الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
ثمن الجنة أن تأتي إلى الدنيا وتقدِّم شيئاً يرضي الله:
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس التاسع والستين من دروس سورة البقرة، ومع الآية السابعة بعد المئتين، وهي قوله تعالى:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)﴾
﴿يَشْرِي﴾ بمعنى يبيعُ ويشتري، وسياق الآية يُحَدِّد معنى يشري بمعنى يبيع، أيْ ومن الناس من يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله، يقول الله عزَّ وجل:
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾
أيها الإخوة؛ خُلقت لِجَنَّةٍ عرضها السماوات والأرض، ثمنها أن تأتي إلى الدنيا وتقدِّم شيئاً لوجه الله؛ قد تُقَدِّم مالك، وقد تُقدّم وقتك، وقد تُقدّم علمك، وقد تُقدّم حياتك، والجود بالنفس أقصى غاية الجودِ، على كل إنسان لم يقدم شيئاً هذا أشقى الأشقياء، لأنه جاء إلى الدنيا ليقدِّم فلما نسي أن يُقدّم خسر الآخرة وخسر الحياة الأبدية في جنةٍ عرضها السماوات والأرض.
ملخَّص الملخص أنك مخلوقٌ لجنة لك فيها ما تشاء، فيها من كل الثمرات، فيها حورٌ عين، فيها أنهارٌ من كل أنواع الأنهار؛ من لبنٍ لم يتغير طعمه، من عسلٍ مصفَّى، من خمرٍ لذةٍ للشاربين، من ماءٍ غير آسن، وفيها ولدانٌ مخلَّدون، وفيها نظرةٌ إلى وجه الله الكريم، وفيها رضوانٌ من الله أكبر، هذه الجنة إلى أبد الآبدين؛ لا مرض، ولا قلق، ولا حزن، ولا جوع، ولا انتكاسة شيخية، ولا شيء مُزْعِج، خُلقْت لهذه الجنة.
إلا أن هذا العطاء الكبير يحتاج إلى ثمن تدفعه في الدنيا، الثمن أن تُقْرِض الله قرضاً حسناً، أن تقرضه أيْ أن تعمل عملاً صالحاً مع عباده، الإيمان درجات، هناك إنسان طبَّق منهج الله وفعل بعض الصالحات، هذا ناج، هناك إنسان تفلَّت من منهج الله وأساء للخلق هذا هالك في الدنيا والآخرة، أما هناك طبقة أولى؛ هؤلاء السابقون السابقون، هؤلاء الذين باعوا أنفسهم في سبيل الله، وقتهم كله لله، مالُهم كله لله، علمهم كله لله، ذكرهم كله لله، كل أفعالهم وأحوالهم، وإقامتهم وسفرهم، وعطائهم وأخذهم، وصلتهم وقطعهم، وغضبهم ورضاهم في سبيل الله، هؤلاء الطبقة الأولى، هؤلاء سابقٌ في الخيرات، ويوجد مقتصد، وفيهم ظالمٌ لنفسه.
﴿ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)﴾
إن صحَّت عقيدة الإنسان تحرَّك في الدنيا حركةً صحيحة:
هذه حقيقة كليَّة أيها الإخوة، حقيقة أساسية جداً في حياة الإنسان، لأنك من بني البشر مخلوقٌ لجنة الآخرة، جئت إلى الدنيا من أجل أن تعمل لها، أن تدفع ثمنها، فأكبر خسارة هي أن تخسر جنة الله، ليت هناك خسارة تكتفي بخسرانها لكن لابد من عذاب النار، "فو الذي نفس محمدٍ بيده ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار" ، لا يوجد حالة ثالثة، من هنا قدَّم الله الموت على الحياة:
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)﴾
أيها الإخوة؛ إن صحَّت عقيدة الإنسان تحرَّك في الدنيا حركةً صحيحة، نقلته إلى الجنة، شخص ذهب إلى بلد ليأتي بالدكتوراه، ولتكن باريس، ولتكن لندن، هذه المدينة مغرية جداً؛ فيها مسارح، فيها ملاهٍ، فيها دور سينما، فيها حدائق، فيها متاحف، فيها أماكن طبيعية جميلة جداً، وفيها جامعة، فأنت حينما تأتي إلى هذا البلد من أجل أن تنال الدكتوراه لك هدف واحد هو نيل هذه الشهادة، الآن كل شيء في هذا البلد يُقربك من هذا الهدف تأخذ به، وقفت أمام مكتبة، وجدت قاموساً، أنت بحاجةٍ إليه اشتريته، وجدت شخصاً سبقك إلى هذا البلد قبل سنتين لغته قوية جداً، فتمنيت أن تُرَافقه كي تتعلّم من لغته، هذه تقربك من الهدف، هذا مثل، الآن توجد دار لهو، هذه تبعدك عن الهدف، تركتها، فأنت أمام مليون خيار، إن عرفت لماذا أنت هنا في الدنيا؟ إن عرفت الهدف من وجودك، أي شيء تعرضه على الهدف فإن كان في خدمته أخذت به، وإن كان يُبعدك عن هدفك تركته، هذه فلسفة الحياة.
الحياة الآن مغرية جداً، ممكن أن يشتري الإنسان جهازاً مستقبلاً حديثاً جداً، فيه ثلاثمئة وخمسون محطَّة، لا يوجد عنده ملل أبداً، إذا أراد أن يمر على عُشر هذه القنوات الفضائية في المساء أخذه الوقت إلى الساعة الواحدة أو الثانية ليلاً مثلاً، إذاً هناك محطات، هناك أخبار، هناك مجلات، هناك مَعارض، فيها نُزهات، هناك فنادق، هناك ملاعب، هناك مباريات، هناك سهرات حارة، هناك ملاعب كُرَة، الحياة ممتلئة، لكن أنت كإنسان عاقل لماذا أنت في الدنيا؟ كما سألنا طالباً في فرنسا: لماذا أنت في باريس؟ من أجل الدكتوراه، عندك مليون خيار، يوجد خيار جزئي تعرضه على الهدف الكبير، إن كان يخدمه آخذ به، وإن كان يتناقض معه أدعه، هناك خطة واضحة في ذهن المؤمن، أنا هنا من أجل أن أصل إلى الآخرة، إلى الجنة..
لو فرضنا دخلت إلى مسجد فيه درس تفسير، هذا يقربني من معرفة الله عزَّ وجل، هناك درس حديث، هناك درس سيرة، هناك درس فقه، وجدت كتاب آيات كونية عن عظمة الله، كذلك هذا يقرِّبني، وجدت صديقاً لك إيمانه عالٍ، وأخلاقه عالية جداً، ومنضبط، وملتزم، مصاحبة هذا الإنسان تفيدني، فكل شيء، كل خيار يُوضع أمامك، وما أكثر الخيارات الآن، تَعْرِضُها على هدفك الكبير، فإن كانت في خدمته أخذت به، وإن تناقضت معه ركلتها بقدمك، هذا المؤمن، بالتعبير الدارج يوجد برأسه موَّال، في باله هدف كبير؛ أن يصل إلى الجنة، الجنة تحتاج إلى علم، الجنة تحتاج إلى استقامة، الجنة تحتاج إلى عمل صالح، الجنة تحتاج إلى صحبة، تحتاج إلى جماعة مؤمنة تعيش معها، يعطونك حماساً، يقوونك، يرفعون معنويَّاتك، تأنس بهم، تحتاج مجتمعاً مسلماً، تختار أصدقاء مؤمنين، فمادام هدفك واضحاً تنتقي من الوسائل ما يخدم هذا الهدف، وتركل بقدمك من الخيارات ما يتناقض مع هذا الهدف، هذا هو العقل.
وما كل ذكي بعاقل، قد يصل الإنسان إلى أعلى درجة في الاختصاص، ذكي جداً باختصاصه، ماهر جداً بتجارته، ماهر بصناعته، ولكن لأنه ما عرف هدفه في الدنيا فليس عند الله بعاقل، هو ذكيّ وليس بعاقل:
﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)﴾
الفرق بين إنسان يعيش في بلاد إسلامية هناك هدف أمامه، وهناك وسائل، أما الإنسان يعيش في بلاد الغرب إنسان بلا هدف، الدنيا كل همه، ومبلغ علمه، وشهوتُه إلهه:
﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)﴾
شهوته إلهه، معبوده الدرْهَم والدينار، أمله الدنيا.
المؤمن هدفه رضوان الله والجنة:
التقيت ذات مرة مع شخص أجنبي، بعدما انتهى العمل بيننا أردت أن ألفت نظره إلى الدين؛ ما إن ذكرت الكون، وخالق الكون، ومنهج الله، ماذا قال لي؟ قال لي: هذه الموضوعات لا ألتفت إليها إطلاقاً، ولا أُعنى بها، ولا أصغي لها، ولا أعبأ بها، ذكر مجموعة مُرادفات، أشياء ثلاث تعنيني في الدنيا؛ امرأةٌ جميلة، وبيتٌ واسع، ومركبةٌ فارهة، قطع عليّ الطريق:
﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)﴾
هذه النقطة الدقيقة في الدرس، أنت لماذا في الدنيا؟ كأن نسأل طالباً في باريس: لماذا أنت في هذه المدينة؟ تركت أهلك، تركت أباك، تركت أمك، تنام وحدك، وتعمل وتدرس، لماذا أنت هنا؟ هنا من أجل نيل الدكتوراه، في بباريس، أو بلندن، أو بأي مدينة أخرى مليار خيار، بإمكانه أن يمضي الليل بملهى، و بنادي، و بمسرح، و بمتحف، و ببيته وراء التلفاز، بإمكانه يمضي الليل في ألف خيار، ولكن لأنه جاء إلى هذه البلدة من أجل الدكتوراه، لا يوجد عنده غير خيار واحد، أن يدرس، يشتري قاموساً، يصاحب طالباً لُغته قوية جداً، يشتري مجلة علمية من اختصاصه، يحضر ندوة، يحضر محاضرة، يجلس مع الأستاذ الجامعي، قد يزوره في بيته، أنا آتي لك بمئة نشاط، لكن كل هذه الأنشطة في خدمة هدف واحد هو نيل الدكتوراه.
وكذلك المؤمن في الدنيا؛ يتاجر، يتزوج، يؤسس مثلاً معهداً، يؤسس عملاً، يعمل مصنعاً، هدفه أن يجمع مالاً ينفقه في سبيل الله، هدفه أن يجمع مالاً يوظِّفه في الحق إذا كان تاجراً، إذا اختار العلم هدفه أن يتعلم علماً متيناً يُقوّي المسلمين، فالمؤمن هدفه الجنة، هدفه رضوان الله والجنة، فلذلك أمام مليار خيار، يختار من هذه الخيارات ما يُوَظّف لهدفه الكبير، ويركل بقدمه من هذه الخيارات ما يتناقض مع هدفه، فالمؤمن على أشياء يُقْبِل بنهم عجيب، وعن أشياء يرفضها بإصرارٍ عجيب، قد تكون أشياء مغرية جداً تحت قدمه، لأنها تتناقض مع هدفه، قد تُعْرَض عليه الدنيا من أوسع أبوابها، قد يُعرض عليه مالٌ كبير، أو مكانةٌ علية، يركلها بقدمه لأنها تتناقض مع الجنة ومع رضوان الله، وقد يبذل جهداً جهيداً، وقد يعمل بالتعتيم، وقد يعمل كجندي مجهول لأنه يرضي الله عزَّ وجل.
المؤمن يقيِّم كل شيء تقييماً في ضوء الآخرة:
النقطة الدقيقة التي أحرص على توضيحها: إنك إن عرفت سرّ وجودك، وغاية وجودك، الآن تُقَيّم أي شيء في الدنيا تقييماً في ضوء الهدف، فإن كان في خدمته أخذت به، وإن تناقض مع الهدف ركلته بقدمك، فأنت في سياسة واضحة تسير عليها، هناك منظومة قيَم، فكل شيء يُقيَّم تقييماً في ضوء الآخرة، فكل شيء قرَّبك إلى الله أخذت به، وكل شيء أبعدك عن الله أعرضت عنه، قد تُعْرِض عن قراءة كتاب، كتاب فارغ مثلاً الإلياذة والأوديسَّا لهوميروس، قصيدة قالها شاعر إغريقي، وكلها آلهة، ليس لك علاقة بها، هناك إنسان يشتري مجلة فيقرأها كلها، وقتك ثمين، اقرأ المقالة التي تعنيك، أما قصة تافهة ثمانمئة صفحة؟!
لفت نظري هؤلاء الأجانب، في الطائرات يقرؤون، في المطارات يقرؤون، كل واحد معه كتاب ثمانمئة صفحة، شيء عجيب؛ رحلة تستغرق عشر ساعات وهو يقرأ، بالمطاعم يقرأ، فأنا ما عرفت ماذا يقرؤون؟ ثم تبيَّن لي أنهم يقرؤون قصصاً، كلها قصص، مغرمون بقراءة القصص، قصة إذا كان فيها مغزى ثمين، ملعقة سكر محلولة بوعاء فيه عشرين صفيحة، فمن أجل أن تُدْخل هذه الملعقة إلى جوفك يجب أن تشرب عشرين صفيحة، هذه القصة، مُمَيَّعة بحوادث، وتفصيلات، وشخصيات، وحوارات، وبداية، وعقدة، ونهاية، وحل، الوقت ثمين جداً.
فالمؤمن إذا عرف هدفه، وعرف سرَّ وجوده، وغاية وجوده اختار من الدنيا، اختار من الأصدقاء ما يقرِّبه إلى الله، لا تصاحب إلا مؤمناً، صديق تافه، حديثه عن الدنيا، شهواني، وَقِح، مزاحه جنسي، لا أصاحبه أبداً، ولا أجلس معه، ولا أضيع وقتي معه ولا دقيقة، أنا أجلس مع إنسان أزداد منه علماً وقرباً من الله عزَّ وجل، اختار الأصدقاء المؤمنين في ضوء الهدف، في ضوء الهدف اختار حرفة فيها نفع للمسلمين، لم يختر حرفة تهدم البيوت، لكنها رائجة جداً، هناك حرف تهدم البيوت؛ إشاعة الفساد في البيوت، وتأجير أفلام، رابحة كثيراً، إنشاء مقصف وملهى، والناس يأتون زُرافات ووحداناً يدفعون بغير حساب، لكن هذا على حساب القيَم، يوجد رقص، ويوجد غناء، ويوجد خمر، فعندما تعرف أنت هدفك تركل بقدمك مئة مليار ولا تندم عليها، وتسعى إلى مئة ليرة من حلال، هذه تَخدُم هدفك، فأنت تختار حرفة مناسبة، وأصدقاء مُناسبين، وتختار زوجة مؤمنة ذات دين، وتؤثرها على ذات الجمال لأنه إن لم تفعل تربت يداك:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ». ))
الصحابة فعلوا أفعالاً مُذْهلة في سبيل الله:
صار إذا أنت آمنت بالآخرة وأنك مخلوق للجنة يكون زواجك إسلامياً، عملك إسلامياً، أصدقاؤك مؤمنين، حتى لهْوَك لا يوجد عندك لهو منحرف، لا يوجد عندك حفلة مختلطة مثلاً، يمكن أن تجلس مع إخوانك يكون هناك مزاح بريء، يكون هناك طعام، هناك ودّ، هناك سرور، حتى وقت اللهو الذي أباحه النبي لك وقت لهو مشروع، فكأنك تمشي على نظام، منظومة قيَم، هذه النقطة الدقيقة التي إذا عُرِف الهدف قيَّمت الوسائل كلها لخدمة الهدف، فكل وسيلةٍ في خدمة الهدف آخذ بها، وأية وسيلةٍ تتناقض مع الهدف أركلها بقدمي.
إذاً: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾ وقته رخيص في سبيل الله، ماله رخيص "يا أبا بكر ماذا أبقيت لنفسك؟ قال: الله ورسوله" الصحابة فعلوا أفعالاً مُذْهلة، عندما قال ربنا عزَّ وجل:
﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)﴾
أحد الصحابة انتقى أجمل بستان وهبه لله عزَّ وجل، كان النبي يحبّ هذا البُستان، فيه نبع ماء، وفيه أشجار وارفة، فانتقى أجمل شيء، هو ماذا فعل؟ اشترى الآخرة، اشترى جنة الله عزَّ وجل.
هناك قصة أرويها كثيراً، ولكن من المناسب الآن أن أرويها مرة ثانية: آذن ورث أرضاً، جاء من يشتريها ليجعلها مسجداً، الذي اشتراها مليونيراً، فلما عَلِمَ هذا الآذن المُستخدم الذي معاشه أربعة آلاف ليرة، وهو قد تملَّك من الإرث أرضاً ثمنها أربعة ملايين، أو ثلاثة ملايين ونصف، فلما علِم أنها ستكون مسجداً مزَّق الشيك، وقال للشاري: أنا أحقُّ منك أن أقدِّمها لله، صار له قصر في الجنة، الأعمال الصالحة كلها دقيقة جداً محفوظة.
إن صحَّت عقيدتنا صحّ سلوكنا:
نحن إن صحَّت عقيدتنا صحّ سلوكنا، إن صحَّت عقيدتنا صرنا نتحرك على منظومة قيَم، فهذا معنى بيع النفس، أي باع وقته لله، لا يوجد عنده كلمة: لست فارغاً، لا يوجد لدي وقت، تجد الشخص يسترخي ساعات طويلة، يجلس جلسة فيها كلام فارغ ساعات طويلة، قد يلتقي لقاء فيه معاص كثيرة، قد يغتاب المسلمين، أما إذا دُعِي إلى حضور درس علم يقول لك: والله إنّني مشغول اعذرني، درس علم ساعة لا يقبل، أما أربع أو خمس ساعات في مجلس غيبة، ونميمة، واختلاط يقبله، لأن هدفه واضح، هدفه الدنيا، هدفه المُتعة، أما درس علم لا يوجد فيه شيء، ناشف بالنسبة له، يريد جلسة أخرى فيها شيء من المتعة الرخيصة.
فنحن نريد أن نؤكِّد في هذه الآية أنك إذا عرفت سرّ وجودك وغاية وجودك قيَّمت كل ما حولك، وكل من حولك؛ قيّمت الأموال، قيّمت الأصدقاء، قيّمت البيوت، قد ترفض بيتاً لا يناسب مكانتك الدينية، قد ترفض عملاً لا يناسب اتجاهك الديني، قد ترفض امرأةً تتزوجها لا تقبل أن تكون طائعةً لله عزَّ وجل، فأنت عندما تؤمن بالله، وتعمل للآخرة، صار عندك منهج واضح، وخطة واضحة، هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾ .
بالمناسبة: هناك أعمال جيّدة لكنها ليست ابتغاء مرضاة الله، فأهم شيء بالعمل أن يكون وفق سنة رسول الله، وأن يكون خالصاً لله.
لخَّص هذا الإمام الفُضَيْل بن عياض قال: "العمل لا يُقْبَل إلا إذا كان خالصاً وصواباً" خالصاً ما ابتُغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السنة، وأن أعمل صالحاً ترضاه.
إذاً من أجل ماذا يتعلم الإنسان الفقه؟ من أجل أن يعبد الله بما تعلَّم، بالكون تعرفه، وبالشرع تعبده، فأنت تتعلم الفقه كي تقف عند حدود الله، وألا تتعدَّى عليها.
طبعاً هذه (مِن) للتبعيض، ما كل الناس كذلك، لكن بعضهم، هؤلاء السابقون السابقون، هؤلاء المتفوقون، هؤلاء الذين باعوا أنفسهم في سبيل الله.
﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)﴾
كل أعمال المؤمن خالصة لوجه الله:
كل أعمال المؤمن خالصة لوجه الله، حتى أعماله الدنيوية المَحْضَة هي عند الله عبادات، لأنه نوى بها التقوِّي على طاعة الله، والتقرب بها إلى الله عزَّ وجل، أما المنافقون حتى عباداتهم هي عاداتٌ لا ترقى بهم عند الله عزَّ وجل.
المعنى الثاني: سيدنا خُبَيْب بن عدِي وقع أسيراً في مكة، واشتراه من أراد أن يقتله ثأراً، فلما وُضِعَ ليُصلب، سأله أبو سفيان قال: أتحب أن تكون في أهلك معافىً ويكون النبي مكانك؟ عليه الصلاة والسلام، فقال قولاً يقشعر منه الجلد، قال: والله ما أحبّ أن أكون في أهلي وولدي -أي مع زوجته وأولاده قاعداً في بيته-وعندي عافية الدنيا ونعيمها -بيت مُدَفَّأ، الخزان ممتلئ بالوقود، المؤونة كاملة، البراد ممتلئ، باقة زهور، يوجد تكييف بالصيف، تدفئة بالشتاء، لا يوجد أيّ نقصٍ في البيت-وأن يصاب رسول الله بشوكة، فقال أبو سفيان: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً، هذا باع نفسه.
امرأة أنصاريةٌ بلغها أن النبي قد قُتِل في أحد، فانطلقت إلى ساحة المعركة، فإذا أبوها مقتول، لم تعبأ بذلك، فإذا ابنها مقتول، لم تعبأ بذلك، تقول: ما فعل رسول الله؟ فإذا أخوها مقتول، فإذا زوجها مقتول، أبوها، وزوجها، وابنها، وأخوها في ساحة المعركة قد استُشهدوا، وتقول: ما فعل رسول الله؟ فلما رأته بعينها، واطمأنت على حياته قالت: "يا رسول الله كل مصيبة بعدك جَلَل" .
رجل أسلم مع رسول الله، فدخل غزوة من غزوات النبي، فانتصر النبي، ووزِّعت الغنائم على الجنود، أصابته الغنيمة، قال: ما هذه؟ قالوا: هي غنيمةٌ لك، قال: أنا ما على هذا أسلمت، أنا أسلمت على الذبح، أنا أسلمت من أجل أن أُقتَل في سبيل الله، استشهد في معركةٍ أخرى، فبلغ النبي ذلك فبكى عليه الصلاة والسلام، فلما عرف قصَّته قال: هو هو؟ فقالوا: هو هو، باع نفسه في سبيل الله، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾ لكن ﴿وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ .
إن عرفت الهدف اخترت الوسيلة وأعرضت عن كل وسيلةٍ مضادَّة:
تصور بذلة اشتريتها بأعلى سعر وأول مرة تلبسها هل تخلعها؟ مستحيل، أما إذا دفعوا لك ثمنها مئة مليون وكان ثمنها خمسين ألفاً هل تخلعها رأساً؟ تخلعها، فهذا الجسم بذلة، فالذي مات في ساحة المعركة شهيداً تخلَّى عن البذلة فقط، الله عزَّ وجل قال:
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)﴾
يوجد أحاديث عن الشهيد كثيرة جداً شيء لا يصدق، أيْ أنت ضحيت بحياتك، ﴿وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ يعطيك عطاءً مذهلاً، "من شغله ذكري عن مسألتي -ليس الاستشهاد، إذا الإنسان انشغل بذكر الله عن سؤاله-أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " .
أيها الإخوة الكرام؛ هذه الآية مهمة جداً في حياتنا، إن عرفت الهدف اخترت الوسيلة، وأعرضت عن كل وسيلةٍ مضادَّة، كل شيءٍ يبعدك عن هدفك، إن عرفت سرّ وُجودك مخلوقٌ لجنةٍ عرضها السماوات والأرض، وفي الكون حقيقةٌ واحدة هي الله، أيُّ شيءٍ قرَّبك إليه خُذ به، وأيّ شيءٍ أبعدك عنه تخلّى عنه ﴿وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ أي إذا كنت كريماً هو أكرم:
(( وما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه. ))
[ رواه أبو نعيم عن ابن عمر مرفوعا وقال غريب، لكن له شواهد منها ما رواه التيمي في ترغيبه عن أبي ابن كعب مرفوعا بلفظ ما ترك عبد شيئا لا يدعه إلا لله إلا أتاه الله ما هو خير له منه ]
حدثني أخ مقيم في الجبل قال لي: أنا فررت بديني في أيام المِحَن التي أصابت تركيا في أيام أتاتورك، قال لي: فررت بديني وأولادي، قال لي: أكرمني الله إكراماً منقطع النظير، لا يوجد إنسان يدع شيئاً لله إلا عوَّضه الله خيراً منه في دينه ودنياه، الله هو الفعَّال، فإذا اختار الإنسان مرضاة الله تأتيه الدنيا وهي راغمة.
"من أحبنا أحببناه، ومن طلب منا أعطيناه، ومن اكتفى بنا عما لنا كنا له وما لنا، أوحى ربك إلى الدنيا أنه من خدمك فاستخدميه، ومن خدمني فاخدميه، أنت تريد وأنا أريد فإذا سلَّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد" .
نكتفي بفكرة واحدة في هذا الدرس أن تعرف الهدف، وأن تختار الوسائل الفعَّالة التي تُوصلك إليه، صار عندك رؤية صحيحة، واختيار صحيح، تختار الزوجة، تختار العمل، تختار الأصدقاء، تختار الحركة، كل حركتك في رضوان الله عزَّ وجل.
وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى ننتقل للآيات الثانية.
الملف مدقق