وضع داكن
07-11-2024
Logo
الدرس : 61 - سورة البقرة - تفسير الآيات 180- 184 الوصية والعبادات الشعائرية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

مركز الثقل في الآية الكريمة التالية هو الموت:


أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الواحد والستين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الثمانين بعد المئة وهي قوله تعالى:

﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)﴾

[ سورة البقرة ]

أيها الإخوة الكرام؛ في هذه الآية الكريمة مركز ثقل، ألا وهو الموت فالله عز وجل يقول: 

﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)﴾

[ سورة الملك ]

ولأنه قدم الموت على الحياة فهناك حكمة بالغة بالغة، ذلك أن الموت أخطر من حدث الحياة، حدث الموت أخطر من حدث الحياة، لأن الإنسان حينما يولد أمامه خيارات كثيرة، وفوق هذه الخيارات كل أغلاطه أو ذنوبه يمكن أن يتوب منها، البدايات، أما الموت حينما يأتيه الموت:

﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)﴾

[ سورة الأنعام ]

﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)﴾

[ سورة الأحزاب ]

 

خطورة الموت أنه يُحدد مصير الإنسان الأبدي إلى ما شاء الله:


خطورة الموت أنه يُحَدد مصير الإنسان الأبدي إلى ما شاء الله، ومعنى كلمة أبدي أي ألف مليار سنة، أعمارنا نحن بين الستين والسبعين كما ورد في بعض الأحاديث، ألف مليار، ملْيار مليار، مليار مليار مِليار، إلى أن ينقطع النفس، أكبر رقم تتصوره واحد في الأرض وأصفار إلى الشمس، مئة وستة وخمسون مليون كيلومتر أصفاراً بين كل صفرين ميليمتر، هذا الرقم إذا نُسِب إلى اللانهاية، إلى الأبد فهو صفر، أي رقم مهما كَبُر إذا نُسِب إلى اللانهاية فهو صفر، ما معنى؟ 

﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)﴾

[ سورة التغابن ]

ما معنى؟ 

﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)﴾

[ سورة التوبة ]

وما معنى؟ 

﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)﴾

[ سورة البقرة ]

هذا هو النعيم المقيم، هذا هو النعيم الذي خُلِق الإنسان من أجله، أما هذه السنوات المعدودات، الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه.
 

أكبر خسارة أن تخسر الآخرة وأكبر ربح أن تربح الآخرة:


يا أيها الإخوة الكرام؛ حدث الموت إن لم يدخل في صميم حياتنا، وفي صميم عقيدتنا، وفي صميم برامجنا، وفي صميم سلوكنا، فقد يكون حدثاً مؤلماً جداً. 

﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)﴾

[ سورة المدثر ]

والله قد تأتي على من شارف الموت تأتي عليه ساعة يقول: لم أر خيراً قط، من شدة الآلام التي تنتابه، ألم الخسارة الكبرى.

﴿ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)﴾

[ سورة الزمر ]

أكبر خسارة أن تخسر الآخرة، وأكبر ربح أن تربح الآخرة، ولو أن الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء، قال: 

(( عن سهل بن سعد أنه جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزى به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، وأعلم أن شرف المؤمن صلاته بالليل وعزه استغناؤه عن الناس. ))

[ رواه الطبراني رواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه  ]

 

البطولة أن تعدّ لما بعد الموت:


يا أيها الأخوة الكرام؛ هل من حدث في حياتنا جميعاً أشد واقعيةً من الموت؟! نقول: حدث الغنى، قد يصيبنا وقد لا يصيبنا، حدث الفقر، قد يصيب وقد لا يصيب، وحدث مثلاً المرض، قد يصيب وقد لا يصيب، أما حدث الموت فلا يمكن أن ينجو منه أحد، ومادام الموت انتقال من دار إلى دار، من دار الفناء إلى دار الخلود، ماذا أعدّ الإنسان لهذه الدار الطويلة؟! هل يوجد إنسان يسافر لا يكون معه مبلغ من المال يصلح له في السفر؟! 
أيها الإخوة الكرام؛ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ لذلك أدخل المؤمن حدث الموت في برامجه اليومية، أي كلما وقف موقفاً، كلما دعي إلى عمل، إلى قول، إلى لقاء، إلى سفر، يسأل نفسه هذا السؤال: ماذا أجيب الله يوم القيامة؟ لِمَ فعلت؟ ولِمَ لَمْ تفعل؟

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)﴾

[ سورة الحجر ]

النقطة الدقيقة هي أن كل واحد منا له عمر، كيف مضى؟ مضى كلمح البصر، وإن سأل نفسه هذا السؤال الحرج: كم بقي؟ وفي الأعم الأغلب وعند معظم الكهول قد يكون الذي بقي أقل من الذي مضى، مادام الذي مضى قد مضى كلمح البصر فالذي بقي يمضي أيضاً كلمح البصر، وما هي إلا ساعة وتُعلن وفاة الإنسان، ونحن كل يوم نستمع إلى عالم جليل، إنسان له شأن خطير، وافته المنية فجأةً، وقد يكون ملكاً، وقد يكون عالماً كبيراً، وقد يكون بمنصب رفيع، الموت يأتي بغتةً والقبر صندوق العمل.
البطولة أيها الإخوة أن تُعِدّ لما بعد الموت. 
 

الفرق بين الوصية وبين الهبة:


﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ هذه الآية قال علماء الفقه وعلماء التفسير معاً نُسِخت بآيات المواريث، على كلّ ورد عن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه: 

((  سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-يقول في خطبته في حجة الوداع: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث. ))

[  أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث أبي أمامة  ]

الوارث بآيات المواريث لا وصية له، الوصية مالٌ يستحق بعد الموت، أما الهبة فمالٌ يُعطى في الحياة، فالأب له أن يهب أولاده بالعدل في حياته ما يشاء والأولى أن يعدل، لأن النعمان بن البشير أتى النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: 

(( يا رسول الله اشهد أني نحلت ابني حديقة، قال: ألك ولد غيره؟ قال: نعم، قال: أنحلت كلاً منهم ما نحلت ابنك، قال: لا، قال: فأشهد غيري فإني لا أشهد على زور. ))

[ مسلم ]

العدل في توزيع الهِبات من صفات المؤمن، وقد يُرَجح الفقهاء أن تجعل الهبة لأولادك في حياتك مساوية لبعضهم بعضاً للذكور والإناث لأنها هبة، الأولى أن تكون مساوية، بالتساوي، أما بالإرث: 

﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)﴾

[ سورة النساء ]

إذاً أول نقطة في هذه الآية يجب أن نُفرق بين الوصية وبين الهبة، الوصية تستحق بعد الموت، ولا وصية لوارث، أما الهبة فتستحق في الحياة، والله عز وجل سيسأل هذا الإنسان لمَ أعطيت زيداً ولم تعطِ عبيداً؟ لمَ أعطيت ابنك هذا ولم تعطِ ابنك هذا؟ فإذا كان معك جواب لله عز وجل واضحاً جلياً ربما تثبت حجتك أمام الله، قد يكون ابن عاجز، مصاب بعاهة دائمة، لا يستطيع كسب قوت يومه، فلو وهبت له في حياتك دكاناً يعيش من أجرتها فلا مانع، ومعك عند الله جواب، أما قد يكون لك ابن من زوجة تحبها، وابن من زوجة لا تحبها، تعطي ابن الأولى وتحرم ابن الثانية، هذا ظلم شديد، وسوف تحاسب عنه يوم القيامة، ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ الذي يتقي الله عز وجل، يتقي غضبه وسَخَطه، يجب أن يُوظف ماله للآخرين، ولكن حينما يُخَصِص الإنسان قبل موته مبلغاً لأعمال البر، هذا المبلغ يجب ألا يزيد عن الثلث، والأولى يجب ألا يزيد عن الربع.
 

الوصية يجب أن تُوَثَّق:


الإنسان حينما يوصي ببعض ماله لطلاب العلم، لبناء المساجد، لأعمال البر، ينبغي  ألا يزيد هذا المال المخصص عن الثلث، أو عن الربع، والثلث كثير، إذاً عن الربع. 
أما لو ترك بيتاً صغيراً، وترك أولاداً عدة، وزوجة، ليس لهم إلا هذا البيت، فلا يمكن أن يوصي ببعض هذا البيت لطلاب العلم، أو لأعمال البر، لأنه إن فعل هذا سيُضطرون لبيع البيت، وإلى أن يتشردوا، فإن تركت شيئاً قليلاُ لعله يكفي أهلك الأقربين، أنت معفى من الوصية، أما إن تركت مالاً وفيراً، وخصصت من هذا المال مالاً للفقراء، والمساكين، والمساجد، ودور العلم، وطلاب العلم، فهذا يمكن أن يكون مقبولاً، على ألا تزيد الوصية عن الثلث، والأولى ألا تزيد عن الربع، الوصية تؤدى بعد الوفاة، أما هذا الذي يوصي لابنه ببيت، الابن وارث، هذه وصية باطلة، لك أن تهبه في حياتك، لعلة ولسبب وجيه يقبله الله منك، أما أن تُخَصص له بعد الموت شيئاً يزيد عن بقية الورثة فهذا باطلٌ شرعاً. 

﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)﴾

[ سورة البقرة ]

هذا المتوفى إن كتب وصية واضحة جلية أشهد عليها رجالاً عدولاً، والآن سجلها بالمحكمة الشرعية، أو عند كاتب العدل، ثم جاء من بعده من يبدل هذه الوصية، ومن يُزورها، ومن يُنكرها، فالإثم على من بدل لا على الموصي، أي هذا أدى ما عليه، أما الآن -وهذه نصيحة أرجو الله سبحانه وتعالى أن تكون واضحة عند الناس-درهم تنفقه في حياتك خير من مئة ألف درهم يُنفق بعد مماتك، أي والعياذ بالله أكثر الأهل الآن لا تسخو أنفسهم بتنفيذ وصية والدهم، أكثر من عشر وصايا في حوزتي لم تُنفذ، أي أودعت عندي أمانة لم تنفذ، رجل ترك لأولاده عدة أبنية، وصّى بمئة ألف لم تنفذ، لذلك درهم تنفقه في حياتك خير من مئة ألف درهم ينفق أو لا ينفق بعد مماتك، لذلك الوصية ينبغي أن توثق، الآن لا يكفي أن تكتب، لابد أن تُوثق عند كاتب العدل، أو في المحكمة الشرعية كي تنفذ، إن أردت أن تُنَفذ فعلاً، أما إن كتبتها ولا تعلم ما سيكون فالأغلب أنها لا تنفذ.

الوصية الواجبة:


قال تعالى:

﴿ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)﴾

[ سورة البقرة ]

في حالات يكون الأب جاهلاً، يحب أحد أولاده محبة أساسها التملق لإحدى زوجاته، يكتب له، أو يخصه في حياته بأكثر أمواله، فلو أن هذا الابن عرف أن أباه سوف يدخل النار بهذه الوصية، أو بهذا العطاء، أو بهذه الهبة، وتنازل عن وصيته إلى إخوته، أو أصلح هذه الوصية وجعلها وفق التشريع الإسلامي فلا إثم عليه، بالعكس أنقذ والده من إثم كبير، إذا ظلم الأب، وأعاد أحد أولاده الحق إلى نصابه، معنى ذلك أن هذا الابن البار أنقذ أباه من حساب عسير يوم القيامة، ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إثماً﴾ أي انحرافاً عن الحق، ﴿ أَوْ إثماً﴾ انغماساً في باطل، ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ الله عز وجل ينظر إلى القلب، إن كان في القلب رغبة بإنقاذ هذا المتوفى من عذاب الله، ولاسيما وقد ورد في بعض الأحاديث أن الرجل يعبد الله ستين عاماً فيظلم في الوصية فتجب له النار، ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ .
بالمناسبة يوجد وصية واجبة، إنسان له بيت باسمه ليس له، يوجد معه مبلغ من المال، أودع عنده أمانة، يجب أن يكتب وصية: هذا المبلغ ليس لي، لأن الإنسان إذا مات المال الذي بحوزته يكون حكماً له، ولو أن الورثة أصغوا إلى كل اعتراض، ولكل طلب، لجاء من يكذب، لذلك لا يُطَالِب الإنسان ورثةً إلا بالدليل والبيان، فإذا كان هناك مال معك ليس لك أُودع عندك أمانة، يجب أن تضعه في حرز حريز، ويجب أن تكتب عليه، ويجب أن تكتب وصية تشير فيها إلى أن هذا البيت ليس لي، وهذا المبلغ ليس لي، هو لفلان بن فلان، يؤدى له عند الطلب، وكم من مأساة وقعت؟! كم من أناس ماتوا فجأةً وفي حوزتهم أموال ليست لهم؟! لذلك إذا كان في حوزتك أموال ليست لك، أو يوجد تسجيل صوري بالعقارات، ينبغي أن تكتب وصية وأنت في الثامنة عشرة من عمرك، مهما يكن سنّ من أُودِعت عنده هذه الأموال قليلة يجب أن يكتب الوصية. 
 

الفرق بين الأمر التشريعي والأمر التنظيمي:


قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)﴾

[ سورة البقرة ]

كلمة: ﴿كُتِبَ﴾ ، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ﴾ ، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ ، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ أي أوامر تشريعية ثابتة، عندنا أمر تشريعي من عند الله عز وجل، وببيان رسول الله، وهناك أمر تنظيمي، فرق كبير بين الأمر التشريعي وبين الأمر التنظيمي، يروي كتّاب السيرة أن هؤلاء الذين أوصاهم النبي أن يقفوا على رأس جبل أحد، وأن يكونوا مع الرماة، وخالفوا وصيته، ونزلوا إلى أرض المعركة طمعاً بالغنائم، هؤلاء صلى عليهم النبي عليه الصلاة والسلام، ذلك أنهم خالفوا أمراً تنظيمياً، ولم يخالفوا أمراً تشريعياً، أما الأمر التشريعي الذي ورد في القرآن الكريم، والذي ورد في السنة الصحيحة المطهرة، هذا أمر له حساب خاص، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ ،﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ ، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ذكرت لكم في درس سابق أن الله يخاطب عامة الناس بأصول الدين، ويخاطب المؤمنين بفروع الدين، فالمؤمن آمن بالله، آمن بالله رباً، وخالقاً، ومسيراً، وواحداً، وموجوداً، وكاملاً، ما دمت قد آمنت بالله عليماً، حكيماً، قديراً، غنياً، خبيراً، هذا أمره، تأتي التفاصيل للمؤمنين، أما هذا الذي شرد عن الله، وغفل عنه، فينبغي له أن يؤمن به أولاً حتى يستجيب لأمره ثانياً.
 

العبادات في الإسلام نوعان عبادات تعاملية وعبادات شعائرية:


﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ في هذه الآية إشارة إلى أن الشرائع السماوية مُتقاربة، لأن الإنسان هو الإنسان، يوجد ثوابت، يوجد متغيرات، له نفس، يوجد طباع، يوجد ميول، يوجد رغبات، والخالق واحد، ففي الأعم الأغلب ينبغي أن تأتي التشريعات الإلهية متشابهة، إلا إذا كان هناك ظروف خاصة جداً في مكان، أو في زمان، أو في أمة، فقد تأتي تشريعات خاصة بها، أما شريعة النبي عليه الصلاة والسلام فهي الشريعة الخاتمة لكل البشرية جمعاء، لذلك جاءت موافقة مع كل حاجات المجتمعات، ذلك أنها خاتمة الشرائع، فهذه الإشارة إلى أن الصيام كُتِب على الذين آمنوا، وكُتِب على الذين من قبلهم، قال: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ .
أيها الإخوة؛ بادئ ذي بدء العبادات في الإسلام نوعان؛ عبادات تعاملية، صدق أمانة، إخلاص، تواضع، أداء حقوق، وفاء بالوعد، إحقاق الحق، إبطال الباطل، الإنصاف، أن تعطي كل ذي حقّ حقه، هذه عبادات تعاملية، وعندنا عبادات شعائرية، والكلام الدقيق جداً هو أن العبادة التعاملية هي الأصل، فإن صحت صحتْ معها العبادة الشعائرية، أي الشعائرية تقف تصلي، يأتي رمضان فتصوم، تذهب إلى الحج فتحج، عبادات بعضها بدني، بعضها مالي، بعضها بدني مالي، بعضها شعائري، لها أوقات معينة، في أماكن معينة كالحج، في مناسك معينة، في جزئيات معينة، هذه عبادات شعائرية، أي هي مُنَاسبة كي تتصل بالله لكنها منوعة. 
 

إن صحت العبادة التعاملية صحت العبادة الشعائرية:


الصلاة التي فرضها الله علينا خمس مرات في اليوم من أجل أن تتصل به، والصيام الذي فرضه الله علينا ثلاثين يوماً في كل عام من أجل أن نتصل به، والزكاة التي فرضها الله علينا على الأغنياء من أجل أن نتصل به، والحج الذي فرضه الله علينا في العمر مرة من أجل أن نتصل به، ولكن هذه العبادة الشعائرية شحنة، طاقة، والتعاملية حركة، وكلكم يعلم أنّه يوجد عندنا  في الفيزياء طاقة ومادة، العبادة التعاملية، تخرج من البيت عينك لها عبادة، عبادتها غضّ البصر، أذنك لها عبادة، عبادتها ألا تصغي للباطل، وأن تستمع للحق، لسانك له عبادة؛ أن يكون رطباً بذكر الله، يدك لها عبادة، أن تفعل فيها الخيرات لا أن تضرب بها، فالعبادات تعاملية وشعائرية، التعاملية هي الأصل، إن صحت صَحت العبادة الشعائرية، الشعائرية تقف أمام ربك كي تخاطبه، تقريباً بعض الشركات يأتي موظفوها الذين هم في الحقيقة مندوبو مبيعات يأتون إليها في الساعة الثامنة، يأخذون التعليمات، ويذهبون طوال النهار يبيعون ويُروجون بضائع هذه الشركة، وفي المساء يأتون لأخذ عمولتهم، فهناك تعليمات، وهناك عمولة، وهناك حركة، ثماني ساعات في الأسواق، وساعة قبض عمولة، وساعة أخذ تعليمات، هذا مثل دقيق جداً، تأتي إلى المسجد كي تتلقى تعليمات الخالق، تنطلق إلى البيت، إلى عملك، بالبيت بوجد تعليمات وأنت في البيت، يوجد تعليمات وأنت تأكل، يوجد تعليمات وأنت مع أهلك، في تعليمات وأنت مع أولادك، يوجد تعليمات إذا قمت إلى النوم، يوجد تعليمات إذا استيقظت، يوجد تعليمات إذا دخلت الحمام، يوجد تعليمات إذا جلست إلى الطعام، ضمن البيت هناك مئات التعليمات، الآن لبِست ثيابك وخرجت، يوجد تعليمات في الطريق، وصلت إلى محلك التجاري يوجد تعليمات في البيع والشراء، يوجد تعليمات بأصول عرض البضاعة، ليس هناك يمين كاذبة، وليس هناك تدليس، ولا غش، ولا احتكار، ولا إلى آخره، فأنت مع تعليمات دقيقة جداً، تكاد تبلغ مئات الألوف، منهج الله كامل، فأنت أخذت التعليمات من المسجد في خطبة الجمعة، أو في درس التفسير، أو في أي درس آخر وانطلقت إلى البيت وإلى العمل، وعدت في المرة الثانية كي تتصل بالله فتأخذ العمولة، الأجر، التجلي، ما لم نفهم الدين هكذا، من يفهم الدين أنه صلوات في المسجد ليس غير وهو حر في عمله يفعل ما يشاء فهذا إنسان فهمه خاطئ وفهمه بعيد جداً عن الواقع. 
 

بعضٌ من حِكَم الصيام:


فيا أيها الإخوة الكرام؛ الصيام عبادة شعائرية، والآن يوجد عندنا عبادة شعائرية هي الصلاة في اليوم خمس مرات، يوجد عندك خمس شحنات، كل شحنة من الصلاة تكفيك للصلاة التالية، خمس شحنات، يوجد عندنا شحنات أسبوعية خطبة الجمعة، هذه تكفيك لأسبوع كامل، يوجد عندنا شحنة سنوية؛ رمضان الكريم، عندنا شحنة العمر الحج، فمن شحنة يومية، إلى أسبوعية، إلى سنوية، إلى شحنة العمر، لذلك: 

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. ))

[ متفق عليه  ]

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر ما تقدم من ذنبه. ))

[ متفق عليه  ]

أيها الإخوة الكرام؛ هذه الفريضة، فريضة الصيام فرضها الله على الإنسان الذي آمن به وعرفه لحكم بالغة جداً، من هذه الحكم أن الصيام يقوي الإرادة، أي يوجد بالدين مباحات، ويوجد محظورات، في رمضان تغدو المباحات محظورات، الطعام والشراب، كأس الماء، لقاء الأهل، هذا كله مُحَرم في رمضان، أو في نهار رمضان، إذاً هذا الشهر يُقَوّي في الإنسان إرادته، فإذا مضى الشهر يرى أن الشيء الذي كان محظوراً أصبح مباحاً لذلك يتمسك بالطاعات، هو في رمضان ترك المُباحات، فلأن يترك المحظورات من باب أولى، إذاً أحد حِكَم هذا الصيام أنه يقوي الإرادة، أحد حِكَم هذا الصيام أنه يُعرِّف الإنسان بافتقاره إلى الله عز وجل، مادمنا في الإفطار كلما شعرنا بحاجة إلى الماء شربنا، كلما شعرنا بحاجة إلى الطعام أكلنا، ننسى أننا عبيد لله عز وجل، وننسى أن وجودنا متوقف على ماء وطعام، ففي رمضان يشعر الإنسان بشكل واضح جليّ بقيمة الطعام والشراب، وبافتقاره إلى ما عند الله عز وجل، فكأن الصيام درس من دروس العبودية لله، وتقوية للإرادة، وكأن الصيام عبادة الإخلاص، فقد تكون وحدك، وليس هناك أحدٌ مطلعٌ عليك، لا يمكن أن تضع في فمك قطرة ماء، قد تكون في بيتك وحدك والثلاجة فيها ماء بارد عذب كالزلال، وأنت في شدة عطش شديد ومع ذلك لا تشرب، فالصيام عبادة الإخلاص يُقوّي إخلاص الإنسان لله عز وجل، ويُقوّي شعوره بعبوديته لله، وافتقاره إليه، ويُقوّي إرادته، والإنسان حينما يصوم ثم يقف في التراويح ليصلي يشعر أنه فعل شيئاً في سبيل الله، أنه ترك شهوته ابتغاء مرضاة الله، فكأن هذا العمل الطيب يُعينه على أن يُقبل على الله عز وجل فصار في رمضان صيام وقيام، الصيام هو الثمن، والقيام قبض الثمن، ثمن القيام الصيام، لذلك: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله ما تقدم من ذنبه)) .
 و:

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. ))  

[ متفق عليه ]

 

علة الإفطار في رمضان السفر أو المرض:


قال تعالى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)﴾

[ سورة البقرة ]

وهناك حِكَم بالغة لهذه الأيام الثلاثين فلو زادت عن الثلاثين لكان الصيام عبئاً على معظم الناس، ولو قلّ عن الثلاثين لعله لم يحقق الفائدة المرجوة منه. 
﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ أي المسافر علة الإفطار في رمضان السفر أو المرض، فالمريض أو المسافر له أن يُفطر في رمضان، لكن عليه أن يصوم هذه الأيام التي أفطر بها فيما بعد رمضان، إن صُمت رمضان في وقته أداء، إن صُمت أياماً من رمضان بعد مضي رمضان فهي قضاء. 
﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ أي الذي يُطيق الصيام وهو مسافر، أو مريض يُطيق الصيام ويُفطر فالأولى أن يُضيف إلى قضاء رمضان فدية طعام مسكين، وبعضهم قال: وعلى الذين لا يطيقونه، على كل القرآن حمّال أوجه. 
﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي حينما تصومون تشعرون بالقرب من الله عز وجل هذا: ﴿خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ .

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور