وضع داكن
18-10-2024
Logo
الدرس : 39 - سورة البقرة - تفسير الآيتان 103 - 104 السعي للدار الآخرة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

اتباع بني إسرائيل سبيل السحر أودى بهم إلى الكفر:


أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس التاسع والثلاثين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الثالثة بعد المئة، بعد أن قال عزَّ وجل:

﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)﴾

[ سورة البقرة ]

نبذوا كتاب الله، نبذوا منهج الله، نبذوا وحي السماء، نبذوا الصراط المستقيم، نبذوا حبل الله المتين. 

﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)﴾

[ سورة البقرة ]

استنبط العلماء أنهم حينما اتبعوا ما تتلو الشيطان على ملك سليمان اعتقاداً، وحينما سلكوا سبيل السحر سلوكاً فقد كفروا.  

من عَلِم عن طريق السحر أن الجن لهم إرادةٌ مستقلةٌ عن إرادة الله فقد كفر:


﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾ إذاً هم كفروا، من سحر فقد كفر.
﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ ولو أنهم لم يتبعوا وآمنوا معنى هذا قد كفر، إذاً من سحر فقد كفر، من اعتقد أنه يمكن أن ينتفع عن طريق السحر فقد كفر، من علم عن طريق السحر أن الجن لهم إرادةٌ مستقلةٌ عن إرادة الله فقد كفر، ولو أنهم آمنوا هم بهذا قد كفروا: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾ أي ما من كلمةٍ تفعل فعلها في نفس المؤمن، خالق الكون يقول لك: لو أنك فعلت كذا وكذا لكان خيراً لك. هذه نصيحة من؟ نصيحة خالق السماوات والأرض، نصيحة العليم، نصيحة الخبير، نصيحة الفعَّال، نصيحة من إليه الأمر كله، نصيحة من إليه يُرجع الأمر كله، نصيحة من إليه مصيرنا،﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾ .
 

الكفر بمعناه الضيق:


أيها الإخوة الكرام؛ أي مؤمن آمن بالله حقّ الإيمان، وانصاع إلى أمره، وقرأ هذه الآية يقشعر جلده، خالق الكون ينصح هذا المخلوق الضعيف، المخلوق الضعيف الحادث الفاني الذي هو لا شيء أمام الله عزَّ وجل، هذا الخالق العظيم ينصح هذا المخلوق الصغير: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾ هم بهذا قد كفروا، كفروا حينما اتبعوا ما تتلو الشيطان على ملك سليمان، لعل كلمة الكفر هنا أخذت معنى واسعاً جداً، أنت حينما لا تعبأ بكلام الله، لو سُئِلت تقول: هذا كلام الله على العين والرأس، هذا القرآن الكريم، أما حينما لا تُطبق أحكامه، ولا تأخذ بأوامره ونواهيه، ولا تُقيم له وزناً في حياتك اليومية، في العلاقات اليومية، في البيع والشراء، في الزواج، في كل شؤون الحياة، حينما لا تعبأ بكلام الله عزَّ وجل فهذا نوع من الكفر به.
الكفر بمعناه الضيِّق أن تُنكر وجود الله عزَّ وجل، أو أن تُنكر أسماءه الحسنى، أو أن تُنكر فرائضه التي افترضها الله على البشر، ولكنك حينما لا تعبأ بمنهج الله، ولا تقيم له وزناً في حياتك اليومية، ولا تأخذ به في شؤونك إنما تقرأ القرآن كما يقول عامة الناس: للتبرك، يقرؤون القرآن وفي بيوتهم المُنكرات، وفي تجاراتهم المخالفات، فأنت حينما لا تعبأ بكلام الله عزَّ وجل، ولا تُحَكِّمُهُ في حياتك، ولا تأخذ به في كل شؤون حياتك اليومية فهذا نوعٌ من الكفر، طبعاً هذا كفر صريح، بواح، من سحر فقد كفر.

(( عن أبي هريرة: من أتى كاهِنًا فصدَّقَهُ بما يقولُ أو أتى امرأةً حائضًا أو أتى امرأةً في دُبُرِها فقد برئَ ممَّا أنزلَ اللَّهُ على محمَّدٍ. ))

[ صحيح أبي داود ]

وكل ما من شأنه أن يخبرك بالمستقبل هو ينسحب عليه هذا الحكم، المنجمون والمنجِّمات، وقارئو الفنجان، وحظك هذا الأسبوع، والأبراج، والفلكي الذي يتنبأ، هذا كله ما أنزل الله به من سلطان، لأنه لا يعلم الغيب إلا الله، أما سيِّد الخلق وحبيب الحق فلا يعلم الغيب.

﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)﴾

[ سورة الأعراف ]

لو كنت أعلم الغيب.
 

الولي هو من آمن بالله إيماناً يحمله على طاعته:


يا أيها الإخوة الكرام؛ هذه آياتٌ حاسمات، والله الذي لا إله إلا هو مسلمون لا يُعَدون يعتقدون بالمنجمين، وبالسحر، وبالجن، وهذا شيخ مخاوٍ للجن، ويخرج لك السحر، وكله دجل بدجلٍ، وكذب بكذب، وخرافةٌ بخرافةٍ، وابتزاز مال بابتزاز مالٍ، أبداً، ليس عندنا إلا هذا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وسُنَّة النبي عليه الصلاة والسلام التي هي بيانٌ لما في القرآن، ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾ ، وقال:

﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)﴾

[ سورة يونس ]

لمجرد أن تؤمن بالله إيماناً يحملك على طاعته فأنت من أولياء الله، وينطبق عليك تعريف الولي: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ .
 

الإيمان الإبليسي:


﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ﴾ دقق الآن، لا قيمة للإيمان بالله إن لم يثمر العمل الصالح والاستقامة على أمر الله، وقد نسمِّيه إيماناً إبليسياً، لأن إبليس: 

﴿ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36)﴾

[ سورة الحجر ]

آمن به رباً:

﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)﴾

[ سورة ص ]

آمن به عزَّيزاً:

﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)﴾

[ سورة ص ]

آمن به خالقاً، ﴿فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ آمن بالآخرة، لكنه رفض أن ينفِّذ أمر الله عزَّ وجل، فالإيمان النظري لا قيمة له، أما الإيمان الذي يحملك على طاعة الله ويقودك إلى العمل الصالح هذا الإيمان نظرياً وعملياً، منطلقات نظرية، تطبيقات عملية، فكر تطبيق، اعتقاد عبادة، شيء عَقَدِي، وشيء سلوكي. 
 

تعريف الثواب:


﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾ إيمانهم وتقواهم تصعد إلى الله عزَّ وجل: 

﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)﴾

[ سورة فاطر ]

حينما يصعد عملٌ طيبٌ خالصٌ لله عزَّ وجل يعود عليك منه شيء، هذه المثوبة، ثاب أي رجع، العمل الصالح المبني على إيمان صحيح، الخالص لله عزَّ وجل له عند الله ثواب، ثواب حدِّث ولا حرج، يلقي الله على قلبك السكينة، وهي أثمن شيءٍ يملكه الإنسان على الإطلاق.

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾

[ سورة طه ]

فإذا ألقى الله في قلبك السكينة، وألقى في قلبك الطمأنينة، وألقى في قلبك السعادة، وألقى في قلبك اليقين، وتعلَّقتَ بما عنده، وزهدت بما في أيدي الناس، ورجوت رحمته، وخفت من عذابه، هذا هو الثواب.
الثواب عمل صالح، صالحٌ في إجراءاته، صالحٌ في نيَّته، أساسه إيمانٌ صحيح، هذا يصعد إلى الله عزَّ وجل ويعود سكينةً، وطمأنينةً، وسعادةً، ورضىً، وتوفيقاً، ونجاحاً، وفلاحاً، وسعادةً في الدنيا والآخرة، هذا الثواب. 
ثواب: مِن ثاب أي رجع، رُفِع إلى الله عملٌ طيبٌ وفق منهج الله عزَّ وجل، طيبٌ أي خالص لوجه الله، أساسه إيمانٌ صحيح، امتلأ قلبك غنى وطمأنينةً وأمناً وسعادةً.
 

تعريف الإخلاص وعلاماته:


إخواننا الكرام؛ لعل أحدكم يسأل: هل هناك من علامة واضحةٍ، من ضابطٍ واضح للمخلص؟ الإخلاص هو عبادة القلب، العبادات الشعائرية والتعاملية والآداب الإسلامية محلها الجوارح، أما القلب فعبادته الإخلاص لله عزَّ وجل، من علامة الإخلاص أنك إذا عملت عملاً صالحاً شعرت بهذه السكينة، وتلك الطمأنينة، وهذه السعادة، وذاك الرضا، وهذا الأمن، أي وصلك ثواب هذا العمل، هذا العمل صعد إلى السماء، عرجت به الملائكة إلى السماء فعاد إليك منه هذه السعادة التي قال عنها بعض العارفين بالله: "والله لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف"
هذه علامة الإخلاص، أنت مرتاح، أنت مرتاحٌ جداً وقد تكون في أخشن حياة، مرتاحٌ وأنت في بيت صغير، مرتاحٌ ولك دخلٌ محدود، مرتاحٌ ولا شأن لك بين الناس، مغمور، في التعتيم، مرتاح ولك زوجةٌ من الدرجة الخامسة، مرتاح، مرتاحٌ ومن حولك يزعجونك لكنك مرتاح، أي جاءك ثواب عملك الصالح، عرجت الملائكة بعملك الصالح في شكله وفي نواياه والمبني على إيمانٍ صحيح، هذا العمل عرجت به الملائكة إلى السماء فعاد لك منه هذه السكينة، هذا معنى الثواب. 
يقال: أخي لك ثواب، ما معنى ثواب؟ لك ثواب أي يعود عليك نتائج هذا العمل، ثوابٌ أو عقاب، فهذه أحد علامات الإخلاص أنه عقب عملٍ صالحٍ خالصٍ لله عزَّ وجل تشعر بسعادة، وكأنك لست مع الناس، قد يأتي على الناس كابوس، هموم، همومٌ كالجبال، مَلَل، سأَم، ضَجَر، ضيق، شيء لا يحتمل، أما أنت متميز كأنك في جنة، وقد قالوا: في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، ويؤكد هذا:

﴿ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)﴾

[ سورة محمد ]

ذاقوا طعمها في الدنيا، قال أحد العلماء: "ماذا يفعل أعدائي بي؟ بستاني في صدري، إن أبعدوني فإبعادي سياحة، وإن حبسوني فحبسي خلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة، فماذا يفعل أعدائي بي؟" .
 

إن عرفت الله تعلم وإن لم تعرفه فأنت لا تعلم:


أيها الأخ الكريم؛ إن لم تقل ولا أبالغ: أنا أسعد الناس بهذه المعرفة، وأسعد الناس بهذا الاتصال فهناك مشكلة في إيمانك وفي عملك.
أحد الإخوة الكرام قال كلمةٍ لا أنساها، قال: ليس في الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني.
أي إن لم تقل: أنا أسعد الناس إلا أن يكون أحدهم أتقى منك هذا الدين، الدين اتصال بالله، الدين أنت متصل مع خالق الكون، مع المُطْلَق، في علمه، في قدرته، في رحمته، في جماله، في رعايته، أنت مع المطلق، والخلق كلهم مع المحدود، الإنسان محدود ماذا يفعل بك؟ أما الله عزَّ وجل فهو على كل شيء قدير، الأورام الخبيثة تتراجع أحياناً بلا سبب، الأمراض العضالة التي ليس لها في الطب علاج تتراجع أحياناً عند بعض المؤمنين حينما يصدقون في دعائهم، أنت مع المطلق، مع القدرة المطلقة، مع العلم المطلق، مع الرحمة المطلقة، مع اللُّطف المطلق، مع العطف المطلق، أنت مع المطلق، دققوا في هذه الآية: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾ إله يقول لك: يا عبدي لو فعلت كذا لكان خيراً لك، ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ إذاً هم لا يعلمون، وفي آيات أثبت الله لهم العلم، قال:

﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)﴾

[ سورة الروم ]

بجمع الآيات نستنتج أنك إن عرفت الله تعلم، فإن لم تعرفه أنت لا تعلم. 
 

العلم والجهل هما العاملان الحاسمان في السعادة والشقاء:


يمكن أن نفرِّق بين العقل والذكاء، قد تنال أعلى شهادة في الأرض، وقد تكون ألمع عالمٍ في الأرض، قد تكون عالم رياضيات، عالم فيزياء، عالم كيمياء، قد تكون كأينشتاين الذي عرف النسبية، أنت ذكي فقط، لا يسمى الإنسان عاقلاً إلا إذا عرف الله، العقل شمولي، الذكاء جزئي، تتفوق في اختصاصٍ محدود، لكنك إن عصيت الله فأنت لا تعرفه، المجنون من عصى الله، هذا هو المجنون، أي بأية حال كنت، في أي بيتٍ تسكن، بأي دخلٍ يأتيك، بأية أسرةٍ تعيش، إذا كنت مع الله فأنت أسعد الناس، وإن لم تكن مع الله لو سكنت أفخر بيتٍ في الأرض، ولو ملكت مال قارون، ولو عشت عمر نوح، ولو أوتيت كل شيء فهذا الإنسان شقي لأنه ابتعد عن مصدر السعادة ألا وهو الله عزَّ وجل: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ إذاً هم لا يعلمون، إذاً هم  لا يعلمون، العلم والجهل هما العاملان الحاسمان في السعادة والشقاء، والدليل ماذا يقول أهل النار وهم في النار؟ 

﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)﴾

[ سورة الملك ]

لأن فطرة البشر واحدة، كل واحدٍ يحبّ وجوده، ويحبّ سلامة وجوده، ويحبّ كمال وجوده، ويحبّ استمرار وجوده، هذه القاعدة تنسحب على خمسة مليارات إنسان في الأرض، ما من إنسان على وجه الأرض إلا وهو يحبّ سلامته وسعادته، لماذا يشقى الناس؟ أخطؤوا طريق سعادتهم، أخطؤوا الطريق، أخطؤوا الهدف، أنت آلة معقدة جداً، أنت أعقد آلة في الكون، والتعقيد تعقيد إعجاز لا تعقيد عجز، ولهذه الآلة صانع حكيم، ولهذا الصانع تعليمات، فانطلاقاً من حرصك على سلامة هذه الآلة، وعلى حسن مردودها، وعلى الانتفاع بها تتبع تعليمات الصانع.
 

إذا كنت مع الله كان الله معك:


﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ هذا التاريخ أمامكم، هؤلاء الذين وقفوا مع النبي، ناصروه، وأيَّدوه، وعزّروه، ووقروه هم في أعلى عليين، تلهج الألسن من ألفٍ وخمسمئة عام بالثناء عليهم، وهؤلاء الذين ناصبوا الحق العِداء، ووقفوا في خندقٍ آخر أين هم؟ في مزابل التاريخ، التاريخ المعاصر، والتاريخ قبل المعاصر، والتاريخ القديم، هناك حقائق ثابتة، إذا كنت مع الله كان الله معك، إذا اتبعت منهج الله سعدت في الدنيا والآخرة، إن خالفت كلام الله عزَّ وجل شقيت في الدنيا والآخرة.
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ﴾ ، ﴿خَيْرٌ﴾ ، اسم تفضيل، الخير كل الخير، الذكاء كل الذكاء، الفلاح كل الفلاح، النجاح كل النجاح، التفوق كل التفوق، العقل كل العقل في طاعة الله، مستحيل وألف مستحيل أن تطيعه وتخسر، ومستحيل وألف مستحيل أن تعصيه وتربح، ولكنك لا ترى الربح والخسارة بعد ساعة، لا، بعد ساعة التغى الاختيار، تراها بعد حين، حينما يعلم الله صدقك، وثباتك، وإخلاصك يفتح لك التوفيق، ويعطيك ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
 

الكلمة التي تحتمل معنيين الأول جيد والثاني غير جيد الأَولَى أن نبتعد عنها:


﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)﴾

[ سورة البقرة ]

الآية تحتاج إلى دقة فهم، دقيقة جداً، ﴿راعنا﴾ أي ارعنا ولنرعك، من العناية، الراعي هو الذي يعتني بغنمه، يحوطهم برعايته، يهتمُّ بطعامهم وشرابهم، وصحتهم، ونومهم، ودفئهم، وسلامتهم، وسعادتهم.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا﴾ كان المؤمنون يخاطبون النبي عليه الصلاة والسلام ويقولون: يا رسول الله راعنا أي ارعنا، نحن أتباعك، انصحنا، دُلَّنا على الخير، كان الصحابة الكرام في أعلى درجات الأدب حينما قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: راعنا، أي ارعنا، أي أحطنا برعايتك، دلَّنا على الخير يا رسول الله.
ولكن كلمة (راعنا) في لغة اليهود لها معنىً قبيح، لغة سُباب، أي اسمع لا أسمعك الله، بلغة اليهودي، فاليهود كانوا يسبون النبي بقلوبهم، فلما سمعوا أصحاب رسول الله يقولون: راعنا، قالوا: جاءتنا فرصة نسبه علانيةً، فكانوا يقولون: يا رسول الله راعنا، علم سيدنا سعد ذلك فقال: "والله ما سمعت واحداً يقول للنبي راعنا إلا ضربت عنقه" ، اختلف الوضع. 
﴿وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾ استنبط العلماء أنه إذا كان كلمة تحتمل معنيين، المعنى الأول جيد والثاني غير جيد الأولى أن تبتعد عنها، مرّ سيدنا عمر بقومٍ فقال: " السلام عليكم يا أهل الضوء" ، وكره أن يقول: "السلام عليكم يا أصحاب النار" ، لأن كلمة أصحاب النار تعني أنهم من أهل جهنم، فكل كلمةٍ تحتمل معنيين، الأول جيد، الثاني سيئ، الأولى أن نبتعد عنها، فلأن اليهود استغلوا كلمة راعنا وهي لفظٌ لا يليق بالنبي عليه الصلاة والسلام، كانوا يسبونه في قلوبهم، فلما قال أصحاب النبي: يا رسول الله راعنا، أي ارعنا، خذ بيدنا إلى الله، دلنا على الله، أكرمنا بصحبتك، هذا هو المعنى فقط، لذلك استغل اليهود هذا، فجاء النهي، نهي المؤمنين على أن يقولوا هذا الكلام. 
 

طلب موجبات الرحمة أَولَى من طلب الإعفاء من الحساب:


﴿وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾ هذا معنى يستنبط منه أن كل كلمةٍ تحتمل معنيين، وأنت تريد أحدهما السليم ابتعد عنها، هذا سمَّاه العلماء: سدّ الذرائع، أي قد تفعل شيئاً لا غُبار عليه، لكن قد يقود إلى ما هو محرم، أي قد تزرع العنب في مكان لا يُباع إلا للخمَّارات، زراعة العنب محرمة سدّاً للذريعة، قد تسبّ إنساناً فيسب الله، سُباب هذا الإنسان محرَّم، من هو الذي يسب أباه؟ يسب أبا الرجل فيسب أباه، فالتحريم تحريم سد ذريعة، لذلك هذا حكم شرعي أنه إذا كان هناك كلمة تحتمل معنيين الأولى أن تبتعد عن معناها السيئ، وأن تستخدم كلمة تحتمل معنى واحداً، وهذا من بلاغة الإنسان وفصاحته.
هناك معنى آخر، سأحاول أن أوضحه لكم، لو أن شاباً له أب أستاذ رياضيَّات، وهو أستاذه في الصف، هو في الصف الحادي عشر ووالده أستاذه، عنده مذاكرة في اليوم الثاني، فهذا الابن أمامه أحد خيارين، إما أن يسأل أباه أن يُوضح له بعض المسائل، وإما أن يقول له: أعطني سؤال الامتحان المذاكرة، أيهما أولى؟ أن يسأله، لا تقل: راعني قل: انظرنِي. هذا معنى آخر، أي أنت إن أردت رحمة الله قدم موجباتها، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لعلو أدبه مع الله عزَّ وجل كان يقول: اللهم إنّا نسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ.
قال لأحد أصحابه الكرام: 

