وضع داكن
23-11-2024
Logo
الدرس : 54 - سورة البقرة - تفسيرالأيات 165 -167 التوحيد والشرك
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

النقطة التي يلتقي بها العلم بالأخلاق هي الموضوعيَّة:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الرابع والخمسين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الخامسة والستين بعد المئة، وهي قوله تعالى: 

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)﴾

[ سورة البقرة ]

أولاً كلمة: ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ هذه (مِن) للتبعيض، عوِّد نفسك أن تتخلَّق بآداب القرآن؛ لا تُعَمِّم، لا تُطْلِق، لا تقل: كلّ أهل هذه البلدة شاردون، قل: بعضهم، بعضٌ منهم، كن موضوعياً في أي حكم تُدلي به، النقطة التي يلتقي بها العلم بالأخلاق هي الموضوعيَّة، الموضوعية قيمةٌ علمية، وهي في الوقت نفسه قيمةٌ أخلاقيَّة، العلم يلتقي مع الأخلاق بهذه القيمة، إن سُئلْتَ عن إنسان اذكرْ ما له وما عليه، لا تذكر ما عليه فقط إن كنت خصماً له، ولا تذكر ما له إن كنت محباً له، اذكر ما له وما عليه.
رأى النبي عليه الصلاة والسلام صهره مع الأسرى، أُسِرَ يوم بدر، لماذا جاء؟ جاء ليحارب النبي، ولو تمكَّن لقتلَ النبي، قُبِضَ عليه أسيراً، فلما نظر النبي عليه الصلاة والسلام إليه قال كلمةً منصفةً، قال: "واللهِ ما ذممناه صهراً" صهر ممتاز، أرأيت إلى هذه الموضوعية؟!
 

التعميم من العمى:


تعلَّم من القرآن الكريم كيف تكون أحكامُك دقيقة، لا تنظرْ بمنظارٍ واحد، لا تنظرْ من زاويةٍ واحدة، ورد لا أقول حديثاً: أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما.
دائماً لا تُعمم؛ التعميم من العمى، وفرق المثقف عن غير المثقف في هذه الناحية، أحكامه دقيقة، موضوعية، لا يوجد مبالغات، كل إنسان يبالغ بعيد عن الإنصاف:

﴿ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)﴾

[ سورة النساء ]

من الذين هادوا يفعلون كذا وكذا، من للتبعيض، لو اهتدى واحد من هؤلاء إلى الإسلام، ورأى هذه الدقة في القرآن، ترتاح نفسه، تأدَّب بآداب القرآن، لا تُعمم ولا تُطْلق، ولا تُبالغ ولا تُقَلل؛ بل إن الحقَّ أكبر من أن يحتاج إلى مبالغة، هو أكبر من ذلك، الحق أكبر من أن تكذبَ له، الحق أكبر من أن تستحي به، الحق أكبر من أن يخشى البحث، الحق لا يخشى البحث، ولا يُستحيا به، والحق لا يحتاج إلى أن تكذب له، ولا أن تُصغِّر من خصومه، ولا أن تُبالغ، الحق هو الله، قويٌ بذاته، لذلك أنت كمسلم ادعُ إلى الله فقط، الحق قوة من دون أي شيء آخر، كن منضبطاً بكل القوانين والأنظمة لكن كلمتك هي القوية، الحق غذاء للنفوس. 
 

مخاطبة الله الناس بأصول الدين ومخاطبة المؤمنين بفروع الدين:


قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ أما كلمة (الناس): 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)﴾

[ سورة البقرة ]

خاطب الله عزَّ وجل الناس تارةً، وخاطب المؤمنين تارةً أخرى، حتى إن بعض العلماء قالوا: إن الله خاطب الناس بأصول الدين، وخاطب المؤمنين بفروع الدين، كيف؟

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)﴾

[ سورة التوبة  ]

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)﴾

[ سورة النور ]

أي يا من آمنت بالله خالقاً ورباً ومسيراً، يا من آمنت به موجوداً وواحداً وكاملاً، يا من آمنت أن الأمر كله بيده، يا من آمنت أن منهجه هو المنهج الصحيح، يا من آمنت أن طاعته هي المُسعدة، إذا قال لك الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي كل حجم إيمانك، وكل تفاصيل إيمانك، وكل مرتكزات إيمانك يجب أن تذكرها حينما تُؤمر بكذا، أي يا من آمنت بحكمتي، يا من آمنت بعلمي، يا من آمنت بقدرتي، يا من آمنت بأن المصير إليّ، يا من آمنت بجنةٍ عرضها السماوات والأرض، افعل كذا ولا تفعل كذا. 

مخاطبة الله عزَّ وجل المؤمنين بتفاصيل الشريعة:


إذا خاطب الله عزَّ وجل المؤمنين يُخاطبهم بتفاصيل الشريعة، لأنه آمن بالله، لأن الإنسان بعد أن يؤمن الإيمان الذي يحمله على طاعة الله يجب أن يبحث عن شيءٍ واحد فقط، الإيمان الذي لا يحملك على طاعة الله إيمانٌ لا قيمة له، إيمان لا ينجِّي، الإيمان الذي له قيمة والذي يُنَجيك هو الذي يحملك على طاعة الله.
مثلاً: معرفتك بأضرار الدخان لا قيمة لها إن لم تحملك على ترك الدخان، أما معرفتك بأضرار الدخان إذا حملتك على ترك التدخين هذه معلومات جيدة ومُنْجية، وهكذا، فكل إيمانٍ لا يؤدي بك إلى طاعة الله لا قيمة له، إيمانٌ إبليسي، آمن بالله عزيزاً، وآمن بالله خالقاً: 

﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)﴾

[ سورة الأعراف ]

﴿ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)﴾

[ سورة ص ]

آمن به رباً.

﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)﴾

[ سورة ص  ]

آمن به عزيزاً: 

﴿ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)﴾

[  سورة الأعراف  ]

آمن باليوم الآخر، ولكن مجمل هذا الإيمان ما حمله على طاعة الله، أبى واستكبر، إذاً لا قيمة لهذا الإيمان.
 

الإيمان الإبليسي:


كل إنسان يقول لك: أنا مؤمن والحمد لله، والله مؤمن يا أخي، تبحث في تفاصيل حياته لا ترى فيها انضباطاً أبداً، ولا ورعاً، ولا التزاماً، أنا يخطر في بالي أن هذا الإيمان إيمان إبليسي، عرف وانحرف: 

﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)﴾

[ سورة الفاتحة  ]

من هم المغضوب عليهم؟ هم الذين عرفوا وانحرفوا، من هم الضّالون؟ هم الذين ما عرفوا وانحرفوا.
أرسل النبي عليه الصلاة والسلام فيما تروي كتب الحديث سيدنا معاذ إلى قبيلة ليُعلِّمهم، فلما عاد إلى النبي قال: يا رسول الله إنهم كالإبل المتوحِّشة –بهائم-همهم شاةٌ وبعير فقط. 
وأنت قد تجد إنساناً لا يفقه شيئاً، همه الدرهم والدينار، جلس عالِم من علماء مصر الأفاضل في حديقة بأمريكا إلى جانب أمريكي، فسأله عن بلده؟ قال له: أنا من مصر، سأله عن دينه؟ قال له: أنا مسلم، قال له: حدثني عن دينك، فهذا عالِم كبير، وله تفسير شهير، فحدثه ساعة عن الإسلام بكلام دقيق، مختصر، مفيد، مع أدلة، فما كان من هذا الذي سأله أن يحدثه عن الدين إلا أن أخرج من جيبه دولاراً، وقال: أنا هذا إلهي أعبده من دون الله، قد تجد إنساناً همه الدرهم والدينار، همه بطنه، همه شهوته: 

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ   عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ. طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّع».  ))

[ صحيح البخاري ]

أي إذا مسلم يعرف الجنة حقّ والنار حقّ، وهذا أمر إلهي، وهذه حرام، وهذه حلال، وهناك موت، وهناك جنة، وهناك نار، وهو غارق بالمعاصي، هذا كيف حاله؟ هذا حاله أشدّ من الجاهل.
 

حينما يتجه الإنسان إلى غير الله فقد أشرك:


إذا قال الله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ يخاطب الناس بأصول الدين، إذا قال: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)﴾

[ سورة التوبة ]

أي يا من آمنتم بعلمي، وقدرتي، ووحدانيتي، يا من آمنتم بخبرتي، آمنتم برحمتي، افعلوا ولا تفعلوا. 
فالآية الكريمة: ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ أي بعض الناس، ﴿مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً﴾ يتخذُ نِدَّاً لله، قديماً أصنام، حديثاً أشخاص، أيَّة جهةٍ تعبدها من دون الله هي ليست إلهاً بالتأكيد لكنك جعلتها بمرتبة الإله فخضعت لها، ورجوتها، وخفت من شرِّها، خضوع، رجاء، خوف، طاعة، هي ليست إلهاً، ولكنك عاملتها كإله، فاتخذتها من دون الله نَدّاً، والنّد هو المثيل والمُشابه، وكل إنسان يطيع مخلوقاً ويعصي خالقه، يطيع زوجته ويعصي ربه، يأكل المال الحرام لتكثر ثروته ولا يعبأ بحكم الله عزَّ وجل، هذا ماذا فعل؟ هذا اتّخذ المال نداً لله، هذا اتّخذ شهوته نداً لله، هذا اتّخذ سمعته نداً لله، حينما يتجه الإنسان إلى غير الله فقد أشرك، لماذا.. 

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)﴾

[ سورة النساء ]

 

الشرك خطأ لا يُغتفر:


ضربت مرَّة مثلاً بسيطاً أنك أنت قد تركب قطاراً إلى حلب، وفي حلب يوجد مبلغ ضخم جداً يجب أن تأخذه، والوقت مناسب، قد ترتكب في القطار عشرات الأخطاء، لكن القطار في طريقه إلى حلب، وسيصل في الوقت المناسب، قد تأخذ بطاقة درجة أولى، وتجلس في الدرجة الثالثة خطأً، هذا خطأ، قد تجلس مع شُبَّان ليسوا مهذبين فتنزعج منهم، هذا خطأ ثانٍ، قد تتلوّى جوعاً ولا تعلم أن في القطار عربة مطعم، هذا خطأ ثالث، قد تجلس عكس اتجاه القطار فتصاب بالدوار، هذا خطأ رابع، لكن القطار في طريقه إلى حلب، وسيصل في الوقت المناسب، وستأخذ هذا المبلغ؛ أما الخطأ الذي لا يُغتفر أن تركب قطار درعا، هنا لا يوجد هدف أبداً، الطريق مغلق هنا، لا يوجد قبض هنا مثلاً. 
لذلك الشرك خطأ لا يغتفر، لأن الطريق مسدود لا يوجد شيء، اتجهت إلى غير الله لا يوجد شيء، غير الله عزَّ وجل ضعيف، فقير، قد يكون أحياناً لئيماً، لا يستجيب لك، لو سمع لا يستجيب، قد لا يسمعك، ولو سمعك لا يستجيب، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ . 

الدين توحيد:


فيا أيها الإخوة؛ هذا الذي يتّخذ من دون الله، قديماً؛ اللات والعُزى، حديثاً؛ شخص زيد وعُبيد، وفلان وعلان، أي شخص قوي يقول لك: أنا أنتفع منه، فأمره بمعصية عصى، أمره بفعل شيء منكر فَعَله، يراه إلهاً، هو عامله كإله، هو ليس إلهاً هو إنسان ضعيف جداً، ولكن الجهل أوهمك أن هذا الإنسان بيده نفعك أو ضرك، بيده أن يرفعك، بيده أن يخفضك، بيده أن يعزَّك، بيده أن يذلَّك، بيده أن يعطيك، بيده أن يمنعك، توهَّمت أنه يأخذ دور الإله فعاملته كإله، فخضعت له، ورجوته، وخفت منه، وعصيت الله من أجله، هذه مشكلة المشاكل.
أحياناً ابن له أب غني جداً، لكنه بعيد عن الدين كلياً، الأب يعطيه توجيهات؛ إذا لم تفعل كذا أحرمك من الإرث، إذا لم تفعل كذا لا أشتري لك سيارة، إذا لم تفعل كذا... هذا الابن لضعفه وجهله يجعل أباه إلهاً له، فحفاظاً على بيتٍ فخمٍ، وعلى مركبةٍ، وعلى زواجٍ، وعلى دخلٍ كبير يعصي الإله ويطيع أباه، هذه مشكلة المشاكل، حينما تضعف رؤيتك، أو تنحرف رؤيتك فتتوهم أن بعض الأشخاص يستطيعون أن يُعطوك أو أن يمنعوك، أنت اتّخذتهم آلهة دون أن تشعر، اتخذتهم أنداداً لله، عاملتهم كآلهة، رجوت خيرهم، وخفت من شرِّهم، وأطعتهم وعصيت الله عزَّ وجل. 

(( عن عائشة أم المؤمنين: منِ التمسَ رضا اللَّهِ بسَخطِ النَّاسِ كفاهُ اللَّهُ مؤنةَ النَّاسِ، ومنِ التمسَ رضا النَّاسِ بسخطِ اللَّهِ وَكلَهُ اللَّهُ إلى النَّاسِ. ))

[ صحيح الترمذي ]

الدين كله كلمة واحدة: الدين توحيد؛ لا إله إلا الله، لا مُسيِّر، لا مُعطي، لا مانع، لا مُعز، لا مُذل، لا مُسعد، لا مُشقٍ، لا خافض، لا رافع أبداً لا يوجد إلا الله، هذا الدين، هذه المقولة سهلة كفكرة ليست صعبة، أما أن تعيشها فأنت تحتاج إلى جهد كبير، أنت أحياناً تقرأ قوله تعالى: 

﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾

[ سورة الأحزاب ]

هذه آية واضحة جداً، لا تحتاج لا إلى تفسير، ولا إلى شيخ، لأنها واضحة، أما حينما تكون في بلدة، لك رفيق شاب صديق لك، كنت أنت وإياه على مقعد واحد، فأنت تعاني من ضيق العَيش، ومن الدخل القليل، وصديقك معه ملايين مملينة، وهو غارق في الزنا، والفجور، والخمر، والنساء، والسفر؛ وأنت خائف من الله، من جامع إلى جامع، وترجو الله أن يسامحك، حينما ترى نفسك محروماً، وقد أعطاه الله، أنت لم تفهم هذه الآية أبداً، ولم تعشها، قراءتها سهلة، وسهل أن تشرحها لنا، أما أن تعيشها تحتاج إلى إيمان كبير، تحتاج إلى أن تشعر أنك بطاعة الله أغنى منه، وأنك بطاعة الله أقوى منه، وأنك بطاعة الله أسعد منه، ولو كنت فقيراً، هذه السكينة، تسعد بها ولو فقدت كل شيء، السكينة، إذا أنزل الله على قلبك السكينة تسعد بها ولو فقدت كل شيء؛ وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء. 
 

المؤمن لا يخشى في الله لومة لائم:


يا أيها الإخوة الكرام؛ ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً﴾ أحياناً يعمل زوجته نداً، تحمله على معصية يرضى، يرى سلامتها أغلى عنده من علاقته بالله، أحياناً ابنه يدفعه لمعصية، أحياناً يأكل المال الحرام ليرضي أسرته من شدة الطلب والإلحاح، ماذا رأى هذا؟ هذا رأى أن سلامته في بيته مع زوجته وأولاده أغلى عنده من طاعة الله عزَّ وجل، أما صحابي جليل طلبت منه زوجته طلباً. فقال: اعلمي أيتها المرأة أن في الجنة من الحور العين ما لو أطلَّت إحداهنَّ على الأرض لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر، فلأن أضحي بكِ من أجلهن أهون من أن أضحي بهن من أجلك، هذا مقياس.
قالت له أمه: يا سعد إما أن تكفر بمحمد، وإما أن أدع الطعام حتى أموت ، فقال:  يا أمي لو أن لكِ مئة نفسٍ فخرجت واحدةً وَاحدةً ما كفرت بمحمد، فكلي إن شئتِ أو لا تأكلي،  فأكلت بعد ذلك. 
هذا المؤمن، مؤمن مواقف، مبادئ، يقول: لا بملء فمه، ولا يخشى في الله لومة لائم، يقول: لا، وألف لا يقول، إذا الشيء مخالف للشرع، فيه معصية، فيه أكل مال حرام، فيه شهادة زور، لا، هذا المؤمن، لو قطعته إرباً إِرباً لا يعصي الله، هنا قوة المؤمن، أما: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ من دونه، لا يوجد نسبة، الله كل شيء، وهذا لا شيء، ﴿أَنْدَاداً﴾ يتوهمه قوياً، يتوهم سعادته بإرضائه، سبحان الله! الإنسان يرتكب أحياناً حماقة كبيرة، ويخسر الدنيا والآخرة معاً، هذا الذي آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً، وهذا الذي آثر رضا الله على دنياه ربحهما معاً. 
 

حينما يكون الإنسان لغير الله يحتقر نفسه:


﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ﴾ ماذا يحب الإنسان بشكل علمي؟ الإنسان يحب الجمال، ويحب الكمال، ويحب النوال، إذا أعطاك إنسان مبلغاً ضخماً جداً حللت فيه كل مشاكلك، وكان هو قميءَ القامة ألا تحبه على دمامته؟ لا تنام الليل إلا وأنت تذكره، على دمامته، أعطاك مالاً، الإنسان يحب الكمال، لو أن الكمال ما أصابه، يحب الكرم، يحب الشجاعة، يحب الحلم، يحب العدل، يحب الكمال، ويحب الجمال، ويحب النوال، فهؤلاء: ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ أي يحبونهم حباً يشبه حبّ المؤمنين لله، المؤمن بصراحة لا يليق به أن يكون لغير الله، لا ينبغي للمؤمن أن يكون لغير الله، هو لله وحده. 

﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)﴾

[ سورة البقرة ]

حينما يكون الإنسان لغير الله يحتقر نفسه، لا يعرف قدرها، هانت عليه نفسه فكان لغير الله، أنت خلقك الله عزَّ وجل إنساناً أولاً، مخلوقاً مكرَّماً، أنت لله، لا تكن تابعاً لإنسان، كن تابعاً لله عزَّ وجل. 
 

حال المسلمين الآن:


هؤلاء الأنداد يحبونهم حباً يشبه حبّ المؤمنين لله؛ يعظِّمونهم، يخافونهم، يرجون ما عندهم، يعصون الله من أجلهم هكذا، وهذه أكبر المصائب أن تكون خطأً لإنسان: 

﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)﴾

[ سورة الزخرف ]

هان أمر الله عليهم فهانوا على الله، هذا ملخَّص الملخَّص، حال المسلمين الآن؛ هان أمر الله عليهم فهانوا على الله، احتفالاتهم، أعراسهم، كسب مالهم، تجاراتهم، بيوتهم، صرعات العصر كلها في بيوتهم، لا يوجد عندهم شيء حرام، ولكن عندهم صلاة وصوم وحج وزكاة، الإسلام العظيم الذي هو خمسمئة ألف بند منهج تفصيلي بقي خمسة فقط.
تجد حياته في واد، والإسلام في واد؛ بيته، أولاده، بناته، زوجته، دخله، تجارته، لا يوجد مشكلة أبداً، دار نشر تروِّج كتاباً كله كفر، يقول لك: هذه مصلحتي، ماذا أفعل؟ مطعم يبيع خمراً، مطعم خمسة نجوم، يقيم دعاية أحياناً كلها نساء كاسيات عاريات، وهو يصلي في أول صف، كيف يكون متوازناً؟ كيف جمعت بين النقيضين؟ والله قال لي شخص: أنا عندي مطعم يباع فيه الخمر، إن شاء الله برقبة شريكي، لا دخل لي أنا!! هو اعتقد أنه توازن بهذه الطريقة أنه وضعها في رقبة شريكه وانتهى الأمر.
 

عداوة الحال وعداوة المآل:


هذا الإنسان الذي يطيع مخلوقاً، ويعصي خالقاً، يطيع زوجته، ويعصي ربه، يطيع شريكه، ويعصي خالقه، يطيع أولاده، ويُغضب ربه، يكسب المال الحرام ليرضي أسرته، وهذه لا تنفعه عند الله شيئاً، من هنا قال الله عزَّ وجل: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)﴾

[ سورة التغابن ]

يوم القيامة قال العلماء: "هذه عداوة مآل وليست عداوة حال" ، بالحال زوجته يحبها حباً جماً، وأولاده، أما يوم القيامة حينما يرى أنه استحق دخول النار بسببهم، عندئذٍ يعاديهم، حينما يوضع الرجل في النعش وتمشي الجنازة -هكذا ورد في الأثر-تُرفرف روحه فوق النعش تقول: "يا أهلي يا ولدي جمعت المال مما حلّ وحرم، فأنفقته في حلِّه وفي غير حله، فالهناء لكم والتبعة عليّ" .
سُئل أحدهم إلى أين أنت ذاهب يا أخي؟ والله بالحرف الواحد وإن كانت كلمة قبيحة، قال له: أنا ذاهب لأسكر على روح أبي، ترك له أموالاً طائلة، ولم يعرفه بالله عزَّ وجل، فهذا المال بين يديه حمله على المعاصي والآثام، لذلك: "أندم الناس رجلٌ دخل ورثته بماله الجنة ودخل هو بماله النار" .
ممكن الشخص يُوَرِث أولاده مالاً وفيراً، أولاده صالحون، فدخلوا بهذا المال الجنة، هو جمعه من حرام فدخل به النار، وقد تقف فتاةٌ يوم القيامة تقول: يا رب لا أدخل النار حتى أُدخل أبي قبلي، ما عرَّفها بالله، ما حملها على طاعة الله، القضية خطيرة جداً.
 أنا أعيد هذه الفكرة مرَّات عديدة، هناك كلام تستمع إليه فتتثاءب، وتنام بعده، لأنه كلام تافه، وهناك كلام تستمع إليه فلا تنام بعده الليل، لأن هذا الكلام يضعك أمام مسؤوليَّاتك. 

﴿ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)﴾

[ سورة النجم  ]

هناك كلام يجب أن يبكي له الإنسان. 
 

