وضع داكن
23-12-2024
Logo
الدرس : 46 - سورة البقرة - تفسير الآيات131 - 137 الدين استسلام لله وخضوع له
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

الدين في أصله استسلامٌ وخضوع لله عزَّ وجل:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السادس والأربعين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الواحدة والثلاثين بعد المئة، وهي قوله تعالى: 

﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)﴾

[ سورة البقرة ]

التي قبلها: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ اصطفاه لأنه: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ .
أيها الإخوة؛ الدين في أصله وفي جوهره استسلامٌ لله عزَّ وجل، لكن هذا الخضوع لمن؟ للخالق، الخضوع للقوي، الخضوع للعليم، الخضوع للرحيم، الخضوع للعدل، الخضوع للخبير، الخضوع للطيف، هذا الذي يخضع لغير الله إنسانٌ أحمق، يخضع لضعيف، يخضع لخسيس، يخضع للئيم، يخضع لعاجز، يخضع لجاهل، أصل الدين أن تخضع لله، بل إن العبادة في أصلها غاية الخضوع مع غاية الحب، ولا يليق بالإنسان أن يخضع لغير الله، ولا أن يُحسَب على غير الله، ولا أن يستسلم لغير الله، وألا يخضع لغير الله لأن الإنسان خُلِق لله، أنت في الأصل مخلوق لله عزَّ وجل، إذا صحَّ أن نقول: إن الماء للتراب، والتراب للنبات، والنبات للحيوان، والحيوان للإنسان، والإنسان لمن؟ هو لله عزَّ وجل. 
خلقت لك ما في الكون من أجلك فلا تتعب، وخلقتك من أجلي فلا تلعب، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك. 

من جهل حقيقة إنسانيّته ورسالته وسرّ وجوده فقد احتقر نفسه:


حينما يكون الإنسان لغير الله يحتقر إنسانيَّته، ويحتقر هويَّته، ويحتقر المقام الرفيع الذي أحلَّه الله به: 

﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)﴾

[ سورة الإسراء ]

﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)﴾

[ سورة العنكبوت ]

يخاطب الله عباده بنسبة تشريفٍ له: 

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾

[ سورة الزمر ]

وقال: 

﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(49)﴾

[ سورة الحجر ]

رفع الله جلَّ جلاله من قدر الإنسان إلى أعلى مكان، فحينما يجهل الإنسان حقيقة إنسانيّته، وحقيقة رسالته، وحقيقة سرّ وجوده فإنما يحتقر نفسه: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ .

  الإسلام أن تستسلم للمطلق:


أيها الإخوة الكرام؛ ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾ دقِّق، أحياناً تأخذ فكرةً عن طبيبٍ متفوِّقٍ جداً؛ عالمٍ، ورعٍ، مسلمٍ، مخلصٍ، يعطيك تعليمات، راقب نفسك، قلَّما تحاول أن تفكَّر في حكمة هذه التعليمات لأنك مؤمنٌ أنه متفوِّق في علمه، وفي ورعه، وفي اختصاصه، وفي نصحه، أنت مع إنسان تستسلم فكيف مع الواحد الديَّان؟ الاستسلام لله شيء مسعد، كل هذا الكون يشهد لله عزَّ وجل بالعظمة، يشهد له بالحكمة، يشهد له بالرحمة، يشهد له بالعلم، يشهد له بالعدل، فإذا استسلمت لله حقَّقت كل مصالحك، الإنسان له مصالح، أكبر هذه المصالح السلامة، أكبر هذه المصالح السعادة، إن استسلمت إلى خالقك وطبَّقت منهجه فهو الصانع الحكيم، وتعليماته هي تعليمات الصانع، والجهة الصانعة هي الجهة الوحيدة التي ينبغي أن تُتَّبع تعليماتها. 
أما أن يستسلم الإنسان لإنسان، يستسلم لمخلوق، يستسلم لضعيف، يستسلم لما يبدو له أنه قوي وهو في الحقيقة ضعيف!! 
يُقال: إن أحد الوزراء سأل أمير المؤمنين وقد طلب كأس ماءٍ، قال: يا أمير المؤمنين بكم تشتري هذا الكأس لو مُنِع منك؟ قال: بنصف ملكي ، قال: فلو منع إخراجه؟ قال: بنصف ملكي الآخر.
الإنسان ضعيف، كل ملك هذا الخليفة لا يساوي كأس ماءٍ يشربه ويخرجه، فالإنسان ضعيف، فأنت حينما تكون لإنسان ضعيف على ضعيف، فقير لفقير، جاهل لجاهل، أما إذا استسلمت للمُطلق –دقق-فضعفك يقوى بقوَّته، وجهلك يزول بعلمه، وحيرتُك تتلاشى بهداه، الإسلام أن تستسلم للمطلق، قد يقول أحدكم: كيف أستسلم؟ هذا القرآن، هذا تعليمات المُطلق، الخالق، تعليمات الإله، افعل ولا تفعل، لمجرَّد أن تطبِّق هذا الأمر والنهي فأنت استسلمت لله عزَّ وجل.
 

الكون وحده يعتبر دليلاً قاطعاً على عظمة الله عزَّ وجل:


﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ دقِّق: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ طفل في البيت والده طبيب، وباعه طويل في الطب، ومتفوِّق، وعانى من قضيَّة في صحَّته، فالأب يقول له: لا تأكل هذا الطعام، دع شُرب الماء، دع الملح مثلاً، كل ثقة الطفل بأبيه، كل ثقته بعلم أبيه، ألا يكفي هذا الكون دليلاً قاطعاً على عظمة الله عزَّ وجل؟ هذا أمر من؟ أمر الخالق.
ذكرت هذه القصَّة كثيراً ولكنها مناسبة الآن؛ عالم ذهب إلى أمريكا، وجرى الحوار حول لحم الخنزير، فالعالِم الذي من بلدنا هذه أفاض، وشرح، وبيَّن، والحكم، والعلل، والجراثيم، والدودة الشريطيَّة، ابتسم هذا المسلم في أمريكا قال له: كان يكفيك أن تقول لي إن الله حرَّمه، لأن كل علم الله في هذا التحريم، لأن كل رحمة الله في هذا التحريم، لأن كل حكمة الله في هذا التحريم، لأن كل خبرة الله في هذا التحريم، قال تعالى: 

﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾

[ سورة فاطر ]

عندك جهاز كمبيوتر أصابه خلل، تذهب به إلى الخبير، يقول لك: يجب أن نُغَيَّر هذه القطعة -إذا كنت واثقاً طبعاً-تقول له: افعل ما تريد، أنت مع الخبراء مستسلم، مع الأقوياء مستسلم، مع العلماء مستسلم، فالله يأمرك أن تكون مستسلماً له، العلم كلُّه، والحكمة كلها، والرحمة كلها، والقدرة كلها، واللطف كله، والخبرة كلها إن استسلمت لله استسلمت للمُطلق.
 

حينما تخضع لأمر إلهي تخضع لأنه أمر الله عز وجل:


﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ هذا هو الدين، الدين خضوع؛ لكن أنت حينما تخضع لله عز وجل تخضع لأنه أمر الله، فقال علماء الأصول: "علَّة كل أمرٍ أنه أمر" يكفي أنه أمر وانتهى الأمر، مادام الله قد أمر هذا يقودنا إلى قول سيدنا الصديق حينما أنبأه أهل قريش إن صاحبك يقول: إنه ذهب إلى بيت المقدس وعاد في ليلته، كلام غير مقبول، لا يوجد مواصلات، ولا يوجد طائرات، ولا يوجد حوَّامات، ولا يوجد مركبات سريعة، ولا يوجد قطار سريع، لا يوجد إلا الجمال، شهر ذهاب وشهر إياب، أما أن يذهب إنسان ويصلي في بيت المقدس ويعود!! فأرادوا أن يؤكِّدوا له إن صاحبك يقول كلاماً غير معقول، إن صاحبك يزعم أنه ذهب إلى بيت المقدس وعاد في ليلته!! ماذا كان جواب سيدنا الصديق؟ إن قال هذا فقد صدق، أرأيت الاستسلام! أنت حينما تؤمن بالله أنا أدعوك إلى الاستسلام بعد أن تؤمن بالله، بعد أن تؤمن بما عنده، بما ينتظر الإنسان من إكرامٍ لو استقام على أمره، بما ينتظر العاصي من عقاب إذا خرج عن منهجه: 

﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)﴾

[ سورة يونس ]


على الإنسان أن يستسلم لعلم الله وقدرته:


إذا كان بُعد بعض المجرَّات أربعةً وعشرين ألف مليون، وهناك مجرَّات تبتعد ثلاثمئة ألف مليون سنة ضوئيَّة، والضوء يقطع في الثانية ثلاثمئة ألف كيلو متر، كم تبعد هذه المجرَّات؟ إذا كان درب التبانة -هذه مجرَّتنا-هي مجرَّة معتدلة ليست كبيرة ولا صغيرة، من بين مئة ألف مليون مجرَّة -هذا الرقم الأخير-ومجرَّتنا إحدى هذه المجرَّات، تحوي مجرّتنا ما يقترب من مئة ألف مليون نجم، والمجموعة الشمسيَّة بأكملها إن هي إلا نقطةٌ على خريطة هذه المجرَّة، المجموعة الشمسيَّة بأكملها، يقول لك: الإنسان غزا الفضاء، أي قطع بالفضاء الخارجي ثانية ضوئية واحدة، وصول الإنسان للقمر قطع ثانية ضوئية، الشمس ثماني دقائق، المجموعة الشمسيَّة ثلاث عشرة ساعة، المرأة المُسلسلة مليوني سنة ضوئيَّة، أقرب نجم ملتهب أربع سنوات ضوئيَّة، نجم القطب أربعة آلاف سنة ضوئيَّة، ثم هناك خمسة ملايين، ثم هناك أربعة وعشرين ألف مليون، ثم هناك ثلاثمئة ألف بليون سنة ضوئيَّة: 

﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)﴾

[ سورة غافر ]

ينبغي أن تستسلم لعلمه، وأن تستسلم لقدرته، نحن عندنا قِوى ضغط من صنع الإنسان، الأرض تدخل الثقوب السوداء، إذا دخلتها الأرض أصبحت بحجم البيضة، تصوَّر إذا ذهبت إلى حلب تحتاج خمس ساعات، يزداد سَأَمُكَ من طول الطريق، وسوريا لا تتسع لكتابة اسمها على خارطة صغيرة، سوريا خمسة حروف لا تتسع كل بلاد سوريا على خارطة صغيرة أن يكتب عليها اسمها بين الدول الكبيرة، هذه الدول العملاقة، القارات الخمس التي هي خُمس البحر، هذه الأرض إذا دخلت إلى ثقبٍ أسودٍ في الفضاء أصبحت بحجم البيضة، هذه قدرة، هل هناك قدرة تضغط الأرض إلى حجم بيضة بالوزن نفسه؟! قوة، ورحمة، وعلم، وخبرة، يدعوك الله إلى أن تستسلم له؛ أن تستسلم للقوي، وللغني، وللطيف، وللخبير، وللعليم، وللعدل، هذا هو الموضوع.
 

الإنسان يحبّ أن ينقل خبراته إلى أولاده وأن يكونوا استمراراً له:


﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ رب العوالم، العوالم جمع عالَم، والعالَم؛ عالم النبات، عالم الحيوان، عالم الأسماك، عالم الأطيار، عالم مثلاً الحيوانات وحيدة الخليَّة أنواع منوَّعة، يوجد بالبحار مليون نوع من الأسماك، مئات الألوف من الأطيار، ملايين من أنواع النباتات، فكل هذه العوالم ربُّها الله، هو الذي أوجدها، وهو الذي أمدَّها، وهو الذي يسيِّرها. 

﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) ﴾

[ سورة البقرة ]

في حياة الإنسان شخص واحد يتمنَّى أن يفوقه، هو ابنه، عواطف الأب تجاه ابنه هذا شيء ثابت، فالإنسان يحب أن ينقل خبراته إلى أولاده، يحب أن يكون ابنه استمراراً له، يحب أن يكون ابنه أحسن الناس، فهذه من جبلَّة البشر، لذلك قال سيدنا إبراهيم: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ وصَّى أيضاً بنيه: ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ﴾ لا يعقل أن يخلق الله عزَّ وجل كوناً بإعجازٍ مذهل ثم يدع خلقه من التوجيه والتعليمات، فلابد من أن يُرسل الله لنا رسله، ولابد من أن يكون هؤلاء الرسل موزَّعين في كل بقاع الأرض، وفي كل الأزمان.

الإنسان حينما يصدق في طلب الحقيقة يسوقه الله إلى منابعها:


الأنبياء، والرسل، والدعاة، والعلماء موزَّعون توزيعاً جغرافياً، توزيعاً زمنياً مُحْكَماً، إن الله يبعث على رأس كل مئة عام من يجدد لهذه الأمة دينها، فالله عزَّ وجل مهيِّئ طبعاً في البدايات أنبياء ومرسلين، ثم قد هيَّأ دعاةً مخلصين ينطقون بالحق لئلا يكون الناس معطَّلين عن الأمر والنهي، والإنسان حينما يصْدق في طلب الحقيقة يسوقه الله إلى منابعها، والدليل قوله تعالى: 

﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)﴾

[ سورة الأنفال ]

أنت حينما تسمع الحق هذه بشارةٌ لك أن الله قد عَلِم فيك خيراً، هناك شعوب تعبد البقر، وشعوب تعبُد الحجر، وشعوب تعبد النار، وشعوب تعبد الشهوة، وشعوب تعبد المال، فإذا شرَّفك الله بأن تعبده وأن تُصْغِي إلى الحق فهذه من نعم الله الكبرى: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ لذلك أنا أُلِحُّ على إخواني الكرام أن يعتنوا بتربية أولادهم، لأن الابن استمرار لأبيه، ولأن شعور الأب حينما يرى ابنه طائعاً لله، عارفاً بالله، وقَّافاً عند حدود الله شعورٌ لا يوصف، ولا يعرفه إلا كل أبٍ حريصٍ على هداية أولاده، فالله جلَّ جلاله يعلّمنا: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ .
 

الإنسان معه منهج دقيق إذا طبَّقه يسَلِمْ ويسعد في الدنيا والآخرة:


حينما يسقط الإنسان في الدنيا تصبح وصيَّته دنيويَّة، كم من إنسان على فراش الموت وصَّى أولاده بمتابعة البناء، وبيع الصفقات، وجمع الأرباح، وتوزيع الثروات، كلها متعلِّقة بالدنيا، أما أب يجعل وصيَّته الأولى تقوى الله عزَّ وجل: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أنت إنسان معك منهج دقيق لو طبَّقته لسَلِمْتَ وسعدت في الدنيا والآخرة، منهج الله بين يديك، هذا الكتاب وهذه السنَّة، هذا منهج قويم وصراطٌ مستقيم وحبلٌ متين ونورٌ مبين، ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ .
بالمناسبة هل يمكن أن تأمر إنساناً بما لا يستطيعه؟ مستحيل، لكن هنا نهي: ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ﴾ الموت بيدي يا رب؟! أنا الذي أقرَّر الموت حتى إنك تنهاني عن ألا أموت إلا وأنا مسلم؟ هناك معنى لطيف جداً هو إذا كان الموت ليس بيدك فلابد من أن تكون مسلماً دائماً، حتى إذا فاجأك الموت أخذك وأنت مسلم، هذا المعنى.
بما أن الموت ليس بيدك، ولا تقدر على ردِّه، وقد أخفى الله عنك ساعة الموت، تصوَّر إنساناً يعرف وقت موته، لا يتوب إلا قبل موته بساعة، بخمسة أيام، لكن لا أحد يعرف متى الموت. 
 

إذا كنت لا تملك ردَّ الموت فينبغي لك ألا يأتيك الموت إلا وأنت مُسلم:


أنا أذكر أن شخصاً شكا لي همومه المعاشيَّة، وذكر لي أنه سيسافر إلى بلد إعارة في التدريس، وسيقيم هناك خمس سنوات، ولن يأتي إلى هذا البلد، وسيتَّجه كل صيف إلى مكان؛ صيف إلى بريطانيا، وصيف إلى إيطاليا، وصيف إلى فرنسا، وصيف إلى إسبانيا وسيعود، ثم يتقاعد من عمله الوظيفي، ثم يفتح محلاً تجارياً يبيع فيه التحَف، وقد كبُر أولاده، ويجعل من هذا المكان مكاناً للندوات واللقاءات بينه وبين أصدقائه، ومازال يتكلَّم عن مشاريعه المستقبليَّة ساعةً بأكملها، وكأنني أذكر الذي تكلَّمه يزيد عن عشرين عاماً، خرجت من عنده وعدت إلى بيتي، وفي المساء نزلت إلى السوق لأشتري بعض الحاجات، وأنا في طريق العودة إلى البيت رأيت نعوته على الجدران في اليوم نفسه، لا أحد يعلم متى يموت، قد يكون بعد ساعة.
دعيت مرَّة إلى احتفال عيد المولد، في دخولي للمسجد رحَّب إنسان بي ترحيباً غير معقول، وجلست، بعد ربع ساعة لاحظت ارتباكاً في الحفل، سألت عن السبب؟ فقيل لي: إن هذا الذي استقبلك توفي، قبل خمس دقائق لم يكن فيه شيء، يرتدي أجمل بذلة، أجمل ثياب، هو أحد أعضاء الجمعيَّة التي أقامت هذا الاحتفال، ذهبنا إلى المستشفى فوجدناه قد انتهى، من يعلم متى سيموت؟ الموت يأخذ الشباب، ويأخذ الصغار، والكبار، والأصحَّاء، والمرضى، والأقوياء، والأغنياء، فحالات الموت مرعبة ومفاجئة، فإذا كنت لا تملك ردَّ الموت ينبغي ألا يأتيك الموت إلا وأنت مُسلم، ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ .
 

الموت يأتي فجأةً والقبر صندوق العمل:


كنت أشرح هذه الآية بمثل طريف، لو فرضنا أن بطاقة طائرة ثمنها خمسمئة ألف فرضاً، ونظام هذه الشركة أنك إن تخلَّفت عن ركوب الطائرة لا تُردُّ لك قيمة البطاقة بشكل مؤكد، البطاقة خمسمئة ألف، نصف مليون، وإن تخلَّفت عن ركوب الطائرة لا يُردُّ لك ثمن البطاقة، والشركة هي التي تأخذك من البيت، ولا تنتظر إلا دقيقة واحدة، متى تأتي؟ قال: من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الثامنة مساءً، ضمن هذين الوقتين تأتي سيارة الشركة، ماذا تفعل أنت؟ لا شك أن الحريص على ثمن هذه البطاقة يقف أمام الباب بدءاً من الساعة الثامنة صباحاً، هذا معنى الآية: ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ الموت يأتي فجأةً؛ قد يأتي وأنت في السفر، وقد يأتي وأنت في الحضر، قد يأتي في الليل، وقد يأتي في النهار، وقد يأتي قبل العُرس، مهندس يشرف على بناء، كان عرسه مساءً، مدَّ رأسه من النافذة سقطت قطعة حجر على رأسه فقتلته فوراً، فوزِّعت الحلويات التي اشتريت بأرقام فلكيّة على المعزِّين مساءً، وصُمدت زوجته بثياب العرس في تعزية النساء، من يصدِّق قبل العرس أنه سيموت؟ هناك إنسان بعد أن نال الدكتوراه بأيام جاءه ملك الموت، الموت يأتي فجأةً والقبر صندوق العمل، قد لا تسكن البيت، وقد لا تستفيد من الشهادة، وقد نسافر ولا نعود، وقد نعود ولا نسافر مرة ثانية، الموت يأتي فجأةً والقبر صندوق العمل، هذا معنى قول الله عزَّ وجل: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ .
في آية أخرى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(102)﴾

[ سورة آل عمران ]

 

من السنَّة أن يكتب الإنسان وصيَّة يُصَدِّرها بنصح أولاده من بعده:


﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)﴾

[ سورة البقرة ]

ذكر العلماء أن من السنَّة أن يكتب الإنسان وصيَّة يُصَدِّرها بنصح أولاده من بعده. ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ هذا هو التوحيد، وما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد.
 

كل عمل ابنك في صحيفتك:


كلمة قالها الأبناء، ولكن هذه الكلمة مُحَصِّلة توجيهات مديدة وطويلة ومتعدِّدة، فالأب الذي يكون وراء أولاده ومعهم دائماً ينصحهم، يعلِّمهم، هذا والله شهدته مرَّةً هناك أولاد متميزون في تدَيُّنهم، سبب هذا التميز في التديُّن أن آباءهم كانوا حريصين حرصاً لا حدود له على تربيتهم وعلى توجيههم، فالله عزَّ وجل يُلْحق عمل الأبناء بالآباء: 

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)﴾

[ سورة الطور ]

أي كل عمل ابنك في صحيفتك، لذلك: 

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ، صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ. ))

[  صحيح الجامع  ]

الأعمال الصالحة أولاً منوَّعة، لكن أجلّ هذه الأعمال على الإطلاق هي التي تستمر بعد موت الإنسان، فإنسان ترك أثراً علمياً كبيراً جداً، إنسان ترك علماً، إنسان ترك كتاباً، إنسان ترك دعوة، إنسان ترك معهداً، هذه الدعوات الجليلة التي تستمر بعد موت الإنسان هي من أَجَلّ الأعمال، صدقةٌ جارية لا نهاية لها، تصور أنه يمضى مئة سنة، وألف سنة، وألفا سنة، وآلاف مؤلَّفة، وكل من استفاد من هذا الكتاب في صحيفتك، وكل من استفاد من هذا العلم في صحيفتك.
كنت في مؤتمر في القاهرة قبل أيام في الأسبوع الماضي، ألقى مندوب نيجيريا كلمة باللغة العربيَّة الفُصحى، وبعمقٍ شديد، ثم علمت أن هذا المندوب درس في دمشق، وصار مُفتي نيجيريا، تأثَّرت تأثراً بالغاً، إنسان طالب علم درس في دمشق، قد لا يؤبه له، هذا مصيره صار مفتياً لبلد إسلامي كبير في إفريقيا، ألقى كلمة كانت رائعة، تأثَّرت تأثراً بالغاً، هذا الذي يُعلِّم طلاب العلم، هذا الذي يرعى طلاب العلم، هذه نقطة مهمة، الأعمال العظيمة هي التي تستمر بعد موت صاحبها؛ بالمقابل وشرّ الأعمال هو الذي يستمر بعد موت صاحبه، إنسان أسَّس ملهى ومات -والأصح قد فطس-كل من ارتاد هذا الملهى، وكل من شارف على الزنا في هذا الملهى، وكل من شرب الخمر في هذا الملهى في صحيفة صاحب الذي أنشأ هذا الملهى، فهذه نقطة مهمة؛ الأعمال العظيمة هي التي تستمر بعد موت صاحبها.
 

خيارنا مع الإيمان خيار وقت فقط لا خيار قبول أو رفض:


حدَّثنا أحد الدعاة إلى الله قال: طالب علم من بلد إسلامي، تعلَّم في معهده، وحصَّل الشهادة وسافر، طُرق باب هذا العالم بعد عشرين سنة فإذا سيارة ضخمة جداً فيها مئة طالب علم كلهم طلاب لهذا التلميذ، زار أستاذه وهو في طريقه إلى الحج، فلما رأى الشيخ هذا الطالب الذي علَّمه، وكان من حصيلة هذا الطالب هذا الجَمع الغفير من طُلاب العلم بكى، فالإنسان عليه أن يترك عملاً لا ينتهي عند موته، يستمر بعد موته، صدقة جارية، إنسان أنشأ مسجداً، إنسان أنشأ معهداً شرعياً، هذه أشياء باقية، صروح باقية، المعاهد قلاع العلم، وهناك أعمال والعياذ بالله تستمر بعد موت صاحبها كدور اللهو، دور الموبقات، هذه كلها تستمر، إنسان ترك مُؤَلَّفاً يدعو إلى الإلحاد بعد أن يموت يؤمن، والدليل أكفر كفَّار الأرض فرعون حينما جاءه الموت قال:

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)﴾

[ سورة يونس ]

إذاً نحن خيارنا مع الإيمان خيار وقت لا خيار قبول أو رفض، لأنه مهما كان الإنسان بعيداً عن الدين حين الموت يُكشف عنه الغطاء: 

﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾

[ سورة ق  ]

عرفت الحقيقة ولكن بعد فوات الأوان.
 

الآية التالية هي آية التاريخ:


﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ هذه ثمرة، هل عند الإنسان إمكان أن يكون أولاده كذلك؟ لو سألهم أجابوا، لو طلب منهم أن يعبِّروا عن إيمانهم لقالوا هذا من نعم الله الكبرى؟ قال:

﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)﴾

[ سورة البقرة ]

هذه الآية أيها الإخوة مهمَّة جداً، هذه آية التاريخ: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾ أي مضت وانسلخت عن وقتها: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ فهذا الذي يستقدم قضايا من التاريخ، ويجعلها سبب خلاف معاصر، هذا إنسان بعيد عن الحقيقة، كل أمةٍ لها عملها ولنا أعمالنا، هؤلاء الذين مضوا إن كانوا في أعلى عليين، هذه مكانةٌ احتلوها بعملهم وإخلاصهم، لا ينفعهم أن نمدحهم، ولا يؤثِّر عليهم أن نذمَّهم، كل إنسان مضى له عند الله مكانة ثابتة هي مُحَصِّلة عمله، واستقامته، والتزامه، وإخلاصه، تقييم الأشخاص من شأن الله عزَّ وجل، ما بال بعض المسلمين يستنبئون التاريخ، فلان على حق أم فلان؟ فلان أعظم عند الله أم فلان؟ هذا ليس من شأنك هذا من شأن الله عزَّ وجل، وفِّر وقتك.
 

نُخبة البشر هم الذين يعيشون المستقبل:


﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾ أي لها كَسْبُهُا، لها عملها الذي مكَّنها الله منه باختيارها: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾ ولن تُسَأل أمة عن أمة: ﴿وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ممكن نوفِّر وقتنا ونتجه نحو المستقبل؟ قال العلماء: هناك من يعيش الماضي، وهناك من يعيش الحاضر، لكن نُخبة البشر هم الذين يعيشون المستقبل، أخطر حدث في المستقبل هو الوفاة، هذا حدث خطير، فالإنسان أمامه هذا الحدث مغادرة الدنيا، بحسب الظاهر من كل شيء إلى لا شيء، إلى قبر، ليس معك في القبر إلا عملك إن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، فهذا الشيء المُجدي، أما الماضي ما لي وللماضي؟ ما مضى فات والمؤمَّل غيب ولك الساعة التي أنت فيها، الأولى أن يفكِّر الإنسان في مستقبله، والأولى أن يَعُد عمره عدّاً تنازلياً لا عدّاً تصاعدياً، اركب مركبة واذهب إلى حمص مثلاً، مئة وخمسون مئة وأربعون، مئة وثلاثون، مئة وعشرون، مئة وعشرة، مئة، تسعون، ثمانون، سبعون، ستون، خمسون، أربعون، ثلاثون، عشرون، عشرة، خمسة، حمص ترحِّب بكم، نازلين، لو أحصينا عمرنا بهذه الطريقة اختلف الأمر.
 

البطولة لا أن تبحث في عمل الآخرين بل أن تبحث في عملك أنت:


الآن قضينا أربعين، كم بقي يا ترى؟ على المستوى المتوسِّط أناس يموتون بالستين، معترك المنايا بين الستين والسبعين، هناك إنسان يموت وعمره خمس وخمسون، أو أربع وأربعون، أو تسع وثلاثون، أما الأغلبيَّة فبين الستين والسبعين، فإذا مضى من عمر أحدنا أربعون سنة، كم بقي له على المتوسط؟ نصف ما مضى، وصل إلى الخمسين بقي عشر، ووصل إلى الخامسة والخمسين بقي خمس، وبعد هذا ينتظر الصباح والمساء، إذا نام لا يستيقظ، إن استيقظ قد لا ينام مساء، يخرج من بيته كل يوم قائماً، مرَّة واحدة أفقياً، كلَّما خرج عاد إلا مرَّة واحدة يخرج ولا يعود، هذا الموت، الموت مصير كل حيّ، فلذلك: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾ مضت، وهؤلاء الذين في القبور كانوا أشخاصاً، ولهم هموم، ولهم مشكلات، وعندهم أعمال، وإنجازات، وسكنوا في بيوت جميلة، وأكلوا طعاماً طيباً، وتزوَّجوا النساء أين هم الآن؟ أحياناً تجد جمجمة مثلاً بمتحف، بمخبر علمي طبيعي، من صاحب هذه الجمجمة؟ ماذا كان يعمل؟ لا نعرف، ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ كل إنسان له عمله، فالبطولة لا أن تبحث في عمل الآخرين أن تبحث في عملك أنت، لأن عملك أنت هو الذي تُسأل عنه بالضبط.
 

الحنيف هو المائل لله عزَّ وجل عما سوى الله:


قال تعالى: 

﴿ وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)﴾

[ سورة البقرة ]

سيدنا إبراهيم أبو الأنبياء، العرب من نسل إسماعيل، اليهود من نسل إسحاق، وهو أبو الأنبياء، وقد آمن ببعض الآيات التي وردت عنه، رأى كوكباً قال: هذا ربي، ثم رأى القمر بازغاً قال: هذا أكبر، ثم رأى الشمس، ثم وجَّه وجهه للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً ولم يك من المشركين، ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا﴾ أي اليهود قالوا: كونوا هوداً تهتدوا، والنصارى قالوا: كونوا نصارى تهتدوا , قال: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ الحنيف هو المائل لله عزَّ وجل، مائل لله مائل عما سوى الله بالضبط، وهذا معنى: 

﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)﴾

[ سورة آل عمران ]

الإنسان الحنيف قلبه معلَّقٌ بالله، عمله خالصٌ لهل، سلوكه منضبطٌ بشرع الله عز وجل.
 

مضمون دعوة الأنبياء واحدة:


قال تعالى: 

﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)﴾

[ سورة البقرة ]

فحوى دعوة الأنبياء واحدة:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِي(25)﴾

[ سورة الأنبياء ]

توحيدٌ وعبادة: 

﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)﴾

[ سورة البقرة ]

توحيدٌ وطاعة، توحيد الإله عقيدياً، والطاعة سلوكياً. 
 

الإنسان إما أن يكون على الحق وإلا فهو على الباطل حتماً:


﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾ أي بالتوحيد والطاعة والاستسلام لمنهج رسول الله عليه الصلاة والسلام ﴿فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ عن هذا المنهج ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ هناك اثنينية إما أن تكون على الحق، ولا سمح الله ولا قدَّر فأنت على الباطل حتماً: 

﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾

[ سورة القصص ]

﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾ شقاقٍ عن الحق، معاداة للحق، مُجافاة للحق، وبُعد عن الحق.

 حينما يبتعد الإنسان عن الله عزَّ وجل يختل توازنه:


﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ عندما يبتعد الإنسان عن الحق يودُّ أن يؤذي الحق، يبتعد عن الحق ويكيد للحق، يبتعد عن الحق ويسفِّه أهل الحق، يبتعد عن الحق ويحيك المؤامرات لأهل الحق، يبتعد عن الحق ويطعن بأهل الحق، قاعدة، هذه معركةٌ أزليَّةٌ أبديَّة بين الحق والباطل، أي كل إنسان كافر، أو بعيد، أو معرض، لابد من أن يعادي أهل الحق ولو بالطعن، ولو بتقليل الشأن، ولو بالغَمز، ولو باللمز، ولو بالاتهام الباطل، ولو بترويج قصَّة لا أصل لها وليست ثابتة، لكن ليشفي غليله كي يستعيد توازنه.
ذكرت هذا من قبل: حينما يبتعد الإنسان أيها الإخوة عن الله عزَّ وجل يختل توازنه، لأن هذا المنهج منهج ربَّاني والإنسان مجبول على هذا المنهج، هناك توافق عجيب بين هذا المنهج وبين فطرة النفس البشريَّة، فإذا ابتعد الإنسان عن هذا المنهج يختلّ توازنه، كيف يستعيده؟ يستعيده بحالةٍ صحيحة وحالتين مرضيَّتين، الحالة الصحيحة أن يصطلح مع الله يستعيد توازنه، الحالة المرضيَّة الثانية والثالثة يستعيده حينما يطعن بأهل الحق حتى يرتاح، يطعن بأهل الحق ليستعيد أو يتعلَّق بنظرية فاسدة بعقيدة زائغة يستعيد بها توازنه، فإذاً ينتج من اختلال توازن الكافر معركة بين الحق والباطل ثابتة، وهذه المعركة أزليَّة أبديَّة، فلذلك: ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ الله هو الفَعَّال، هو القدير، لا تخف، لا تقلق على هذا الدين ولو رأيت أهل الأرض كلهم يأتمرون عليه، لا تقلق ولو أن القِوى القويَّة في العالم يناهضون هذا الدين، ولو أن أهل الأرض اجتمعوا على أن يُسفِّهوا هذا الدين ما استطاعوا لأنه دين الله عزَّ وجل، الله كن فيكون، لكن اقلق أسمح الله لك أن تكون من أنصاره أم لم يسمح؟ أمنحك الله شرف نصرته أم لم يمنح؟ هنا القلق: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ .

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور