وضع داكن
23-11-2024
Logo
الدرس : 45 - سورة البقرة - تفسير الآيات 128 - 130 المؤمن والعمل الصالح
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

العبرة في العمل قبوله لا حدوثه:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الخامس والأربعين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الثامنة والعشرين بعد المئة، وهي قوله تعالى: 

﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(128)﴾

[ سورة البقرة ]

قبل هذه الآية: 

﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)﴾

[ سورة البقرة ]

العبرة في العمل قبوله لا حدوثه، لأن حدوث العمل قد لا يُقبل: 

﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً (23)﴾

[ سورة الفرقان ]


ثلاث علامات تؤكد الإخلاص:


أصل الإخلاص قول النبي عليه الصلاة والسلام: 

(( عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».  ))

[ صحيح البخاري ]

فالعمل عند بعض العلماء لا يُقبل إلا بشرطين -وهذا كلام دقيق وخطير-لا يُقبل إلا بشرطين؛ إلا إذا كان صواباً أي ما وافق السنة، وخالصاً أي ما ابتغي به وجه الله. 
هناك تخليطٌ كثير بين عملٍ وافق السنة ولم يُبتغَ به وجه الله، أو عملٍ ابتغي به وجه الله ولم يوافق السنة، العبرة أن يأتي عملك موافقاً للسنة مبتغياً به وجه الله حتى يُقبل: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ والعمل حينما يُقبل يمتلئ قلب صاحبه ثقةً بالله عزَّ وجل، يمتلئ قلب صاحبه سكينةً، يمتلئ قلب صاحبه سعادةً، لأن العمل إذا قُبِل ألقى الله في روع المؤمن أنه قد قبلت عملك يا عبدي: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ عملٌ قليلٌ مع الإخلاص خيرٌ من عملٍ كثيرٍ من دون إخلاص، وذكرت مرَّةً -وهنا موضع مناسبٌ لشرح هذه القضيَّة-ثلاث علامات تؤكِّد لك إخلاصك: 

1ـ أنْ يستوي عندك الجهر والسر:

العلامة الأولى: أنه يستوي عندك الجهر والسر، الجلوة والخلوة، الباطن والظاهر، السريرة والعلانية، إذا استويا الداخل والخارج، المعلن والمخبَّأ، السريرة والعلانية، إذا استوى ظاهرك مع باطنك، إذا استوت خلوتك مع جلوتك فهذه إشارة من إشارات الإخلاص لله عزَّ وجل. 

2ـ استواء استحسان العمل أو عدم استحسانه:

الشيء الثاني: ألا يتأثر الإنسان المؤمن المخلص أبداً لرد فعلٍ سيئ لعمله الصالح، هو لا يبتغي مديح الناس، ولا ثناءهم، ولا استحسانهم، ولا يستجدي عطفهم، هو يبتغي بعمله وجه الله عزَّ وجل، والإنسان حينما يبتغي بعمله وجه الله ينبغي له ألا يعبأ بأحد، الحديث الصحيح: 

(( عن أبي مسعود رضي الله عنه: إِذَا لَمْ تَسْتَحْ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ. ))

[ صحيح البخاري ]

أيْ إذا لم تستحِ من الله، إذا كان الله عزَّ وجل قصدك، وأنت تُرضي الله عزَّ وجل، وأنت واثقٌ من أن هذا العمل مطابقٌ للسنة، وأنك تبتغي به وجه الله فلا تعبأ بأحد. 

3ـ السكينة في القلب:

الحالة الثالثة من علامات الإخلاص أن العمل الصالح إذا كان خالصاً ارتفع إلى السماء وعاد منه سكينةٌ على قلبك، فالسكينة في القلب، واستواء السر والعلانية، واستواء استحسان العمل أو عدم استحسانه، ثلاث علاماتٍ تؤكِّد أن العبد مخلصٌ لله عزَّ وجل: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ .
 

علة وجودك على وجه الأرض بعد أن تؤمن بالله هو العمل الصالح:


الناحية الثانية أيها الإخوة؛ بمنهج الله عزَّ وجل يوجد ترك ويوجد بذل، إنسان ترك الغيبة، ترك النميمة، ترك الكذب، ترك الاحتيال، ترك ترك ترك فسلم، أما بذل من ماله، بذل من وقته، بذل من جهده، بذل من إمكاناته، من خبرته فسعد، أنت بالاستقامة على أمر الله تسلم، وبالعمل الصالح تسعد، وأوضح دليل: 

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)﴾

[  سورة الكهف ]

بل إن علة وجودك على وجه الأرض بعد أن تؤمن بالله هو العمل الصالح، لأنه حينما يأتيه ملك الموت لا يندم إلا على عمل صالحٍ فاته: 

﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)﴾

[ سورة المؤمنون  ]

والعمل الذي ينتهي عند الموت من أعمال الدنيا، والذي يستمر بعد الموت من أعمال الآخرة، لو حسَّن الإنسان بيته هذا عمل مباح، لكن هذا العمل ينتهي عند الموت، حينما يغادر الإنسان هذا البيت إلى القبر، هذه الزينة لا يمكن أن تنتقل معه أبداً، تبقى في البيت، أما حينما يدعو إلى الله، ويعمل عملاً صالحاً، ويَدَعُ ولداً صالحاً من بعده هذا العمل يستمر بعد الموت، هذا مقياس دقيق، دائماً وأبداً عند كل عمل اسأل نفسك: هل ينتقل معي هذا العمل إلى القبر أم يبقى في البيت؟ فالذي يبقى لا تحفل به كثيراً، والذي ينتقل معك إلى القبر احرص عليه: "يا قييس إن لك قريناً يُدفن معك وأنت ميت وتدفن معه وهو حي، إن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك ألا وهو عملك"
 

المسلم الحق ينطلق إلى تطبيق الأمر لعلةٍ واحدة هي أنه أمر إلهي:


يُؤتى بأناسٍ يوم القيامة لهم أعمالٌ كجبال تهامة، ولكن الله يجعل هذه الأعمال هباءً منثوراً، فقلق الصحابة الكرام قلقاً شديداً، قالوا: "يا رسول الله جلِّهم لنا؟ صفهم لنا؟" قال: 

(( عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم  لا أُلْفِيَنَّ أقوامًا من أُمَّتي يأتونَ يومَ القيامةِ بحسناتٍ أمثالِ جبالِ تِهامةَ بيضاءَ، فيجعلُها اللهُ هباءً منثورًا، أَمَا إنهم إخوانُكم، ومن جِلْدَتِكم، ويأخذونَ من الليلِ كما تأخذونَ، ولكنهم قومٌ إذا خَلَوْا بمحارمِ اللهِ انتَهكوها. ))

[  صحيح الجامع ]

كل شيء مُعلن أما في السر فليس هناك خوفٌ من الله عزَّ وجل. 
﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ بشكل مختصر المسلم إنسان مستسلم لله عزَّ وجل، مستسلم في طاعته لله عزَّ وجل، وفي عباداته، والإنسان الذي يفعل ما يراه لصالحه، ويُعلِّق تطبيق أي أمرٍ على ما إذا كان هذا الأمر نافعاً له أو ضاراً هذا لا يعبد الله إنما يعبد ذاته، لكن المسلم الحق ينطلق إلى تطبيق الأمر لعلةٍ واحدة هو لأنه أمر إلهي، ما دام الله قد أمر ينبغي أن يُطاع، والآمر جلَّ جلاله هو خالق الكون. 
والإنسان أحياناً مع طبيب واثق من شهاداته العالية، واثق من خبراته المتراكمة، واثق من ورعه إذا قال له توجيهاً لا يفكر أن يسأله لماذا؟ لم أقل: لا يسأله لماذا؟ لا يفكر أن يسأله، فأنت مع إنسان متفوق، مستسلم فكيف مع الواحد الديان؟‍! فنحن نبحث عن علَّة الأمر، ونبحث عن حكمة الأمر، وهذا الشيء يُقوّي الدعوة، إن أردت أن تكون داعيةً ينبغي لك أن تعلم حِكَمَ الأمور، ولكن المسلم الصادق حينما يثبت له أن هذا أمر الله عزَّ وجل لا يتردَّد ثانيةً في تطبيقه، ولا يُعلِّق تطبيق هذا الأمر على معرفة حكمة هذا الأمر.
 

الحكم الإلهي المقطوع به مجرَّد التفكير في فعله أو عدم فعله ضعفٌ في الإيمان:


شاع الآن منهج جديد بين المسلمين، منهجٌ ليس من صُلب هذا الدين، لماذا أمرنا الله بكذا؟ أقنعني؟ أليس هذا الأمر في آيةٍ قرآنيةٍ؟ ألا تؤمن أنت أن هذا القرآن كلام الله عزَّ وجل؟ وأن هذا القرآن قطعي الثبوت؟ وهذه الآية قطعيَّة الدلالة؟ أنت عليك أن تطبِّق، لكن الله جلَّ جلاله إكراماً لمن كان عبداً له، طائعاً، منصاعاً، مستسلماً، يكشف له حكمة هذا الأمر، فيجمع العبد إذاً عندئذٍ بين فضل العابد الذي استسلم لأمر الله وعلم العالم الذي فَقِه حكم الله عزَّ وجل: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ ، أي: 

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)﴾

[  سورة الأحزاب  ]

أنت خيارك في المباحات، أسافر أو لا أسافر، أشتري هذا البيت أو لا أشتري هذا البيت، أعمل في التجارة أو في الوظيفة، أوافق على هذه الفتاة لأتزوجها أو لا أوافق، أما إذا كان هناك حكم إلهي مقطوعٌ به مجرَّد التفكير في فعله أو عدم فعله ضَعْفٌ في الإيمان: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ هذا المؤمن الصادق: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ .
 

حينما ينحرف الإنسان عن منهج الله يدفع الثمن باهظاً:


الله جلَّ جلاله هو الحكيم، هو العليم، هو الرحيم، مطلقات، أسماؤه كلُّها مُطلقة؛ الحكمة مطلقة، العلم مطلق، الرحمة مطلقة، فأوامره لابدّ من أن تنطوي على حكمةٍ، وعلى رحمةٍ، وعلى عدلٍ، وحينما ينحرف الإنسان عن منهج الله يدفع الثمن باهظاً.
بلد من بلاد آسيا فيه كثافة سكانيَّة عالية جداً، بعيداً عن منهج الله فاتخذوا قراراً أنه ينبغي أن يكون لكل أسرة طفلٌ واحد، أبداً، ما الذي حدث؟ إن جاءت البنت قتلوها خِفيةً، إن جاء الذكر سجَّلوه، ففي السجلات ولد واحد، تواجه الصين الآن مشكلةً أن هناك خمسين مليون شاباً لا فتاة لهم، صار هناك أزمة فتيات، نشأت عصابات لخطف الفتيات في سنّ الزواج، لأن هذا القانون خلاف منهج الله عزَّ وجل. 
اقترح في بلد آخر أنه إذا طلَّق الإنسان زوجته تتملَّك نصف ثروته فوراً، كاد الزواج أن يُلغى في هذا البلد، فصار الأب يقدِّم لخاطب ابنته سند أمانة بمبلغ فلكي يقول له: إن طالبناك بنصف ثروتك تطالبنا بهذا الثمن، تعال تزوَّج. 
أُلغي الزواج الآن في بلاد الغرب كليّاً، ألغي الزواج الكنسي والمدني، صار هناك مساكنة، حينما نُشرِّع بخلاف منهج الله تنشأ مشكلات لا تنتهي، العالم ملأ الدنيا صياحاً وضجيجاً لهذه النعجة دولي التي كانت عن طريق الاستنساخ، وكأن هؤلاء العلماء تحدوا قدرة الله عزَّ وجل، مع أن هذه الخليَّة لا تزال سراً، الذي حدث الآن أن أعراض الشيخوخة ظهرت في وقت مبكر جداً جِداً على هذه النعجة، قال الله عزَّ وجل: 

﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)﴾

[ سورة الإنسان  ]

خلقُ الله هو الكامل، منهجه هو الكامل، أنا انتقلت من أشياء تشريعيَّة إلى أشياء خلقيَّة.
الآن بعد أن تفنَّن العالم في هذه المبيدات الكيماويَّة، وجد أن المشكلات لا تنتهي من هذه المُبيدات؛ ملوحة التربة، أكثر المواد مُسَرطن، عادوا الآن إلى السماد الطبيعي الذي صمَّمه الله عزَّ وجل للنبات، السماد الطبيعي هو الأول الآن، لكن بعدما دُفع الثمن باهظاً. 
المكافحة الحيويَّة هي الأولى الآن بعد أن دُفع الثمن باهظاً، بعد أن ارتفعت نِسَب السرطان إلى عشرين ضعفاً تقريباً، وجدوا أن التصميم الإلهي المكافحة الحيويَّة والسماد الطبيعي، والإنسان كلَّما غيَّر خلق الله عزَّ وجل وقع في سوء عمله.
 

أخطر شيء ينبغي للمسلمين أن يعالجوه تربية أولادهم:


﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ لأنه هو الصانع، الصانع هو الجهة الوحيدة التي ينبغي أن تُتبع تعليماتها، أنت أعقد آلة بالكون، والله عزَّ وجل هو الصانع الحكيم، وهذا المنهج تعليمات الصانع، ينبغي أن يتبع الإنسان تعليمات الصانع حرصاً على سلامته وعلى سعادته: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ هل من الممكن أن يسعد إنسان وابنه شقي؟ مستحيل. 
كنت أقول مرَّةً في بلدٍ غربي: لو وصلت إلى أعلى منصبٍ في العالم، وإلى أكبر ثروةٍ في العالم، وإلى أعلى شهادةٍ في العالم، ولم يكن ابنك كما تتمنى فأنت أشقى الناس.
أخطر شيء ينبغي للمسلمين أن يعالجوه تربية أولادهم، لأنك تجد أحياناً امرأة محجَّبة وابنتها متفلِّتة في الطريق، تجد الأب يصلي الابن لا يعتقد بهذا الدين إطلاقاً، فحينما يرى الأب ابنه منحرفاً شارداً، وحينما ترى الأم ابنتها تائهةً ضالَّةً تشقى بشقائها، الأب يشقى بشقاء ابنه، والأم تشقى بشقاء ابنها وابنتها، فلذلك دائماً: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا﴾ .
 

تربية الأولاد من أولويات الحياة:


قال تعالى: 

﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)﴾

[ سورة البقرة ]

تربية الأولاد ينبغي أن يكون محل هذا العمل في المرتبة الأولى في حياة المسلمين اليوم، السبب أن هناك صوارف لا تنتهي؛ تصرف ابنك عن دينه، وعن قيَمه، وعن ماضي أُمَّته، وعن سبيل سلامته، وعن سبيل سعادته، صوارف كثيرة جداً، وعقبات كثيرة، عقبات وصوارف، نحن في آخر الزمان؛ الفتن مستعرة، الضلالات منتشرة، الشبهات تملأ الجوانح، المُغريات قد لا يحتملها ضعيف الإيمان:

(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ. ))

[ صحيح الترمذي ]

شمَّة واحدة الآن تجعل هذا الفتى مدمن مخدرات، فيلم واحد يصرفه من الدين إلى الزنا، فهناك صوارف كثيرة، هناك عقبات كثيرة، هناك ضغوط هائلة، فنحن الآن في أمس الحاجة إلى تربية أولادنا، إلى أن يأتوا إلى المساجد، رحِّبوا بالصغار في المساجد، اعتنوا بهم، فإن الصغير سبب سعادة الكبير، ولا يمكن أن يسعد الإنسان وابنه شقي، هذا تعليق: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ وأنا أرى أن أي أب يرى ابنه صالحاً مستقيماً، يعرف الله ويخاف الله يدخل إلى قلبه سعادة واللهِ لا يعرفها إلا من ذاقها. 
 

الولد الصالح ثروة لا تقدر بثمن:


أب قد لا يملك من حطام الدنيا شيئاً لكنه يملك ولداً صالحاً، هذا الولد الصالح لا يُقدَّر بثروة الدنيا كلها، والإنسان حينما يموت ينقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، وعلمٍ ينتفع به، وولدٍ صالحٍ يدعو له.
قرأت مرَّة تفسير آية وجدت فيها دقَّة بالغة، فجعلتها محوراً لخطبة، خطبت هذه الخُطبة وفق تفسير هذه الآية، وجدت لهذه الخطبة صدى طيِّباً جداً، وتأثَّر الإخوة الكرام بها تأثراً بالغاً، أنا انتبهت أن هذا الذي ألَّف هذا التفسير قبل ألف عام أين هو الآن؟ هو لعلَّه عظام في قبره، لكن إلى متى يستمر تأثير هذا العمل الذي فعله؟ إلى يوم القيامة. 
هؤلاء الذين تركوا مؤلَّفات راقية جداً، الكتب العملاقة التي أُلِّفت وتنتقل الآن من جيل إلى جيل إلى جيل، هذه صدقة جارية، هذا علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، هناك ولد لا يقدَّر بثمن وهذا معنى قوله تعالى: 

﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)﴾

[ سورة الفرقان ]

﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ ما شعور إنسان ذهب إلى بلاد الغرب وجد حياة ناعمة جداً، حياة كل شيء فيها ميسَّر، لكن يوجد أمامه خطر أنه قد يخسر ابنه، قد يجد ابنه ليس مسلماً، ولا ينتمي إلى أمته، هذا أكبر ثمن يدفعه من أراد أن يعيش مع هؤلاء: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ .
 

الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق:


الآن: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ الله عزَّ وجل جعل إليه ألف سبيلٍ وسبيل من رحمته بنا، قد تجد إنساناً قوياً جداً بيده مقاليد الأمور لكن لا سبيل إليه، طريق إليه لا يوجد، ولا تستطيع أن تتصل به، ولا أن تقابله، ولا أن تعرض له، ولا أن تسأله، لكن الله عزَّ وجل جعل إليه ألف سبيلٍ وسبيل؛ الصلاة سبيل، الصيام سبيل، غضّ البصر سبيل، وأنت في البيت لك إليه عشرات السبل، فالزواج الصالح سبيل إلى الله، الأبوَّة الكاملة سبيل إلى الله، الأمومة الكاملة سبيل إلى الله، البنوَّة سبيل إلى الله، هناك ضمن الأسرة آلاف الطرق إلى الله عزَّ وجل، هناك ضمن العمل آلاف الطرق، أن تنصح المسلمين، أن تكون صادقاً معهم، أن ترحمهم، أن تقدِّم لهم خدمةً سبل إلى الله، الآن أن تَكُف شهواتك عما لا يرضي الله سبيل إلى الله.
هذه سبل الطاعة العامَّة، وهناك مناسك مكثَّفة؛ الصلاة، الزكاة، الحج، كلها مناسك، تذهب إلى بيت الله الحرام، تطوف حول البيت، تسعى بين الصفا والمروة، تذهب إلى جبل عرفات، تشعر بسعادة لا توصف، هذا سبيل إلى الله.
فالله عزَّ وجل جعل لك مناسك، قال لك: صَلِّ خمس مرات، أيْ عندك خمس شحنات في اليوم، صلِّ يوم الجمعة في المسجد واستمع إلى الخطبة، هذه شحنة أسبوعيَّة، هذه وجبة دسمة، تعالَ في العام صُم ثلاثين يوماً، دورة مكثَّفة، في العمر حُجَّ إلى بيت الله الحرام، هذه مناسك، أي طرق إلى الله سالكة، جعل الله عزَّ وجل الطرائق إليه بعدد أنفاس الخلائق، قال بعضهم: "الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق" .
إذا أنقذ الإنسان نملة وهو يتوضَّأ هذا سبيل إلى الله، إذا أطعم هرَّة جائعة سبيل إلى الله، إذا وضع على السطح طعاماً للطيور سبيل إلى الله، إذا نصح مسلماً سبيل إلى الله، إذا كفَّ أذاه عن إنسان سبيل إلى الله، بكل لحظة هناك آلاف السبل إلى الله عزَّ وجل، إذا أخلص في عمله سبيل إلى الله، إذا نصح المسلمين سبيل إلى الله.
 

أجمل ما في القرآن أنك حينما تصطلح مع الله يطوى الماضي بكلمة تب علينا:


المناسك بمعناها العام أي عمل يرضي الله، بمعناها الخاص الضيق: العبادات المكثَّفة التي أُمرنا بها، المنسك هو الطريق، أيْ يا رب أرني الطريق إليك، والطريق قد يكون إلى جهنَّم؛ هناك طريق إلى النار، طريق إلى الدمار، طريق إلى العقاب، نحن في الحياة المدنية إذا هرَّب الإنسان مُخَدِّرات هذا طريق إلى السجن ثلاثين سنة، إذا قَتَل طريق إلى الإعدام، إذا نال شهادة عُليا ونفع بها أمته تحتفل به أمته أحياناً، هذا طريق للسمو، وبالحياة المدنية الله عزَّ وجل قال: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ يا رب دلَّنا على الطريق الذي نصل به إليك، وبعضهم يقول: يا رب دُلني على ما يدلني إليك، والآية الكريمة: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)﴾

[ سورة المائدة ]

هذه مُطلقة، العمل الصالح وسيلة، الاستقامة وسيلة، أن تلتقي بأهل الحق وسيلة، أن تؤاخي أخاً صالحاً في الله يعينك في أمر دينك وسيلة، "لا تصاحب من لا ينهض بك إلى الله حاله، ولا يدلُّك على الله مقاله" ، يجب أن يكون لك أخ مؤمن تثق بعلمه، وورعه، واستقامته وسيلة.
﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا﴾ أجمل ما في القرآن أنت حينما تصطلح مع الله يطوى الماضي بكلمة: تب علينا.

(( عن أنس بن مالك  قال اللهُ تعالى : يا بنَ آدمَ ! إِنَّكَ ما دَعَوْتَنِي ورَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لكَ على ما كان فيكَ ولا أُبالِي يا بنَ آدمَ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لكَ  ولا أُبالِي  يا بنَ آدمَ! لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خطَايا ثُمَّ لَقِيْتَني لا تُشْرِكْ بِيْ شَيْئَا لأتيْتُكَ بِقِرَابِها مَغْفِرَةً. ))

[ صحيح الترغيب حسن لغيره أخرجه الترمذي  ]

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾

[ سورة الزمر ]

 

التوبة شيء لا يقدَّر بثمن:


تصوَّر لو لم يكن هناك توبةٌ في هذا الدين، ما الذي يحصل؟ يمكن الفجَّار والفسَّاق والعصاة يتضاعفون إلى مليار ضعف، غلط غلطة لم يجد توبة، لا يوجد أمل، يستمر في غلطه، أساء لا توجد توبة، يستمر في الإساءة، عَق أمه وأباه لا توجد توبة، يستمر في العقوق، أكل مالاً حراماً ليس هناك توبة يستمر، لو ألغينا التوبة من هذا الدين لرأيت الفجَّار والعصاة والهلكى ومن يستحق النار ملايين مملينة، بالعكس أرقام فلكيَّة كلها: ((لو جئتني بملء السماوات والأرض خطايا غفرتها لك ولا أبالي)) انتهى الأمر، الصلحة بلمحة، والذي أكرمه الله عزَّ وجل بتوبة يعلم ما سأقول، التائب من الذنب كمن لا ذنب له، التائب يشعر أن جبالاً قد أُزيحت عن كاهله. 
الآن بالحياة المدنية إذا كان بيت الإنسان مصادراً، أو محجوزاً، ومحلُّه التجاري محجوزاً، وسيَّارته محجوزة، وعنده أراضٍ محجوزة، وعنده مستودعات كلها محجوزة، وعليه ثمانون مليوناً مثلاً، فكل شيء يملكه محجوز، لو أنه أتيح له أن يلغي هذا الحجز وأن يعود إلى تملُّك كل أمواله بكلمة، هل يتردَّد ثانية واحدة فيها؟ كل ما عليك ينزاح عن كاهلك بكلمةٍ واحدة: يا رب لقد تبت إليك، يقول الله: عبدي وأنا قد قَبِلت، التوبة شيء لا يقدَّر بثمن، كل ما عليك ينزاح عن كاهلك بكلمة واحدة، يا رب لقد تبت إليك، يقول الله: عبدي وأنا قد قَبِلت، التوبة شيء لا يقدَّر بثمن: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ﴾ توَّاب صيغة مبالغة، أي يتوب عليك مهما كبُرت ذنوبك، ومهما كثرت، لو كان عليك مليار ذنب، أو هناك أكبر ذنب نوعاً، وأكبر كَم من الذنوب إذا قلت: يا رب أنا تبت،. يقول لك: عبدِي وأنا قد قبلت. 
 

التوبة علم وحال وعمل:


لكن التوبة علم وحال وعمل؛ علم، لا يمكن أن تتوب إلا إذا علمت أنك مذنب، ولا تعلم أنك مذنب إلا إذا طلبت العلم، أوضح مثل: لو أن إنساناً لا يقرأ ولا يكتب، قرأ إنسان أمامه نصف صفحة، لم يقرأ كلمة واحدة بشكل صحيح، لأنه لا يعرف، يقول: ما شاء الله ما هذه القراءة! أما لو كان دارساً للغة العربية لعدّ له ثمانين غلطة بالصفحة، فأنت لا تعلم الذنب إلا إذا طلبت العلم، أساس الصحَّة العلم، فأنت لا يمكن أن تعالج ضغطك العالي إلا بحالة واحدة أن تعرف أنك مصاب بضغط عالٍ، إن لم تقس ضغطك كيف تعالج هذا الضغط المرتفع؟ لا تعرف، فلابدّ من طلب العلم كي تعلم أنك مذنب، إن علمت أنك مذنب وعرفت ما ينتظر هذا المذنب من عقاب الآن تتوب، والتوبة إقلاع فوري وعزم ألا تعود، وإصلاح في الماضي، هذه التوبة، عمل متعلِّق بالماضي الإصلاح: 

﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)﴾

[ سورة البقرة ]

هناك عمل متعلِّق بالسابق، وهناك عمل متعلِّق بالحاضر إقلاع، وهناك عمل متعلِّق بالمستقبل عزيمة، أنا أعزم ألا أعود، وأقلع من تَوِّي، وأُصلح ما مضى، هذا السلوك.
والحال شعور بالندم على ما اقترف من ذنب، هذا الحال. 
والعلم حينما يطلب الإنسان العلم يعلم موقعه من هذا الدين: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ لذلك قال تعالى: 

﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)﴾

[ سورة النساء ]

 

طموح سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يبقى الحق مستمراً:


قال: 

﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)﴾

[ سورة البقرة ]

طموح هذا النبي هو أبو الأنبياء عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، طموح هذا النبي أن يبقى الحق مستمراً: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ لذلك قال عليه الصلاة والسلام: "أنا بِشارة أخي عيسى ودعوة أبي إبراهيم"
فسيدنا إبراهيم دعا أن يبعث الله في هذه الأمة التي من نسله -نحن من نسل إسماعيل-التي من نسله: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ الآية العلامة، يتلو عليهم ما يدلُّ عليك، والكون كله يدل على الله عزَّ وجل. 
لذلك الآيات أنواع ثلاث: آيات كونيَّة، وآيات قرآنيَّة، وآيات تكوينيَّة، أي الله عزَّ وجل يُعرف من آياته الكونيَّة خلقه، من آياته التكوينيَّة أفعاله، من آياته القرآنيَّة كلامه، كلامه يدل عليه، وأفعاله تدل عليه، وخلقه يدل عليه.
أحياناً قرية في بلد في شمال إفريقيا على الساحل الأطلسي فيها من الفسق والفجور ما لا يوصف، نوادي العُراة، يأتيها السياح من كل حدب وصوب، فنادق فسق، فجور، خمور، نساء، زنا، شذوذ، كل شيء فيها، أصبحت بثلاث ثوانٍ أثراً بعدَ عين، عندي صورة لفندق ارتفاعه ثلاثون طابقاً، غاص في الأرض بقي منه الطابق الأخير، وعلى الطابق الأخير اسم الفندق، فكأن هذا الطابق الأخير هو الشاهدة على هذا القبر، هذه من أفعال الله عزَّ وجل: 

﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)﴾

[ سورة البروج ]


خلق الله يدل عليه وأفعاله تدل عليه وكلامه يدل عليه:


أفعال الله تدل عليه، وأنت أحياناً تستمع إلى مجموعة قصص ترى أن الله كبير، وأن الله يحاسب حساباً دقيقاً جداً، وأن الله مُطَّلع على النوايا، هذه أفعاله، وهذا كلامه، وهذا الكون خلقه. 
في أمريكا، قريب من شيكاغو، تصل الحرارة إلى سبعين تحت الصفر، في هذا المكان برد لا يحتمل، يرتدي الإنسان ثياباً صوفيَّة داخليَّة مضاعفة، ومعاطف فرو، ويرتدي قُفَّازات، ويرتدي جوارب صوف، وحذاء مبطَّناً بالفرو، وقبعة، كل شيء بإمكانه أن يغطيه، كيف يمشي في الطريق؟ لابد من أن يكشف عينيه، حرارة الهواء سبعون تحت الصفر، يوجد ماء في العين، الماء يتجمَّد بدرجة صفر، وإذا كان عند الإنسان فريزر تكون الحرارة عشرين تحت الصفر، أما سبعون؟!! فالمفروض أن يتجمَّد ماء العين فجأةً، معنى هذا يجب أن يفقد كل سكان هذه البلاد أبصارهم!! من أودع في ماء العين مادةً مضادةً للتجمُّد؟ الله عزَّ وجل، هذه حكمة بالغة.
هذا الماء شأنه كشأن أي عنصر ينكمش بالتبريد، إلا أن الماء له ميزة على كل عناصر الأرض، يزداد حجمه في الدرجة زائد أربع، ولولا هذه الخاصَّة في الماء لما رأيت أحداً على سطح الأرض، قد لا تصدقون ذلك، لا يمكن أن تقوم حياة في الأرض إذا استمر الماء في انكماشه عند التبريد، لأنه كلَّما تجمَّد الماء تزداد كثافته، يقل حجمه، والوزن ثابت، تزداد كثافته يغوص إلى الأعماق، فبعد حين تصبح جميع البحار متجمِّدة، وإذا تجمَّدت انعدم البخر، وإذا انعدم البخر انقطعت الأمطار، وإذا انقطعت الأمطار مات النبات، وإذا مات النبات مات الحيوان، وإذا مات النبات والحيوان مات الإنسان، بهذا القانون البسيط، فخلقه يدل عليه، وأفعاله تدل عليه، وكلامه يدل عليه.
 

لولا أن الرسول بشر تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيِّد البشر:


﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ﴾ معنى ﴿مِنْهُمْ﴾ لو جاء الرسول مَلَكاً قال: يا أيها الناس غضوا أبصاركم، لا تقدر عليها لأنك أنت مَلَك، نحن لسنا مَلائكة نحن بشر، أما النبي فبشر مثلنا، لولا أنه بشر تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيِّد البشر، الرسول بشر يجوع كما نجوع، يخاف كما نخاف، يشتهي كما نشتهي، لولا أنه بشر تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيِّد البشر قال: 

(( عَنْ أَنَسٍ: لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ. ))

[ صحيح الترمذي ]

بشر، حجَّة قائمة: 

﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)﴾

[ سورة التوبة ]

﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ حدَّثني أخ قال لي: يوجد في كل مصلحة، في كل حرفة أناس مستقيمون، هؤلاء حجَّة على غيرهم، تجد حرفة أغلب أهلها منحرفون إلا عدداً قليلاً متمسِّكون بالأمر والنهي، هؤلاء حجَّة: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ الدالَّة عليك. 
 

حينما نقصِّر في معرفة الله من خلال آياته ينعكس هذا التقصير على الطاعة:


لذلك أيها الإخوة؛ حينما نقصِّر في معرفة الله من خلال آياته ينعكس هذا التقصير على الطاعة، أي إذا عرفت الأمر ولم تعرف الآمر –دقق-تفنَّنت في مخالفة الأمر، وإذا عرفت الأمر وعرفت الآمر تفانيت في طاعة الآمر، فلابدّ من أن تعرف الله قبل أن تعرف أمره: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾ كي يعرفوك، ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ الأمر والنهي كي يعبدوك، ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ منه التفسير، الإمام الشافعي قال: الحكمة هي السُّنة، لأن النبي فسَّر القرآن، بيَّنه: 

﴿ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)﴾

[ سورة النحل ]

فالكتاب هو القرآن، والحكمة السنَّة المبيِّنة.
 

صفات المؤمن:


قال الله تعالى: 

﴿ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)﴾

[ سورة المجادلة ]

لكن الله لم يفصل زكاة الإبل، وزكاة البقر، وزكاة الركاز، وزكاة الأموال، وزكاة العروض، التجارة، ونصاب الزكاة، وعلى من تجب الزكاة، ومصارف الزكاة،  فسَّرها النبي كلها، فالسنة مفسِّرة للقرآن الكريم، فأنت بالكون تعرفه، وبالقرآن والسنة تعبده، الدين كله أن تعرفه وأن تعبده، أن تعرفه موجوداً واحداً كاملاً، وأن تعبده: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ تلا عليهم آياته فعرفوه، علَّمهم الكتاب والحكمة فعبدوه، فلما عبدوه اتصلوا به، فلما اتصلوا به زكت نفوسهم، صار هناك طهر، صار هناك عفاف، صار هناك تواضع، صار هناك رحمة، صار هناك إنصاف، صار هناك تجَمُّل، صار هناك حكمة، تجد المؤمن يُشتهى، تجده لطيفاً، دقيق الشعور، دقيق الكلام، حاد النَّظر، حكيماً في تصرُّفاته، صادقاً في أقواله، شديداً في أفعاله، هذا من تأديب الله له، أدَّبني ربي فأحسن تأديبي.
مثل للتوضيح: أنا شاهدت جوهرة بمتحف في استنبول –ألماسةً-مكتوباً بجانبها ثمنها مئة وخمسون مليون دولار، لو ضرب هذا الرقم بخمسين فالناتج مبلغ فلكي، لو أتينا بقطعةً من الفحم بالحجم نفسه من سوق الفحامة من بائع للفحم، كم ثمنها؟ لأن أساس الماس فحم، فالمؤمن ألماسة وغير المؤمن فحمة، إنسان؛ رأس، وجسم، ويدان، ورجلان، وسمع، وبصر، لكنه فحمة، لا شيء منه إطلاقاً، ليس على شيء؛ لا على خُلُق، ولا على قيَم، ولا على ورع، ولا على إحسان، ولا على منطق أبداً، فبين المؤمن والكافر مسافة كبيرة جداً، وقد قال النبي: 

(( عن أبي موسى الأشعري:  مَثَلُ الذي يَذْكُرُ رَبَّهُ والذي لا يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ والمَيِّتِ. ))

[ صحيح البخاري ]

إنسان يتقد حيويَّة وشباباً، لكنه جثة في الأرض موضوعة، العينان تبرقان مثل عين الميت الجامدة؟ قطعة لحم مشوية ولها رائحة عَبقة وأنت جائع كقطعة لحم متفسِّخ؟ الاثنتان لحم لكن هناك مسافة كبيرة جداً، ذُكر للنبي الكريم شخص وشخص فقال: هذا يعدل ملء الأرض من هذا.
 

الفرق بين المؤمن وغير المؤمن:


كلام دقيق، لو حسبنا حجم الأرض وحسبنا حجم إنسان معتدل، وقسَّمنا حجم الأرض على حجم هذا الإنسان، الأرض بأكملها، الكرة الأرضيَّة بمحيطاتها الخمس، لو أن جوفها مجوف كم إنسان تتسع؟ كلام النبي لا ينطق عن الهوى، هناك إنسان واحد يساوي عند الله ما يعادل الأرض ممتلئة بالأشخاص، فالمؤمن عند الله كبير، حينما يموت الكافر قال عنه تعالى: 

﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)﴾

[ سورة الدخان ]

المعنى المخالف أن المؤمن حينما يموت تبكي عليه السماء والأرض، كله خير، كله إنصاف، كله أدب، كله انضباط، كله رحمة، كله ذوق، كله لطف، هذا المؤمن، وغير المؤمن بالتعبير الذي يحلو لي أن أصفه به "دابَّة متفلتة" ، جنَّ البقر في أوروبا، اضطروا أن يحرقوا ثلاثة عشر مليون بقرة، ثمن البقرة مئات الألوف، كيف تُحرق؟ لأنها جُنَّت، حينما أطعموها طحين اللحم اختل نسيجها، وصار لها سلوك طائش ومخيف، أخ له صديق عنده بقرة جنَّت في ريف دمشق قال لي: قتلت رجلين وكادت تقضي على الثالث، فأطلق عليها النار وقتلها، إذا جنَّت البقرة تقتلها، إذا انحرف الإنسان تجده وحشاً. 
تسمع أحياناً عن أعمال وحشيَّة فيما نسمع من أخبار لا يصدقها العقل؛ قتل على اغتصاب على تعذيب على إذلال على نهب على سلب، ليس له ذنب لكن لأنه مسلم فقط، وحوش، إذا عرف الإنسان الله عزَّ وجل تجده مَلَكاً، إذا لم يعرفه فهو وحش، واللهِ قد يعترض الوحوش علينا والله، الوحش يأكل ليشبع فقط، وحشيَّته ليشبع فقط، أما الإنسان فقد يدمِّر بلا سبب.
 

معنى التزكية:


﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ هذه التزكية، بالقرآن الكريم: 

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)﴾

[ سورة الشمس ]

إله خالق الكون يقول: 

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾

[ سورة الشمس ]

أن تكون زكي النفس، النبي الكريم: 

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)﴾

[ سورة القلم ]

كان فصيحاً، وكان متكلِّماً، وكان مجتهداً، وكان قائداً، وكان خطيباً، وكان عالماً، فما أثنى الله عليه إلا بخُلقه العظيم، للتوضيح أب اشترى لابنه سيارة، ثم عمل حفلة ضخمة تكريماً لابنه لأنه صار يملك سيارة، هذا كلام مضحك، هذه ليست منه ولكنها منك، أما إذا نجح وكان الأول، عمل له حفل تكريم، كلام طيب، النجاح بتفوُّق من جهده، فأي ميِّزة تأخذها من الله هذه من الله وليست منك، جعلك وسيم الصورة، جعلك قوي البُنية، جعلك ابن رجل غني فصرت تملك أموالاً طائلة، هذا ليس منك، أما الخُلُق العظيم فهو منك فقط: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ هذه ويزكيهم: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ .
 

إذا رفض الإنسان الدين فهو يحتقر نفسه:


أيها الإخوة؛ نقطة مهمَّة جداً، يرفض الإنسان في الأعم الأغلب شيئاً احتقاراً له، عرضوا عليك بيتاً سعره غالٍ ومساحته صغيرة ترفضه، احتقرت هذه المساحة الصغيرة على السعر المُرتفع، عرضوا عليك تجارة ربحها ضئيل جداً ترفضها، عرضوا عليك وظيفة راتبها قليل جداً ترفضها، الإنسان في الأعم الأغلب يرفض ما يحتقره إلا في حالة واحدة؛ إذا رفض الدين فهو يحتقر نفسه.
إنسان لديه إمكانيات عالية جداً عرضوا عليه دراسة جامعيَّة عُليا تنتهي له بمنصب مرموق جداً، قبِل أن يشتغل مثلاً كاسح قمامة في الطرقات، عندما رفض دخول الجامعة، والوصول إلى مرتبة علمية عالية جداً، واختار أن يكسح القمامة وهو عنده إمكانات عالية جداً، مع أن أي عمل شريف  لكن لو كانت عنده إمكانات عالية وهناك عرض مغرٍ، وهناك تعويضات، وهناك ضمانة لكل مصروفه في الدراسة الجامعيَّة، وعنده إمكانيات ورفض، وقبل أن يشتغل كاسح قمامة، معنى هذا احتقر نفسه، احتقر إمكاناته، احتقر مؤهَّلاته، هناك أشياء إذا رفضها الإنسان يكون قد احتقر ذاته، قال: 

﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)﴾

[ سورة البقرة ]

أنت مخلوق لله فرفضت هذا العرض وقبِلت أن تكون محسوباً على إنسان عادي، مُجَيَّراً لإنسان، مجيراً لجهة، أي أداة قذرة بيد جهة وليست أداة عاديَّة، ارتضيت لنفسك أن تكون أداة لإيقاع الأذى بالناس، وأنت خلقك الله عزَّ وجل لتكون له، نقياً، طاهراً، قوياً، عزيزاً، كريماً: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ خلقك الله عزَّ وجل لتكون له، خلقت لك السماوات والأرض –في الأثر القدسي-ولم أعيا بخلقهن أفيعييني رغيفٌ أسوقه لك كل حين؟ لي عليك فريضة ولك عليَّ رزق فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك، وعزَّتي وجلالي إن لم ترضَ بما قسمته لك فلأسلِّطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي وكنت عندي مذموماً، أنت تريد وأنا أريد فإذا سلَّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلِّم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد. 
 

خلقنا الله عز وجل لنكون في جنة عرضها السماوات والأرض:


كلام دقيق يا إخوان؛ خلقك الله عزَّ وجل لتكون له، لتكون عزيزاً، لتكون كريماً، لتكون طاهراً، لتكون في جنةٍ عرضها السماوات والأرض، خلقك لجنة فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأنت أردت أن تكون أداةً قذرةً طَيِّعَةً بيد جهةٍ مُنحرفةٍ، ممكن توقع الأذى بالناس وليس لك مصلحة فقط تنفيذاً رغبة إنسان، ممكن أن يكون عملك فيه إيقاع الأذى بالآخرين، لذلك المؤمن محسوبٌ على الله، يقول لك: نعيش لنأكل، أعوذ بالله، وهناك كلام أرقى: نأكل لنعيش، وهناك أرقى: نعيش لنعرف الله، نعيش كي نعرفه، وكي نسمو إليه، وكي نسعد بقربه، وكي ندخل جنَّته، هذا الإنسان، فالإنسان حينما يرضى أن يكون لغير الله فقد احتقر نفسه.
ضربت مثلاً سابقاً: لدينا مرطبان بلور كبير، ثمنه عشرون ليرة، وهناك كأس كريستال، ثمنها ألف ليرة، وهناك جوهرة، ثمنها مئة وخمسون مليون دولار، قلنا لإنسان: اختر واحدة. فاختار أكبر شيء وأخذه، معنى هذا أنت جاهل، أنت مُحتقر، الذي اختار المرطبان وترك التي ثمنها يقدر بمئة وخمسين مليون دولار محتقر: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ إذا ما قبلت العرض أن تكون بالجنة، تكون مع الله عزَّ وجل: 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)﴾

[ سورة مريم ]

ليس وداً مع شخص عادي جداً له وظيفة، لا، مع خالق الكون، ليس بيتاً بعد يومين تأتي النعوة على الباب الصغير، ليس هذا، أكبر بكثير، أنت في الجنة، فإذا رفض الإنسان عرض الإله أن يكون في الجنة، وأن تكون له، وأنت اخترت أن تكون لغيره، وأداة قذرة بيد إنسان منحرف فهذا منتهى الحقارة في الإنسان: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ لعطائنا، في الدنيا اصطفيناه، وفي الآخرين من الصالحين لعطائنا.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور