وضع داكن
24-12-2024
Logo
الدرس : 49 - سورة البقرة - تفسير الآيات 148 - 153 حرية الاختيار
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

منح الله الإنسان والجان من بين كل المخلوقات حرية الاختيار:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس التاسع والأربعين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الثامنة والأربعين بعد المئة وهي قوله تعالى: 

﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)﴾

[ سورة البقرة ]

أيها الإخوة الكرام؛ الإنسان والجانُّ من بين كل المخلوقات منحوا حرية الاختيار، لأن الله سبحانه وتعالى: 

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾

[ سورة الأحزاب ]

إن خان الأمانة ولم يحملها، سخَّر الله للإنسان ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه لأنه قَبِلَ حمل الأمانة، ولأنه قَبِل حمل الأمانة جعل الله الكون كله تجسيداً لأسماء الله الحسنى، ومظهراً لصفاته الفُضلى، ولأنه قبِل حمل الأمانة منحه نعمة العقل أداة معرفة الله، ولأنه قبِل حمل الأمانة أعطاه شهوةً من أجل أن تدفعه صابراً أو شاكراً إلى الله عزَّ وجل، قوى محرِّكة، ولأنه قبِل حمل الأمانة منحه حرية الاختيار كي يُثَمَّن عمله، ولأنه قبِل حمل الأمانة فطره فطرة عالية تدلُّه على خطئِه، ولأنه قبِل حمل الأمانة أنزل الله على رسوله كُتُبُاً هي منهجٌ تفصيليٌ لحياته. 
 

عندما قَبِلَ الإنسان حمل الأمانة منحه الله الكون وسخَّره تسخيرين:


ما دام الإنسان قد قَبِلَ حمل الأمانة منحه الله الكون، وسخَّره تسخيرين؛ تسخير تعريفٍ، وتسخير تكريم، ومنحه نعمة العقل، ومنحه نعمة الفطرة، ومنحه الشهوة التي تدفعه إلى الله عزَّ وجل، ومنحه حرية الاختيار، ومنحه أيضاً شرعاً حكيماً دقيقاً، منهجاً تفصيلياً، لكن أبرز ما في حياة الإنسان أنه مخيَّر: ﴿وَلِكُلٍّ﴾ من بني البشر ﴿وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ لا ينبغي أن نفهم أبداً أنَّ هو تعود على الله عزَّ وجل، لأن سياق الآية ينفي هذا المعنى: ﴿هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ لو أن الوجهة هي لله ليس هناك تناسب بين أول الآية وبين آخرها، الوجهة بيدكم: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ﴾ الإنسان مولِّيها، أي أنت تتمتَّع في الدنيا بحرية الاختيار، ولكن هذه الحرية تُعد بشكلٍ أو بآخر سبب سعادتك الأبدية، أنت حُر، ما معنى حر؟ أي بإمكانك أن تؤمن أو ألا تؤمن، بإمكانك أن تكون صادقاً أو كاذباً، بإمكانك أن تكون مستقيماً أو منحرفاً، بإمكانك أن تكون محسناً أو مسيئاً، بإمكانك أن تكون مخلصاً أو خائناً، بإمكانك أن تكون مُنصفاً أو جاحداً، بإمكانك أن تصلي أو ألا تصلي، أن تأتي إلى المسجد أو أن تذهب إلى المَلهى، أن تغضَّ بصرك أو أن تُطْلِقَ بصرك، أن تأخذ ما ليس لك أو أن تكتفي بما هو لك، أن تكون ولداً باراً أو أن تكون ولداً عاقاً، أن تكون شريكاً مخلصاً أميناً أو أن تكون شريكاً خائناً خبيثاً، أن تكون أباً منضبطاً مربياً لأولادك أو أن تكون أباً مسيِّباً لهم. 
 

معنى حرية الاختيار:


معنى حرية الاختيار أنه بإمكانك أن تفعل أو ألا تفعل، أن تكون هكذا أو هكذا، متى يأمرك الله عزَّ وجل؟ لا يأمرك إلا لأنه خيّرك، أي ممكن أن نبني جدارين على عرض إنسان تماماً، نأخذ عرضه تماماً ثمانية وستون سنتيمتراً، ثم نبني جدارين نقول له: امشِ في هذا الطريق، ثم خذ اليمين، يقول لك: أيُّ يمينٍ هذا؟ أنا في ممر إجباري، لا أستطيع أن أحيد لا يمنةً ولا يسرةً، أما مادام هناك أمر إلهي افعل، ونهي إلهي لا تفعل، إذاً أنت مخيَّر، فأثمن شيء في مقوِّمات التكليف هو حرية الاختيار، بهذه الحريَّة يمكنك أن تختار طاعة الله، يمكنك أن تختار كتاب الله؛ تقرؤه وتعلِّمه، يمكنك أن تختار طريق الجنة، يمكنك أن تكون في الجنة إلى أبد الآبدين، كل هذا بسبب أنك مخيَّر.
إذا نال طالب الشهادة الثانوية قلنا له: بإمكانك أن تذهب إلى أي مكان في العالم وتلتحق بأعلى جامعة، وتعود في أعلى منصب، وفي أبهج حياة، بإمكانك مخير، لأن الإنسان مخيَّر سُبُل السعادة الأبديَّة مفتَّحةٌ أمامه: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ دخلت إلى غرفة فيها مليون قطعة ذهبيَّة، ومليون قطعة ذهبية من عيار أقل، ومليون قطعة ذهبية من عيار أقل، ومليون قطعة نحاسيَّة مُغَمَّسة بالذهب، ومليون قطعة نحاسية بلا ذهب، ومليون قطعة من أخس المعادن، قلنا لك: اختر ما شئت، أنت مخير، فالذي أخذ قطع الذهب ذات العيار العالي يكون ذكياً، مخيَّر، كلمة مخير كلمة كبيرة جداً، لك أن تختار ما تشاء، لك أن تختار أطيب شيء، وأثمن شيء، وأدوم شيء: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ .
 

الدنيا كلها صفر مقارنة بالآخرة:


أنت مخير، بإمكانك أن تكون زوجاً كاملاً أو زوجاً ناقصاً، أماً كاملةً أو أماً مهملةً، معلماً مخلصاً أو معلماً مُسَيِّبَاً، ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ أي ممكن أن تقول لراكب في السيارة في المقعد الخلفي: احرف المركبة إلى اليمين رجاءً؟ يقول لك: بيدي المقود؟! قُلْ للسائق، لمن توجِّه الكلام كي تنحرف المركبة لليمين؟ لمن بيده المقود، يقول الله عزَّ وجل: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ على من تعود هو، على الله أم على الإنسان؟ تتمة الآية: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ لو أن الوجهة بيد الله لما كان من معنى لقوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ يمكن أن تصل إلى الجنان عن طريق حرية الاختيار، إلى الأبد، ولا تنسوا -وإن كان الشيء ذكرته سابقاً-أن هذا المصحف لو وضعنا واحداً في طرفه، وكل ميليمتر صفر، عندنا تقريباً أربعون صفراً، أربعون ضرب عشرة أربعمئة صفر، كم هذا الرقم؟ واحد أمامه أربعمئة، أول ثلاثة ألف، ثاني ثلاثة مليون، ثالث ثلاثة ألف مليون، واحد هنا وكل ميليمتر صفر إلى حمص، واحد هنا وكل ميليمتر صفر إلى حلب، إلى أنقرة، إلى موسكو، إلى القطب الشمالي، حول الأرض واحد وأمامه كل ميليمتر صفر لأربعين ألف كيلو متر، واحد في الأرض وكل ميليمتر صفر إلى الشمس، مئة وستة وخمسون مليون كيلو متراً، لو نُسِب أكبر رقم تتصوَّره إلى اللانهاية فهو صفر، صفر، الدنيا كلها صفر: 

(( عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاء. ))

[ المنذري : الترغيب والترهيب:  خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح أو حسن ]

 

أكبر خسارة يحققها الإنسان حينما يخسر الأبد:


قال تعالى:

﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)﴾

[ سورة البقرة ]

فأنت مخيَّر، ولأنك مخيَّر يمكن أن تكسب الأبد، وأكبر خسارة يحققها الإنسان حينما يخسر الأبد، هذه الدنيا عرضٌ زائل يأكل منه البر والفاجر، والآخرة وعدٌ صادق يحكم فيه ملكٌ عادل. 
الغني يموت، والفقير يموت، والقوي يموت، والضعيف يموت، والمريض يموت، والصحيح يموت، والوسيم يموت، والدميم يموت، والمستَغِل يموت، والمستَغَل يموت، وكل إنسان سيموت، وكل مخلوقٍ يموت ولا يبقى إلا ذو العزَّة والجبروت:

والليل مهما طال فلابد من طلوع الفجر     والعمر مهما طال فلابد من نزول القبر

[ صالح بن محمد بن عبد الله ]

* * *

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته          يوماً على آلة حدباء محمول

فإذا حملت إلى القبــور جنــازة          فاعـلم بأنك بعدهــا محمـول

[ كعب بن زهير ]

* * *

هنا الدقَّة.

الحرية الثمينة التي هي سبب السعادة الأبدية ليست مستمرَّة ولكنها منقطعة:


﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ أي يا عبادي استغلوا هذه الفرصة، أنتم مخيَّرون، وباختياركم يمكن أن تختاروا الأبد، الجنة التي عرضها السماوات والأرض، يمكن أن تسلموا وأن تسعدوا إلى أبد الآبدين عن طريق حرية الاختيار؛ ولكن هذه الحرية الثمينة التي هي سبب سعادتكم الأبدية ليست مستمرَّة، ولكنها منقطعة.
إذا أدخلناك لغرفة وقلنا لك: خذ ما تشاء من هذه القطع الذهبيَّة والألماسيَّة، لكن لربع ساعة فقط، فإذا انشغلت بقراءة مقالة في مجلَّة، والذهب أمامك، والألماس أمامك، وكله بأسعار فكليَّة، فإذا انتهت هذه الدقائق الخمسة عشرة تُسحب من الغرفة إلى خارجها، انتهت الفرصة، هناك فرصة لسعادة أبديَّة، ما دمت مخيراً فأنت في بحبوحة، فإذا جاء ملك الموت انتهى الاختيار، وعدت مقهوراً، لأن ربنا عزَّ وجل يقول: 

﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)﴾

[ سورة الفاتحة ]

أنت في الدنيا مخيَّر، وتملك أن تختار هذا أو هذا، أما حينما يأتي الموت ينتهي اختيارك: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ أي الحقوا أنفسكم، قيل: بادِروا بالأعمالِ الصالحة فماذا ينتظر أحدكم من الدنيا؟ 
 

الاختيار مؤقَّت:


إذا لم يرد الإنسان الآخرة ولا أراد أن يكون عابداً لله؛ بل أراد الدنيا، ماذا ينتظره؟ ورد: هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْراً مُنْسِياً -قد يأتي فقرٌ غير متوقَّع-أَوْ غِنًى مُطْغِياً، أَوْ مَرَضاً مُفْسِداً أَوْ هَرَماً مُفَنِّداً أَوْ مَوْتاً مُجْهِزاً أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ، بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعاً، سمعت مرَّة بالعمرة طرفة هي واقعيَّة، الذي رواها لي شهد وقائعها بنفسه، إنسان بدوي يسكن في شمال جدَّة عندما توسَّعت جدَّة وصلت إلى قرب أرضه، نزل وباعها إلى مكتب تجاري، خدعه واشتراها بربع قيمتها، وأنشأ بناءً ضخماً، الشريك الأول وقع من أعلى طابق فنزل ميِّتاً، والشريك الثاني دهسته سيارة، فانتبه الشريك الثالث وعرف سرّ هذه المصائب، لأنهم خدعوا صاحب الأرض، وأخذوها بربع ثمنها، فبحث عن صاحب الأرض ستة أشهر إلى أن عثر عليه، أعطاه ثلاثة أمثال ما كان قد دفعه له، فقال له البدوي: "ترى أنت لحقت حالك"، وكل واحد منا يجب أن يتدارك ما فاته الآن هناك فرصة، القلب ينبض، كل شيء يمكن إصلاحه، يمكن أن ترد كل المظالم إلى أصحابها، يمكن أن تستسمح من كل من اغتبته، يمكن أن تفعل كل شيء ويعفو الله عنك، ما دمت مخيراً، ما دمت في الحياة الدنيا، ما لم تغرغر، ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ الإنسان مخير، وهذا الاختيار مؤقَّت، فرصةٌ ذهبيةٌ لا تعوُّض، مثلاً إذا ظهر إعلان بالجريدة: أنه من يحب أن يشتري سيارة بمئة ألف -مر سيدس مثلاً-ومعكم أربعة أيام للاكتتاب، ستجد تقريباً مليون شخص ينتظرون فوق بعضهم، لأنها فرصة لا تعوض، بمئة ألف لا توجد مرسيدس فرضاً: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ .
 

حينما يأتي الموت ينتهي الاختيار:


الآن حينما يأتي الموت ينتهي الاختيار: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا﴾ ، في قلعة، في بيت فخم، في أعلى منصب، في صحة، في مَنَعَة، في قوة، في أتْباع: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا﴾ .

لا تأمن الموتَ في طرفٍ ولا نفــسِ         وإن تمنَّعــــت بالحجَّاب والـــحرس

فما تزال ســهام المـــوت نافـــــــذةً         فـي جـنب مـدّرعٍ مـنـها ومـتّــــرسِ

أراك لسـت بوقَّـــافٍ ولا حــــــــذرٍ        كالحاطب الخابط الأعواد في الغلـس

ترجو النجاة ولم تســـلك مسـالكهــا         إن الســفينة لا تجري عـلــــى اليبسِ

[ أبو العتاهية ]

* * *

﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا﴾ قبل العرس بيوم ﴿يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً﴾ بعد نيل الدكتوراه، قبل أن تعلنها للناس، أي بأصعب وضع: ﴿يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً﴾ .
 

انعدام الحاجز الذي يمنع الموت من الدخول علينا:


الآن في أي مكانٍ تكون، وفي أية مكانةٍ تكون، كل مخلوقٍ يموت؛ ملك يموت، خفير يموت، غني يموت، فقير يموت، صحيح يموت، حاكم يموت، محكوم يموت، نبي يموت، كافر يموت، لا يُستثنى من هذا الموت أحد: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً﴾ ليس هناك حاجزٌ يمنع ملك الموت من الدخول، يروى أنه في عهد سيدنا سليمان كان يجلس عنده شخص، فرأى أحدهم يحدِّق فيه تحديقاً غير طبيعي، قال: يا سليمان من هذا الذي يُحدق بيّ؟ قال: هو ملك الموت، فانخلع قلبه، قال له: خذني إلى طرف الدنيا الآخر من شدة الخوف -هكذا تروي القصة الرمزية-أرسله إلى الهند على بساط الريح فقبضه ملك الموت بعد يوم هناك، فلما التقى سليمان بملك الموت قال له: يا ملك الموت لماذا كنت تحدِّق فيه؟ قال: لأنه معي أمر بقبض روحه في الهند، ما الذي جاء به إلى هنا؟ الإنسان يذهب أحياناً وفي المطار يتوفى، فرصة العمر ذهب إلى أمريكا بنظر الناس طبعاً، قد تكون جهنم وبئس المصير، ذهب إلى هناك جاءه ملك الموت في المطار قبل أن يدخل المدينة: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا﴾ في الطائرة؛ كان ذاهباً ليحضر احتفال هو وزوجته وأخت زوجته وقعوا في البحر انتهوا: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً﴾ بطائرة، بسيارة، بباخرة، بالبحر، بالبر، بمكتبه، بغرفة نومه، بالحرب، بالسير، باحتفال، بالمسجد، ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً﴾ .
 

الإنسان هو المخلوق الأول خُلِق لجنةٍ عرضها السماوات والأرض:


في أية مكانةٍ كنت، وفي أي مكانٍ كنت، لا يوجد مكان يستعصي على الله عزَّ وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ نحن الآن نتمتَّع بحرية الاختيار، وهذه الحرية قد تكون سبباً لسعادة أبديَّة، يجب أن نستغلَّها، يجب أن نعرف من نحن، الإنسان هو المخلوق الأول، خُلِق لجنةٍ عرضها السماوات والأرض: خلقت لك ما في الكون من أجلك فلا تتعب، وخلقتك من أجلي فلا تلعب، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك، خلقت لك السماوات والأرض ولم أعيَ بخلقهن، أفيعييني رغيف أسوقه لك كل حين، لي عليك فريضة، ولك عليّ رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك، وعزتي وجلالي إن لم ترضَ بما قسمته لك فلأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي، وكنت عندي مذموماً، أنت تريد وأنا أريد، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ .
 

حينما تؤمن بقدرة الله عزَّ وجل تقف عند حدوده:


قال الله عزَّ وجل: 

﴿ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)﴾

[ سورة الأعراف ]

المتانة صفة تقاوم قِوى الشد، والقساوة صفة في العناصر تقاوم قِوى الضغط، فالألماس قاس، أما الفولاذ متين، حبل من الفولاذ قطره ميليمتر يحمل مئتي كيلو، لذلك كل المصاعد الكهربائية والتلفريكات كلها بحبال الفولاذ، قال الله: ﴿إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ أي مهما ظننت أنك قوي، وطليق، وذكي، تصبح بثانية واحدة في قبضة الله، إنسان قطرة، كمية من الدم لا تزيد عن رأس دبوس لو تجمدت في بعض شرايين المخ لشلَّت قِواه، أو لفقد بصره، أو فقد النطق، أو فقد الحركة، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ حينما تؤمن بقدرة الله عزَّ وجل تقف عند حدوده.
 

المكان لا يقدس بذاته بل يقدسه الله عزَّ وجل:

 

﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)﴾

[ سورة البقرة ]

قضية تحويل القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام تركت هَزَّةً في أوساط مكة، ذلك لأن المكان لا يُقدس بذاته، يقدسه الله عزَّ وجل، وقد ذكرت لكم في الدرس الماضي أن الله أمرنا أن نقبِّل الحجر الأسود، لا لأنه عظيمٌ في ذاته، بل لأن الله أمرنا أن نقبِّله فصار عظيماً، وأمرنا أن نرجم حجراً آخر رمزاً لإبليس، فالشيء لا يكون مقدساً في ذاته، ولكن يقدس لأمر الله فيه، نحن عندنا دائماً قواعد: عندنا أمر مصلحي، أمر إيماني، أحياناً تتحقَّق مصلحتك في هذا العمل فتفعله، فأنت نفَّذت أمراً مَصلحياً، أُمرت أن تشتري هذه العملة لأنها سوف ترتفع مثلاً، هذا أمر مصلحي.
الأمر الإيماني لا علاقة له بمصلحتك إطلاقاً، الله عزَّ وجل أمرك، وكل أمر إلهي علَّته أنه أمر إلهي، أمر خالق الكون، فكل ما تعرف عن الله عزَّ وجل من عظمةٍ، وحكمةٍ، وعدلٍ، ورحمةٍ، ورأفةٍ في هذا الأمر.
قريش كانت تقول: هذه الكعبة ليست بيت الله بل هي بيت آبائنا وأجدادنا، وكانت مزروعةً بالأصنام التي تُعبد من دون الله، فربنا عزَّ وجل أراد أن يُهمل هذا البيت مؤقَّتاً، وأن يصرف الناس عنه إلى بيت المقدس، فلمَّا آن الأوان أن يعودوا إلى بيت الله الحرام، جاء الأمر بتحويل القِبلة، فهذا أمر إيماني، أي يجب أن نطبِّقه بصرف النظر عن فهمنا له، ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ الحق ما يأمره الله عزَّ وجل، هناك طريقة مريحة جداً، هذا أمر إلهي، إلهي إذاً حق، مثلاً أحبّ مريض أن يأكل أكلاً معيناً فقال له والده أو قريبه: الطبيب قال لك هكذا؟ يقول: نعم، انتهى، شيء بديهي، قال الطبيب لك هذا؟ إذا كان الطبيب قال، والطبيب موثوق، وعلمه بدرجة عالية جداً، وهو الخبير بجسم الإنسان فهذا الشيء نفعله نحن مع بعضنا دون أن نشعر، سألت الخبير وقال هكذا؟ نعم، أين أخذت الآلة؟ للوكالة، هكذا نصحوك أن تعمل؟ نعم، انتهى الموضوع، بتصليح الآلات، بمعالجة الأجسام، إذا أنت واثق من الخبير وأعطاك أمراً تنفذه طواعيةً وأنت مرتاح، لأنه خبير، قال تعالى: 

﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾

[ سورة فاطر ]

 

تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة المكرَّمة أمر إيماني لحكمةٍ يراها الله عزَّ وجل:


﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ أمر إيماني، ما معنى قوله تعالى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70)﴾

[ سورة الأحزاب ]

وقال: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)﴾

[ سورة التحريم ]

أي يا من آمنتم بي، يا من آمنتم بعلمي، يا من آمنتم بخبرتي، يا من آمنتم بحكمتي، يا من آمنتم برحمتي، يا من آمنتم بعدلي، يا من آمنتم بحبي لكم افعلوا كذا، هذا أمر إيماني، كل ما تعرف عن الله عزَّ وجل في هذا الأمر، إذا الخبير قال انتهى الأمر، إذا الرحيم قال انتهى الأمر، إذا العليم قال انتهى الأمر، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ هذا الأمر الإيماني، فتحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة المكرَّمة هذا أمر إيماني لحكمةٍ يراها الله عزَّ وجل: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ .
 

الحق هو الشيء المستقر الذي لا يتزعزع:


الله هو الحق، وأمره حق، وكتابه حق، ورسوله حق، ووعده حق، ووعيده حق، والجنة حق، والنار حق، الحق الشيء المستقر الذي لا يتزعزع، الشيء الهادف، الشيء النبيل:

﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)﴾

[ سورة التغابن ]

أي الحق لابس خلق السماوات والأرض، الحق الذي لا يزول، حقّ الشيء استقر، والأمور لا تستقر إلا على الصحيح. 
الآن خذ كرة وضع بداخلها قطعة رصاص ودحرجها، لا تستقر إلا وقطعة الرصاص في أسفلها بحسب قانون الجاذبيَّة، قد تدور، وقد تنطلق من مكان إلى مكان، ولكنها حينما تستقر لا تستقر إلا وقطعة الرصاص نحو الأرض أبداً: ﴿وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أي هذه البلبلة، وهذا الانتقاد، وهذا الإرجاف في المدينة، هذا كله بعلم الله عزَّ وجل. الكافر دائماً عدو للحق، يخلق الفِتن، ويثير الضلالات، ويثير الشهوات والشبهات، ويعترض، وينتقد، ويطعن، ويتساءل، ويحرج.
 

توجُّه المسلمين في العالم كلِّه إلى القبلة:


قال تعالى:

﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)﴾

[ سورة البقرة ]

توجُّه المسلمين في العالم كلِّه إلى القبلة هذا الشيء له معنى كبير أن المسلمين لهم إلهٌ واحد، وبيتٌ واحد يعبدون الله فيه، ونبيٌ واحد، وكتابٌ واحد، وهم على قلبٍ واحد، هذا هو الأصل أو هذا ما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون في العالم كله، أما حينما يختلفون، ويضعُفون، وحينما يتنازعون فيفشلون، هذا وضعٌ غير طبيعي، ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ أي أنتم حينما تنساقون لأمر الله، وتذكرون أن الله يأمر وينهى، وما المؤمن إلا خاضع لهذا الأمر، ومحكوم به، أسقطتم حُجة المعترضين بهذا، ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ أي هذا الذي يُقحم نفسه في أن يكون في خندقٍ معادٍ للحق، هذا ظالم كبير، أي أكبر ظلم أن تناوئ أهل الحق، أو أن تعترض على حكم الله، أو أن تُشكك الناس بكمال الله، أو أن تُشكك الناس بأحقِّية الدين، أو أن تطعن برسول الله عليه الصلاة والسلام.
 

الأمر بيد الله عز وجل:


أشقى الناس هو الذي يضع نفسه مناوئاً للحق، معادياً لأهل الحق، طاعناً في دين الله، مفنِّداً لبعض ما في كتاب الله، هذا إنسان شيطان، ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ حينما نصبوا أنفسهم أعداء للحق هؤلاء ظلموا أنفسهم. 
فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾ مهما بدوا لكم أقوياء هم ضعفاء، هم: كن فيكون زل فيزول. 

﴿ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)﴾

[ سورة يس ]

إذا أراد أحدنا قتل حشرة صغيرة هل يحتاج إلى استنفار؟ كلها ضربة واحدة، هذا هو المعنى بالضبط: ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾ تصور لعبة السيارات الكهربائية، كل واحد يركب سيارة ويسوقها بقوة، ويضرب رفيقه، وأنت معك قاطع الكهرباء، لو أنزلته لجمد كل السائقين بمكانهم، حركة صغيرة أوقفت كل حركة، هكذا الأمر بيد الله عز وجل.
في بعض معامل الحديد رافعات مغناطيسية كهربائية، مثلاً قطعة مُسطحة فرضاً خمسة بخمسة محاطة بوشيعة كهربائية، فحينما يسري تيار الكهرباء في الأسلاك يتشكل مغناطيس كهربائي يحمل مئة طن لنقل الحديد من مكان إلى مكان، أما هذه المئة طن لو ضغط عامل الرافعة على الزر أقل من ربع مليمتر وقطع الكهرباء كله يقع، تصور هذا المثل، الله عز وجل كن فيكون زل فيزول.
 

الهدى من تمام النعمة التي أنعم الله بها على الإنسان:


هذا الذي يُعادي الله عز وجل، يُعادي الدين، يقف له موقف المشكِّك، يطعن بأهل الحق، يصور الدين شيئاً قديماً متخلِّفاً، يحاول أن يغري الناس بالدنيا، أن يزهدهم بالآخرة، هذا يتصدى للحق، قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ﴾ مهما بدوا أقوياء هم ضعفاء، هم بكلمة ينتهون: ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ قال العلماء: تمام النعمة الهدى؛ الصحة نعمة، والكفاية نعمة، والزوجة نعمة، والبيت نعمة، والسمعة الطيبة نعمة، ولكن هذه النعم كلها زائلة بالموت، تمامها أن تهتدي إلى الله، لأنك إن اهتديت إليه سعدت في الدنيا والآخرة، ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ إلى الجنة، إن أتممت نعمتي عليكم وصلتم إلى الجنة، ثم يقول الله عز وجل: 

﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)﴾

[ سورة البقرة ]

منكم، أولاً: من بني البشر، ثانياً: من قبيلتكم، تعرفون صِغَرَهُ، يوم كان طفلاً صغيراً، ثم شبابه، ثم كهولته، كيف كان أميناً وصادقاً، وكيف كان عفيفاً، كل هذه المكارم الأخلاقية التي كان بها دليل أنه كان صادقاً مع الله.
 

في الآية التالية اتصال بالله وتزكية وهناك منهج تفصيلي أي كتاب وسنة:


﴿رَسُولاً مِنْكُمْ﴾ أولاً من بني البشر، ثانياً من أمتكم عربي، من بلدتكم، تعرفون نسبه وحسبه، ﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾ الدالة على الله عز وجل، ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾ يطهركم من الشرك، من الشك، من الشهوة، من الكذب، من الفجور، من إساءة الجوار، من انتهاك الأعراض، من الحقد، من الشُح، يزكيكم، أساس الدين التزكية، ﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ الكتاب هو القرآن، والحكمة منه الحديث، صار في الدعوة آيات كونية، أو تكوينية، هذه دالة على الله عز وجل، وهناك اتصال بالله وتزكية، وهناك منهج تفصيلي؛ كتاب وسنة، هذا من أدق الآيات: ﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ .
 

النبي الكريم جاء وهدانا إلى الله فعلينا أن نشكر الله عز وجل وندل الناس عليه:


أنتم ماذا ينبغي أن تفعلوا بعد هذا الفضل العظيم؟ قال: 

﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)﴾

[ سورة البقرة ]

فاذكروني لعبادي ﴿فَاذْكُرُونِي﴾ أي كما جاء النبي وهداكم إلى الله، أنتم ينبغي أن تشكروا الله عز وجل، وأن تدلوا الناس على الله: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾  لذلك: 

(( عن أبي هريرة:  يقولُ اللَّهُ تَعالَى: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلأ ذَكَرْتُهُ في مَلأ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً. ))

[ صحيح البخاري ]

قال: ﴿فَاذْكُرُونِي﴾ ، أي: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)﴾

[ سورة آل عمران ]

قال: "أن تذكره فلا تنساه، وأن تطيعه فلا تعصيه، وأن تشكره فلا تكفره" ، هذا معنى: ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ .

أهم شيء في الدين التزكية: 


﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً﴾ وقال: 

﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)﴾

[ سورة آل عمران  ]

طبعاً هناك آيتان، هذه الآية: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ .
إخواننا الكرام؛ أهم شيء في الدين التزكية، لأنه عندما أثنى ربنا عز وجل على النبي عليه الصلاة والسلام قال: 

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾

[ سورة القلم ]

الخُلًق الحسن ذهب بخيري الدنيا والآخرة.
 

لن نستطيع التقرب إلى الله إلا بكمالٍ مشتقٍ منه من خلال اتصالنا به:


العبرة أن تكون عفيفاً، صادقاً، أميناً، مُنصفاً، حليماً، عفواً، رحيماً، متواضعاً، بهذا تتقرَّب من الله، وما معنى قوله تعالى: 

﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)﴾

[ سورة الأعراف ]

أي أنكم لن تستطيعوا أن تتقرَّبوا إلى الله إلا بكمالٍ مشتقٍ منه من خلال اتصالكم به: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ لذلك يقول الله عز وجل: 

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾

[ سورة النساء ]

أي أنت حينما تؤمن، وحينما تشكر، حققت الهدف من وجودك.
 

إذا آمنت وشكرت حققت الهدف من وجودك:


هذه الآية دقيقة جداً: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً﴾ منحك الله عز وجل الوجود، منحك الكون، منحك الزمن، منحك الحرية، منحك العقل، منحك الفطرة، منحك الشرع، منحك الشهوة، منحك الاختيار، هذا ينبغي أن تشكره عليه، أو بمثل آخر، قدم لك إنسان هدية آلة ثمينة جداً، فأنت بين الإعجاب بصنعته، هي من صنعه، وبين أن تشكره على أنها هدية، ينبغي أن ينتابك شعوران؛ شعور الامتنان وشعور التعظيم، أنت حينما تؤمن وتشكر، بل إن الله قد سخَّر لك الكون تسخيرين؛ تسخير تعريف، وتسخير تكريم، ردّ فعل التعريف أن تؤمن، وردّ فعل التكريم أن تشكر، فإذا آمنت وشكرت حققت الهدف من وجودك. 

﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)﴾

[ سورة البقرة ]

هذه معيةٌ خاصة؛ معهم بالنصر، والتأييد، والحفظ، والتوفيق، هذا الذي يصبر يعرف الله، الصبر معرفة، تماماً كما لو جلس إنسانٌ على كرسي طبيب الأسنان، وكان إنساناً بالغاً عاقلاً راشداً، عنده مشكلة بقلبه لا تسمح للطبيب أن يعطيه مخدراً، أبلغه ذلك، سوف يقلع هذا السن، وهناك ألمٌ شديد، ولكن التخدير يؤذي قلبه، فلأن هذا المريض عاقل، وراشد، ويعرف مصلحته، واثق بالطبيب، تحمَّل هذا الألم، فالتحمُّل دليل معرفة، معنى الصبر أنك تعرف الله، تعرف حكمته، وتعرف رحمته، وتعرف عدله، وتعرف أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، لهذا تصبر، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ الصبر صبر، أما الصلاة إقبال، إذا حُرمت الدنيا ووصلت إلى الله، هذا الوصول ينسيك كل الدنيا، استعن بالصبر، الصبر سلبي، لكن أداء الصلاة إيجابي، أنت حرمت نفسك من هذا الكأس، لكن هناك شراباً أطيب، تركت شيئاً لله فجاءك خيرٌ منه، ﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ معهم معية خاصة، معهم بالحفظ، والتوفيق، والتأييد، والنصر. 

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور