الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الإسلام منهج كامل في كلّ مناحي الحياة:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الواحد والسبعين من دروس سورة البقرة، ومع الآية التاسعة بعد المئتين، وهي قوله تعالى:
﴿ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)﴾
والتي قبلها.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)﴾
ذكرت لكم في الدرس الماضي أن الدخول ﴿في السِّلمِ﴾ أي الدخول في الإسلام، لأن الإسلام وحي الله إلى الأرض، وهو منهج الله عز وجل، فلو طبقناه لكنا في سلام، في سلام مع أنفسنا، ومع أهلنا، ومع أولادنا، ومع من حولنا، ومع من فوقنا، ومع من دوننا، وفي دنيانا وفي آخرتنا، تطبيق منهج الله يعني السلامة، فقد سمّى الله الإسلام سلماً لأن الإنسان فُطِر على معرفة الله وطاعته، فإذا عرف طاعته استقرت نفسه، واطمأن قلبه، وارتاحت جوارحه، وسَعِد في الدنيا والآخرة، أما كلمة ﴿كافةً﴾ فالإسلام منهج كامل، لا تقطف ثماره إلا إذا أخذته كله، أما أن تنتقي منه ما يعجبك، وتدع ما لا تقدر عليه فهذا ليس من الإسلام في شيء، وقد لا تأخذ ثماره إطلاقاً.
الإسلام منهج كامل، كامل في كل مناحي الحياة، والذين فهموا الإسلام عبادات شعائرية انحرفوا انحرافاً خطيراً في فهم الدين، الإسلام هو الحياة، الإسلام هو الفطرة، الإسلام هو العقل، الإسلام هو الواقع، الإسلام هو الحاضر، الإسلام هو المستقبل، الإسلام هو النفس، الإسلام هو الجسد، الإسلام هو الروح، الإسلام منهج كامل يَنْظُم علاقتك بمن حولك، وينظم علاقتك بربك جلّ جلاله، فأنت في سلم وسلام، لذلك في قلب المؤمن من السعادة والطمأنينة ما لو وزعت على أهل بلدٍ لكفتهم، وهذا الملِك الذي كان ملكاً ثم ترك الملك وصار عارفاً بالله اسمه إبراهيم بن الأدهم، هذا قال: لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسيوف.
ثمار الإسلام لا تقطف إلا في مجتمع مسلم:
إذاً: ادخلوا جميعاً في السِّلم من أجل أن تقطفوا ثمار هذا الدين، تصور أن مسجداً متواضعاً فيه أناس طيبون، صادقون، أمناء، مخلصون، متقنون، أن تعيش مع هؤلاء كأنك في جنة، لا يوجد مشكلة، تنام مطمئناً، مرتاح البال، لا أحد يكذب عليك، لا أحد يطعنك من الظهر، لا أحد يحتال عليك، لا أحد ينافق لك، إذا عشت في مجتمع مؤمن فأنت في جنة، فلا تُقطف ثمار هذا الدين إلا إذا دخلنا جميعاً في هذا الإسلام، أما إنسان صادق بين الكاذبين، ينتفعون بصدقه، ويؤذيه كذِبهم، إنسان أمين بين الخونة، ينتفعون بأمانته، ويؤذيه خيانتهم، إنسان عفيف بين المنحرفين، أي لا تقطف ثمار الإسلام إلا في مجتمع مسلم، وهذا معنى قوله تعالى:
﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)﴾
غض البصر؛ لو أنك في مجتمع ملتزم، كامل، نساؤه كلهن محجبات، ترى أنك مرتاح، الطالب في دراسته، والعامل في معمله، والتاجر في متجره، أما حينما تَعْرِض المرأة كل مفاتنها في الطريق على من يعرفها، ومن لا يعرفها، ومن تحل له، ومن لا تحل له، الحياة تفسد. فإذاً المعنى الدقيق في هذه الآية، وأنا أود أن أُرِكز عليه، نحن مكلفون أن نُطَبق الإسلام شئنا أم أبينا هذا تكليف الله عز وجل، ولكن لا نستطيع أن نقطف ثماره اليانعة إلا إذا طبقناه جميعاً، كلنا صادقون، كلنا أمناء، كلنا أعفة، كلنا متقنون، كلنا جادون، كلنا أصحاب همة عالية، عندئذٍ يكون هذا الإسلام المُطبق أبلغَ من كل قولٍ يقوله الدعاة، وأُذَكّركم بمقالة مهمة؛ هي أن العالم الغربي الذي نحرص على هدايته لا يمكن أن يهتدي بالكلام، ولا بالمؤلفات، ولا بالأشرطة، ولا بالمحاضرات، ولا بالمؤتمرات، هذا العالم لا يُقيِّم الإسلام تقييماً صحيحاً إلا إذا رأى مجتمعاً مسلماً حقاً فيه كل ثمار هذا الدين، أما إذا رأى فكراً، أو كلاماً، أو خطابةً، أو كتاباً، أو شيئاً لا يتصل بالواقع، فالإسلام يبقى محاصراً، ويبقى ضعيفاً، والذي أتمنى أن يكون واضحاً لديكم، العبرة ألّا ينفرد الباطل بالساحة، ولو في حيز صغير للمؤمنين في ساحة الحياة الدنيا، تدخل إلى مسجد فكلهم يصدقون، كلهم لا يخون، كلهم لا يحتال، كلهم لا يُنَافق، إنّ مسجداً صغيراً طُبِّق فيه الدين خيرٌ من ألف محاضرة تلقى على الناس، لأن الناس يتعلمون بعيونهم، ولا يتعلمون بآذانهم، ولغة العمل أبلغ من لغة القول، فأنت حينما تُطَبِق الدين تكون أكبر داعية وأنت صامت، وهذا معنى قول النبي الكريم:
(( عَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " أَقِيمُوا الصَلَاةَ، وَآتُوا الزَّكَاةَ، وَحُجُّوا ، واعْتَمِرُوا، واسْتَقِيمُوا يُسْتَقَمْ بِكُمْ. ))
على كلّ واحد منا أن يكون داعية إلى الله وهذا فرض عين:
الذي أقرؤه من حين إلى آخر عن أناس عظماء دخلوا في الدين لا لأنهم قرؤوا كتاباً فأقنعهم، أبداً، ولا لأنهم استمعوا إلى محاضرة فتأثروا بها، دخلوا في الدين لأنهم رأوا مسلماً أمامهم يتمثل كل قيم الإسلام، رأوا مسلماً صادقاً، رأوا مسلماً أميناً، رأوا مسلماً واضحاً صريحاً، فأنت حينما تُطبق تعاليم الدين تصبح أكبر داعية وأنت ساكت، غضُّ البصر دعوة إلى الله.
كنا في الحج فرأينا رجلاً من ألمانيا يطوف حول الكعبة، سألنا عنه، قال: هذا سبب إسلامه طالب من سورية، سكن عنده في البيت، وعنده فتاة جميلة، تمنى صاحب البيت أن يضبط هذا الشاب ينظر إلى ابنته، أبداً، غضّ بصره الحازم جعل هذا الإنسان صاحب البيت يتساءل: ما هذا الدين الذي يعتنقه؟ ما هذه الإرادة القوية الحديدية التي يملكها؟ كيف انتصر على نفسه وعلى شهوته؟
أيها الإخوة؛ أقول لكم مرات ومرات ((استقيموا يُستقم بكم)) ينبغي أن يكون كل واحد منكم داعية إلى الله، أبداً وهذا فرض عيني.
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)﴾
فإن لم تكن داعية إلى الله لست متبعاً لرسول الله.
﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾
فالتواصي بالحق، والدعوة إلى الله على بصيرة الحد الأدنى من صفات المؤمن، هي فرض عيني في حدود ما تعلم، ومع من تعرف، وصدق أن أعظم شيء تفعله أن تكون مطبقاً للدين، أن تكون وقافاً عند كتاب الله، أن تكون مُتبعاً لسنة رسول الله، إنك تدعو إلى الله عز وجل دون أن تشعر.
العبادات التعاملية هي التي ترسخ معالم هذا الدين:
الذي ينجذب الناس إليه ليست العبادات الشعائرية، ينجذب الناس إلى العبادات التعاملية، فلذلك: ﴿يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة﴾ على كلمة كافة، ثمار هذا الدين عظيمة جداً، أناس ضعاف فقراء بعيدون عن الثقافة، جاءهم هذا الوحي من السماء، يأكلون التمر، يركبون ظهور الخيل، حياتهم خشنة جداً، صحراء قاحلة، عادات جاهلية، انحراف خطير في الأخلاق، انغماس في الخمور والربا، هؤلاء حينما اتبعوا النبي الأمي دانت لهم الأرض من شرقها إلى غربها، كانوا رعاة للغنم فصاروا قادة للأمم، أبداً، لا لأنهم فهموا الدين فهماً مثالياً، لأنهم طبقوا الدين، والله الذي لا إله إلا هو لو فَهِمَ أصحاب النبي عليهم رضوان الله الإسلام كما نفهمه نحن، والله ما خرج من مكة المكرمة، لأنهم فهموا الدين عدلاً، فهموه رحمةً، فهموه حكمةً، فهموه إنصافاً، فهموه صدقاً، فهموه أمانةً انتشر الإسلام في الخافقين، لمّا أرسل النبي عليه الصلاة والسلام أحد أصحابه عبد الله بن رواحة ليُقيِّم تمر خيبر، أراد اليهود إغراء هذا الصحابي الجليل ببعض حلي نساءهم، فلعله يُقلل قيمة تقدير تمورهم، فقال هذا الصحابي الجليل: واللهِ جئتكم من عند أحبّ الخلق إليّ، ولأنتم عندي أبغض إليّ من القردة والخنازير، ومع ذلك لن أحيف عليكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض، وبهذا غلبتمونا، وإذا أردنا أن نكون قادةً للأمم يجب أن نكون مع الحق، يجب أن نكون مع العدل، يجب أن نكون مع الصدق، الذي نفعله من عبادات شعائرية لا يجذب الناس إلينا، أما الذي نفعله من عبادات تعاملية فهو الذي يرسخ معالم هذا الدين: ﴿يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة﴾ كلمة كافة تعني أنه يجب أن ندخل جميعاً في الدين من أجل أن نقطف ثماره، وينبغي أن نأخذ بفقرات الدين كلها واحدةً واحدة، كافةً تعني مجموع الداخلين في الدين، وتعني مجموع بنود الدين: ﴿ادخلوا في السلم﴾ ، ﴿في﴾ تعني شيئاً ضمن شيء، أي دخلت كلك في الدين، أي ما دخلت أعضاؤك وبقي قلبك، دخلت أعضاؤك وبقيت عيونك تخالف فيها منهج الله، دخلت تجارتك في الدين وبقي بيتك، دخل بيتك وبقيت تجارتك، يجب أن تدخل كلك، بقضِّك وقضيضك، أن تدخل جسماً، وروحاً، ونفساً، وفكراً، وعقلاً، ووقتاً، وحرفةً، ولهواً، وفرحاً، وحزناً، أن تدخل كلك في الدين: ﴿ادخلوا في﴾ وسُمّي هذا الدين سلماً، إن دخلت فيه فأنت في سلم أبداً.
ربنا عز وجل بدأ الخلق بتجربة وضعها بين أيدينا:
قال تعالى:
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾
يا معاذ ما حقّ العباد على الله إذا هم عبدوه؟ قال: ألا يعذبهم، ﴿ادخلوا في السلم﴾ لا يوجد أحد من بني البشر على الإطلاق إلا ويتمنى السلامة والسعادة، والسلامة والسعادة لا تكونان إلا بتطبيق تعاليم هذا الدين، إلا في تطبيق تعليمات الصانع، ﴿ادخلوا في السلم كافة﴾ ادخلوا جميعاً وطبقوا جميع بنود الدين، وادخلوا فيه، هذا إن كنتم مؤمنين، ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ يا من آمنتم بالله خالقاً، ورباً، ومسيراً، يا من آمنتم بأسمائه الحسنى، وصفاته الفضلى، يا من آمنتم به موجوداً، وواحداً، وكاملاً، هو الكامل، وهو الواحد، وهو الأحد، وهو الفرد، وهو الصمد، وهو العليم، وهو القدير، وهو الحكيم، وهو الغني، وهو الودود، إن آمنت بأسمائه الحسنى هذا منهجه.
﴿ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين﴾ بدأ ربنا عز وجل الخلق بتجربة وضعها بين أيدينا، أن إبليس لعنه الله أراد أن يُخرِج آدم وزوجته من الجنة: ﴿إنه لكم عدو مبين﴾ .
﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)﴾
حينما يتحرك الإنسان وفق وسوسة الشيطان فهو مع الشيطان، والشيطان بريء منه يوم القيامة.
﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)﴾
حينما يطيع الإنسان الشيطان لا يرضى إلا أن يضعه في الحضيض:
﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ قال العلماء: الشيطان ذكي جدّاً لن يأمرك بالكفر، يأمرك بمخالفة بسيطة، فإن طاوعته فيها أمرك بأكبر، فمن وقت إلى آخر تجد نفسك أخيراً في الكبائر، ذكر لي أحدهم أن شاباً مسلماً يُساكن فتاة لا يوجد عقد زواج، ولا يوجد زواج، ولا مؤقت ولا غير مؤقت، ولا عقد مدني ولا ديني، أبداً، سُئِل ما تفعل؟ قال: الإسلام لم يحلّ لي مشكلتي هنا، أنا بحاجة، تزوجها!! أجاب: ليست لي زوجة، هي تنام مع عشرات قبلي، وصل به الشيطان إلى أن يرتكب الزنا كل ليلة، دون أن يشعر، الإنسان حينما يطاوع الشيطان لا يرضى إلا وأن يضعه في الحضيض، أبداً، الشهوات كأنها صخرة مستقرة على رأس جبل، إن زحزحتها من مكانها لن تستقر إلى في قعر الوادي، أبداً، ﴿ولا تتبعوا خطوات الشيطان﴾ الزناة بدؤوا بنظرة فابتسامة فموعد فلقاء، الذين شربوا الخمر بدؤوا بشربه بالمناسبات، ثم أصبحوا مدمنين على الخمر، أي قضية الإنسان قضية ديناميكية بالتعبير الحديث، أي كل طاعة تنقلك إلى طاعة أكبر، وكل معصية تنقلك إلى معصية أكبر، أبداً، فالشيطان لو فرضنا بدأ بأكبر شيء، دعا الإنسان إلى الكفر وجد إيمانه قوياً يدعوه إلى الشرك، وجده موحِّداً يدعوه إلى البدع، وجده مطبقاً للسنة يدعوه إلى الكبائر، وجده ورعاً يدعوه إلى الصغائر، وجده متمسكاً يدعوه إلى المباحات، أن يغرق في المباحات، وجده زاهداً يدعوه إلى التحريش بين المؤمنين، أبداً، ثم هناك نقطة مهمة جداً، هناك معاصٍ لها وهج، ولها جذب، مثل هذه المعاصي أنت مكلف لا أن تمتنع عنها، أنت مكلف أن تمتنع عن أسبابها، هذا معنى قوله تعالى:
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)﴾
اجعل بينك وبين الحد هامش أمان، غضّ البصر هامش الأمان، عدمُ صحبة الأراذل هامش الأمان، عدمُ الاختلاط هامش الأمان، عدم الانغماسُ في متع رخيصة هامش الأمان، أما إذا تجاوزت هذا الحد فقد وقعت في المعصية، تماماً كنهر عميق له شاطئ مائل زلق، وله شاطئ مستوٍ جاف، أنت إن وقفت على الشاطئ المائل الزلق وقعت في النهر، وإن وقفت على الشاطئ المستوي الجاف كنت في أمنٍ وبحبوحة.
الشيطان يعدنا الفقر وخالق الكون يعدنا بمضاعفة الأجر:
﴿ولا تتبعوا خطوات الشيطان﴾ ولو سألت العصاة والمذنبين والذين انغمسوا إلى قمة رؤوسهم في المعاصي والآثام: كيف وصلتم إلى هنا؟ واللهِ بدأنا بكلمة، بدأنا بنظرة، بدأنا بفيلم، بدأنا بصحبة، بدأنا برحلة، بدأنا بلقاء، وانتهى اللقاء إلى الزنا، وانتهى اللقاء إلى شرب الخمر، وانتهى اللقاء إلى أكل المال الحرام، حينما يراك الشيطان قد تهاونت في السُّنة يطمع أن تترك الفرض، إن رآك تهاونت في غض البصر يطمع أن تفعل بعد غض البصر شيئاً، كلما طاوعته في معصية أمرك بأكبر منها، توجيه رب العالمين: ﴿ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكل عدو مبين﴾ خالق الكون ينصحنا، شيطان ﴿عدو مبين﴾ فانظر إلى الخواطر، الشيطان مثلاً يُخوفك مما سوى الله، لأن الذي تعبده يحميك، ولو أن الذي تعبده لا يحميك لمَ تعبده؟ لا تستمع إلى تخويف الشيطان، الشيطان يعدك الفقر، لكن خالق الكون يَعِدُك بمضاعفة الأجر.
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)﴾
(( عن أبي هريرة : أن النبيَّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم - دخل على بلالٍ وعنده صُبْرَةٌ من تَمْرٍ، فقال : ما هذا يا بلالُ ؟ !، قال : شيءٌ ادَّخَرْتُهُ لِغَدٍ، فقال : أَمَا تَخْشَى أن تَرَى له غَدًا بُخَارًا في نارِ جهنمَ يومَ القيامةِ ؟ ! أَنْفِقْ بلالُ ! ولا تَخْشَ من ذِي العرشِ إِقْلالًا. ))
[ هداية الرواة : خلاصة حكم المحدث : صحيح بمجموع طرقه ]
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا بْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ. وَقَالَ: يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى. وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: مَلْآنُ سَحَّاءُ لَا يَغِيضُهَا شَيْءٌ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. ))
الشيطان يَعِدُك الفقر، يُزَين لك المعصية، يُزَهدك في الحلال، كم من إنسان منحرف يكره زوجته ويحب امرأة بالحرام؟! هذا من فعل الشيطان، الشيء الحلال المباح يكرهه، زاهد فيه، والتي دون مستوى زوجته بكثير يطرب لها، ولكلامها، ولحركتها، يزيِّن الشيطان له المعصية، ويزهده في الطاعة، احذر الشيطان في كسب المال، في العلاقة بالنساء، في كل شيء، كلما رأيت إنساناً مثلاً مُدَمراً قل: هذا من عمل الشيطان، وإنساناً غارقاً في المعاصي والآثام، وإنساناً دمّر حياته الزوجية، إنساناً أدمن القمار، أدمن الشرب، أدمن الميسر، أدمن الكسب الحرام، قل: هذا من عمل الشيطان، ﴿إنه لكم عدو مبين﴾ .
﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ*َفإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ﴾ قال العلماء: زلّ بمعنى زال، هناك منهج، هناك خط مستقيم أنت عليه، فإذا خرجت عن هذا الخط بدأت المتاعب، مادمت في طاعة الله فأنت في أمن، في بحبوحة، أنت في رعاية الله، أنت في حفظ الله، أما إذا انحرف الإنسان ﴿فإن زللتم﴾ أي الآن الكواكب تدور في مسارات حول بعضها بعضاً.
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)﴾
لو أن الأرض زالت عن مسارها لزالت، انتهت، لأن الأرض حينما تزول عن مسارها تصل إلى درجة الصفر المطلق، وفي هذه الدرجة تنعدم الحركة الذَّرية في الكواكب، يموت كل ما عليها، فإذا زالت زال كل ما عليها، وهذا المثل الكوني مطبق على الإنسان، أنت إن انحرفت ذهب عنك كل الخير، لذلك الورع مِلاك الدين، ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط، الورع مِلاك الدين، ﴿فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات﴾ لا يوجد عذر.
﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)﴾
﴿ثم تاب من بعده وأصلح﴾ أما إذا كان الإنسان يعلم كل شيء فإنّ توبته تكون عسيرة جداً.
﴿فإن زللتم من بعد﴾ بعد البينات، بعد التوضيح، بعد البيان لا يوجد عذر، الجاهل معذور، أما الذي طلب العلم، وعرف الحلال والحرام فكيف يُعذر عند الله عز وجل؟ ومع ذلك الإنسان حينما يخطئ من له غير الله؟ حينما تزل قدمه من له غير الله؟ أي لا تفكر إلا في التوبة، مهما تكن الشروط والظروف، الله عز وجل عزيز حكيم، أي عزيز لا يُنال جانبه، وليس من السهل أن تصل إليه، قال العلماء: عزيز أي تشتد الحاجة إليه، ويندر مثله، ومن الصعب أن تَصِل إليه، فإذا كان الله عزيزاً ليس كمثله شيء، إذا قلنا: شيء عزيز أي قليل، بضاعة نادرة، لأن هذه البضاعة عزيزة أي نادرة، قليلة جداً، تبحث عنها طويلاً حتى تجدها، فإذا قلنا: الله عزيز ليس كمثله شيء، تشتد الحاجة إليه، يحتاجه كل شيء في كل شيء الله عز وجل.
الشيء الثالث: ليس من السهل الوصول إليه، الله عز وجل عزيز، سلعة الله غالية، حتى يُقبْل عليك، وحتى يتجلى عليك، وحتى يملأ قلبك نوراً وإيماناً، وحتى يُدافع عنك، وحتى يُؤيدك بنصره، فأنت تحتاج إلى طاعته، وإلى أن تُجاهد نفسك وهواك في سبيله، عزيز، كلمة دكتوراه يجوز أيّ إنسان مثلاً أنْ يشرب كأساً من الشراب في الطريق، ثمنه خمس ليرات، عشر ليرات، خمسون ليرة، مبذول لكل الناس، أما شهادة الدكتوراه فهي ليست مبذولة لكل الناس، تحتاج إلى ابتدائي، وإعدادي، وثانوي، وفرع بالجامعة، وتقدير جيد جداً، ودبلوم عامة، ودبلوم خاصة، وماجستير، ثم دكتوراه، ثم تأليف كتاب، ثم مناقشة الأطروحة، يقول لك: أربعون سنة حتى نلت هذه الشهادة، فشيء عزيز: ﴿فاعلموا أن الله عزيز حكيم﴾ عزيز ليس كمثله شيء، واحد، إذا كان الشيء عزيزاً أي قليلاً، لكنه متعدد، أما الله عزيز واحد، تشتد الحاجة إليه، يحتاجه كل شيء في كل شيء، يصعب الوصول إليه إلا بالصدق.
من عاهد الله عز وجل يجب أن يكون عند حدود هذا العهد:
قال تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)﴾
عندما تزل قدمك وتقول: غداً أتوب، وتزل وتتوب بهذه البساطة!!! لا، الله عز وجل عزيز، أول توبة سهلة جداً، لمجرد أنك تقول: يا رب تبت إليك، يقول لك: عبدي وأنا قد قبلت، يزيح عنك هموماً كالجبال، أما كلما تُبْت إليه نقضت التوبة!! الله عز وجل عزيز، قد تجد الطريق مغلقاً، والباب مسدوداً، والإقبال عسيراً، ﴿فاعلموا أن الله عزيز حكيم﴾ أي إن زللتم قبل أن تأتيكم البينات القضية سهلة جداً، أما إن زللتم بعد أن جاءتكم البينات، أي توبة الذي يعلم أصعب من الذي لا يعلم، قال العلماء: لو أن الإنسان دخل في الدين في رمضان، ولم يعلم أن مقاربة الزوجة تنقض الصيام، لا شيء عليه، ما دام هناك جهل القضية سهلة جداً، لكن ترتكب المعصية بعد العلم عندئذٍ صار الطريق إلى الله صعباً، أنا لا أخوفكم، بل أخوف نفسي، أي التوبة مع الجهل سهلة جداً، سهل جداً التوبة أول مرة، أما العائد إلى ذنبه كالمستهزئ بربه باستمرار عندئذٍ الله عزيز، قد لا تجد إليه الطريق سالكاً، قد تجد عقبات وعقبات، هذا معنى كلمة: ﴿فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم﴾ إذا تعامل الإنسان مع الله ينبغي أن يعامله بإخلاص، ينبغي أن يعامله بصدق، ينبغي أن يعامله بافتقار، ينبغي أن يعامله بوفاء، قال تعالى:
﴿ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)﴾
أنت حينما تُعاهد الله عز وجل شيء رائع أن تكون في هذا العهد، أن تكون عند حدود هذا العهد، أما حينما تعاهد وتنقض، تعاهد وتنقض، ﴿فاعلموا أن الله عزيز حكيم﴾ قد لا يسمح لك أن تُقبل عليه، قد يصرفك عن أهل الحق.
التوبة الثانية تحتاج لعمل صالح حتى يقبلها الله:
عدّ للمليون قبل أن تقترف معصية وأنت تعلم، إن كنت لا تعلم قضية سهلة جداً، أما حينما تعلم صار هناك مشكلة، مشكلة كبيرة، ومع ذلك لو زلت القدم مع العلم من لنا غير الله عز وجل؟ أقترح إذا كان يعلم الإنسان وزلَّت قدمه يحتاج إلى عمل صالح ليمحو السيئ، لقول الله عز وجل:
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)﴾
الحسنات تُذهب السيئات فإذا الإنسان تاب ثم عاد إلى ذنبه التوبة الثانية أصبحت صعبة، يحتاج أن يدعمها بعمل صالح، بإنفاق مال، بصيام طويل، حتى تترمَّم نفسه، والإنسان حكيم نفسه، أجمل حالة يعيشها المؤمن أن يكون مع الله، وأن تكون العلاقة بالله عامرة.
الإنسان يمر في حياته بأربع مراحل:
يقول الله عز وجل:
﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)﴾
يقول الله عز وجل: يريدون أن يروا آيات صارخة بأم أعينهم، مع أن الكون كله آيات دالة على الله عز وجل، فهذا الذي لا يهتدي إلى الله بوضع الكون الراهن، وما فيه من آيات عظيمة دالة على وجوده، وكماله، ووحدانيته، لن يستفيد بخرق قوانين الكون، والإنسان حينما يطلب معجزة، وتأتيه المعجزة لا ينتفع بها قضي الأمر، أهلكه الله عز وجل لأنه آخر شيء أن الإنسان يمر في حياته بأربع مراحل:
أول مرحلة الدعوة البيانية، عن طريق الأنبياء، والمرسلين، والدعاة الصادقين، أنت أمام كلام لطيف، كلام عميق، كلام واضح، معه أدلة، هذا الكلام بيَّن لك سرّ وجودك، وغاية وجودك، فإذا لم يستجب الإنسان، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾
الإنسان إذا لم يستجب دخل في مرحلة ثانية، دخل في التأديب التربوي، قال تعالى:
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)﴾
الإنسان إن لم يرجع دخل في تربية ثالثة، دخل في الإكرام الاستدراجي، أي دعاك فلم تستجِب، شدَّد عليك فلم تتب، أكرمك فلم تشكر، ماذا بقي؟
هذا الإنسان الذي لم يستفد لا بالدعوة البيانية، ولا بالتأديب التربوي، ولا بالإكرام الاستدراجي يُحسم أمره فيُقصَم ظهرُه قصماً، أبداً، القرآن واضح، وكل إنسان يسأل نفسه: أين أنا من هذه المراحل؟ إن كنت في الدعوة البيانية أنت رائع، الدعوة البيانية سهلة، كلام بكلام، لكن استجيب، شيء مقنع استجيب، كلام الله واضح وضوح الشمس طبِّق، سنة النبي واضحة وضوح الشمس طبِّق، لم تكن هناك استجابة ضيق الله عليك، الآن تُبْ من هذا الذنب، لم تتب بدلك الله مكان السيئة حسنة، اشكر، لا يستجيب بدعوة بيانية، ولا يتوب بتأديب تربوي، ولا يستحي من الله لإكرام استدراجي، بقي القصم، هذا معنى قوله تعالى:
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾
الله عز وجل ما تنتظره أن تكون معجزات الكون كله معجزة، وإذا جاءت هذه المعجزات كما جاءت لعاد وثمود ولقوم صالح ولقوم موسى جاءت المعجزات كما أرادوا ولم يؤمنوا فقصمهم الله عز وجل، عندئذ قُضِي الأمر، ﴿وإلى الله ترجع الأمور﴾ .
أيها الإخوة؛ يقول الله عز وجل:
﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)﴾
الآيات من رحمة الله بنا، هناك آيات كونية، وآيات قرآنية، وآيات تكوينية، هذه الآيات سبب معرفة الله عز وجل، ومعرفته سبب السعادة في الدنيا والآخرة، فإذا لم يعبأ الإنسان بهذه الآيات، ولم يفكر بها، ولم يأخذ بها، فقد شقي في الدنيا والآخرة، ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ﴾ أي كانت نعمة كي يعرف الله بها فيطيعه فيسعد في الدنيا والآخرة، فلم يعبأ بها جعلها معطلة فشقي في الدنيا والآخرة، الآن أي نعمة، أعطاك نعمة البصر، فإن لم تستخدم هذه النعمة فيما أراد الله عز وجل فقد كفرتها، أعطاك نعمة العقل، فإن لم تُعْمل العقل فيما أراد الله عز وجل كفرت بنعمة العقل، أعطاك نعمة السمع فإن لم تُصغِ إلى الحق كفرت بهذه النعمة، أعطاك نعمة الصحة فإن لم تستغلها في طاعة الله كفرت بهذه النعمة، أعطاك نعمة الفراغ فإن لم تملأ الفراغ بما يرضي الله عز وجل كفرت بهذه النعمة، أعطاك نعمة الأمن فإن لم تستخدم هذه النعمة في طاعات الله عز وجل كفرت بهذه النعمة، هذا معنى تبديل النعمة، أي أن تستخدمها لغير ما أراد الله عز وجل، أعطاك طلاقة اللسان هذه النعمة إن لم تستخدمها في ذكر الله فقد كفرت هذه النعمة.
كل نعمة من نعم الله إن لم تستخدمها وفق ما أراد الله فقد كفرت به:
ممكن إنسان أنْ يشتري جهازاً معقداً جداً، كمبيوتر صناعي ثمنه ثلاثون مليوناً، يستخدمه طاولة؟ يكون كفر به، مثل هذا الجهاز لا يُستخدم طاولة، يحل محل الطاولة الطاولةُ بألفي ليرة أما خمسة وثلاثون مليون طاولة أنت كفرت بهذه النعمة، إنسان يستخدم أداة منزلية للتنظيف من الذهب الخالص؟ كفرت بنعمة الذهب الخالص، فكل شيء، كل نعمة من نعم الله عز وجل إن لم تستخدمها وفق ما أراد الله فقد كفرت بها، بل كفرت بالمنعم الذي أنعم الله عليك بهذه النعمة، ﴿سل بني إسرائيل﴾ الله عز وجل هدانا بالكون فلم نعبأ بالكون، هدانا بالقرآن فلم نعبأ، فلم نتدبر آياته، هدانا بأفعاله فلم ننظر بها، بل أردناها أرضيةً، لذلك هذا من الكفر بالنعمة، مثلاً النبي الكريم قال: "أصبح مؤمناً بي وكافر"، ينقل عن ربه هذا الحديث، فحينما أصابهم المطر قال: من قال: أُمطرنا بفضل الله ورحمته فهو مؤمن، ومن قال: أُمطرنا بنوء كذا ونوء كذا فهو كافر، إذا نسي رحمة الله عز وجل وعَدَّ المطر قضية أرضية تتحرك بقوانين عادية من دون مشيئة الله عز وجل، هذا الذي يعزو هذه الأمطار التي أكرمنا الله بها إلى أشياء أرضية لا صلة لها بالخالق فقد كفر، هذا معنى تبديل النعمة، أعطاك نعماً يجب أن تتحرك من خلالها وفق منهج الله عز وجل، ويجب أن تشكر الله عليها، فإن استخدمت العقل لدحض الحق فقد كفرت بالله، وكفرت بنعمة العقل، أعطاك طلاقة لسان، فإن استخدمت هذه الطلاقة لترويج الباطل والرد على أهل الحق كفرت بهذه النعمة، أعطاك فكراً دقيقاً، فإن استخدمته في الإيقاع بين الناس، وفي جمع الدرهم والدينار من طريق غير مشروع فقد كفرت بهذه النعمة، أعطاك نعمة البصر، فإن تأملت بها عورات المسلمين كفرت بهذه النعمة، أعطاك نعمة السمع، إن لم تستمع إلى الحق واستمعت إلى الباطل كفرت بهذه النعمة، هذا معنى تبديل النعمة: ﴿سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة﴾ أعطاك نعمة الآيات الكونية الدالة على عظمته، أعطاك نعمة الآيات القرآنية الدالة على كلامه، أعطاك نعمة النظر في أفعاله، لم تفعل ذلك، بدلت هذه النعم إلى نِقم ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ .
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)﴾
الدنيا تملأ أعينهم، الدنيا منتهى آمالهم، الدنيا محط رحالهم، الدنيا هي كل شيء في حياتهم:
﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)﴾
فلذلك الكفار زُيّنت لهم الحياة الدنيا.
كن مع من يُجَانسك لا مع من يُجَالسك:
﴿وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب﴾ لذلك قال الله تعالى:
﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)﴾
أنت من أعقل العقلاء، والمجنون من عصى الله عز وجل، أنت كن مع الكتاب، ومع سنة رسول الله، لا تعبأ بقول الآخرين، والأصح من هذا ألا تصاحب إلا مؤمناً، صاحب مؤمناً فقط، لأنك تحبه ويحبك، تقدره ويقدرك، تُكبِره ويُكْبِرك، أما إن صاحبت شارداً عن الله عز وجل أنت تحتفل به وهو يحتقرك.
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)﴾
﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)﴾
كن مع من يجانسك لا مع من يُجالسك، جالسْ من تجانس، لا تُجَالس من لا تُجَانس، لا تُصاحب رجلاً لا يرى لك من الفضل مثلما ترى له، كلما كنت مع المؤمنين كنت في سعادة وفي طيب، يقول الله عنهم:
﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)﴾
وفي درس آخر نتابع هذه الآيات.
الملف مدقق