الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
ضرب المثل طريقةٌ بيانيةٌ رائعة:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السادس والخمسين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الواحدة والسبعين بعد المئة، وهي قوله تعالى:
﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)﴾
الله جلَّ جلاله في كتابه الحكيم يضرب المثل، وضرب المثل طريقةٌ بيانيةٌ رائعة، حقيقةٌ مجردة تُوَضح بمثلٍ حسِّي، حقيقةٌ غائبة تُجسَّد بواقع، فالراعي أيها الإخوة الذي يرعى الغنم كيف يحركهم؟ يرفع صوتاً له، لا يتكلم، ثم يتحرك أمامهم باتجاهٍ معين فيتبعونه، فهؤلاء الذين كفروا ما عقلوا، ولا فهموا، ولا أدركوا، ولا بحثوا، ولا حللوا، ولا تأمَّلوا، إنما قلَّدوا، كيف أن الغنم حينما يسمعون صوت راعيهم، صوتاً مبهماً بلا معنى، لا توجد حروف إطلاقاً، حينما يسمعون صوت الراعي ينظرون إليه فيتحرك إلى جهةٍ ما، هو ينبِّههم بصوته ويدعوهم بحركته فيتحركوا، والكافر هذا شأنه؛ شأن البهيمة، يلفت نظره شيء فيتبعه.
الخط العريض في المجتمع يتَّبع صرعات الموضة تقريباً، إذا كشف الناس عن عوراتهم تكشف نساؤه عن عوراتهم، إذا أكل الرجال الربا يأكل الربا، أي شيء مستحدث دون أن يُعرَض على الشرع، دون أن يُعرض على منظومة القيَم، دون أن يُسْأَل: هل هذا موافقٌ للدين أو غير موافق؟ هل هذا ينفعني في بيتي أو يؤذي أولادي في بيتي؟ ما دام الشيء قد شاع إذاً لابدَّ من أن نقلِّده.
الإنسان غير المؤمن تُحركه شهواته:
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي في حركتهم في الحياة حركة تقليدية، حركة بهيمية، حركة غير واعية، حركة جامدة:
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي﴾ كهذا الذي
﴿يَنْعِقُ﴾ صوت الراعي يُنبِّه غنمه، ينعِق بمخلوقاتٍ لا تسمع إلا دعاءً ونداءً، تتحرك بنداء تُنادى به، ودعاء إلى جهةٍ تتحرك إليها، لذلك قال تعالى:
﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)﴾
الإنسان غير المؤمن سهل جداً أن تقوده، المحرك له شهواته، كيف أن الثور تلوِّح له بقماشٍ أحمر فيتحرَّك، كذلك الإنسان الشهواني حيثما دغدغت مشاعره، أو دغدغت شهواته يتبعك، وهذا ما يفعله الغرب في العالم الإسلامي، يُحارب قيَم المسلمين، يُحارب مبادئهم عن طريق الشهوات، يُحاربهم عن طريق المرأة؛ إنْ في ثيابها الفاضحة، أو على برامج تبُثُّها هذه المحطات التي تبث السُّم فيما تبث.
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي في حركتهم في الحياة، قضية مبدأ، قضية عقيدة، قضية قيم، قضية منهج إله، قضية هذا يصح أو لا يصح، يجوز أو لا يجوز، ممكن أو غير ممكن، هذه خارج اهتمامه، ما الذي استجد في الحياة؟ ماذا فعل الناس؟ ما الذي اشتروه من الأجهزة؟ كيف يُقيمون حفلاتهم؟ كيف يحتفلون؟ كيف يتحرَّكون؟ كيف يتاجرون؟ بأي طريقٍ يكسبون الأموال؟ قضية حركة ليست مبدئية، حركة مصلحية، حركة شهوانية، حركة عابثة، حركة تقليدية.
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ يُصدِر صوتاً ليَلفت نظر الغنم، أو البهائم، فإذا انتبهوا إليه تحرك إلى جهةٍ فدعاهم بحركته إلى مكانٍ ما، لا يوجد وعي، ولا يوجد إدراك، ولا يوجد سؤال، ولا يوجد اعتراض، ولا يوجد جواب، أبداً، حركة بهيمية.
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ عطَّل أذنه التي خلقها الله له من أجل أن يصغي إلى الحق، فحينما لم يستمع إلى الحق بالتالي لم ينطق بالحق، في الأصل الأصم أبكم، لو أن إنساناً فقد سمعه فقد نُطْقه، فكل أصمٍ أبكم حكماً، صمٌّ أعرضوا عن سماع الحق.
المؤمن له شخصيته وعقيدته ومبادئه وقيمه:
إذا لم يسمع الإنسان الحق، قلنا له: تكلم. عن أي شيءٍ يتكلم؟ من بعض الأمثلة الموضحة: الإنسان وعاء كوعاء الماء، له فتحة يوضع فيها الماء، وله صنبور في الأسفل، ماذا يعطيك هذا الصنبور؟ يعطيك المادة التي وضعت في أعلاه، أنت لا تتكلم إلا بما تتغذى، ما نوع التغذية؟ من نوع التغذية تعرف نوع الكلام.
فالإنسان حينما لا يسمع الحق، لم يقرأ كتاب الله، لم يحضر مجلس علم، لم يقرأ سُنَّة رسول الله، لم يقرأ سيرة رسول الله، لم يدرس العلم، إذا تحدث يتحدث عن الاهتمامات التي يهتم لها الناس، والتي تأتيهم عبر الوسائل التي ترونها وتسمعونها، أي عنده معلومات عن اللاعبين أكثر بكثير عن أصحاب رسول الله، يوجد عنده معلومات عمن يعمل في حقل الفن أضعافاً مضاعفة عن معلومات عن أبطال المسلمين، فلذلك هذا المثل واضحٌ جداً، كتلة بشرية كبيرة بمثابة قطيع الغنم تنتبه بصوت، وتتبع حركة فقط من دون وعي، طبعاً سلوك قديم وحديث، أحدُ الشعراءِ الجاهليين قال:
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشُد
أنا مع الناس، هناك من يقول: أنا مع الخط العريض في المجتمع، وهناك أمثلة كثيرة، وهناك توجيهات كثيرة، على كلّ المؤمن يرفض أن يكون ذائباً في البيئة، المؤمن له شخصيته، له عقيدته، له مبادئه، له قيَمه.
أساساً هناك رجل ملحد، يعمل أستاذاً في الجامعة في سان فرانسيسكو، ملحد وهو متفوقٌ في اختصاصه تفوقاً مذهلاً، أسلم، لقصة إسلامه قصةٌ عجيبة، أن طالبةً مسلمةً دخلت إلى مكتبه في أيام الصيف الحارة، ترتدي حجاباً كاملاً، طبعاً هي تحمل دكتوراه في الرياضيات، فلما رأى هذا الحجاب المُتعب في الصيف، والنساء في أمريكا شبه عرايا، قال: هذه إنسانة عندها قناعات، فلابدَّ أنها إنسانة مقدسة.
قال: انتابتني ثلاثة مشاعر حينما رأيتها، انتابني شعور بقدسية هذه المرأة، وبأنها ذات عقيدة وذات مبدأ، وتمنَّيت أن أقدِّم لها أية خدمة، ويقول: ولم أجرؤ على أنْ أنظر إلى وجهها، هذا الملحد، ثم عكف من توِّه على قراءة كتب المسلمين، إلى أن أعلن إسلامه، وحينما كنت في أمريكا علمت أنه من أكبر الدعاة هناك، ما الذي لفت نظره؟ هذه الإنسانة المحجبة.
المؤمن طاقة كبيرة جداً مسخرة في الحق عكس الكافر:
مرةً -الشيء بالشيء يذكر-كنت مسافراً في رحلة العودة إلى دمشق، رأيت في شارع العدوي في أيام الشتاء الماطرة والباردة رجلاً يجري في هذا الشارع، مع أن معظم سكان هذه المدينة حول المدافئ، يجلسون على أرائك مريحة، أمام المدافئ يأكلون، لولا أن في عقل هذا الإنسان قناعات بأن الرياضة مهمة جداً لما رأيته يجري في هذا الجو الماطر البارد، ولا تجد أحداً معه.
فالإنسان حينما يكون مع المجموع هذه قضية سهلة جداً كقطيع الغنم، أما حينما تكون له قناعة، وله مبدأ، وعنده منظومة قيَم؛ يفعل هذا لأنه حلال، لا يفعل هذا لأنه حرام، لو قطَّعته إرباً إِرباً لا يعصي الله عز وجل، يضع أكبر مبلغ تحت قدمه إذا كان فيه شبهة، يعمل عملاً جباراً بلا ثمن، بلا أجرة، ابتغاء مرضاة الله، حالة المؤمن عجيبة، طاقة كبيرة جداً مسخرة في الحق، أما الكافر
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ﴾ أي بمخلوقاتٍ لا تنتبه إلا لصوت، ليس لكلام، لصوت، تتحرك بالتقليد،
﴿بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ﴾ عطلوا آذانهم عن سماع الحق، فلما تعطّلت آذانهم عن سماع الحق أصبحوا بكماً في الحق، لا يقدر أن يتكلم، يحدثك عشر ساعات في أمور التجارة، والبيع، والشراء، وأنواع السيارات وميزات السيارات، وعن النساء، وعن الأفلام، وعن كل ما يحيط به، أما إذا سألته عن قضيةٍ إيمانية فهو أبكم، عن قضيةٍ في الدين فهو أبكم، عن قضيةٍ في العقيدة فهو أبكم، يتكلم كلاماً في الدين مُضحكاً لجهله، إذاً هو أصمُّ عن سماع الحق، فلما كان أصمَّ أصبح أبكمَ، ولماذا كان أصمَّ أبكمَ؟ لأنه بالأصل ما عقل شيئاً، لم يستخدم عقله في معرفة الله عز وجل:
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾
الإنسان العاقل دائماً يتجاوز السبب الظاهر إلى مسبب الأسباب:
الإنسان العاقل دائماً يتجاوز الحدث إلى المُحدث، الفعل إلى الفاعل، السبب الظاهر إلى السبب الحقيقي، إلى مُسبب الأسباب، قال تعالى:
﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)﴾
هذا كلام خالق الكون، فربنا عز وجل يُعاقب بعض المنحرفين ردعاً للباقين، ويُكافئ بعض المحسنين تشجيعاً للباقين، أما الحساب الكامل يوم القيامة، قال تعالى:
﴿ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)﴾
إذاً عندما نسمع عن زلزال، عن فيضان، عن إعصار، عن جفاف، عن اضطراب، عن اجتياح، يجب أن تتخطى الحدث الظاهر وما يقال عنه، وما يقال عن أسبابه المباشرة إلى أبعاده الحقيقية، إلى أن الله عز وجل هو الذي قدَّره، وهو الذي سمح به، وهو الذي أجراه، لحكمةٍ بالغةٍ بالغة.
على الإنسان أن يفسر كل شيء تفسيراً توحيدياً:
يا أيها الإخوة الكرام؛ يجب أن نفسر كل شيء تفسيراً توحيدياً، هناك من يشمئز إذا عزيت الأمر إلى الله، لا ترتاح نفسه إلا إذا فسَّرت الأمر تفسيراً قريباً، تفسيراً مادياً، تفسيراً مباشراً، أما إذا تعمَّقت في التفسير ينزعج.
﴿ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)﴾
يشمئزون، أما العبرة.
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)﴾
﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)﴾
تشبيه الله عز وجل الذين كفروا بالبهائم:
لا تقنع بتفسيراتٍ ساذجة، ولا تقنع بتفسيراتٍ مباشرة، ولا تقنع بتفسيراتٍ قريبة، ابحث عن تفسيرٍ بعيد، ابحث عن مسبب الأسباب، ابحث لماذا سمح الله للأرض أن تتزلزل؟ لماذا سمح للمطر أن ينقطع؟ أن تجف الآبار؟ لماذا سمح لهذه الحشرة أن تأكل كل المحصول؟ لماذا سمح لهذه الرياح أن تدمِّر ولايةً بأكملها وأن تكون الخسائر رقماً فلكياً؟ لماذا؟ ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ .
﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)﴾
إذاً هؤلاء الذين كفروا، الذين يتحركون بصوتٍ ويتبعون حركة بلا فهم، ولا عقل، ولا عقيدة، ولا مبادئ، ولا قيَم، ولا أهداف واضحة، هم كالبهائم، والله عز وجل يقول:
﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)﴾
لأنهم مكلفون، والأنعام غير مكلفة:
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)﴾
هناك أمثلة كثيرة شبّه الله عز وجل الكافرين بالأنعام، شبَّههم بالحمير، شـبههم بالكلب:
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)﴾
وشبههم بأنهم خشبٌ مسنَّدة وهذا أبلغ تشبيه، جماد.
المؤمن يتبع تعليمات الصانع:
﴿صُمٌّ﴾ عطلوا آذانهم عن سماع الحق، وبالتالي أصبح لسانهم لا ينطق إلا بالباطل، بالأصل هم لا يعقلون،
ما استخدموا هذا العقل الذي أكرم الله به الإنسان، والذي جعله أداة معرفة الله، ما استخدمه لمعرفة الله؛ استخدمه للإيقاع بين الناس، استخدمه لجمع المال الحرام، استخدمه للإفساد في الأرض، الإنسان معه عقل، والعقل قوة كبيرة جداً، بل إن العقل أعقد شيءٍ خلقه الله عز وجل، وأثمن هديةٍ قد منحها الله للإنسان.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)﴾
أي المؤمن يتبع تعليمات الصانع، يأكل مما سمح الله له به، ولولا هذه المحرمات لما كان هناك جنَّات أساساً، لابد من شيءٍ محرم حتى يمتحن الله عباده الذيـن وقفوا عند الحدود من الذين تجاوزوا الحدود، فـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يا من آمنتم بالله، أنتم بعقدٍ إيمانيٍ مع الله، أنتم تعرفون أن الله هو الخبير، هو الكبير، هو العلي، هو القدير، هو الغني، هو الرحيم، إليه المصير.
الكافر مع النعمة والمؤمن مع المُنعم:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ﴾ كلوا شيئاً تطيب به نفوسكم، تطيب به نفوسكم بمعنيين، الجسم يتقوَّى بهذا الطعام على طاعة الله، والنفس تطمئن إلى أنه طعامٌ حلال، حينما يفعل الإنسان الحلال يرتاح، الآن لو تكلَّم الإنسان مع فتاةً في الطريق لا تحلّ له يسقط من عين الله، أما لو تزوج فلا شيء عليه، شيء طبيعي، الزواج سنة وفق منهج الله، فلذلك:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)﴾
﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ﴾ هنا الكافر مع النعمة، والمؤمن مع المُنعم، الكافر مع النعمة يتفنن في التمتُّع بها، يستغلها أدق استغلال، ولكنه كافرٌ بالمُنعم، أما المؤمن مع المنعم.
ولو أجريت موازنة حادة: إنسان يتمتع بأعلى درجات الصحة، لكنه مقطوع عن الله، وإنسان يعاني من أشدّ الأمراض لكنه متصلٌ بالله، أيهما أسعد؟ هذا الذي يتمتع بالصحة مع النعمة، أما هذا الذي ابتلاه الله بهذا المرض فهو رقيق القلب، متصلٌ بالله، منيبٌ إليه، مع المنعم، وشتان بين أن تكون مع مخلوقٍ وبين أن تكون مع الخالق.
الذي يتمتَّع بأعلى درجة من الغنى وهو مقطوعٌ عن الله هذا مع النعمة، مع المال، والذي يعاني مع ضيق ذات اليد لكنه متصل بالله هذا مع المُنعم، وفرقٌ كبير بين أن تكون مع مخلوقٍ محدود، وبين أن تكون مع الخالق، مثلاً: إنسان معه ألف ليرة، وطفل صغير ليس معه ولا درهم، لكنه ابن أكبر غني بالعالم، ولو طلب هذا الابن من أبيه ملايين مُملينة لأعطاه إيَّاها، أما بالمقياس المادي هذا في جيبه ألف ليرة، هذا ليس في جيبه شيء، من هو الغني؟ الطفل هو الغني، غنيّ بغنى أبيه، فالإنسان قد يكون مؤمناً لا يملك شيئاً يلفت النظر، ولكنه مع الله، هو مع الغني، هو مع القوي، هو مع المُهيمن، هو مع من إليه المصير، هو موعود بجنة، فبين أن تكون مع النعمة وبين أن تكون مع المُنعم، لا أقول مستحيل أن تجتمعا، لكن لحكمةٍ أرادها الله، المُترف دائماً بعيدٌ عن الله.
هناك ثماني آيات في كتاب الله تؤكِّد أن المترف كافر، المُترف، لا الذي يأخذ هذه النعمة، ويشكر الله عليها، أما الذي يأخذها ليعلوَ بها على الناس، ليتباهى بها، ليكسِر قلوب الآخرين، زهواً، وإعجاباً، وغطرسةً، نقول: هذا مع النعمة الفانية، وذاك مع المُنعم الباقي، فكن مع المنعم وإن كانت بين يديك نعمة فهذا خير والله، لكن الشيء الدقيق والثابت أن تكون مع المُنعم.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ إن كنت تعبده فاشكره، فإن لم تشكره فكأنك لا تعبده، من لوازم العبادة الشكر، لذلك تعريف العبادة: غاية الخضوع مع غاية الحب.
قال تعالى:
﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)﴾
أيها الإخوة؛ الشيء الذي تعرفونه هو أن هذه الأنعام التي نأكل منها، هذه تشبه الإنسان في أجهزتها وفي أعضائها؛ فيها دم، والدم سائل يحمل فضلات الاحتراق، ويحمل الغذاء، فالدم الأحمر القاني الذي يأتي من الشريان الأبهر، هذا يغذِّي كل الخلايا في الجسم، تتم بالخلية عملية احتراق ينشأ عنها الطاقة، هذه العملية لها فضلات هي حمض اللبن، فضلات احتراق المواد السكرية ضمن الخلية لتشكيل طاقة تُصب في الدم، فيكون دم الأوردة أزرقاً، دم الوريد أرزق، يوجد خلاصة مخلَّفات احتراق المواد السكرية ضمن الخلية، وهناك فضلات أخرى، هذا الدم يُصفى عبر عدة أجهزة، يُصفى عبر الرئتين، فغاز الفحم الذي في الدم والذي هو من نواتج الاحتراق يُطرح عن طريق التنفس، عن طريق الزفير في الرئتين، والفضلات السائلة كحمض اللبن تُطرح عن طريق الكليتين، وأجهزة التعرُّق أيضاً تطرح عن طريق التعرق بعض الفضلات.
فالدم يُصفى عبر الرئتين، وعبر الكليتين، وعبر غدد التعرق التي هي منتشرة على سطح الجلد، لذلك الدم وهو يجري في الأوردة والشرايين طاهر، وحينما يُحرَّم يُوصف بأنه:
﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)﴾
الدم حينما يُسْفح يكون محرَّماً لأن فيه جراثيم، يُعدّ الدم الآن أكبر وسط لنمو الجراثيم، بل إن مزارع الجراثيم في المخابر تستخدم الدم، فالدم فيه مُجَمّعٌ لفضلات الجسم، فيه نواتج احتراق الجسم، فيه عوامل المرض في الجسم، فيه الجراثيم، كل شيء مؤذٍ في الدم، طبعاً قبل أن يُصفَّى، فالحيوان إما أن يموت إزهاقاً، نذبحه فيخرج الدم منه، أو أن يموت حتف أنفه، إذا مات حتفاً بقي دمه فيه، أكله محرم، لأن الدم فيه كل فضلات الحيوان، فيه كل عوامل المرض، فيه كل الجراثيم، فيه كل الأوساط التي تنمو بها الجراثيم.
لذلك يصعقون في بعض البلاد الدابة ولا يذبحونها، طبعاً قد يزيد وزنها اثنين كيلو أو أكثر، أو خمسة كيلو إذا كانت دابة كبيرة، ولكن لحمها يكون أزرقاً لا يمكن أن تقبل عليه آكلاً، فربنا عز وجل حرَّم الميتة.
الحكمة من ذبح الدابة مع إبقاء الرأس في الذبيحة موصولاً بالجسم:
عندنا الآن قضية لغوية، قال تعالى:
﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)﴾
الميت هو الذي سيموت، يخاطب الله النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ فالميت ليس الذي مات، هو الذي سيموت، محكومٌ عليه بالموت، ونحن كلنا ميِّتون، بمعنى لابد من أن نموت: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ ما هو الذبح؟ الذبح إخراج الدم كله من الحيوان، ولحكمةٍ أرادها الله هذا القلب الذي ينبض وينقل الدم إلى كل أنحاء الجسم، تصبح له بعد الذبح مهمة معاكسة، مهمته إخراج الدم خارج الدابة، القلب ينبض ثمانين نبضة، لو أن الإنسان قطع رأس الدابة، بالمناسبة القلب مضخة تتلقى تنبيهاً كهربائياً وهذه لحكمةٍ بالغة من مركز كهربائيٍ ذاتي، كيف إذا كان هناك مستشفى فيها عمليات جراحة قلب، مستحيل أن تكون كهرباؤها من الشبكة، مريض، مفتوح قلبه، انقطعت الكهرباء، معنى ذلك مات المريض، فلابد من أن تكون كهرباء المستشفى من مولِّد ذاتي، هذا لكل المستشفيات، كذلك القلب لأنه أخطر عضو، مستحيل أن يتلقى تنبيهه من شبكة الكهرباء العامة في الجسم، لابد له من مولِّد ذاتي يعطيه الإشارة.
يوجد بالقلب ثلاثة مولدات، مولد كبير هذا الأساسي، لو تعطل يعمل الاحتياط، لو تعطل الاحتياط يعمل الاحتياط الثاني، ثلاثة مولدات، أحياناً الإنسان هذا المولد يضطرب يضع بطارية في قلبه، يوجد مولد ذاتي، إلا أن هذه المراكز الكهربائية الذاتية تعطي الضربات النظامية فقط، ثمانون ضربة فقط، أما إذا واجه إنسان عدواً مخيفاً، أو واجه وحشاً مفترساً، أو صعد جبلاً، يجب على القلب أن يعمل جهداً إضافياً، فترتفع ضربات القلب إلى مئة وثمانين ضربة، لكن لا عن طريق المركز الذاتي، عن طريق أمر يأتي عن طريق الدماغ.
نهانا النبي عليه الصلاة والسلام عن قطع رأس الدابة، لا في عصره، ولا في كل مراكز العلم في عصره، ولا بعد ألفٍ وثلاثمئةٍ عامٍ في العالم كله كان بإمكان أي جهة علمية أن تكتشف حكمة النبي من أمره بعدم قطع الرأس، أما الآن كُشِفت، حينما لا تقطع رأس الدابة يبقى الأمر الاستثنائي موجوداً، فإذا ذبحت الدابة، نبَضَ قلبها مئة وثمانين نبضة، هذه المئة والثمانون كافية لإخراج الدم خارج الجسم، تجد لون الغنم المذبوح وفق الشريعة الإسلامية وردياً، كالورد تماماً، لأن الدم خرج.
حرم الله تعالى الميتة لأن دمها فيها:
إذاً أيها الإخوة؛ الذي قاله النبي عليه الصلاة والسلام ليس من عنده قطعاً، ولا من ثقافته، ولا من اجتهاده، إنما هو وحي يوحى، قضية إبقاء الرأس في الذبيحة موصولاً بالجسم، هذه قضية لم يكتشف أحد حكمتها إلا الآن،
ما دام هناك اتصال بين الرأس وبين الجسم معنى هذا يوجد أمر يأتي إلى القلب برفع نبضاته من ثمانين إلى مئة وثمانين، عندئذٍ يمكن أن يضخ القلب كل دم الدابة إلى خارج الدابة، هذه هي التزكية التي أمر بها النبي عليه الصلاة والسلام، الدم إذاً سائل إذا خرج من أوعيته أصبح سائلاً فاسداً، صار دماً مسفوحاً،
﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ لأن دمها فيها، لكن أجهزتها بعد الموت معطلة، لماذا دم الإنسان طاهر؟ ما دام حياً هناك تصفية، هناك فلاتر، الرئتان، والكليتان، والتعرُّق، لكن بعد الموت تتوقف التصفية، صار الدم فاسداً، فالذبيحة حرام أن تؤكل، هذه التي ماتت حتف أنفها، أما التي ماتت إزهاقاً، هذه يجوز أكلها، لأننا ذبحناها، وأخرجنا الدم منها، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( عن عبد الله بن عمر: أُحِلَّتْ لَكُمْ مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ. ))
الحقيقة أن هذا تخصيص نبوي لحكم قرآني عام، التقيت مع طبيب قال لي هذه الحقيقة، الحقيقة أن هذا شيء مدهش، حينما يصطاد الصياد السمك ينتقل كل دمه إلى الغلاصم وكأنك ذبحته، لذلك الخبراء بشراء السمك يفتحون غلاصم السمكة، فإذا كان متورداً، معنى هذا أنها صيدت حديثاً، أما إذا كان لونه متغيراً معناها مضى وقت طويل على اصطيادها.
﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ هذه حكمة التحريم، ﴿وَالدَّمَ﴾ من باب أولى، الميتة محرمة لوجود دم فيها، فالدم من باب أولى أنه محرم، لذلك الآن يقول لك: عندنا علف حيواني مستورد، دم مجفف تأكله الدواجن، أطعموا البقر طحين اللحم فجن، الله يستر الدواجن أن تجنّ أيضاً، لأنها تأكل أكلاً غير شرعي، يطعمونها دماً مجففاً هكذا، والدم محرم أكله.
النقطة الدقيقة أن طعام طحين اللحم هو طحين لحم جيَف، طبعاً الإنسان محرم أن يأكل الميتة، لكن يبدو من خلال جنون البقر أنه حتى الحيوان يتأذَّى من أكل طحين لحم الجيف، لذلك جن، وقالوا: جنون البقر أساسه جنون البشر.
تأثر الإنسان بطباع الحيوان المأكول:
﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾ لا يوجد إنسان منا إلا ولديه مكنسة بالبيت يكنس بها فرضاً دورات المياه، يأكل هذه المكنسة، مستحيل، هذا الحيوان مهمته أكل الجيف في الفلوات، الجيفة لها رائحة لا تُقابل، مهمة هذا الحيوان أكل الجيف.
قرأت بحثاً عن الخنزير، أطيب طعام له أن يأكل الجرذان، إذا كان مزرعة خنازير فيها جرذان، لا يبقى ولا جرذ حي، تأكله الخنازير، وأطيب طعام يأكله الخنزير لحم خنزير متفسِّخ، الخنزير مغرم بالجيف والفطايس، وسبحان الله هذا أول لحم يؤكل في العالم الغربي، إضافةً إلى أن الإنسان يتأثَّر بطباع الحيوان المأكول، على كل:
﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ﴾ إذا قلنا: فلان هلل، أي قال: الله أكبر، رفع صوته بالتكبير، أهلّ، الغلام أهل إذا صاح حينما خرج من بطن أمه، فلما صاح كسب الميراث، لو صاح ومات، وكان الأب معه ألف مليون يأخذهم كلهم، يموت يأخذهم ورثته، الصيحة علامة حياته، أهلّ الغلام أي صاح، الآن إذا ذبحنا خروفاً ولم نُعَظم المُنعم، عظَّمنا جهة غير المُنعم، قال: هذا الطعام يجب ألا يؤكل، أي أنت يجب ألا تعظم إلا الله عز وجل:
﴿أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ .
الأولويات في حياة الإنسان الحياة ثم الصحة:
الإنسان كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( عن أبي سعيد: لا تُصَاحِبْ إِلا مُؤْمِناً وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِيٌّ. ))
أي ينبغي ألا تحضر وليمة لم يرد بها وجه الله، هذا طعامٌ أُهلّ به لغير الله، تعظيم الأشخاص والشرك بالله هذا لا يجوز، قال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ هناك مناقشة دقيقة الآن -هذا كلام خالق الكون-لو أنا لم أجد طعاماً، أنا على وشك الموت، الأَولى أن أموت أم أن آكل طعاماً محرَّماً بكمية قليلة تُبقي لي الحياة؟ الأصح أنه يمكن للإنسان عند الضرورة أن يأكل لحم الخنزير، لأن الأولويات في حياته؛ حياتُه أولاً، ثم صحته ثانياً، ليس من المعقول أن نضحي بالحياة من أجل الصحة، لذلك قال تعالى وهو المشرع: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ أي على وشك الموت، بقي بينه وبين الموت دقائق، يمكن أن يأكل لحم الخنزير.
﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ﴾ معنى بغى أي تجاوز الحد، فإذا كان يكفيه لقمتان كي لا يموت يجب ألا يأكل ثلاث، الضرورة تقدَّر بقدرها، الحد الأدنى، لو أن إنساناً كاد يموت اختناقاً، يحتاج إلى شيءٍ يشربه، ولم يجد إلا كأس خمر، بإمكانه أن يجرع جرعةً لئلا يموت، هذا معنى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ الضرورة المُفضية إلى الموت، حينما تكون على وشك الموت لك أن تأكل لحم الخنزير، ولك أن تشرب الخمر، لكن بكميةٍ تُبقي على حياتك، قال: ﴿وَلَا عَادٍ﴾ عادٍ هنا أي معتدٍ، لو فرضنا وجود كأس ماء مِلك إنسان، وأصاب اثنان حالة تقتضي أن يجرع جرعة واحدة، وفي الكأس جرعة واحدة، أنا لا أقدر أن أموت إنساناً لكي أعيش أنا، فإذا كنت أخذت منه جرعة، وأنا استخدمتها، أنا الحقيقة حافظت على حياتي، لكن بنيت حياتي على موت آخر، ولا معتدٍ، ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ عادٍ بمعنى معتدٍ ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ .
الله تعالى غفور لمن يرتكب ذنباً بلا عذر فمن باب أولى أن يغفر لمن ارتكب ذنباً بعذر:
﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ ، الضرورة القصوى التي تفضي إلى الهلاك، ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ غير متجاوز الحد القليل، ﴿وَلَا عَادٍ﴾ ولا بنى شيئاً على اعتداء، أي إذا كان هناك جرعة ماء تكفي لإنقاذ إنسان، وإنسان يملك هذه الجرعة، وهناك إنسان آخر بحاجة لها، لا يجوز أن يأخذها منه، يميته حتى يحيا هو، هذه ليست واردة إطلاقاً.
﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ طبعاً ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لها تعليق لطيف، الله عز وجل غفور لمن يُذنب، لمن يرتكب الذنب بلا ضرورة غفور رحيم، فكيف بإنسان أكل شيئاً محرَّماً ليحفظ حياته؟ فالله غفور من باب أولى، غفور لمن يرتكب ذنباً بلا عذر، ومع ذلك فهو غفور رحيم، فكيف بربنا جلّ جلاله.
الملف مدقق