علاقة المؤمن مع الله علاقة حبّ:


هذه الآية أيها الإخوة مهمة جداً: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ المؤمن هو الذي يحب الله حباً حقيقياً.
إخواننا الكرام؛ علاقة المؤمن مع الله علاقة حب، لأن الحب أساسه العطاء، منحك نعمة الوجود، أنت موجود، من أوجدك؟ منحك نعمة الوجود، أمدَّك بكل ما تحتاج؛ أمدَّك بالهواء، أمدّك بالماء، أمدّك بزوجة، بأولاد، ببيت، بحرفة تكسب منها رزقك، أعطاك ذاكرة، أعطاك قوة، أعطاك قلباً، رئتين، دسَّامات، كليتين، أجهزة كلها كاملة، فالمؤمن يحب الله عزَّ وجل، منحه نعمة الوجود، نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى والرشاد. 
أي يحبون هؤلاء الأنداد الصغار الحقيرين، يحبونهم كما يحب المؤمن ربَّه، حبّ طاعة، حبّ انقياد، حبّ خوف، حبّ رجاء، لذلك إذا رأيت إنساناً يحب جهةً ما من دون الله كحبه لله ابكِ عليه، مسكين، ضيَّع عمره سُدى، جعل نفسه سيِّئةً من سيِّئات فلان، أنت لله.
الماء للتراب، والتراب للنبات، والنبات للحيوان، والحيوان للإنسان، والإنسان لله.
الإنسان التافه يعيش ليأكل، والأقل تفاهة يأكل ليعيش، والمؤمن يعيش لمعرفة الله، يعيش لهدف كبير، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ﴾ هنا الآن لماذا هم أشدّ حباً لله؟ المؤمن يحب الله في السراء والضرَّاء، يقول عليه الصلاة والسلام:

(( عن صهيب: عَجِبْتُ لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، إِنْ أَصَابَهُ مَا يُحِبُّ حَمِدَ اللَّهَ وَكَانَ لَهُ خَيْرٌ، وَإِنْ أَصَابَهُ مَا يَكْرَهُ فَصَبَرَ كَانَ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ أَمْرُهُ كُلُّهُ لَهُ خَيْرٌ إِلا الْمُؤْمِنُ. ))

[  أحمد: صحيح ]

حينما يحب الكافر أنداداً من دون الله يحبهم كحب الله، حينما تكشف له الحقيقة في الدنيا أحياناً يطلبه فلا يلبِّيه، أحياناً يتنكَّر له، في ساعات الشدَّة لا يلجأ إلا لله وحده.
مرَّة حدَّثني صديق عن طائرة تُقِلّ خبراء من بلدٍ انهار الآن، من بلد شعاره لا إله، لا يوجد إلا الله، لا إله، نشأ هؤلاء الخبراء على الإلحاد، دخلت الطائرة في سحابةٍ مكهربة، ومنخفضاتٍ كثيرة فاضطربت اضطراباً كبيراً لدرجة أنها كادت تسقط، فما كان من هؤلاء الخبراء الملحدين إلا أن قالوا: يا الله. عند الشدة لا تذكر إلا الله.
 

الشرك نوعان جليّ وخفي:


أريد أن أوضِّح لكم أن الشرك نوعان؛ جليّ وخفي، قلّما نجد شركاً جلياً في العالم الإسلامي والحمد لله، لكن ما أكثر ما نجد شركاً خفياً: 

﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)﴾

[ سورة يوسف ]

هذا متكئ على إنسان غني، وهذا على إنسان قوي، وهذا يطيع مخلوقاً ويعصي خالقاً، وهذا يرى أن هذا المال خيرٌ له من طاعة الله فيغش المسلمين، وهذا يكسب المال الحرام ليرضي زوجته وأولاده، هذا بشكلٍ قطعي اتّخذ من دون الله أنداداً فحملوه على معصية الله، أحبهم كما ينبغي أن يُحِبّ المؤمن ربه فأطاعهم، وخاف من شرهم، ورجا ما عندهم، وهذه مشكلة العالم الإسلامي اليوم، مليار ومئتا مليون ليس أمرهم بيدهم، وليست كلمتهم هي العليا، ولأعدائهم عليهم ألف سبيلٍ وسبيل، لأنهم:

﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)﴾

[ سورة مريم ]

وقد لقي المسلمون ذلك الغّي. 
 

مصير الإنسان بين يدي الله وحده:


دققوا الآن: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ ظلموا أنفسهم، أنت خيَّرناك بين أن تأخذ جوهرة ثمنها مئة وخمسون مليون دولار، وبين أن تأخذ فحمة ثمنها قرشان، فاخترت الفحمة.
كنت أضرب مثلاً طريفاً: مرطبان ثمنه عشرون ليرة، بجانبه كأس كريستال ثمنها ألف ليرة، إلى جانبه جوهرة ثمنها مئة وخمسون مليوناً، قلنا لك: انتقِ، فانتقيت المرطبان، لأنه الأكبر حجماً، معناها أن الوضع سيئ جداً، لا يوجد إنسان لا يحب، لكن من هو البطل؟ الذي ينتقي محبوباً لا يموت، الذي ينتقي شيئاً أبدياً، أي بالتعبير العامي فقط اعرف من تنتقي، كل إنسان يحب، وكل إنسان يبحث عن سلامته وسعادته، لكن اعلم علم اليقين أن سعادتك بطاعة الله، والشقاء بمعصيته. 
فيا أيها الإخوة الكرام؛ ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ هؤلاء الذين أحبوا زوجةً، أو أحبوا ولداً، أو أحبوا قوياً، أو أحبوا غنياً، فأطاعوه وعصوا ربهم، ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ هنا توجد نقطة مهمة، أنت لماذا أطعت هذا؟ لأنك توهَّمت أنه قوي، وأنك إن عصيته أوقع بك الأذى الشديد الذي لا يُحتمل، وأنك إن أطعته أعطاك الدنيا، لأنك تراه قوياً، قوياً في ماله، أو قوياً في عقابه فأطعته؛ لكنك يا أيها الذي فعلت هذا لو ترى مصيرك بين يدي الله وكيف أن هذا القوي معك في العذاب.
 

آيات من القرآن الكريم تبين حال الكافر يوم القيامة:


قال تعالى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)﴾

[ سورة التحريم ]

﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)﴾

[ سورة الأنبياء ]

﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)﴾

[ سورة إبراهيم ]

ماذا يفعل الإنسان؟

﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)﴾

[ سورة الحاقة  ]

هذا الذي فعلته من أجل الدنيا زالت عنك الدنيا وبقي العذاب. 
 

حال المؤمن وحال الكافر يوم القيامة:


قيل إن المؤمن حينما يأتيه ملك الموت، ويرى مقامه في الجنَّة يقول: لم أر شراً قط، ينسى كل متاعب الحياة، والكافر حينما يرى مكانه في النار عند النزع الأخير يقول: لم أر خيراً قط.
سيدنا علي يقول: "يا بني ما خيرٌ بعده النار بخير، وما شرٌ بعده الجنة بشر، وكل نعيمٍ دون الجنة محقور، وكل بلاءٍ دون النار عافية" : ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ :

﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)﴾

[ سورة الغاشية  ]

﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً﴾ هذا الذي أطعته خوفاً من بطشه لن يستطيع أن ينقذك من النار، هو معك في النار مثلاً، شيء لا يحتمل.
 

من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه:


﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً﴾ إذا توسعنا قليلاً، أو فهمنا الآية فهماً إشارياً، قوة الجمال عند الله، وقوة الكمال عند الله، وقوة النوالِ عند الله، والله هو كل شيء، فإن أحببت هذه طمعاً في جمالها، لو علمت أن السكينة التي تتنزَّل على قلبك وأنت مع الله تفوق أضعاف أَضعاف لذَّة النظر إليها، حينما تغض بصرك عن محاسن امرأةٍ لا تحلّ لك يُورثك الله حلاوةً في قلبك هي أضعاف مضاعفة من لذّة النظر لو نظرت إليها، تركت شيئاً لله فعوضك الله خيراً منه في دينك ودنياك، حينما تدع مالاً حراماً وتقول: معاذ الله، الله الغني. 

(( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وهواني على الناس، أرحم الراحمين أنت أرحم الراحمين إلى من تكلني إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن غضبان عليّ فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بوجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله ))

[  قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات ]

إذا كان الطريق إلى القوة هو المعصية ترى الضعف وسام شرف لك، إذا كان الطريق للمال هو المعصية ترى الفقر وسام شرف، ترضى بفقرك، طبعاً إذا إنسان ربّى ثروة قال له أحدهم: كنت أنا موظفاً بسيطاً لا يكفي راتبي يومين أو ثلاثة، فتح خمسة بيوت دعارة فصار عنده دخل فلكي مثلاً، هل تحسده على هذا الشيء؟ مرحباً بالفقر إذا كان طريق الغنى هكذا.
طبعاً إذا كان طريق القوة أن أعيش على أنقاض الناس، أن أعيش على همومهم، أن أعيش على كوارثهم، فالمؤمن عنده نظرة ثاقبة جداً، مرحباً بالفقر إذا كان الطريق إلى الغنى معصية الله عزَّ وجلَّ، ومرحباً بالضعف إذا كان طريق القوة معصية الله عزَّ وجل. 

﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)﴾

[ سورة آل عمران ]

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾

[ سورة إبراهيم ]

 

كن مع الله ترَ الله معك:


أيها الإخوة؛ ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً﴾ هذا الذي خفت منه فأطعته وعصيت الله، الله وحده القوي، ولو كنت مع الله لكان الله معك، كن مع الله ترَ الله معك: ﴿وقَالَ أصْحَابُ مُوسَى﴾ بالمنطق، بالمعطيات الواقعية، فرعون بقوته، وبطشه، وجبروته، وجنده، وآلياته وراء سيدنا موسى وأصحابه، والبحر أمامهم، كن واقعياً هل يوجد أمان؟ الأمل صفر.

﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)﴾

[ سورة الشعراء ]

أمره الله عزَّ وجلَّ أن يضرب البحر فأصبح طريقاً يبساً. 
سيدنا يونس في بطن الحوت، هل هناك أمل بالنجاة؟ إذا وقع أحدهم في بطن حوت، كان يركب سفينة، وغرقت، ووضعه الحوت -حوت أزرق-لقمة واحدة في بطنه، هل هناك أمل؟

﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾

[ سورة الأنبياء ]

اقرؤوا القرآن يا إخوان، هذا كلام الله، هل هناك مصيبة أشدّ من أن تجد نفسك فجأةً في بطن الحوت في الليل؟ في ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت، نادِ ربك قل: يا رب، ﴿لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ﴾ .
 

الله تعالى خالق الأكوان وبيده كل شيء:


والله هناك أخ أصيب بمرض خبيث، ودعا الله عز وجل دعاء من أعماق قلبه، وتصدَّق بكل ما يملك، ذهب بعد أربعة أشهر إلى بلد غربي ليُجري عملية ميئوساً من نجاحها، معه التقارير، معه الصور، فحصوه، فكان كلام الطبيب أن هذه الصور ليست لهذا الإنسان، لا يوجد به شيء، قصَّة واقعيَّة، قال لهم الطبيب في بريطانيا: هذه الصور وهذه التحاليل ليست لهذا الإنسان، هي له، لكنك أنت تنادي خالق الكون، أنت تنادي الذي كل شيء بيده؛ نمو الخلية بيده، الدسَّام بيده، لمعة الشريان بيده، العَصب بيده، الخثرة بيده، كله بيده؛ زوجتك بيده، ابنك بيده، أقوى منك بيده، دونك بيده، كله بيده، فعندما أنت توحِّد ترتاح. 

﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)﴾

[ سورة الشعراء ]

﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ . 

الآية التالية آية توحيد:


إذا ورَّط رجلٌ شخصاً بالتهريب فقُبض عليه، أخذوه إلى السـجن، كم يحقد على هذا الذي ورطه؟ لا تكن ضحية أحد أنت، لا تكن غلط إنسان، لا تكن سيئة إنسان، لا تكن مُجيَّراً لإنسان، أنت لله عزَّ وجلَّ، كن لله وحده، هذه آية توحيد: 

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)﴾

[  سورة البقرة ]

ألم تقل أنت لي؟ أين كان عقلك؟ يشمت فيه أيضاً، الحقيقة موضوع الندم شيء لا يُحتمل، إنسان ورَّطك، أوقعك بشرّ عملك، وتبرأ منك.

﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)﴾

[ سورة البقرة ]

قال العلماء: "الحسرة حينما تقع في مشكلةٍ لا حلّ لها" ، تأتي الحسرة، مادام هناك أمل ليس هناك حسرة، لا يوجد أمل: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ .
 

لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق:


فيا أيها الإخوة؛ لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، لا تكن مُجيَّراً لإنسان، لا تكن ذَنْبَ إنسان، لا تكن سيِّئة إنسان، لا تكن محسوباً على إنسان، كُنْ لله الواحد القهَّار، أطع ربك ولا تعبأ بأحد، لا تأخذك في الله لومة لائم، ليس إلا الله بيده كل شيء. 

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾

[  سورة هود ]

ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كله بيد الله، وهذا الموقف موقف فيه تخلِّ، إنسان اتبعته، وعظَّمته، وعصيت الله من أجله؛ وفي النهاية ما دافع عنك، ولا نجَّاك من عذابٍ مقيم، هذا ألم لا يحتمل. 
وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله نتابع هذه الآيات.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور