتَ أن أُطْبِقَ عليهِمُ الأخشبَينِ فعلتُ، فقالَ لَهُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ : بل أرجو أن يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصلابِهِم مَن يعبدُ اللَّهَ ، لا يشرِكُ بِهِ شيئًا. ))

[  المحدث : ابن خزيمة المصدر: التوحيد لابن خزيمة، خلاصة حكم المحدث : أشار في المقدمة أنه صح وثبت بالإسناد الثابت الصحيح ]

لو أنه من الأشخاص العاديين، إذا شخص أُتيح له أن ينتقم من خصمه، يقول لك: والله أتمنى أن أقطعه إرْباً إرْباً، لو قال: بلى، أطبق عليهم الجبلين لم يعد رسول الله: ((بل أرجو أن يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصلابِهِم مَن يعبدُ اللَّهَ ، لا يشرِكُ بِهِ شيئًا))
اللهم اهدِ قومي إنهم لا يعلمون، لم يتخلَّ عن قومه، ودعا لهم، واعتذر عنهم، ورجا أن تكون ذريتهم صالحة، هذه هي النبوة، فلذلك: ﴿أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم﴾ هكذا الجنة؟ صحة، دخل كبير، بيت جميل، أولاد أبرار، زوجة جميلة، بنات أطهار، مركبة فخمة، كل يوم نزهة، وكل يوم دعوة، ثم على الجنة رأساً، لا تصدقن هذا الكلام، هذا كلام مضحك، لابد من شدَّة، يُبتلى الإنسان بماله أحياناً يفقد ماله، يُبتلى بصحته، يُبتلى بأهله، يُبتلى بأولاده، يُبتلى بخصمه، يُبتلى بعمله، سُئِل الشافعي رحمه الله تعالى: أندعو الله بالابتلاء أم بالتمكين، قال: لن تُمكّن قبل أن تُبتلى، أنا متفائل جداً، حياة المؤمن لابد لها من مرحلة تأديب إذا كان هناك معاصٍ، مرحلة ابتلاء إذا كان هناك استقامة، ثم مرحلة التكريم، وفي الأعم الأغلب تستقر حياة المؤمن المستقيم على التكريم، لكن لابد من مرحلة ابتلاء، تأديب إذا كان هناك معصية، الآن هناك استقامة، هو أين هو؟ دقق؛ وقف إنسان على شاطئ بحر، قد تأتيه موجة عاتية فتأخذه إلى البحر، إنسان يقف بعد مئة متر، هذا بعد مئتين، هذا في قمة الجبل، كيف يُمتحن هؤلاء؟ بموجة عاتية، فالذي في قمة الجبل لا يتأثر، في الأعماق، فمصائب التأديب من أجل أن ينقلك ربُّنا عز وجل من المعصية إلى الطاعة.
 

الله عز وجل عزيز لا يعطيك ما عنده إلا بجهد جهيد:


دخلنا الآن في الطاعة، مصائب الابتلاء من أجل أن ينقلك من الحد الأدنى إلى الحد الأقصى، من الساحل إلى قمة الجبل، فهذا الابتلاء لابد منه، الأنبياء ابتلوا، الصحابة ابتلوا، الصّدّيقون ابتلوا، المؤمنون ابتلوا، أبداً لا يمكن أن ينجو أحد، فأنت وطِّنْ نفسَك أنه ليس كل شيء في الحياة سهلاً، هناك ساعة شدة، أحياناً هناك خوف، همّ، حزن، قلق، شبح مرض، ابن له مشكلة، ابن مريض، زوجة متعبة، هذا كله ابتلاء، لذلك قال: يا بنيتي ما بك؟ قالت: حمى لعنها الله، قال: لا تلعنيها، فو الذي نفس محمد بيده لا تدع المؤمن وعليه من ذنب. 
ما من عثرة ، ولا اختلاج عرق ، ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم ، وما يعفو الله أكثر.
وعزتي وجلالي لا أقبض عبدي المؤمن وأنا أحبّ أن أرحمه ، إلا ابتليته بكل سيئة كان عملها سقماً في جسده، أو إقتاراً في رزقه، أو مصيبة في ماله أو ولده، حتى أبلغ منه مثل الذر، فإذا بقي عليه شيء شدّدت عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدته أمه.
﴿أم حسبتم﴾ مكن طالب أنْ يقدِّم استدعاءً معروض لرئاسة الجامعة: (يُرجى منحي دكتوراه –هو معه بكالوريا- في أسرع وقت ممكن، وشكراً لكم، التوقيع فلان) هذا يحتاج إلى مشفى المجانين، الدكتوراه تحتاج لسانس، دبلوم عام، دبلوم خاص، ماجستير، دراسة، دوام، تلخيص، أطروحات، اجتياز امتحان شفهي، وامتحان خطي، وامتحان عملي، ثم دبلوم، وماجستير، وتأليف كتاب، ومناقشة كتاب، ثم دكتوراه، ثم يضع بجانب اسمه دال فقط، كان من دون دال فصار بدال فقط، هذه هي، شهادة تحتاج كل هذا الجهد، وجنة عرضها السماوات والأرض هكذا بكلمة! 

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾

[  سورة العنكبوت  ]

بهذه البساطة؟ تطلب جنة عرضها السماوات والأرض، تطلب الأبد، سعادة الأبد بلا ثمن؟ بلا إنفاق؟ بلا جهد؟ بلا غض بصر؟ بلا ضبط لسان؟ بلا إنفاق؟ بلا شيء؟ طلب الجنة من غير عمل ذنب من الذنوب، استهزاء بالجنة، ادخل محل سجاد درجة أولى، تجد عندهم خمسين سجادة بعضها فوق بعض، لا، أريد نوعاً أرقى، قام وأحضر نوعاً أجود، هذه أجود، لا، أريد أفضل، شغله ثلاث ساعات، وأخيراً أحضر له سجادة من الدرجة الأولى ثمنها ثمانمئة ألف، تأخذ ثمنها بخمس ليرات؟ يخرج من المحل سالماً؟ سجادة تريد أن يكون ثمنها خمس ليرات! جنة بليرتين لفقير، وركعتين بلا وضوء، ودخلنا الجنة بهذه البساطة؟! جنة الله تأتي بهذه البساطة!! هؤلاء الذين سهروا الليالي، وأنفقوا أموالهم، وقدّموا خدمات للحق، ووظّفوا كل ما آتاهم الله في سبيل الله، هؤلاء يستحقون الجنة، الله عزيز، ليست القضية سهلة، الله عز وجل عزيز، لا يعطيك ما عنده إلا بجهد جهيد، وبصدق حديد: ﴿أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم﴾ .
 

مواقف بطولية للصحابة الكرام:


سيد الخلق ماذا قال؟ قال: 

(( عَنْ أَنَسٍ: لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ. ))

[ صحيح الترمذي ]

نحن ماذا قدمنا؟ والله ما قدمنا شيئاً، واللهِ أمام ما فعله الصحابة الكرام واللهِ ما فعلنا شيئاً، نحن الإسلام حَمَلَنا، أما هم فحمَلُوا الإسلام، إذا صار المسلمُ ملتزِماً بالدين فالناس كلهم يعظِّمونه، يحترمونه، وسيدي، ويعزمونه، ماذا قدَّم؟ ما قدمت شيئاً أمام الذين هاجروا، أنفق أحدهم كل ماله سيدنا الصديق، الثاني خسر كل ماله، قال له: ربحت التجارة أبا يحيى، نحن ما فعلنا شيئاً، تروي الروايات أن سيدنا عبد الله بن رواحة عيّنه النبي قائداً ثالثاً في بعض الغزوات، أول قائد سيدنا زيد، أمسك اللواء بيده –الراية-قاتل لها حتى قُتِل، أخذ الراية أخوه سيدنا جعفر قاتل بها حتى قُتِل، جاء دور الثالث، الموت سريعاً فيهم، ربع ساعة كان منتهياً، فقام وتردد، هكذا تروى الروايات، وهو كان شاعراً، فقال:

يا نفس إلا تقتلي تموتـي                هذا حِمام الموت قد صليتِ 

إن تفعلي فعلهما رضيتِ               وإن تــوليتِ فقــــد شــقيتِ 

[ عبد الله بن رواحة ]

* * *

 وأخذ الراية فقاتل بها حتى قُتِل، بلغ ذلك النبيَّ عليه الصلاة والسلام قال: أما زيد فأخذ الراية وقاتل بها حتى قُتل وإني لأرى مقامه في الجنة –مباشرة-ثم أخذ الراية أخوكم جعفر فقاتل بها حتى قُتِل وإني لأرى مقامه في الجنة، يطير بجناحين، لأنه أمسك الراية باليد اليمنى فضُرِبت اليمنى، أمسكها باليسرى ضربت اليسرى، أمسكها بعضديه فسماه النبي: جعفر الطيار، إني أراه يطير في الجنة بجناحين، أنشؤوا الآن فيما أعتقد في المطار مسجداً سموه: مسجد جعفر الطيار، أنسب اسم طبعاً، لأنه في المطار سمِّي جعفر الطيار، سكت النبي عليه الصلاة والسلام، فقلِق الصحابة على الثالث قالوا: ما فعل عبد الله؟ قال: ثم أخذ الراية أخوكم عبد الله فقاتل بها حتى قُتل، وإني لأرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه، لأنه تردد ثلاثين ثانية في بذل دمه، هناك أناس يترددون في الطاعة، في أداء الصلاة، يترددون في صيام رمضان، في تحجيب زوجتهم يترددون، في الأشياء الواضحة يترددون، فهذا الذي تردد في بذل دمه ثلاثين ثانية كان مقامه أقل من صاحبيه.
 أيها الإخوة الكرام: أنتم تطلبون الجنة، تطلبون جنة عرضها السماوات والأرض تطلبون سعادة الأبد، لابد من جهد جهيد: ﴿أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا﴾ كان سيدنا عمر إذا أصابته مصيبة قال: الحمد لله ثلاثاً، الحمد لله إذ لم تكن في ديني، والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها، والحمد لله إذ أُلهمِت الصبر عليها، لشدة الابتلاء: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ يا رب؟ والله أحياناً الإنسان يا رب هنا حرب ضد المسلمين، ثلاثمئة أربعمئة ألف في العراء، بالبرد الشديد، هنا أيضاً حرب ضد المسلمين يا رب: ﴿متى نصر الله﴾ قال: ﴿ألا إن نصر الله قريب﴾ .
نرجو الله سبحانه وتعالى أن يرينا أياماً بيضاء.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور