وضع داكن
23-11-2024
Logo
الدرس : 55 - سورة البقرة - تفسيرالأيات 168-170 قضية الحلال والحرام
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

قضية الحلال والحرام من شأن الله عزَّ وجل لأنه هو الخالق:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الخامس والخمسين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الثامنة والستين بعد المئة، وهي قوله تعالى: 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)﴾

[ سورة البقرة ]

أيها الإخوة الكرام؛ من رحمة الله بخلقه كلِّهم خاطب الناس جميعاً، وقد ذكرت لكم في درسٍ سابق أن الله جلّ جلاله يُخاطب المؤمنين تارةً، ويُخاطب الناس تارةً أخرى، يُخاطب المؤمنين بتفاصيل الشريعة، ويُخاطب الناس بأصول الدين، ولكن قضية الحلال والحرام هذه قضيةٌ من شأن الله عزَّ وجل لأنه هو الخالق.
فالإنسان حينما يُحَكِّم عقله فيما يفعل، وفيما لا يفعل يضلّ ضلالاً مبيناً، ذلك أن الإنسان قد ينظر إلى الشيء من زاويةٍ واحدةٍ ضيِّقة، وتغيبُ عنه الزوايا الأخرى، لمَ لا يأكل لحم الخنزير؟ هناك ميزات كثيرة، ينمو سريعاً، يذكر الذين يأكلونه ميزاتٍ كثيرة، وإذا قلت لهم: إن الله حرَّمه، ماذا يقولون؟ لماذا خلقه الله؟ هل كل شيءٍ خلقه الله لتأكله؟ هل كل شيءٍ تشتريه أنت إلى البيت يُؤكل؟
أحياناً يكون عندك مبيد حشرات هل تشربه؟ مستحيل، فكل حيوانٍ له مهمةٌ أناطه الله بها، فمن هو الذي يعلم العلم اليقيني ماذا ينفعنا وماذا يضرنا؟ إنه الله عزَّ وجل، والدليل أن كل انحرافٍ عن منهج الله عزَّ وجل يُسبِّب أخطاراً جسيمةً. 
 

سبب فساد العالَم الآن الخروج عن منهج الله عزَّ وجل:


أضرب لكم بعض الأمثلة: ارتأى مربو الأبقار في بريطانيا أن يطعموهم طحين لحم الجيف، طبعاً لحم الجيف يُعالج، ويُجفف، ويُطحن، ويُوضع هذا الطحين مع العلف، صمم الله جلَّ جلاله البقرة حيواناً نباتياً؛ يعيش على النبات فقط، ولم يصمَّم على اللحم، فلما أُطعِم طحين اللحم جنَّ البقر، لذلك اضطرَّت بريطانيا -وهي أكبر دولة تربي الأبقار-أن تحرق ثلاثة عشر مليون بقرة، ثمنها ثلاثون مليار جنيه إسترليني، لماذا؟ لأنهم أطعموا البقر وهو حيوان نباتي طحينَ اللحم، فأي شيءٍ يفعله الإنسان يُغيّر خلق الله عزَّ وجل لعل الله عزَّ وجل يسمح له أن يمشي خطواتٍ في هذا الطريق ليدفع الثمن باهظاً، الآن سببُ فسادِ العالَم الخروج عن منهج الله عزَّ وجل.
مرَّة قال رئيس أمريكي: هناك خمسة أخطار تهدّد أمريكا -فإلى أن ذُكِرت هذه الأخطار تصوَّرت الصين، تصورت ألمانيا، تصورت التكتُّل الأوروبي-انهيار الأسرة، وشيوع الجريمة، وتفشي المخدرات، لماذا؟ لأنهم خرجوا عن منهج الله عزَّ وجل. 
شرَّع الله عزَّ وجل الزواج، الآن هناك مساكنة بلا عقد لا مدني، ولا كَنَسَي، ولا هم يحزنون، امرأةٌ تسكن مع رجل، فإذا ملَّ منها رَكَلَها بقدمه، هم يدفعون الثمن باهظاً.
مرَّةً صدر قانون في شمال إفريقيا يُلْزم المُطلِّق أن يدفع لامرأته نصف أملاكه، توقَّف الزواج كلياً، فصار الأب يوقِّع سنداً لخاطب ابنته بمبلغ فلكي، ويقول له: إن طلَّقت ابنتنا أبرز هذا السند كي تنجو من أخذ نصف المال، توقَّف الزواج.
ارتأوا في الصين أن يكون للأسرة ولدٌ واحد قسراً، ما الذي حصل؟ تأتي البنت فتُخْنَق، يأتي الذكر فيُسجَّل، الآن يوجد في الصين خمسون مليون شاب بلا زوجة، الآن نشأت عصابات لخطف الفتيات في سنّ الزواج، عندما يُشرِّع الإنسان يرتكب حماقة كبيرة، لأنه ينظر إلى الشيء من زاوية واحدة، أما خالق الكون فهو الخبير، قال تعالى: 

﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾

[ سورة فاطر ]

صمَّم الخبير هذا الحيوان أن يأكل نباتاً، نحن كافحنا الأوبئة النباتية بمواد كيماوية، إلى أن أصبحت التربة مالحةً، إلى أن أصبح النتاج -خضار أو فواكه-ذا صفات فيزيائيَّة عالية، وصفات كيماوية سيئة جداً؛ بلا طعم، الآن عادوا إلى السماد الطبيعي، وعادوا إلى المكافحة الحيويَّة، أنا الذي أراه أنه كلَّما تقدَّم العلمُ كشف خطأه، واقترب من الدين، فإلى أن يتطابق العلم مع الدين تطابقاً تاماً تُحلّ مشكلاتنا، أما ما دام الإنسان يتوهَّم أنه مُشرِّع؛ يُحلِّل ويُحرِّم، فالطريق لازال مسدوداً أمام حلّ مشكلاته.
 

من ضعف الإيمان أن نضع قضايا التشريع على بساط البحث:


هناك دراسة تُؤكِّد أن الإنسان يتطبَّع ببعض طباع الحيوان الذي يأكله، والذين يأكلون لحم الخنزير لهم عادات غريبة جداً، كأنّ الغيرة نُزعت منهم انتزاعاً، فالله عزَّ وجل حرَّمه، لكن كلَّما ازداد إيمانك يزداد يقينك أن الذي حرَّمه ضارٌ بنا.
ذكرتُ لكم مرَّةً أن نقاشاً جرى بين عالمٍ من مصر وبين إنسان أمريكي أسلم حديثاً، طُرِح موضوع لحم الخنزير، فبدأ العالِم المصري يُحدِّث زميله عن أخطار هذا اللحم، وعن الدودة الشريطيَّة، وعن تَطبُّع الإنسان بطباع الخنزير، وعن، وعن، فما كان من هذا المسلم الأمريكي إلا أن قال: يا أستاذ، يا دكتور كان يكفيك أن تقول لي: إنّ الله حرَّمه، فقط تكفيني هذه، إذا الخبير قال لك: هذا حرام!! فالقضية قضية إيمان، كلَّما ازداد إيمانك بالله يزداد تعظيمك لأمره ونهيه، وكلَّما ازداد إجلالك لله يزداد إجلالك لأمره ونهيه، ولكن من ضعف الإيمان أن نضع قضايا التشريع على بساط البحث، مع أن المؤمن الصادق: 

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)﴾

[  سورة الأحزاب  ]

فأول إشارة في هذه الآية: الله عزَّ وجل رحيمٌ بخلقه جميعاً؛ مؤمنهم وكافرهم، مهتديهم وضالّهم، رحيمٌ بخلقه جميعاً، فيا أيها الناس، يا أيها الإنسان من أجل مصلحتك، من أجل سلامتك، من أجل سعادتك افعل ما أحللت وانتهِ عما عنه نهيت، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّباً﴾ الحلال الطيِّب، الطيِّب هو الذي تطيب به النفس، الله عزَّ وجل خلق كل شيءٍ على صفةٍ كاملة، فكل إنسان منحرف يُفسد طبيعة هذا الشيء، فخلق المرأة زوجةً، وأماً، وأختاً، وبنتاً، لا يوجد في القاموس عشيقة، لأنك تمتهنها، لأنك تقطف جمالها ثم تلقيها في قارعة الطريق، لأنها تعيش معك ليست مطمئنةً، ليس منها ولد، ليس هناك ولد يرعاها حينما تكبر، فانظر إلى التصميم الإلهي؛ خلق الذكر والأنثى، وخلق نظام الزوجية، فأيّ علاقةٍ بين الرجل والمرأة خارج نطاق الزوجية علاقة محرَّمة، وعلاقة مُشقية للزوج وللزوجة. 

على الإنسان أن يطيع الرحمن لأن طاعته لمصلحة هذا الإنسان:


أريد من هذه الآية أن يتضح لكم أنه انطلاقاً من حبك لذاتك، أو بتعبيرٍ أكثر صراحةً انطلاقاً من أنانية الإنسان، يجب أن يُطيع الرحمن، لأن كل طاعته لمصلحته، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ يا من آمنتم بي ويا من لم تؤمنوا بي، خالق الكون يقول لكم: ﴿كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّباً﴾ الخمر الآن يوجد حقيقة أن العالم الشرقي والغربي مع بعده عن الدين، ومع إنكاره للأديان، ومع كُفره بالواحد الديَّان يعود إلى أحكام الدين لا على أنها دين؛ ولكن على أنها نظامٌ ناجح. فالاتحاد السوفيتي قبل أن ينهار حرَّم الخمر، قبل انهياره بعدة سنوات فيما أذكر حُرِمَ الخمر في كل البلاد طولها وعرضها، لماذا؟ لأنهم حسبوا الخسارة التي يدفعها الاتحاد السوفيتي من جرَّاء الخمر أرقاماً فلكيَّة؛ لا يوجد إنتاج، ضعف في الإنتاج، تشتُّت في الأسرة، ضياع في الأموال، حُرِم الخمر، والذي يحصل أن كلا الجهتين شرقاً وغرباً يعودون إلى الدين لا على أنه دين بل على أنه نظامٌ دقيق.
هل تصدقون أن بعض جامعات أمريكا خاصة للطلاب وبعضها خاصة للطالبات؟ أبداً، يوجد بلاد تُجْبِر الوالد على تطهير ولده -على الختان-مع أنه سنةٌ إسلاميةٌ نبويَّة، حينما يُكتشف أن سرطان عنق الرحم يكاد يخلو من البلاد الإسلاميَّة بسبب الختان، وحينما يُكتشف أن هناك أمراضاً علاجها بحركات الصلاة، مرض انقلاب الرحم علاجه بحركاتٍ كالصلاة تماماً، خالق الكون أمرك أن تصلي، خالق الكون أمرك أن تصوم، خالق الكون أمرك أن تحج، أن تغضَّ البصر.
ألكسي كرين هذا مؤلف ألَّف كتاباً شهيراً: الإنسان ذلك المجهول، اكتشف لا من خلال النص الشرعي بل من خلال التجربة والتأمُّل والتحقق، أن خير نظامٍ للبشرية أن يقصر الرجل طَرْفه على زوجةٍ واحدة، أي غضّ البصر، فحينما تكتشف ولكن بعد فوات الأوان أن غضّ البصر أحد أسباب السعادة الزوجية، وأن الأكل المعتدل أحد أسباب الصحة، وأن التقيُّد بما أحلّ الله وترك ما حرَّم الله أحد أسباب السلامة، الإنسان عندئذٍ يرى أن هذا الدين لصالحه.
 

أوامر الدين ضمانٌ لسلامتنا وليست حداً لحريتنا:


أيها الإخوة؛ لابد من أن نفهم الأوامر والنواهي على أنها ضمانٌ لسلامتنا؛ وليست حدّاً لحريَّتنا، لابد من أن نفهم أوامر الدين على أنها ضمانٌ لسلامتنا وليست حدّاً لحريتنا، أنت إذا رأيت لوحة في الطريق كُتِبَ عليها "حقل ألغام ممنوع الاقتراب" هل تحقد على من وضع هذه اللوحة؟ أبداً، يمتلئ قلبك امتناناً منه، لأنه أراد سلامتك، هنا حقل ألغام لا تقترب، فحينما تفهم أوامر الدين على أنها ضمان لسلامتك وليست حدّاً لحريتك عندئذٍ أنت قد فقهت أوامر الله عزَّ وجل. 
فيا أيها الإخوة الكرام؛ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّباً﴾ ماذا يأكل الخنزير؟ يأكل الجرذان، يأكل الجيَف، أكلته المفضَّلة أن يأكل خنزيراً ميِّتاً، فنحن لو عقَّمناه، لو وضعناه في مزارع، هناك أخطار كثيرة قد لا ننتبه إليها، ومن يقول: لمَ خلقه الله؟ هذا حيوان له مهمة، حينما تموت دابةٌ في الحقول، وتفوح رائحةٌ منها لا تُحتمل، يأتي الخنزير فيأكلها، وكأنه نظَّف هذا الحقل من هذه الجيفة، مهمته أكْلُ الجيَف، فأصبح هذا الحيوان الذي هو مهمَّته أكل الجيف يُؤكل في بلادٍ طويلةٍ وعريضة، فــ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّباً﴾ أي لا يوجد حرمان في الإسلام.
 

نِسب الحرام للحلال نِسبٌ ضئيلةٌ جداً ولابدّ منها من أجل أن تصل إلى الجنة:


دقِّق في قوله تعالى: 

﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)﴾

[ سورة البقرة ]

الشيء المحرَّم نسبته إلى المحلَّل واحد بالمليار، كم نوع لحم مسموح أن تأكله؟ مئات، بل ألوف، حُرِم لحم الخنزير فقط والميتة والدم، كم نوع شراب محللٌ لك أن تشربه؟ مئات، بل عشرات المئات، محرمٌ عليك الخمرة فقط، فنسب الحرام للحلال نسبٌ ضئيلةٌ جداً، ولابد منها من أجل أن تصل إلى الجنة، لو لم يكن هناك شيء محرَّم لما كان هناك جنة، كان الله عزَّ وجل قادراً ألا يخلق خنزيراً ولا خمراً، فبمَ تدخل الجنة؟ كله مباح، كله حلال، فمن هو الطائع؟ من هو العاصي؟ من دون منهج، من دون تكليف لا يوجد جزاء، ولا يوجد عقاب، فلابد من التكليف، فربنا عزَّ وجل أباح لنا كل الطيبات، وحرَّم علينا بعض الخبائث، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّباً﴾ لكن ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ الشيطان أحياناً يُغري بالمعصية، تارةً لأسباب علميَّة، هكذا يوهم وليَّه، أنه مفيد، إنتاجه غزير، لحمه طري فرضاً، دهنه جيد، فهذا من اتّباع خطوات الشيطان.
أنا مرَّة -قصة لها فائدة-لي قريب يعمل في إصلاح السيارات، فذهبت لعنده مرة فنزع قطعةً من مكبح المركبة وألقاها، قال: هذه القطعة لا لزوم لها، قلت له: ليس في الإمكان أن أُناقشك في هذا الأمر، لست مختصاً بالميكانيك، ولكنني لا أصدق أنّ يكون هناك خمسة آلاف مهندس في شركة عريقة جداً عمرها مئة سنة وأن تكون أنت أفهم من هؤلاء فأرجعها، استنباط عام، أنا لا أصدق أن مخلوقاً يُصيب والتشريع يُخطئ، مستحيل وألف مستحيل، الله هو الخبير، هو الخالق.
 

كلَّما ازداد إيمانك بالله ازداد إيمانك بأحقية تشريعه:


كلَّما ازداد إيمانك بالله يزداد إيمانك بأحقية تشريعه، إذا قال الله لك: غض بصرك، ولو يأتي مليون إنسان يقنعونك أن إطلاق البصر يعمل توازناً، يعمل راحة، يخفِّف الضغط، كلام فارغ، إذا كان خالق الكون يقول لك: غض البصر، لا يوجد مخلوق يمكن أن تصغي إليه، مستحيل، إذا أمرك خالق الكون أن تؤدي الصلوات الخمس، لا يوجد مخلوق يقول لك: الصلوات تُضَيع الجهد، كلَّما أردنا أن ننتج يأتي فرض الصلاة، قف، أذن، توضأ، ثم صلِّ، هذا كلام فارغ، بهذه الصلوات الخمس تُشحن شحنة روحيةً تُعينك على أن تكون على منهج الله قائماً.
عوِّد نفسك أنك إذا آمنت بالله الإيمان الصحيح لا يمكن أن تقبل من مخلوقٍ كائناً من كان كلاماً يصادم التشريع، مستحيل، هذا التشريع من عند الخالق.
أنت الآن عندك جهاز كمبيوتر أصابه خلل، بجانب بيتك محلان؛ محل وكالة كمبيوتر وخضري، وبائع الخضار صالح جداً، تحبه كثيراً، هل يمكن أن تدفع هذا الجهاز لصاحب البقالية؟ مستحيل وألف مستحيل، لأن هذا ليس اختصاصه، هذا إنسان بائع جيد، صاحب دين، مستقيم، طليق اللسان، بشوش لكنه ليس مختصاً بهذا الجهاز، أعطِ الجهاز للخبير، أنت لست  خبيراً، أليس لك خالقٌ حكيم؟ لماذا أمرك ونهاك هذا الخالق؟ ليسعدك، ليسلِّمك، فالعبرة أنه كلما ازداد إيمان الإنسان بالله يزداد تعظيمه لشرع الله، حينما تؤمن بأن الله ذو الجلال والإكرام، كيف تُجلُّ الله؟ من إجلال أمره ونهيه.

﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)﴾

[ سورة الحج  ]

﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)﴾

[ سورة الحج  ]

فتعظيم الشعيرة، وتعظيم الحرمات هذا دليل تعظيم الله عزَّ وجل.
 

ضبط اللسان جزء من الدين:


﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ كأن الله يريد أن يقول لنا: كل الناس أنا أطلبهم للهدى، كل الناس أريد أن أسعدهم، كل الناس أريد أن أهديهم، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّباً﴾ بالمناسبة أخطر شيء في حياة الإنسان ماذا يدخل إلى هذا الفم وماذا يخرج؟ ماذا يدخل من طعام وماذا يخرج من كلام؟ عدَّ الإمام الغزالي أربع عشرة آفةً من آفات اللسان.

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ. ))

[ صحيح الترغيب : حسن صحيح ]

(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ . ))

[  صحيح الترغيب : خلاصة حكم المحدث : حسن ]

ضبط اللسان جزء من الدين؛ هناك غيبة، هناك نميمة، هناك بهتان، هناك سخرية، هناك محاكاة، هناك تدليس، هناك كذب، هناك استهزاء، هذه كلها من آفات اللسان، أخطر شيء بالجسم هذا الفم، ماذا يدخل إليه وماذا يخرج.
قد تُطْعم نفسك طعاماً حلالاً طيِّباً، لحم ضأنٍ مذبوح وفق الشريعة الإسلاميَّة، تكبيرٌ مع التزكية، ولكنك اشتريت هذا الطعام بمالٍ حرام فهو حرام، يا سعدُ أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة.
 

الحرام نوعان؛ حرامٌ لذاته وحرامٌ لغيره:


إخواننا الكرام؛ هناك نقطة مهمة جداً، هناك حرامٌ لذاته وهناك حرامٌ لغيره، لو أكل الإنسان لحم الخنزير فهذا عمل حرامٌ لذاته، لأن لحمَ الخنزير مُحرَّم، أما لو أكل لحم ضأنٍ بمالٍ حرام فهو حرامٌ لغيره، فقضية أطبْ مطعمك تكن مستجاب الدعوة.
أهم شيء أن يكون مالك حلالاً، أول شيء المال حلال اكتُسب لا عن طريق الكذب، ولا عن طريق الاحتيال، ولا عن طريق التدليس، ولا عن طريق الاحتكار، ولا عن طريق الإيهام، ولا عن طريق الغش، ولا عن طريق المُخادعة، ولا عن طريق القوة والاغتصاب، ولا عن طريق عملٍ لا يرضي الله عزَّ وجل، لذلك ورد أنه يوم القيامة يُحشر الناس أربعة فرقٍ؛ فريق جمع المال من حلال -تجارة مشروعة-أنفقه في حرام على الموائد الخضراء والليالي الحمراء، فيقال: خذوه إلى النار، الموضوع سهل جداً، حساب سريع جداً، وفريق جمع المال من حرام -عنده ملهى-أنفقه في حلال، تزوج واشترى بيتاً، فيُقال: خذوه إلى النار، طبعاً من باب أولى فريقٌ جمع المال من حرام وأنفقه في حرام، هذا إسعاف، أما الذي جمع المال من حلال وأنفقه في حلال هذا يحاسب، قفوه فاسألوه؟ هل تاه بماله على عباد الله؟ هل ضيَّع فرض صلاةٍ وهو منشغلٌ بماله؟ هل قال من حوله: يا رب لقد أغنيته بين أظهرنا فقصّر في حقنا؟ فقضية أن تأكل طعاماً بمالٍ حلال قضية خطيرة جداً، العبد يقول: 

(( عن أبي هريرة:  أَيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وإنَّ اللَّهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بما أمَرَ به المُرْسَلِينَ، فقالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وقالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ، يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟! ))

[ صحيح مسلم  ]

أنت هل من الممكن أن تُصَلّح جهازاً بُنِي على إفساد الأخلاق؟ يقول لك: العمل عبادة، من قال هذا؟ أي عمل عبادة!! ولو بِعْت أجهزةً تفسد الأُسر؟! ولو بِعْت دخاناً؟! ولو بِعْت شيئاً محرماً؟! من قال لك ذلك؟ أخطر شيء بحياة المؤمن زوجته وعمله، لأنهما ألصق شيءٍ به، فالمؤمن الموفَّق يختار زوجةً صالحة، وعملاً طيباً مشروعاً، وإذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما استعملك. 
 

الحلال ما كان حلالاً لذاته وحلالاً لغيره أما الحرام فهو ما كان حراماً لذاته وحراماً لغيره:


هنا: ﴿كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً﴾ لها معنيان، أن تأكل شيئاً أباحه الله لك حلال لذاته، وأن تأكل شيئاً حلالاً دفعت ثمنه من مالك الحلال، أي لا يكفي أن تأكل تفاحاً، التفاح ليس هناك من يُحرِّمه إطلاقاً، أما إذا اشتريت التفاح بمالٍ حرام فمحرمٌ أن تأكله، فالحلال ما كان حلالاً لذاته وحلالاً لغيره، والحرام ما كان حراماً لذاته وحراماً لغيره، ولعل كلمة حرام أنها تَحرِم الإنسان من السعادة في الدنيا والآخرة، ولعل كلمة الحلال الطيب أن النفس تحلو به وتطيب.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّباً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ كلامٌ دقيق، يقول لك مثلاً: العمل حلال، العمل عبادة، فإذا كان عمله في دار نشر تطبع كتباً فيها الإلحاد، فيها تزوير الحقائق، يقول لك: هذه دار نشر أنا ليس لي علاقة، هذا الكتاب طبعته أنت، وروَّجته أنت، وبعته أنت، وأفسد عقائد الناس كيف ليس لك علاقة؟  أنا أؤجر بيتاً، أنت تؤجره بالليلة بعشرة آلاف علماً أن أجرة أضخم فندق خمسة آلاف بالليلة الواحدة، معنى ذلك أن هناك مشكلة، ليست قضية أناس نائمين فقط، ولكن هناك قضية ثانية، هذا البيت صار بيت دعارة، أنا ليس لي علاقة، لا، أنت لك علاقة، فقضية الإنسان أن يتحرى الحلال في دخله، وفي طعامه، وفي شرابه والله لا أبالغ لعله أربعة أخماس الدين، أربعة أخماس الدين أن يكون مالك حلالاً وطعامك حلالاً.
والله زرت رجلاً -والد صديقي- قال لي: أنا عمري ست وتسعون سنة، أجريت فحصاً كاملاً شاملاً للدم والبول، قال لي: الحمد لله كله طبيعي، ست وتسعون سنة كل فحوص الدم صحيحة، طبيعيَّة، كل فحوص البول طبيعية، قال لي: والله لم آكل قرشاً حراماً في حياتي.
 

الحكمة من جعل الله الحلال صعباً والحرام سهلاً:


دخل رجل إلى بيتي زائراً قال لي: كم تقدِّر عمري؟ قلت له: ستون عاماً، قال لي:  ستة وسبعون عاماً، قال لي: والله كالحصان، بإمكاني أن أهدّ هذا الحائط ولا أشكو شيئاً، وبيننا لا يعتني بصحته إطلاقاً، قال لي: أنا عملت في سلك معين، والسلك دقيق جداً، وفيه مزالق خطيرة جداً، عملت في هذا السلك أربعين عاماً ولم آكل ليرةً واحدةً حراماً، قال لي: أصبت بإصابة كبيرة جداً كادت تودي بحياتي، قلت لربي وأنا مضجع على طاولة العمليات: يا رب أنا إن آذيت لك عبداً من عبيدك واحداً فأمتني وإلا فعالجني يا رب، قال لي: أنقذني الله. 
قضية أن يكون دخلك حلالاً، شيء مهم جداً أن يكون مالك حلالاً، وأن تشتري به طعاماً حلالاً، المال حلال، والطعام حلال، يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، رجل كان يُعلِّم، فتح مدرسة شرعية، كان يعلم الطلاب، بدأ التعليم بالثامنة عشرة من عمره، واستمر حتى الثامنة والتسعين، علَّم ثمانين عاماً، وكان من عادته أنه إذا رأى أحد طلابه في الطريق يقول له: يا بني أنت طالبي، يقول له: نعم يا سيدي، وكان أبوك طالباً عندي، يقول له: نعم، وكان جدك طالباً عندي، الأب والابن والجد طلاب هذا الإنسان، علّم ثمانين سنة، الذي وصفه تماماً أنه كان منتصب القامة، بصره حاد، سمعه مرهف، أسنانه في فمه، يا سيدي ما هذه الصحة؟ يقول: يا بني حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر، من عاش تقياً عاش قوياً.
أيها الإخوة؛ كل شيء بثمنه، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، أطب مطعمك تعش حياةً هادئةً طيبةً مباركةً، الحلال القليل ولحكمةٍ بالغةٍ بالغة جعل الله الحلال صعباً والحرام سهلاً، طبعاً كمثل حاد جداً: الآن هناك صرعة بأمريكا، أن يضع الإنسان آلة تصوير في غرفة نومه، ويَعرض نفسه على الإنترنت، دخله في السنة مليونَا دولار، وكذلك تهريب الحشيش غالٍ جداً مثلاً، إذا أردت أن تلغي القيَم فهناك دخول كبيرة جداً، أما الحرام سهل، ووفير، الآن افتح ملهى، تجد الزبائن ليلاً ونهاراً، والله قال لي شخص: أرباحه رقم فلكي، الشيء المشروع صعب، هذه حكمة أرادها الله، أراد أن يكون الحلال صعباً والحرام سهلاً.
 

للحلال سعادة وللحرام لذَّة آنية تنتهي بكآبة:


ما الذي يحصل لو أن الأمر معكوس؟ لو كان الحرام صعباً والحلال سهلاً، لأقبل الناس جميعاً على الحلال، لا حباً بالحلال، ولا طاعةً للرحمن، ولا خوفاً من النيران، أبداً، لأنه سهل، لكن ربنا عز وجل فرز الناس، جعل امرأة تخدم في البيوت ثماني ساعات بثلاثمئة ليرة، أما المومس فتأخذها في خمس دقائق، تأخذ خمس آلاف في خمس دقائق، فهناك فرق كبير جداً، لذلك الحلال صعب، والحرام سهل.
قد تشتغل سنة، تشتري بضاعة، وتبيع البضاعة، تجمع ثمن البضاعة، وديون، تربح ما يغطي نفقاتك، وهناك طرائق أخرى غير مشروعة للكسب، تجد ملايين مملينة تأخذها بأشهر، فلحكمةٍ بالغةٍ بالغة جعل الله الحلال صعباً، هو وسام شرف، فإذا اختار الإنسان الطريق الصعب هذا وسام شرف له ليفتخر، لا يقول: رفيقي صار مليونيراً بسنتين!! إذا كان سقط في المعصية لا كانت ولا كانت هذه الثروة، أما أنت فمقيم على أمر الله عز وجل، فــ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّباً﴾ سبحان الله الحلال معه سعادة، أما الحرام فمعه لذَّة آنية تنتهي بكآبة، لذة متناقصة تنتهي بكآبة، يكون دخل الإنسان كله حلالاً، بيته متواضع لكن الله عز وجل يُضفي على هذا البيت تجلياً، سعادة، فيصبح البيت قطعة من الجنة، صغير، فرشه متواضع، الأكل درجة خامسة، الثياب قد تكون درجة عاشرة؛ لكن هناك استقامة، الأمر الإلهي مطبق في هذا البيت، الزوجة مؤمنة، الزوج مؤمن، تُقام فيه الصلوات، يُذكر الله فيه، بربك ألا تعرف أنك قد تكون في مكان متواضع جداً وأنت في قمة السعادة؟! وقد تكون في مكان فخم جداً وأنت في عذابٍ شديد؟! هذه قاعدة، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّباً﴾ .
 

زوال الكون أهون على الله من أن تخاف منه ويضيِّعك:


الآن دققوا: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ أضرب أمثلة: أنت عندك عيال، أيْ: غشَّ الناس، ارتشِ، اسرقْ، عندك عيال، إذا استقمت لا يرزقك الله؟ الله يرزق فقط المنحرف؟ لأنك خفت منه واستقمت تعيش شحاذاً؟ هكذا ظنك بالله عز وجل؟! واللهِ والله زوال الكون أهون على الله من أن تخاف منه ويضيِّعك، أنت خائف منه، هذه حرام لا أريدها، هذه فيها شبهة لا أريدها، هذه لا ترضي الله، تصبح وراء الناس!! والذي لم يسأل، ولم يرد، ولم يتَّعظ هو الغني؟! أهكذا ظنك بالله؟

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

[ سورة الجاثية  ]

﴿ وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)﴾

[ سورة القصص ]

هكذا؟ هذا شيء يُطرح كل يوم، إذا لم أعمل هكذا أموت من جوعي، لا إذاً اكذب؛ غش، واكذب، ودلس، أخي إذا أنا لم أكذب لا أعيش كمحام، من قال لك ذلك؟ محام مؤمن لا يتسلم إلا القضية التي فيها ظلم ويدافع عن المظلوم ويخذله الله عز وجل؟ مستحيل، صار هناك منطق للأحداث غريب جداً، يجب أن تعصي الله.
 

إلقاء الشيطان آلاف الوساوس على الإنسان كي يعصي الله:


يقول لك: أنت عندك أولاد، أو يقول لك: ضعْ رأسك بين الرؤوس وقل: يا قطاع الرؤوس، مثلك مثل هؤلاء الناس، فإذا كان كل الناس منحرفين أتنجو أنت منهم؟! إذا انحرف الناس كلهم تكون أنت خلصت؟ لا لم تخلص، هذه خطوات شيطانية، أو فلان له معك مبلغ، غني، ليس له حاجة، من قال لك هذا؟ الغنى والفقر ليس له علاقة بالحقوق، أدِّ الذي عليك ولو كان غنياً.
أقصد من هذه الكلمة أن هناك آلاف الوساوس التي يلقيها الشيطان على الإنسان كي يعصي الله، ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ أي فتكسبوا مالاً حراماً، ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ بعت واحداً بيعة، جاءك بعد دقائق وقال لك: والله ندمت، هل من الممكن أن أرجعها؟ تجيبه: لا أستطيع، تخسر ألف ليرة، لمَ تأكل هذا المال؟ لم يفكها بعد، مازالت بغلافها، لك أن تنفذ البيع، لأن البيع فيه إيجاب وقبول، ولا يوجد جهالة، ولك أن تُقيل عثرته، فمن أقال نادماً بيعته أقال اللّه عثرته، أما أن تأخذ ألفاً مقابل إعادتها ليس لك حق أن تأخذها، وهذه ليس لها وجه شرعي.
يا إخواننا الكرام؛ رجاءً دققوا آلاف المرات في الكسب، إذا كان الكسب حلالاً يبارك الله عز وجل بهذا الكسب، يبارك به، تجد سبحان الله بمبلغ ضئيل تفعل به الشيء الكثير، ولكن والله لا أعلم كيف يتم لا أعلم ذلك؟ هذه تسميها: العناية الإلهية المباشرة، قد تجد إنساناً دخله غير معقول، قليل، لا توجد عنده مشكلة، أموره كلها ميسَّرة؛ آكل، شارب، لابس، نائم، والله ليس معقولاً، هذا اسمه: البركة، جاء بالقرآن، يقول لك: بارك الله بك، أي الله عز وجل يعطيك الكثير من القليل، إذا كان الإنسان دخله حراماً يُذهب الله عز وجل ماله بأسبابٍ تافهة، تجد مصادرات، ومخالفات، وأخطاء بسيطة يدفع مبالغ طائلة.
 

المؤمن الصادق دائماً عنده حساسية للشيطان:


﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ ، ﴿عدوٌ مبين﴾ أي انتبه لأي وسوسة، حدثني أحد إخواننا الدعاة، كان له والد صالح جداً قال له: يا بني إذا حدّثتك نفسك بعمل صالح، أو بإنفاق، ثم جاء الشيطان فقال لك: لا تنفق، عاقبه، قال له: كيف أعاقبه؟ قال له: ادفع الضعف، عاقبه، المؤمن الصادق دائماً عنده حساسية للشيطان، هذا الخاطر شيطاني، هذا التبرير شيطاني، هذا التعليل شيطاني، هذا التزيين شيطاني، كثير من الأشخاص يستجيبون للشيطان.

﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)﴾

[ سورة البقرة ]

يأمركم بشيءٍ يسوءكم، ويأمركم بشيءٍ يفضحكم، ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ عندنا أخ لديه محل، عيّن موظفاً حديث عهد بالزواج، له زوجة دنيوية مادية، ضغطت عليه، الراتب لا يكفي، فصار يبيع ويضع المال في جيبه، وجد الأمر سهلاً، يأتي المعلم الساعة الحادية عشرة، يكون قد باع بيعتين أو ثلاث بخمسمئة أو بستمئة يضع المال في جيبه، وجد صاحب المحل هناك نقصاً في البضاعة، هناك خلل في المحل، فهذا الأخ كلَّف صديقاً له أن يأتي إلى المحل الساعة العاشرة ويشتري حاجة بألف ليرة، ثم أتى صاحبُ المحل الساعة الحادية عشرة، قال له: يا فلان هل أتى أحد؟ يقول له: أبداً، هل بعت؟ لا، لم أبع، اتفق مع صديقه أن يرجع الساعة الثانية عشرة ليرجع الحاجة، فجاء قال له: هذه أريد أن أرجعها، قال له: متى أخذتها؟ قال له: اليوم الساعة التاسعة، ما هذا الكلام؟ ألم تقل لم أبع شيئاً؟ انتهى، طرده من عمله، لم يترك واسطة، أصبح بلا عمل، ماذا قال له الشيطان؟ الآن صاحب المحل لا يدري، ولا يوجد عنده جرد دقيق، وأنت بحاجة، هو حالته المادية جيدة، لكن الله فضحه.
 

الشيطان دائماً يأمر الإنسان بعملٍ يسوءه أو يفضحه:


دقق في القصص تجد إنساناً يمدّ يده للحرام يُدَمّر، يظن نفسه ذكياً إلى حين، يُزوِّر، يزيد صفراً، أو يمحو صفراً، يدبر حاله، يجمع ثروات طائلة، بعد ذلك يُبطش به، يُلقى في السجن، يُعذب، أين المال؟ الشيطان دائماً يأمر الإنسان بعملٍ يسوؤه، أو يفضحه، ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ﴾ مثلاً: هؤلاء الذين أخذوا الصائغ وقتلوه، وأخذوا منه ثلاثة عشر كيلو من الذهب في القلمون، بعد أيام عدة أعدموا جميعاً، أين المال بقي؟ استرد المال، أعطيكم حالات حادة، هناك حالات أخف، فكل إنسان يستجيب للشيطان يدفعه الله عز وجل الثمن باهظ، ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ﴾ ما يسوءكم، ﴿وَالْفَحْشَاءِ﴾ ما يفضحكم، ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ يقول لك: لا تدقق، لن يحاسبك الله، كلام، النبي سيشفع لك، الذين اخترعوا هذه الشفاعة، الشفاعة حقّ يا إخواننا لكن الشفاعة  لها شروط، ولها تعاريف دقيقة، ولها خصائص، أما يفهمها الناس فهماً ساذجاً، فهما سخيفاً جداً:  "ادخل أنت وهو الجنة وخلصونا" مهما فعل من كبائر يدخل إلى الجنة بشفاعة النبي، مع أن الله عز وجل يقول:

﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)﴾

[ سورة الزمر ]

مستحيل.. 

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) قَالَ : (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا-اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. ))

[ رواه البخاري ومسلم  ]

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ، ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه.  ))

(( لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم. ))

[ أحمد عن أبي هريرة ]

هذه: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ .
 

معظم مصائب الناس من اتباع خطوات الشيطان:


إذاً: ﴿يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ﴾ ما يسوءكم، ﴿وَالْفَحْشَاءِ﴾ ما يفضحكم، ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ .
إخواننا الكرام؛ أريد أن أؤكد لكم أن الشيطان يدخل على بني آدم أو على المؤمن من باب كسب رزقه، فخطواته أن هذه حلال، هذه فيها فتوى، هذه قضية خلافية، هذه بلوى عامة، هذه أنت مضطر، أنت عندك أولاد، هذا غني ليس له حاجة بالمبلغ، لم يدر به فخذه، هذه كلها خطوات الشيطان، فكلما جاء للمؤمن خاطراً من هذه الخطرات ينبغي أن يصدَّه، وأن يُقيم الدليل الشرعي على خطأ الشيطان، ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ تكاد تكون كل مصائب الناس من اتباع خطوات الشيطان، ادخل إلى السجن، كل هؤلاء المساجين من دون استثناء، أو ما خلا قلة قليلة دخلوا إلى السجن بسبب اتباع خطوات الشيطان، أبداً،  طبعاً الجرائم المدنية، الجرائم العادية، معنى هذا أن الإنسان معرض لوسوسة الشيطان، فإذا اتبعه هلك في الدنيا والآخرة، فالإنسان يجب أن يكون يقظاً، ينبغي أن يرفض أي خاطر يتناقض مع الكتاب والسنة، ويتناقض مع منهج الله، وأن يكون دقيقاً يقظاً، والمؤمن كيسٌ، فطنٌ، حذر.
 

التقليد لصالح الإنسان لكن بعد مرحلة معينة ينتهي التقليد ولابدّ من التحقيق:


ثم يقول الله عز وجل: 

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)﴾

[ سورة البقرة ]

الإنسان مبرمج أن يقلد، لكنه مبرمج أن يقلد لفترة محدودة من حياته، الطفل الصغير يُقلِّد أباه في مأكله، ومشربه، ومطعمه، حتى أكثر أولاد المؤمنين إذا قام الأب ليصلي يصلي بجانبه، هكذا فُطِر الإنسان، والتقليد لصالح الإنسان، لكن بعد مرحلة معينة ينتهي التقليد لابد من التحقيق.
لذلك العقيدة الصحيحة لا تُقبل إن كانت تقليداً، لا تُقبل إلا إن كانت تحقيقاً، فالتقليد مرحلة من مراحل تربية الإنسان، لكن بعد حين أن الذي يحصل هؤلاء الأتباع يقلدون المتبوعين فيما يحلو لهم، يقول لك: هكذا نشأت أنا، كم إنسان نشأ في بيئة غير متعلمة وأخذ دكتوراه؟ لماذا لم يقبل بوضع أهله؟ كم إنسان نشأ في بيئة فقيرة وأصبح مليونيراً؟ لماذا رفض هذا الشاب واقع أهله؟ إذاً هو لا يُقلِّد، هو في الحقيقة يخطّ لنفسه منهجاً يراه صحيحاً، أما حينما يَدَّعي أنه يُقلد أعجبه سلوك آبائه المنحرفين فقلدهم، ﴿قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ فأنت هذا الكلام فيه كذب، أنت في أمور دنياك لا تُقلِّد، كم إنسان خرج عن نمط أسرته، وعن بيئته، واختطّ لنفسه خطاً آخر لأنه يحقق مصالحه، أما حينما يدَّعي أنه يتبع آباءه هو لأنه أَلِفَ هذه المعاصي وراقت له، فادّعى أنه يتبع آباءه، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ لأن ما أنزله الله يحوي قيوداً، قيوداً لشهواتهم، هم يحبون التحرر من هذه القيود فيدّعون أنهم يتَّبعون، ﴿مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ .

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور