الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الكون مظهرٌ لأسماء الله الحسنى:
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الخامس والستين من دروس سورة البقرة، ومع الآية التاسعة والثمانين بعد المئة، وهي قوله تعالى:
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)﴾
أيها الإخوة؛
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ جمع هلال، وسُمِّيَ الهلالُ هلالاً لأن الإنسان إذا رآه هلَّل، على كل أراد الله الهلال ولعل الآية الكريمة تَعْنِي الكون كلَّه، ما موقع الكون في الدين؟ الكون أيها الإخوة مظهرٌ لأسماء الله الحسنى، أو تجسيدٌ لأسمائه الحسنى، والله عزَّ وجل لا تُدْرِكُهُ الأبصار، ولكن تدركه العقول من خلال آثار القُدْرَة، فالله عزَّ وجل أسماؤه كلها حسنى؛ هو الغني، والقوي، والسميع، والبصير، والحكيم، والرحيم، والمجيب، هذه الأسماء كلُّها يمكن أن تتبدَّى من خلال خلقه، فلو فكَّرنا في مخلوقاته لعرفناه.
هذا جانبٌ من جوانب زاوية فهمنا للكون، الكون يُجسِّد حكمة الله، ويُجسِّد عِلْمَ الله، ويُجسد رحمة الله، ويُجسد قوَّة الله، كلُّ أسمائه الحسنى، وصفاته الفُضلى مُجسَّدةً في الكون، فأنت إذا بحثت في الكون كما أمرك الله عزَّ وجل:
﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)﴾
﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)﴾
﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)﴾
إلى آخره.
تحتَلّ آيات الكونيات سُدُسَ القرآن لأنها تعريفٌ بالله عزَّ وجل من خلال خَلْقِهِ:
لكن يوجد شيء آخر، هو أن الله عزَّ وجل ذكر هذه الآيات التي تزيد عن ألفٍ وثلاثمئة آية في هذا القرآن الكريم، وإذا كان تقترب آياته من ستة آلاف آية، إذاً تحتَلّ آيات الكونيات سُدُسَ القرآن، لأن هذا السدُس تعريفٌ بالله عزَّ وجل من خلال خَلْقِهِ، ولكن شاءت حكمة الله، أو أنه وجَّه نَبِيَّه ألا يتكلَّم عن هذه الآيات إطلاقاً، لأن النبي عليه الصلاة والسلام رأى من آيات ربِّه الكبرى، حينما كان في أعلى مقام، حينما كان في سدرة المنتهى رأى من آيات ربه الكُبرى، ولكن لو أن النبي عليه الصلاة والسلام شرح هذه الآيات الكونية شرحاً كما رأى لأنكر عليه من حَوْلَهُ، ولو وصفها وصفاً مُبَسَّطاً لأنكرنا عليه نحن، وربما أنكر عليه من بعدنا، لأن علم الإنسان في تطوّر، ولأن الكشوفات العلميَّة في تطوّر، فالله جلَّ جلاله ترك الآيات الكونية ليكشِفَ أسرارها عُلماء كل عصرٍ بحسب تفوّقهم ووصولهم إلى بعض الحقائق، لكن الله عزَّ وجل أراد في هذه الآية أن يلفتنا إلى الجانب النَّفْعِي من الآية.
بالمناسبة: الآية الكونيَّة لها جانب معرفي، وجانب نَفْعِي، فالنفعي في الدنيا، فالهلال ننتفع به كمواقيت للناس والحج، أما الهلال يمكن أن يكون أداةً للتعرُّف على الله عزَّ وجل، هذه المهمة المَعْرِفية، وكل شيءٍ خلقه الله عزَّ وجل من دون استثناء له مهمتان: مهمةٌ كبرى؛ وهي تعريف الناس بالله، ومهمةٌ صُغرى؛ وهي الانتفاع به.
أهل الدنيا الكفار استفادوا من الناحية الثانية إلى أعلى درجة، أي كلّ ما في الطبيعة من ثروات، من أشياء جمالية، من نباتات، من أزهار، استفادوا منها، ولكن المؤمنين وحدهم استفادوا من الوظيفة الأولى؛ أنها تعرِّفنا بالله عزَّ وجل، فأينما ذهبت، وأينما جلست، وحيثما نظرت أنت أمام آيات لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى.
الآيات الكونية أدوات معرفية لننتفع بها ونشكر الله:
أنت حينما تشرب كأس الحليب قد لا تنتبه، كأس الحليب هذا مِن مخلوقٍ سخَّره الله لنا، وذله لنا، وهذا المخلوق يأكل من حشيش الأرض، وهناك غُدَدٌ ثدييةٌ بالغة التعقيد، على شكل غدد كبيرة، وأسناخ صغيرة، وعلى شكل حويصلات، وعلى شكل قُبَّة، وتجري حولها أوعيةٌ دمويةٌ كثيفةٌ جداً، وهذه الخليَّة الثديية يجهل العلماء حتى الآن طبيعة عملها؛ تختار من الدم المواد المعدنية، والفيتامينات، والمواد السُكَّرية، والمواد الدسمة، وغازات مُنْحَلَّة، وتصنع منها قطرة حليبٍ تسقط في جوفٍ ينتهي إلى ضِرْعِ البقرة،
فالإنسان حينما يشرب كأس الحليب، أو يأكل قطعة جبن ينبغي أن يتذكَّر أنّ هذه آيةٌ كبرى:
﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)﴾
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)﴾
فالذي أريد أن أبدأ به الدرس هو أن هذه الآيات الكونية آياتٌ من أجل أن نعرف الله، وكلَّما فكَّرنا فيها ازدادت معرفتنا بالله، وهذه الآيات الكونية أدوات معرفية، والعقل مصمم على التعامل معها تعاملاً إيجابياً، فقد يكون طريق معرفة الله، أو أحد طرق معرفة الله، أو أحد أكبر طرق معرفة الله التفكُّر في خلق السماوات والأرض، الحد الأدنى من هذه الآيات الكونيَّة أن ننتفع بها، وإذا انتفعنا بها شكرنا الله عزَّ وجل.
نظرية أينشتاين التي يتباهى الغرب بها مودعة في آيةٍ قرآنيَّة:
إنسان لا يعرف ما هو الحليب كيف يُصنع؟ أما شرب كأساً من الحليب قال: الحمد لله، فلك أن تتحرَّك في المستوى الأدنى أن تأخذ الانتفاع وتشكر الله عليه، ولك أن تصعد إلى المستوى الأعلى، أن تفهم سرَّ هذه الآية، بحسب ثقافة الإنسان، بحسب معطياته، بحسب علمه، بحسب البيئة التي يعيش بها، لو عاش ببيئة بسيطة، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ انتهى الأمر، تقويمٌ موضوعٍ في السماء يراه كل الناس، تقويمٌ كبير تحت يدي كل إنسان، يقول لك: أول الشهر، نصف الشهر، القمر بدر، أما لو أردنا أن نفهم قضية القمر بشكلٍ علمي، أو بشكلٍ تفصيلي لدُهشنا.
أيها الإخوة؛ هذا القمر يدور حول الأرض دورةً كل شهر، لو حسبنا كم يقطع من الكيلومترات في رحلته حول الأرض؟ والقضية بسيطة جداً، إذا وصلنا مركز القمر ومركز الأرض بخط، هذا الخط هو نصف قطر الدائرة التي هي مسار القمر حول الأرض، من نصف قـطر الدائرة نعرف قطر الدائرة ضرب اثنين، ومـن قطر الدائرة نضربه بالبي 3.14 نأخذ المحيط، فلو حسبنا البعد بين مركزِ الأرض ومركز القمر، أو بين سطح الأرض وسطح القمر مضافاً إليهما المسافة بين السطح والمركز في كل من الأرض والقمر لعرفنا نصف القطر، لو ضربنا هذا الرقم باثني عشر، كم يقطع القمر في رحلته في عام، لو ضربناه بألف، كم يقطع القمر في رحلته في ألف عام، لحصلنا على رقم كبير.
هذا الرقم لو قسَّمناه على ثوانِي اليوم:
﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)﴾
لنتج معنا سرعة الضوء الدقيقة، مئتان وتسعة وتسعون ألفاً وسبعمئة واثنان وخمسون، هذه أحدث نظرية نظريةُ أينشتاين النسبيّة، القائمة على أن الأجسام إذا سارت بسرعة الضوء أصبحت ضوءاً، وتوقَّف الزمن، فالزمن هو البعد الرابع للأشياء، وأنّ هذه الأشياء لو سبقت الضوء لتراجع الزمن، وأنّ هذه الأشياء لو قصَّرت عن الضوء لتراخى الزمن، وأنّ الشيء إذا سار مع الضوء أصبحت كتلته صفراً وحجمه لا نهائياً، هذه النظرية الطويلة التي يتباهى الغرب أنه كشفها في القرن العشرين مودعة في آيةٍ قرآنيَّة: ﴿وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ أيْ ما يقطعه القمر في رحلته حول الأرض في ألف عام يقطعه الضوء في يومٍ واحد.
الحكمة من دوران الأرض حول محور مائل:
أيها الإخوة؛ شيءٌ آخر أن القمر في دورته حول الأرض لو أنه يدور بسرعة الأرض تماماً لم يَعد مواقيت للناس والحج، لو أنه يدور مع دورة الأرض حول نفسها تماماً لم يبق القمر مواقيت للناس والحج، ولأن دورته تنزَلِقُ في سرعتها عن دورة الأرض ظهر هلالاً، لأن الشمس والأرض،
الشمس تكبر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرَّة، والأرض أصغر منها كما قلت قبل قليل بمليون وثلاثمئة ألف مرَّة، والقمر بينهما، فحينما تحجب الشمس القمر يظهر هلالٌ منه، وهذا الهلال يكبر ويكبر حتى يصبح بدراً، إذا القمر في جهة ليس بين الشمس والأرض صار بدراً، فإذا كان بين الشمس والأرض حجبته الشمس أو حجبته الأرض فصار هلالاً، والقضية ترجعون إليها في كُتب الفَلَك.
مَنْ جعل هذه الدورة بهذا النمَط؟ هناك أشياء بالفلك إخواننا الكرام قد لا نعلِّق عليها أهميَّة، الأرض لها محور مائل، لو كان المحور عمودياً على مستوي الدوران لألغيت الفصول، الشمس هنا والأرض هكذا، فهذا الوسط صيف دائماً، وهذا الوسط شتاء دائماً، لأن محورها مائل صار هناك مكان عمودي ومكان مائل، فلمَّا انتقلت الأرض إلى الجهة الثانية صار المكان المائل عمودياً، والمكان العمودي مائلاً، صار هناك صيف وشتاء، وربيع وخريف.
لو الأرض تدور في محورٍ يوازِي مستوي دورانها التغت الحياة من على الأرض، دارت هكذا، الشمس من جهة واحدة، الوجه المقابل للشمس مع دورانه حرارته ثلاثمئة وخمسون درجة فوق الصفر، والوجه المقابل مئتان وسبعون تحت الصفر، انتهت الحياة، أي تعديل على وضع الأرض؛ في حجمها، في شكلها، في دورانها، في ميل محورها يُعَطِّل هذا النظام المبدع الذي نحن نعاينه.
الكون سخره الله لنا تسخير تعريف كي نؤمن وتسخير تكريم كي نشكر:
أيها الإخوة الكرام؛ ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ إذاً الكون الذي بين أيدينا والذي سخَّره الله لنا مسخَّرٌ لنا مرَّتين: تسخير تعريف، وتسخير تكريم، فَرَدُّ فعل التعريف أن تؤمن، ورَدُّ فعل التكريم أن تشكر، فإذا آمنت وشكرت حقَّقت الهدف من وجودك، قال تعالى:
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾
أيْ حينما تؤمنون، وحينما تشكرون حققتم الهدف من خلقكم، انتهت المعالجات كلها، معنى هذا حينما يسوق الله لعباده بعض المعالجات إما لضعفٍ في إيمانهم، أو لضعفٍ في عملهم، إما هناك خلل في إيمانهم فيسوقهم إلى إيمانٍ أعلى، أو هناك خلل في استقامتهم يدفعهم إلى استقامةٍ أتم
أهدافك في الدنيا لا يمكن أن تصل إليها إلا عن طريق استقامتك على أمر الله:
أيها الإخوة؛
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ لكن مركز الثِّقَلِ في الآية:
﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ هذه الآية أيها الأخوة مهمةٌ جداً في حياة المسلمين، البِر مُطْلَق الخَيْر، أي الخير العميم الصحة، المال، الأهل، انتظام الحياة، فسمِّ الخير المطلق براً، والبر له طريق، قد يسلك الناس إليه طريقاً غير صحيح، الطريق مسدود.
أي من أراد أن يجمع المال بطريقةٍ ذكيةٍ غربيةٍ غير مشروعة ربما لا يجمعه، وقد يجمعه ثم يُتْلِفُهُ الله، أما لو أراد أن يجمعه عن طريق الاستقامة على أمر الله فإنه يُصِبْ هدفه، أريد أن أقول: أهدافك في الدنيا لا يمكن أن تصل إليها إلا عن طريق استقامتك على أمر الله، ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾ من اتّقى أن يعصي الله عزَّ وجل، كل إنسان يتّقى أن يعصي الله وصل إلى البر، طريق النجاح على إطلاقه، طريق الفلاح، طريق الراحة النفسيَّة، طريق الاستقرار الأسري، طريق النجاح في العمل، طريق الشعور بالصحة النفسيَّة، طريق النماء هو أن تكون مع الله، وأن تكون مطبِّقاً لمنهجه.
مثل قريب: معمل كان يعتمد في ترويج بضاعته على الصدق، والأمانة، والإتقان، وخدمة الناس، وبذل الصدقات، تأتي إدارة جديدة لهذا المعمل؛ يُوقِف الصدقات، يُوِقف كل مساعداتٍ للعمال، ويبدأ بحملة إعلانيَّة عالية جداً، هذا طريق غربي لترويج البضاعة.
إن أردت أن تكون ذا مال فاسلك طريق الحق، هناك أساليب غربيَّة، أرضيَّة، نقتبسها من البلاد الشاردة عن الله عزَّ وجل، وهناك أساليب إسلامية، أي إتقان بضاعتك، والاستقامة على أمر الله، والإحسان للخلق سببٌ لترويج بضاعتك، وليس أن تقوم بحملة إعلانيَّة عالية جداً، وهناك من يقول: لابد مع هذه الحملة الإعلانية من امرأةٍ تُروِّج هذه البضاعة، فالوصول إلى هدفك لا يكون عن طريق قوانين اخترعها الكفار، الوصول إلى هذا الهدف يكون عن طريق تقوى الله عزَّ وجل.
الإنسان حينما يقصِّر مع الله عزَّ وجل يدخل في حالة قلق:
قِسْ على المال كل شيء، الوصول إلى النجاح في الزواج لا يكون عن طريق اختيار زوجة تملأ البيت حُسناً وجمالاً، بل عن طريق اختيارها تملأ البيت تقوىً وصلاحاً، المرأة الصالحة هذه أحد أسباب السعادة الزوجية، فلذلك حينما يبحث الإنسان عن مصالحه، أو يبحث عن مطامحه بطريقةٍ غير منهجيةٍ صحيحة فهو يمشي في طريقٍ مسدود، الآية دقيقة جداً، ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ فالإنسان حينما يُقصِّر مع الله عزَّ وجل يدخل في حالة قلق، هذا القلق يُدمِّر صحته النفسية، القلق لأن الزمن ليس لصالحه، والإنسان معرَّض أن يقع في حادث، أن يقع في فقر مفاجئ، أن يقع في مرضٍ شديد، أن يقع في خلاف في عمله، أن يخسر بعض ما آتاه الله، فما دام يمشي وحده من دون مظلةٍ إلهيةٍ فهو في قلق، أما لو أراد السعادة النفسية فجعل من طاعته لله سبباً لهذه السعادة حصَّل ما يريد، ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾ أي هناك أشياء واضحة، إذا أنت أقرضت قرضاً ربوياً، المئة ألف تعود لك مئة وعشرين ألفاً على الآلة الحاسبة، أما إذا أقرضت قرضاً حسناً لوجه الله، المئة ألف تعود مئة ألف، وإذا كنت أنت اقتصادياً، وعندك معلومات دقيقة في الاقتصاد، تقول: صار تضخم نقدي بالمئة سبعة عشر، معنى ذلك أن المبلغ رجع لي ثلاثاً وثمانين فقط، يأتي القرآن فيقول لك:
﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)﴾
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)﴾
أنت أمام حسابات بسيطة، وأمام آية قرآنية من عند خالق الكون، أنا أريد وأنا في هذه الآية أن أشرح لكم أن الطريق إلى البر، مُطلق البر السلامة والسعادة في الدنيا والآخرة هو طاعة الله، وهناك مناهج أرضيَّة، وهناك مسالك أرضيَّة، وهناك سُبُل، وهناك قوانين لا تُعَدُّ ولا تحصى، إنها كلها تنتهي إلى طريقٍ مسدود.
لن نحقِّق أهدافنا الكبرى في الدنيا والآخرة إلا بطاعة الله عزَّ وجل:
في بلادٍ شردت عن الله عزَّ وجل، من أجل ترويج البيع البضاعة التي يقتنيها الرجال يضعون بائعات، وفي البضاعة التي يقتنيها النساء يضعون بائعين من أجل الجذب،
وتارةً باليانصيب، وتارةً بالسحب، وتارةً بجوائز مُغْرية، وتارةً بإعلانات فاضحة، هذه كلها أساليب تُستخدم لترويج البيع والشراء، أما البر فأن تأتوا البيوت من أبوابها.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾
إنسان قد يظن أنّ سعادته الزوجية باختيار زوجةٍ في أعلى مراتب الجمال، وبعد أن يقترن بها ينظر إلى غيرها بشكلٍ أو آخر، أما حينما يغُضُّ بصره عن محارم الله يصل إلى السعادة الزوجية دون أن يشعر، فالسعادة الزوجية لها طريق، الربح له طريق، كله ضمن منهج الله عزَّ وجل، أن تبيع وأن تربح يجب أن تكون صادقاً، وأن تكون أميناً، وأن تكون بضاعتك شرعيَّةً، فأنا أضرب الأمثلة من أجل توضيح هذه الحقيقة: لن تحقِّق أهدافك الكبرى في الدنيا والآخرة إن لخَّصناها بسلامتك وسعادتك إلا بطاعة الله عزَّ وجل.
الإنسان بعقله يصل إلى الله ولكنه لا يحيط به:
﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أيْ أنْ تكشف القوانين، هناك حقيقة، الله عزَّ وجل يقول:
﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)﴾
وقال بعض علماء التفسير: إن الأمة إذا أمسكت بهذا الحبل جميعاً، والله يُمسك بهذا الحبل، فهم مع الله دائماً، هم في نجاةٍ من عدوانٍ، نجاةٍ من قهرٍ، نجاةٍ من ظلمٍ، نجاةٍ من خوف، فكلما تمسَّكنا بحبل الله كنا في سلامةٍ وسعادة، فإذا تفلَّتنا من هذا الحبل، وتبعثرنا، وأصبحنا في مناهج شتى، طبعاً ليس الله معنا.
يا أيها الإخوة الكرام؛ دائماً وأبداً الخير كل الخير، والنجاح كل النجاح، والتفوُّق كل التفوُّق، والسعادة كل السعادة في طاعة الله، ومستحيلٌ وألف ألف مستحيل أن تطيعه وتخسر، أو أن تعصيه وتربح.
أيها الإخوة؛ مرَّةً ثانية ينبغي أن نعلم أن الإنسان بعقله يصل إلى الله، ولكنه لا يُحيط به، يصل بعقله إلى الله من خلال خلقه، وهذا الكون الذي هو خلق الله عزَّ وجل هناك مستوى أعلى في فهمه، وهناك مستوى أدنى، لو أدركت الناحية النفعية منه فقط، ذكرت مثلاً الحليب، ممكن أن تقول: هذا الحليب من صنعه لنا؟ الله جلّ جلاله سخر لنا هذه البقرة وهي تعطي الحليب، ويمكن أن تكتشف آلية هذا العمل الدقيق جداً عن طريق العلم والدراسة والبحث، فأنت حينما تعرف الله من خلال الكون يقفز إيمانك، وحينما تشكر الله من خلال هذه النعمة يزداد حبك.
(( عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أحِبوا اللهَ لما يغْذوكم من نعَمِه، وأحِبُّوني بحُبِّ اللهِ، وأَحِبُّوا أهلَ بيتي بحُبِّي. ))
العبرة أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، والكون مسخَّر تسخيرين: تسخير تعريفٍ وتكريم، أنت إن آمنت حقَّقت تسخير التعريف، وأنت إن شكرت حققت تسخير التكريم، وأن الآيات الكونيَّة في القرآن الكريم لم يتحدَّث النبيُّ عنها شيئاً بل تركها لكل عصرٍ، تُفهم بحسب تطوره العلمي، وكل آيةٍ كونيةٍ تُفهم على مستوياتٍ عديدة، ولكن النهاية أن الله يحاسبك عن منهجه هل طبَّقته أم لا؟
في القرآن آياتٌ لمَّا تُفسّر بعد وكلما تقدَّم العلم ظهرت بعض التفسيرات:
لو تصوَّر إنساناً حقيقة كونيَّة على خلاف ما هي عليه، وكان مطيعاً لله ينجو، معه تكليف: افعل ولا تفعل، فالعبرة أن تُطبق التكليف، فإذا أحببت أن تفهم أن هذا القمر مواقيت للناس والحج فقط، إذا أحببت أن تفهم أن هذا القمر في دورته حول الأرض يعبر عن النظرية النسبيَّة بتفصيل دقيق، تحتاج إلى علماء فلك لِيقيسوا بعد الأرض عن القمر، ويكشفوا مركز القمر ومركز الأرض، والخط بينهما، ثم يُضرب بضعف، ثم يضرب بالـ بي ثم نجري حساباً كم يقطع القمر في رحلته حول الأرض في ألف عام؟ ثم نقسمه على ثواني اليوم نحصل على سرعة الضوء، معنى هذا أن هذه النظرية العظيمة هي واردة في القرآن، واردة كأصول.
فأنت حينما تفهم الشيء بشكل نفعي مباشر، مقبول ومشكور، العبرة أن تطيع الله عزَّ وجل، وحينما تفهم هذه الآية بشكل علمي عميق جداً، وقد تظهر علومٌ جديدةٌ في المستقبل تُوضِح لنا خفايا بعض الآيات التي نقرؤها الآن، وقد لا نفهم منها شيئاً، هذا ما يعنيه الإمام عليّ كرَّم الله وجهه: "في القرآن آياتٌ لمَّا تُفسَّر بعد" ، كلما تقدَّم العلم ظهرت بعض التفسيرات، مثلاً اقرأ قوله تعالى:
﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21)﴾
افتح كل التفاسير، آيةٌ حيَّرت العلماء، أين هذا البرزخ بين البحرين؟ أين هو؟ هذا البحر الأحمر والبحر العربي، والأبيض والأسود، والأبيض والأحمر، والأبيض والأطلسي، والأطلسي والهادي، عند المضائق والمعابر أين هذا البرزخ بين البحرين؟ حينما صعدوا إلى الفضاء الخارجي رأوا خطاً بين كل بحرين، رسمت آلات التصوير خطاً بين كل بحرين، هذا الخط خط تباين الألوان، فلما نزلوا إلى الأرض وجدوا أن كل بحرٍ له كثافته، وملوحته، ومكوِّناته، وخصائصه، وأن مياه أيّ بحرٍ لا يمكن أن تختلط بالبحر الآخر، ولو كان هناك اتصالٌ بينهما، هذا الشيء كشفه عالم البحار الشهير ولم يعلم أن في القرآن آيةً تشير إلى هذه الحقيقة، الآن عُرف أن هذه الآية تعني أن بين كل بحرين برزخاً: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ ثم اكتشفوا أن بين كل بحرِ ملحٍ أجاجٍ وبحرٍ عذبٍ فرات أيضاً برزخ، لذلك مصبَّات الأنهار في البحار فيها أكبر تَجَمُّع سَمَكي، لأن أسماك المياه العذبة لا تنتقل إلى المياه المالحة، فأكبر مكان صَيْد هو مَصَبَّات الأنهار العذبة في البحار.
آيات من القرآن تؤكد الإعجاز العلمي في القرآن:
الحجر المحجور هو حاجزٌ بين المياه العذبة والمالحة أيضاً، لا ينتهي الموضوع موضوع الآيات الكونية التي كشف العلماء أنها تنطبق على الحقيقة العلميَّة مئةً بالمئة، فهناك شيء متعلق بخلق الإنسان،
شيء متعلق بالأجرام السماوية، لا يوجد شكل هندسي إذا دار حول نفسه أمام منبعٍ ضوئي يتداخل الأبيض والأسود، أو النور والظلام إلا الكرة، والأرض كذلك، معنى قوله تعالى:
﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)﴾
أيْ يتداخل الليل والنهار في الكرة الأرضيَّة، لأنها هي كرة.
﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)﴾
لا يوجد شكل هندسي تمتد عليه الخطوط إلى ما لا نهاية إلا الكرة، أما أي شكل آخر؛ مكعَّب، متواز، موشور، فيه حروف، الشكل الهندسي الوحيد الذي ليس له حروف هو الكرة: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ﴾ .
أصول العلوم كلها موجودة في الآيات القرآنية الكونية:
﴿ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)﴾
الآن نظام العجلات تحتاج إلى أثقال خفيفة كي تستقيم في دورتها، لولا هذه الأثقال لاضطربت، ﴿وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ هذه آية قرآنية، آيات كثيرة تشير إلى أن الجبال كالأوتاد، معنى كالأوتاد أي أنها تربط طبقات الأرض بعضها ببعض.
﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)﴾
فأنت لو قرأت الآيات القرآنية الكونية لوجدت فيها أصول العلوم كلها، هذه موضوعاتٌ للتفكر ولمعرفة الله عزَّ وجل.
الآية التي درسناها: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ .
الملف مدقق