(( عن ربيعة بن كعب الأسلمي: كنتُ أبيتُ معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ آتيهِ بوَضوئِهِ وبحاجتِهِ فقالَ سلني فقلتُ مرافقتَكَ في الجنَّةِ قالَ أوَ غيرَ ذلِكَ قلتُ هوَ ذاكَ قالَ: فأعنِّي على نفسِكَ بِكثرةِ السُّجودِ. ))

[ صحيح أبي داود ]

اطلب موجبات رحمة الله، لا تطلب الأمور من طريق غير صحيح، هذا معنى آخر، على كل القرآن حمَّال أوجه. 
المعنى الأول: لا تتكلم كلمة تحتمل معنيين، هناك كلمات كثيرة معناها أسلوب غش الكلام محرم، أكثر الناس تسعة أعشار المزاح فيما بينهم كلمة مغشوشة، ظاهرها ليس فيه شيء، ولكنه ينوي معنى آخر قذراً، ويبتسم، ويغمز، ويلمز، هذا محرَّم، فاختر كلمةً واضحةً نقية جليَّة، الكلام الذي يحتمل معنيين هذا فيه متاهات كثيرة جداً، واطلب من الله ورسوله أن ينظرا إليك نظرة شكرٍ لاستقامتك، هذا أولى من أن تطالب بالعفو، أوضح مثل الطالب، لئن سأل والده أن يوضِّح له المنهج أولى ألف مرة من أن يسأله أن يعطيه سؤال الامتحان، هذا سلوك لا يليق.
 

لكلمة (راعنا) في الآية التالية ثلاثة معانٍ:


﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾ معنى ﴿رَاعِنَا﴾ صيغة مشاركة، هناك معنى ثانٍ قال عنه العلماء سوء أدب، أي ارعني وأرعاك انصحني وأنصحك، هذا بين الناس لا بين الناس ورسول الله، النبيُّ يُؤخذ منه فقط لا يُملى عليه شيء، أيضاً
يوجد معنى آخر راعنا فيها مشاركة، أي:

﴿ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ(9)﴾

[ سورة القلم ]

بالتعبير العامي: "حك لي لأحك لك، أي حلها برمة لنحلها نحن برمة" .
هذا لا يليق بخطاب النبي عليه الصلاة والسلام، النبي مُشرع، والنبي معصوم يُؤخذ منه فقط، تُتَّبع سنَّته فقط:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)﴾

[ سورة الحجرات ]

هذا هو المعنى، إذاً صار عندنا ثلاثة معانٍ، إذا كنا قد فهمنا راعنا، ارعنا ولنرعك، دلنا ولندُلَّك، أعطنا ولنعطك، إذاً المعنى جعلتم دعاء النبي كدعاء بعضكم بعضاً، جعلته بشراً يخطئ ويصيب، عملت مساومة، هذا المعنى ذكره القرطبي.
المعنى الثاني: ارعنا على سبيل التعظيم، وسبيل طلب المغفرة، قد يكون الصحابي في أعلى درجة من الأدب، ولكن لأن هذه الكلمة في لغة أخرى يستغلها اليهود ليقلدوا الصحابة بها وهم يقصدون سَبَّ النبي عليه الصلاة والسلام فجاء النهي عنها.
إذاً أول حكم: خطاب الناس شيء وخطاب رسول الله شيءٌ آخر.
الحكم الثاني: ابتعد عن كل كلمة تحتمل معنيين، إذاً كل المزاح المغشوش هذا محرَّم، عوِّد نفسك أن تقول كلمة الحق واضحةً جليةً نقية، أما مجتمعات التسيب والتقصير والمعصية هناك آلاف الألغام في حديثهم.
والمعنى الثالث: أي اطلب موجبات رحمة الله عزَّ وجل ولا تطلب أن يستثنيك من الحساب.
 

مقياس الناس شيء ومقياس القرآن شيءٌ آخر:


قال تعالى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)﴾

[ سورة البقرة ]

أي إرادة الله عزَّ وجل طليقة لا يمكن أن تخضع هذه المشيئة العليَّة لمخلوق، هم لا يُقسِّمون رحمة الله عزَّ وجل:

﴿ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)﴾

[ سورة الأنعام ]

هو يعلم وحده من هو الأهل؟ مقياس الناس شيء، ومقياس القرآن شيءٌ آخر:

﴿ وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)﴾

[ سورة الزخرف ]

العظيم عند الناس هي عظمة المال وعظمة الشأن والقوة، أما الرفيع عند الله عزَّ وجل فهو المخلص، المنيب، المحب، التائب، المقبل.
 

كلمة (مثوبة) لها معنيان:


أيها الإخوة؛ قبل أن أُتابع هذه الآية هناك معنى في الآية السابقة لابدّ من أن نقف عندها وقفة، كلمة ﴿مثوبة﴾ لها معنى آخر من الثوْب: 

﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)﴾

[ سورة الأعراف ]

هذه الثياب تواري سوءات الإنسان، قال: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ إذاً كلمة الثياب لها معنى آخر، المعنى الأول: ثيابٌ ماديةٌ من قطنٍ وحرير أو من قـطنٍ وصوف يرتديها الإنسان فيستر بها عورته، بينما ثوب التقوى يستر به جسمه من النار: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ أي أجمل ثوب أن تكون مطيعاً لله، أجمل ثوب ترتديه أن تكون صادقاً، أجمل ثوبٍ ترتديه أن تكون أميناً، أجمل ثوب ترتديه أن تكون عفيفاً، قد يرتدي الإنسان أجمل الثياب، ثياباً جميلة جداً وهو منحرف الأخلاق، بذيء اللسان.
قلت مرة لإخواننا: كان أحدهم يرتدي ثياباً أنيقة جداً وكلامه بذيء جداً، فقال له أحدهم: "إما أن تتكلم مثل لباسك أو أن تلبس مثل كلامك" ، هناك تناقض.
ثوب التقوى ثوبٌ عظيم، قد ترتدي ثوباً متواضعاً، لكن استقامتك، وعفتك، وأمانتك، ترفع بهما رأسك، تجد المستقيم ملكاً، وقد تُكتشف فضيحة لإنسان في أعلى مرتبة فيسقط في الوحل.
 

على المؤمن أن يرتدي ثياب التقوى ويبتغي الرفعة عند الله تعالى:


﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ أنت لو كنت أي إنسان، بأي وظيفة، معلم ابتدائي، ضارب آلة كاتبة، حاجباً حسب مراتب المجتمع، الحاجب المستقيم مَلِك، ابتغوا الرفعة عند الله عزَّ وجل، ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ إذا أنت ترتدي ثياب التقوى:

(( كُنَّا قَوْمًا أهلَ جاهِليَّةٍ، نَعبُدُ الأصنامَ، ونأكُلُ المَيْتةَ، ونأتي الفَواحِشَ، ونَقطَعُ الأرحامَ، ونُسيءُ الجِوارَ، يأكُلُ القَويُّ مِنَّا الضَّعيفَ، فكُنَّا على ذلك حتى بعَثَ اللهُ إلينا رَسولًا مِنَّا، نَعرِفُ نَسَبَه وصِدقَهُ وأمانَتَه وعَفافَهُ. ))

[ إسناده صحيح أخرجه أحمد (1740) باختلاف يسير، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/115) مختصراً ]

إذا شخص أمين، صادق، عفيف، لا يوجد إنسان يهدده بصورة، سأبرز الصورة، لا توجد عنده مشكلة أبداً، لا يوجد إنسان يهدده بكشف الأمر: أنت مختلس، لا، كل ماله حلال، لا يوجد عنده علاقة غير نظيفة، بيته نظيف من الداخل والخارج، سره كعلانيته، جلوته كخلوته، لا يوجد عنده ازدواجية بالحياة، هذا ينام مرتاح البال.
ذكر لي أخ كان بألمانيا أن كُتب على السرير في الفندق، وهو فندق فخم من فنادق النجوم الخمس: إن لم تستغرق في النوم فالعلَّة ليست في فُرُشِنا بل في ذنوبك. إذا لم ترتح بالنوم فهذا ليس من الفرش، فُرُشنا وثيرة، لكن العلة في ذنوبك.
فكن ابن من شئت، بأي مكانة، بأي مرتبة، بأي دخل، بأي شكل ، حتى بأي شكل، يروى أن الأحنف بن قيس كان قصير القامة، أسمر اللون، مائل الذقن، ناتئ الوجنتين، غائر العينين، ضيِّق المنكبين، أحنف الرجل، ليس شيءٌ من قبح المنظر إلا وهو آخذ منه بنصيب، وكان مع ذلك سيَّدَ قومه، إذا غَضِب غَضب لغضبته مئة ألف سيف لا يسألونه فيمَ غضب؟ وكان إذا علم أن الماء يفسد مروءته ما شربه.
 

المُلك الحقيقي أن تصل إلى مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر:


أقول: كن أي إنسان في أي درجة علمية، وفي أي حرفة، وفي أي بيت، وفي أي حي، بأفقر أحياء دمشق، إذا كنت مستقيماً وأميناً وصادقاً فأنت ملك، ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ .
أراد أحد أغنياء هذه البلدة الطيبة أن ينشئ مسجداً، يوجد أرض مناسبة بأحد أحياء دمشق، مناسبة جداً لمسجد، قال لصاحب المشروع إن الأرض جاهزة تعال انظر إليها، فالأرض مناسبة وسعرها مناسب، كم ثمنها؟ ثلاثة ملايين ونصف، كتب صاحب المشروع شيكاً بمليونين لصاحب الأرض، صاحب الأرض آذن مدرسة، وقد ورثها قبل شهر، دخله أربعة آلاف ليرة، عنده ثمانية أولاد، فقير جداً فقر مدقع، قال له: لماذا مليونين فقط؟ قال له: مليونان دفعة أولى، والمليون والنصف عند التنازل بالأوقاف، قال له: لماذا التنازل؟ قال له: لأنها ستكون مسجداً، قال له: مسجد!! انتفض، فأخذ الشيك ومزَّقه، قال له: أنا أولى منك أن أقدمها لله، يقول هذا الإنسان الغني: والله ما صغرت في حياتي أمام إنسان كما صغُرت أمام هذا الإنسان. 
الثلاثة ملايين والنصف لا يشكلون واحداً بالألف من حجمه المالي أما هذا الآذن فقد قدَّم كل ما يملك وهو في أمس الحاجة لهذه الأرض، لكن كَبُرَ عليه أن يشتريها منه إنسان ويجعلها مسجداً، قال له: أنا أولى منك أن أقدمها لله، فهذا ثوب الإيمان، ثوب العفة، ثوب التقوى، ثوب الصلاح، ثوب الصدق، ثوب الأمانة، هذا الثوب الجميل هذا الذي لا يفنى، يموت الإنسان يبقى ذكره العطر لمئات السنين، يبلغ العالم الإسلامي الآن ملياراً ومئتي مليون، الصحابة الكرام، العلماء الأعلام، القادة الكبار، يُذكرون كل يوم ملايين المرَّات بالثناء الطيِّب، هذا المُلْك.

﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً(20)﴾

[ سورة الإنسان ]

هذا المُلك الحقيقي أن تصل إلى مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر.
 

لا تعبأ بمراتب الدنيا اعبأ بمرتبةٍ عند الله تعالى:


دققوا في هذه الآية: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ وقال: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ﴾ المعنى الثاني: أنك إن آمنت واتقيت لبست ثوباً جميلاً هو أجمل ثياب الأرض، المؤمن شريف، عفيف، ذِكره حسن، لو أنه مات تبكي عليه السماء والأرض والدليل قول الله عن الكفار: 

﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)﴾

[ سورة الدخان ]

المعنى المخالف: المؤمن تبكي عليه السماء والأرض، فأنت لا تعبأ بمراتب الدنيا، اعبأ بمرتبةٍ عند الله، لا تعبأ بمراكز الدنيا، ليس لها معنى إطلاقاً.
 

العبرة أن يسعى الإنسان للدار الآخرة:


قال تعالى:

﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)﴾

[ سورة الإسراء ]

مراتب الدنيا لا معنى لها وقد تعني العكس، وهي مؤقتة، ﴿وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾ درجاتها أكبر، وتفضيلها أشد، ودائمة إلى أبد الآبدين، فلذلك العبرة أن يسعى الإنسان للدار الآخرة، أن يسعى لمقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر.

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)﴾

[ سورة آل عمران ]


الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور