الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
مخاطبة الله عامَّة الناس بأصول الدين والمؤمنين بفروع الدين:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الستين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الثامنة والسبعين بعد المئة، وهي قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ ذكرت لكم سابقاً أنّ الله جلَّ جلاله يُخاطب عامَّة الناس بأصول الدين:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)﴾
ويخاطب المؤمنين بفروع الدين، ذلك أن بين المؤمن وربِّه عقداً إيمانياً، أي يا أيها الذي عرفتني، يا أيها الذي آمنت بعدلي، آمنت بقدرتي، آمنت بمنهجي، آمنت بأن الطريقة التي رسمتها لك تُفضي إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض، كل المعاني الكبرى التي جاء بها الدين منطوية في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يا من آمنتم بالله وحده، يا من آمنتم به موجوداً كاملاً واحداً، يا من آمنتم به خالقاً رباً مسيِّراً، يا من آمنتم بحكمته، يا من آمنتم بعدله، يا من آمنتم أنه لن يدع خَلقه من دون منهجٍ يسيرون عليه، يا من آمنتم بأن الدنيا دارٌ فانية، وأن الآخرةَ لهي الحيوان.
المؤمن على يقين أن آيات القرآن هي منهج الله سبحانه:
كلُّ المعاني الكبرى التي جاء بها الدين مختزلة في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي أنت مؤمن، وما دُمت مؤمناً فهذا منهج الله عز وجل، أنت في الصلاة تقول:
﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)﴾
يقول الله عز وجل لك في الصلاة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ وأنت حينما تقرأ السورة في الصلاة ينبغي أن تفهمها على أنها منهج الله، وعلى أنك سألت الله قبلها، قلت له: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ اهدنا المَنهج القويم، اهدنا الطريق الذي يؤدِّي إليك، والذي يؤدي إلى سلامتنا وسعادتنا، فأيَّة آيةٍ مصدرةٌ بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ينبغي أن تُفهم هكذا، والذي حينما يقرأ هذه الآية لا يتأثر بها، ولا يرى نفسه معنياً بها، ففي إيمانه خللٌ خطير، المؤمن الصادق الحق هو الذي إذا قرأ مثل هذه الآية رأى نفسه مُخاطباً بالقرآن الكريم، أنت مؤمن، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ .
الكتابة ومشتقَّاتها في القرآن الكريم دليل الثبات:
أما كلمة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ الكتابة ومشتقَّاتها في القرآن الكريم دليل الثبات، كيف أنَّك إن اشتريت شراءً شفهياً قد تخشى أن يَنْكُلَ البائع، وإن اشتريت بيتاً شراءً شكلياً، شفهياً تخشى أن يأتي على البائع ساعةٌ يندم على بَيْعَتِهِ فينسحب من هذه البيعة، أنت ماذا تفعل؟ تريد عقداً مكتوباً، يقول لك: وقَّعت عقداً، لا يوجد عند ربنا عزَّ وجل كتابة، كن فيكون، لكن الكتابة ومشتقاتها إذا وردت في القرآن الكريم فهي تطمينٌ لهذا الإنسان:
﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)﴾
﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)﴾
الكتابة ومشتقاتها إذا وردت في القرآن الكريم فهي تطمينٌ للإنسان:
كل مشتقات الكتابة في القرآن الكريم دليل أن هذا الإنسان بحسب معطياته المادية، بحسب علاقاته الاجتماعية، بحسب حركته في الحياة، عنده قناعة أن الشيء المكتوب ثابت، والشيء غير المكتوب غير ثابت، فربنا عز وجل تمشياً مع فِطرة الإنسان ومع جِبلَّته يُطَمئْنِهُ بألفاظ: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ ، ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ ولكم أن تُرَاجعوا الكلمات التي جاءت في القرآن الكريم التي فيها معنى الكتابة لتروا أن الكتابة تطمينٌ لهذا الإنسان.
الله عز وجل هو الحق لذلك شرع القصاص:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ القصاص من قَصَّ الشيء تتبعه، وهناك اشتقاقات كثيرة من معنى قَصَّ، المُجرم حينما يقتل لابدّ ممن يتتبع مكانه ليقبض عليه، ثم لابد من محاكمته، ثم لابد من إيقاع العقوبة به، تتبُّع الأخبار والمحاكمة وإيقاع العقوبة مجمل هذا النشاط اسمه: قِصاص، في محكمة جنايات في قصر العدل ذكر لي بعضهم أن آيةً قُرآنيةً كبيرةً جداً وُضِعت فوق رأس القاضي، من يقرؤها؟ المذنبون في قفص الاتهام، كُتِب في هذه اللوحة:
﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)﴾
ووضعت آيةٌ فوق رؤوس المذنبين يقرؤها القاضي:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)﴾
وقد ورد في الأثر أن عدل ساعةٍ يعدل أن تعبد الله ثمانين عاماً ، والله عز وجل هو الحق، لذلك شرع القصاص.
حقيقة القِصاص هي التأديب والإصلاح:
﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ لابد من نظرةٍ متأنية لحقيقة القِصاص، حقيقة القِصاص هي التأديب والإصلاح، التأديبُ من أجل الإصلاح، وهذان المعنيان ينطلقان من مفهوم التربية؛ أي أنت أب، أو معلم، أو مدير مدرسة، أو حاكم، أو وزير، أو بأي منصب، أساء عندك إنسان، هل يُعقل أن تتخلى عنه لأنه أساء؟! هل يُعقل أن يُؤخذ الإنسان بذنبٍ واحد؟ هل يُعقل أن يُسحقَ الإنسان إذا أخطأ مرةً واحدة؟! أما إذا أخطأ فعوقب ماذا فعل العقاب فيه؟ ترك عنده خبرةً مؤلمةً، هذه الخبرة المؤلمة تردعُه عن أن يفعل هذا مرةً ثانية، هذه حقيقة القِصاص.
مستحيل أن يكون القصاص انتقاماً، مستحيل، لا يليق بالله عز وجل أن يُوقِع القِصاص بعباده انتقاماً، لأن عباده؛ إنسهم وجنهم لو وقفوا على صعيدٍ واحد، وسأله كل واحدٍ منهم مسألته ما نقص في ملكه إلا كما ينقص المخيط إذا غُمس في مياه البحر، ولو أن عباده جميعاً إنسهم وجنهم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحد منهم ما نقص في ملكه شيئاً، ولو أنهم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منهم ما زاد في ملكه شيئاً.
إذاً مستحيل أن يُوقِع الله عز وجل القِصاص انتقاماً، لكنه يُوقِع القِصاص تأديباً ورحمةً، إذاً مبدأ القصاص مبدأ تربوي، مبدأ القصاص مبدأ ينطلق من رحمة.
لاحظ لو أنك مدير مؤسسة، وطلبت موظفاً، واشترطت عليه أن هناك ستة أشهر تجريب، فكلما أخطأ سَجَّلت عليه خطأه، فلما انتهت هذه المدة، ورأيت أخطاءه كثيرة، طردته من العمل بحسب العقد، أنت محل تجريب، لو كان هذا الموظف ابنك ماذا تفعل؟ كلما أخطأ تنبِّهه، فإن أصرَّ تعاقبه، من أجل أن تُصلحه، من أجل أن يبقى عندك، من أجل أن يرقى، فالرحيم يعاقب، أما غير الرحيم فلا يعاقِب، يتخلى مباشرةً.
الآن الفرق بين مدير مؤسسة، مدير مستشفى، مدير مدرسة، أب معلم رحيم، الرحيم يؤدب ويعاقب حتى يصلح، حتى يَسعد هذا الذي يصلحه، أما غير الرحيم يأخذه بذنبه ولا يلتفت إليه، لذلك الأقوياء لا يُسْتَرْضَون، لكن الله يُسْترضى.
إذاً أصل القصاص أن الله يُحبّ عباده، ولأنه يحبّ عباده إن انحرفوا أو أخطؤوا يعاقبهم من أجل أن يدع عندهم خبرةً مؤلمةً كي لا يعيدوا هذا السلوك، واسأل معظم المؤمنين، أخطأ مرة فعاقبه الله، هذا العقاب ردعه عن أن يُعيد هذا الخطأ.
إنسان عنده معمل ألبسة، فإنسان رقيق الحال دخل إلى هذا المعمل، وطلب عدة قِطَع لأولاده، صاحب المعمل رأى في هذا البيع الإفرادي إهانةً له، هو يبيع بالجملة، فامتنع عن بيعه استكباراً، فأدَّبه الله بأن صرف عنه الناس أكثر من ثلاثين يوماً، حتى كما قال لي صاحب المعمل كاد الدَمُ أن يجف في عروقي، وعرفت ذنبي أنني ترفعت عن بيع هذا المسكين، فأدبني الله عز وجل، دائماً وأبداً الله عز وجل لا يتخلى عن المؤمن، يؤدبه، يُصلحه، وقد يسوق له خبرات مؤلمة، عقابات مؤلمة، وشدة الألم تتناسب مع حجم الذنب، وكلما ازداد الذنب فداحةً كلما ازداد الألم إيقاعاً.
العقوبات من نِعَمِ الله الكبرى لأنها روادع ومعالجات:
يا أيها الإخوة الكرام؛ الآية تقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: يا من آمنتم بي خالقاً ورباً وإلهاً وموجوداً وواحداً وكاملاً، يا من آمنتم بمنهجي افعلوا كذا أو لا تفعلوا.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ هل تتصور قانوناً في الأرض لا يوجد له مؤيِّدات؟! تصور قانون سير بلا مؤيِّدات؛ أن الأصل أن تمشي على اليمين، وألا تقف وقوفاً مفاجئاً، وألا وألا فقط، من يطبق ذلك؟ أما كل مادة لو خالفتها هناك غرامة، هناك سحب إجازة، هناك حجز مركبة، هذه اسمها بالقانون: المؤيدات القانونية، لولا العقوبات التي ترتبط بمخالفة القوانين لما طبق أحدٌ قانوناً.
إذاً ربنا عز وجل أنزل منهجاً، قال لك: افعل ولا تفعل، والإنسان مخيَّر، إن أراد أن يفعل ما حرَّمه الله، أو أراد أن يمتنع أن يفعل ما أمره الله به، لولا أن هناك عقوبات، ومتابعات، لما طبق أحدٌ منهج الله عز وجل، القاتل يُقتل، الزاني يُجلد، إن كان محصناً يُرجم، الذي يرمي المُحصنات يُجلد ثمانين جلدة، الذي يشرب الخمر يفعل به كذا وكذا، إذاً هذه العقوبات من نِعَمِ الله الكبرى أنها روادع ومعالجات، الإنسان إن لم يفعل فقد ردعته العقوبة، وإن فعل وجاءه العقاب تأدَّب مع الله عز وجل، وترك هذا الفعل الشنيع كلياً، إما أنه تطهير أو ردع، العقوبات تطهير لمَن وقع في الآثام، وردع لمن لم يقع فيها، هذه من نِعَم الله الكبرى، ثم إنك إن دخلت إلى مسجد وكان لك -وهذا شيء مستحيل-علمٌ بأحوال الحاضرين، لوجدت أن معظمهم قد اصطلح مع الله على أثر عِقاب أو تأديب، إنسان أخطأ فأدبه الله فتاب إلى الله، لذلك: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ .
أسباب نزول قوله تعالى ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾:
الجاهليون قالوا: القتل أوفى بالقتل، لكن ربنا عز وجل يقول: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ أيْ حياة القلب، إنسان تزل قدمه، لو فرضنا يزني يتأدب أمام الناس، تُساق له بعض الشدائد فيتوب إلى الله توبةً نصوحاً، ويُقْبل عليه، ويذوق طعم القرب منه، فهو أسعد الناس بهذا القرب من الله بسبب هذا التأديب الذي ساقه الله لهذا الإنسان.
لعلكم تسألون: ما أسباب نزول هذه الآية؟ روى الإمام البخاري والنسائي عن ابن عباسٍ قال: كان في بني إسرائيل القِصاص ولم تكن فيهم الدِّيَّة، فقال الله لهذه الأمة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ أي وقع في جريمة قتل، عفا عنه وَلِيّ المقتول، ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ أي قَبِلَ وليُّ المقتول أن يأخذ الدِّيَّة دون أن يوقع القِصاص، ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ أي يؤدِّي هذا القاتل الديَّة بإحسان، ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ مما كُتِبَ على من كان قبلكم، أي يبدو أن شرع من كان قبلنا القاتل يجب أن يُقْتل، لا يوجد حل ثانٍ، أما في شرع النبي عليه الصلاة والسلام الأخير، القاتل يُقتل أو أن عُفِي عليه يؤدِّي الدِّيَّة فينجو من القتل، قال: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ .
ثم إن الله عز وجل يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ أي إذا قَتَل الحُر الحر فالقاتل يُقتل، وإذا قتل العبد عبداً فالقاتل يُقتل، وإن قتلت المرأة امرأةً فالقاتلة تُقتل، والقتل كما يقول الجاهليون: أنفى للقتل، لكن يقول الله عز وجل: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ ومعنى حياة استنبط بعض علماء البلاغة من هذه الآية أكثر من عشرين استنباطاً، حينما يوقن القاتل أنه إذا قَتَل لابد من أن يُقتل يُحجم عن أن يقتل، ماذا حصل؟ ضمنا حياتان؛ حياة المقتول سَلِمت وحياة القاتل سَلِمت، حينما يوقن، إذا كان هناك قوانين رادعة، يوجد متابعة، فأنت حينما تَسُنُّ قانوناً رادعاً، وتُتابع تطبيقه إلى أقصى الحدود، تزول هذه المخالفة كلياً، فحينما يوقن القاتل، أو من شرع بالقتل، أو من أراد أن يقتل أنه لابد من أن يُقتَل، لذلك يَكُفُّ عن القتل، كم روحاً أنقذنا؟ أنقذنا روحين، إنسانيين؛ المقتول بقي حياً والقاتل بقي حياً، هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ أما: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ أي ثَبَتَ وفُرِض، وهذا أمر تشريعي، لذلك العلماء فرقوا بين أمرٍ تشريعي وبين أمرٍ تنظيمي، إذا النبي عليه الصلاة والسلام قال للرماة: اقبعوا في هذا المكان وانتظروا الأوامر؟ هذا أمر تنظيمي؛ أما الأمر التشريعي فهو الذي جاء بالقرآن الكريم، وبسنة النبي عليه الصلاة والسلام.
المسلمون في مرتبةٍ واحدة في قضية الدم تتكافأ دماؤهم وهذا صونٌ للحياة:
أيها الإخوة؛ القصاص بشكل مُجْمَل العقاب، حينما نتتبَّع المجرم فنقبض عليه ونحاكمه، ونُصْدر حكماً عليه، ونُعدمه إذا كان قاتلاً، هذه العملية بأكملها تُسمى قِصاصاً، ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ لكن حينما قال الله عز وجل: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ أيْ إذا قتل حُرّ حُراً مثله القاتل يُقتَلُ، وإذا قتل العبد عبداً مثله القاتل يُقتَلُ، وإذا قتلت المرأة امرأةٌ مثلها فالقاتِلة تُقتَل، لكن العلماء قالوا: ولكن الحُرَّ يُقتَل بالعبد، والمسلم يُقتَل بغير المسلم، إذا قتل المسلم غير مسلم قتل ذُمِّياً، فالقاتل يُقْتل ولو كان مسلماً، وهذه الآية أصل في هذا العقاب، بيَّنت إذا كان هناك قتل تمّ بين فئة واحدة فالقاتل يُقْتل، أما لو تمّ بين فئتين متفاوتتين؛ لو أن سيداً قتل عبداً، أو أن عبداً قتل سيداً، أو أن رجلاً قتل امرأةً، أو أن امرأة قتلت رجلاً فالقاتل يُقْتل، ولو كان بين القاتل والمقتول تفاوت، وهذا لقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( عن علي بن أبي طالب: المسلمونَ تتكافأُ دماؤهُم ويسعى بذمَّتِهم أدناهُم ويردُّ عليهم أقصاهُم وهم يدٌ على من سواهم ولا يُقتَلُ مسلمٌ بكافرٍ ولا ذو عهدٍ في عهدِهِ ))
حتى ولو قتل أعلى إنسان بالعلم إنساناً جاهلاً العالم يُقْتل، إنسان معه دكتوراه بالرياضيات قتل آذناً أُمِّياً، يُقْتل به، إنسان يحمل أعلى شهادة يُقْتل بمن قتله ولو كان أُمياً، لو قتل رجل امرأةً يُقتل، ((المسلمون تتكافأ دماؤهم)) المسلمون في مرتبةٍ واحدة في قضية الدم، تتكافأ دماؤهم، وهذا صونٌ للحياة، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه:
(( عن ابن عمر رضي الله عنهما: لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا. ))
يظلّ المسلم بخير ما لم يسفك دماً.
الله عز وجل يعطي عطاءً مدهشاً:
أيها الإخوة الكرام؛ لكن الله عز وجل أراد أن يَحمِلنا على العفو، مبدئياً كلكم يعلم قوله تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)﴾
لكن:
﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)﴾
هذا الذي يقوله الناس: سأكيل له الصاع عشرة أَصْوُع، هذا كلام غير إسلامي، وغير شرعي، الشيء الشرعي: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ فقط، لكن حينما يَغْلِب على ذهنك، أو على ظنِّك أنك إذا عفوت عنه أصلحته، وكم ممن استوجَب العقاب فلما عُفِيَ عنه صار بطلاً، دائماً وأبداً يوجد حقائق نفسية غريبة، إذا أخطأ إنسان، وندم أشدّ الندم، واعتذر، وطلب أن تُسامحه، وعفوت عنه ملكته، فإن أنزلت به العقاب خسرته، ففي الآية الكريمة قال تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ أي إذا غلب على ظنِّك أن عفوك عنه يُصلحه عندئذٍ انتظر الجزاء من الله، وكلمة ﴿فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ أي الإله كريم يعطي عطاءً مدهشاً.
النظرة الإسلامية إلى الأخوة في الإنسانية:
مثلاً سائق يمشي بتؤدة وبدقة بالغة، قفز طفل أمامه فقتله، وهذا السائق فقير الحال لا يوجد خطأ منه، أما القانون معك، القانون تستطيع أن تضعه في السجن فرضاً وتجعله يدفع دية كبيرة، وقد لا يستطيعها، أنت لما علمت أنه لا يوجد خطأ من السائق، هناك اهتمام بالقيادة، والسرعة معتدلة، والخطأ من الابن، لكن القانون مع المقتول دائماً، مع الضحية، فأنت عفوت عنه، لعل هذا العفو يجعلك في أعلى عليين، ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ﴾ أي من غلب على ظنه أن العفو يصلح هذا الجاني قال: ﴿ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ .
لذلك انتظر الله عز وجل منا أن نعفو قال: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ﴾ انظر إلى كلمة ﴿مِنْ أَخِيهِ﴾ أي هذا الذي اقترف الجرم أخوك بالإنسانية، والمؤمن دائماً يرعى هذه النظرة، والدول الغربية -والعياذ بالله-بقدر ما هم إنسانيون، أو بقدر ما هم عنصريون مع مجتمعاتهم بقدر ما هم وحوش مع غيرهم، أما النظرة الإنسانية الصادقة فهذه يفتقر لها أناسٌ كثيرون، وشعوبٌ كثيرة، أي أن تعامل الإنسان كإنسان، فهذا أخوك بالإنسانية، ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ﴾ قاتل معتدِ، سفك دماً، لكن بالقرآن جاء: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ﴾ والذي أراه أن المؤمن لا يرقى عند الله عز وجل إلا إذا رأى أن كل إنسانٍ أصلاً أخوه في الإنسانية، ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ لذلك المؤمن لا يحقِد، أما إذا عاقب، وهو هادئ، وهو يرى أن العقاب لابد منه، سائق أرعن، مُسرع سرعة غير معقولة دهس طفلاً، ممكن نُنزل به أشدّ العقاب حتى نردعه، كلما عمل عملاً سيئاً، كلما قتل طفلاً نسامحه، قضية سهلة جداً، ما أورثناه خبرة مؤلمة، فلابد من أن نُوقع به عقاباً أليماً كي يرتدع، فالإنسان المؤمن لا يحقد لكنه يفعل ما هو مُناسب، قد يعفو، والعفو أنسب وأحكم، وقد يُوقِع العقاب وإيقاع العقاب أنسب وأحكم.
وجوب أداء الدِّية إلى وليّ المقتول بالإحسان وبدون مماطلة:
﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ أي الدِّية تؤدَّى إلى وليّ المقتول بالإحسان، بدون مماطلة، أحياناً يعفو إنسان عن قاتل، القتل خطأ أكثر شيء بحوادث السير تقريباً فلا يعطونه الدِّية أبداً، لما عفا عنه أسقط حقه، صار هناك مماطلة، أما هنا الآية: ﴿وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ على كل تشير هذه الآية إلى شرع من كان قبلنا، ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ من كان قبلنا القاتل يُقتل، ولا يوجد عفو، أما عندنا في هذا الشرع العظيم فالقاتل يُقتل إلا أن يعفو وليّ المقتول، عندئذٍ تنقلِب عقوبة القتل إلى أداء ديةٍ بإحسان، قال: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ هناك عادة سيئة جداً منتشرة في أرياف العالم العربي والإسلامي هي الأخذ بالثأر، والأخذ بالثأر لا من القاتل بل من أيّ شخصٍ من قبيلة القاتل، وهذا شيء لا يقبلُه عقل، ولا يقبلُه منطق.
الآية الكريمة:
﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)﴾
وليّ المقتول معه سُلطان، تقتل إنساناً من قبيلة القاتل فهذا ليس له ذنب، هذا اسمه: إسراف في القتل، ألا تَقْتُل اثنين بواحد، وألا تَقتُل واحداً لا علاقة له بهذه الجريمة، وهذا الشيء وصمة عار بحقّ أي مجتمع يأخذ بالثأر بشكل عشوائي، لأن الله عز وجل قال:
﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)﴾
﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)﴾
هناك نقطة في هذه الآية: سيدنا عمر رضي الله عنه قال:" لو أن أهل بلدةٍ اتفقوا جميعاً أو تمالؤوا جميعاً على قتل واحد، لقتلتهم جميعاً به" ، وهذا من ورع سيدنا عمر رضي الله عنه، نعمة الأمن لا تُقدَّر بثمن، بل إنه بالحكم الشرعي لا يجوز أن تَسْكن في بلد ليس فيها أمن، في بلاد مجاورة الإنسان ثمنه رصاصة، يموت بأتفه سبب ولا يوجد محاكمة، هناك حكم شرعي: لا يجوز أن تقطن في بلدٍ ليس فيه أمن، والأمن كيف يكون؟ بالقصاص، إنسان يقتُل يعدم في مكان الجريمة بعد فترة وجيزة جداً، هذا مما يدعو إلى ردع الآخرين، لذلك القِصاص فيه الحياة، ولولا القِصاص الذي يُنفَّذ كل يوم لما استطاع إنسان أن يمشي في الطريق، ونعمة الأمن في بلدٍ لا تعدلها نعمة، الإنسان آمن على بيته، على ماله، على أولاده.
السلطان ظِلُّ الله في الأرض لأنه يقيم الحدود:
فيا أيها الإخوة الكرام؛ سيدنا عمر قال: "لو أن أهل بلدةٍ تمالؤوا جميعاً على قتل رجل لقتلتهم به جميعاً" .
ثم يقول الله عز وجل: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أيْ أخذ الدية وعفا، ثم قتل، ثم أخذ بالثأر، أو قتل إنساناً لم يقتل -غير القاتل-أو قتل اثنين بواحد، هذا اسمه: عدوان، قال: ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ .
والآية الأخيرة: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ العوام يقولون: العصا من الجنة، فإذا كان البيت فيه شِدّة تجده منضبطاً، الأولاد يأتون في الوقت المناسب، يجلسون على مائدة واحدة، يأوون إلى فراشهم في وقت مبكِّر، يُحصِّلون دراساتهم بشكل جيِّد، أسرة منضبطة سببها قيادة حكيمة وأب شديد يوقع العقاب بأولاده إذا أخطؤوا، الإنسان حينما يُحِسُّ أن هناك عقاباً، تجد انضباط الناس ما سببه؟ انضباط الناس بسبب العِقاب، أما لو تفلَّت الناسُ من العقاب لرأيت الناس يقتُلُ بعضهم بعضاً، إن الله يزع بالسلطان ما لا يزعه بالقرآن، أي السلطان ظِلُّ الله في الأرض، لأنه يُقيم الحدود، ويقطع يد السارق، ويُحاسب الناس إذا أخطؤوا، الأمور تنضبط، ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ثم في الدرس القادم إن شاء الله ننتقل إلى قوله تعالى:
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)﴾
الملف مدقق