- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (005)سورة المائدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
كلمة (ميثاق) لها معانٍ كثيرة في القرآن الكريم :
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الرابع والثلاثين من دروس سورة المائدة، ومع الآية السبعين، وهي قوله تعالى:
﴿ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) ﴾
ما هو الميثاق؟ الحقيقة أن هذه الكلمة لها معانٍ كثيرة في القرآن الكريم، أحد المواثيق أن الله سبحانه وتعالى منحك عقلاً تتعرف به إلى الله، أحد المواثيق أنه منحك فطرة متوافقة مع منهج الله، فلو خرجت عن منهج الله عذبتك نفسك، هذه الفطرة، أحد هذه المواثيق يوم كنا في عالم الأزل في ظهر أبينا آدم أُخذ منا الميثاق، قال تعالى:
﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا
أحد هذه المواثيق أن الله سبحانه وتعالى أخذ من الأنبياء ميثاقاً غليظاً أن يتبعوا النبي عليه الصلاة والسلام.
تعريف الميثاق :
الميثاق أيها الإخوة؛ هو العهد المؤكد الموثق الذي يقتضي الوفاء الشديد، فميثاق الأزل: ﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ﴾ لذلك الله عز وجل جعل أول آية في القرآن الكريم:
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) ﴾
أي تعلم ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)
﴾
ينبغي أن تقرأ قراءة إيمان، وينبغي أن تقرأ قراءة شكر وعرفان.
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَم (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) ﴾
هناك مواثيق لا تعد ولا تحصى لكن يقع في مقدمتها ميثاق عالم الأزل :
هذه قراءة الوحي ﴿ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾
﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) ﴾
حينما يقوى الإنسان يتعلم ليحكم سيطرته على العالم، يتعلم لينهب ثروات العالم، يتعلم ليبني مجده على أنقاض شعوب الأرض، فصار عندنا علم إيمان، وعلم شكر وعرفان، وعلم وحي وإذعان، وعلم عدوان وطغيان، فالله عز وجل أخذ منا ميثاقاً غليظاً في عالم الأزل أننا إذا جئنا إلى الدنيا ينبغي أن نؤمن بربنا، ﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ﴾
القرآن ميثاق، أركان الإيمان مواثيق؛ ينبغي أن تؤمن بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين.
أي أمر في القرآن الكريم هو ميثاق بينك وبين الله :
ميثاق الإسلام: الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، والنطق بالشهادة، هذه مواثيق الإسلام. أمرك أن تغض البصر، أمرك أن تكون صادقاً، أمرك أن تكون أميناً، أمرك أن تكون عفيفاً، الحقيقة أن هناك مواثيق لا تعد ولا تحصى، لكن يقع في مقدمتها ميثاق عالم الأزل، ويقع حكماً ميثاق العقل، وميثاق الفطرة، ثم ميثاق الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالى، ميثاق أركان الإسلام، وأي أمر في القرآن الكريم هو ميثاق بينك وبين الله، بدليل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
﴿ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ۚ
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ
فأيّ آية تخاطَب بها: يا أيها المؤمن، هي ميثاق من الله عز وجل، وهناك ميثاق يأتي بسياق هذه الآيات ميثاق بني إسرائيل: ﴿ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ ﴾
معنى الهوى :
الآن الهوى ما هو الهوى؟ الهوى هو الميل، أنا أهوى الرياضة أميل إليها، أهوى الرسم أحب أن أرسم، أهوى التنزه في الفلوات، الهوى هو الميل في الأصل، لكن الهوى من أين يأتي؟ من المعرفة، إنك إن عرفت الله عز وجل ملت إليه، لأنه من أعجب العجب أن تعرفه ثم لا تحبه، ومن أعجب العجب أن تحبه ثم لا تطيعه، فلذلك هذا الهوى إما أن يكون هوى مرتبط بالآخرة، مرتبط بالله عز وجل، مرتبط بسعادة الآخرة، وإما أن يكون غريزة حسية، يهوى الطعام، يهوى النساء، يهوى تجميع الأموال، يهوى العلو في الأرض فالهوى هو الميل، الهوى متعلق بالرؤيا والعلم.
إنسان يركب دراجة ويمشي في الطريق، وصل إلى مفترق طرق، طريق نازل، وطريق صاعد، كونه يركب دراجة هواه مع النزول، ركوب الدراجة في النزول ليس هنالك جهد إطلاقاً، الطريق معبد، ومحفوف بالأزهار والرياحين والأشجار والظلال، والنسيم عليل، وركوب الدراجة يحتاج إلى جهد في الصعود، فهواه المادي الجَبَلي أن ينزل، الطريق الصاعد وعر، فيه غبار، وفيه منزلقات، وفيه صخور، وفيه جهد كبير جداً، متى يهوى هذا الإنسان الصعود؟ بحسب بنيته وواقعه، وكونه راكب دراجة، والطريق الهابط جميل، يجب أن يهوى الهبوط، إذا رأى لوحة كتب عليها هذه الطريق الصاعدة تنتهي بقصر منيف هو ملك لمن يصل إليه، وهذه الطريق الهابطة تنتهي بحفرة عميقة ما لها من قرار فيها وحوش كاسرة. هذا البيان يعكس الهوى، فإما أن تهوى الشهوة العاجلة بسبب الجهل، وإما أن تهوى الجنة وما فيها من نعيم مقيم بسبب العلم، لذلك العلماء قالوا: هناك حب عقلي، وهناك حب عاطفي.
الواحد ـ لا سمح الله ولا قدر ـ معه ضيق بشرايين القلب، وكان في سهرة، ووضعوا طعاماً نفيساً جداً، قشدة، وحلويات نفيسة جداً، لكن هذا الطعام يميته، هو يحب هذا الطعام، يحبه بحسب طبعه، لكنه يكرهه بحسب مصلحته. العلماء فرقوا بين حب حقيقي وحب عقلي، بين حب مادي، وحب عقلي، فالمؤمن يحب الله، يحب الدار الآخرة، يحب الائتمار بأمر الله، والانتهاء عما نهى الله عنه، يحب بيوت الله، يحب المساجد، يحب تلاوة القرآن، يحب الأعمال الصالحة، يحب حفظ القرآن، لأن هذا يحقق له الجنة وما فيها من نعيم مقيم، يكاد يكون الحب عقلي، لكن الشهوات بين يديه.
(( مَن أنظَرَ مُعسِرًا أو وضعَ لهُ وقاهُ اللهُ مِن فَيْحِ جهنَّمَ
يكفي أن تطلق بصرك في الحرام، وأن تأكل ما تشاء، وأن تلتقي مع من تشاء، وأن تفعل ما تشاء، من دون قيد ولا شرط، ولا وازع ولا رادع، ولا قاعدة ولا قيمة، ولا حرام ولا حلال
الله تعالى أودع فينا الشهوات لكن هذه الشهوة التي أودعها الله في الإنسان حيادية :
أيها الإخوة؛ الآية الكريمة:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) ﴾
إذاً أي إنسان على وجه الأرض في ستة آلاف مليون إنسان على وجه الأرض في القارات الخمس ما منهم واحد إلا ويحب النساء، ويحب المال، ويحب بيتاً فخماً، ومزرعة فارهة، ومالاً وفيراً، هذا متاع الدنيا:﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ﴾
أية شهوة أودعها الله في الإنسان هي سلم ترقى بها أو دركات تهوي بها :
أودع فيك حب المرأة كي يبقى النوع، إذا كان حب المرأة سبباً لهلاك النوع الذي يجري أحياناً من حروب، ومن مآسي، ومن اجتياحات سببه الشهوات، الشهوات تحتاج إلى أموال، من أجل أن تعيش كما تريد كالنمط الغربي تحتاج إلى بيوت فخمة، وإلى مركبات، وإلى دخل كبير، وإلى عشيقات، هذا يحتاج إلى مال، والمال يحتاج إلى عدوان، فإما أن تحب المرأة وفق منهج الله فتتزوج، وإما أن تحب المرأة بخلاف منهج الله فيكون حب المرأة سبباً لهلاك الإنسان، أي أن هذه الشهوات حيادية، إما أنها سلم نرقى به، أو دركات نهوي بها، لأنك مخير فكل الشهوات التي أودعها الله فيك حيادية، إما أن تكون قوة للآخرة أو قوة إلى دركات النار، لذلك:
﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن (16) كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) ﴾
﴿ كَلَّا ﴾
أي بشكل مختصر هل المال نعمة؟ الجواب: نعم ولا، إذا أنفق في طاعة الله فهو نعمة، أما إذا أنفق في المعاصي والآثام فهو نقمة، هل المرأة نعمة أم نقمة؟ هي نعمة ونقمة، إذا اتقيت الله فيها، أحسنت اختيارها، اخترت ذات الدين، أنجبت منها أولاداً صالحين كانت نعمة، وأيّ نعمة، بل إن بعض المفسرين حينما فسر قوله تعالى:
﴿ وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً
المرأة الصالحة التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك، كلام دقيق جداً، أية شهوة أودعها الله في ا لإنسان سلم ترقى بها إلى رب السماوات والأرض، أو دركات تهوي بها أسفل السافلين.
الشهوة التي أودعها الله في الإنسان لها زاوية محددة :
إذاً الشهوة حيادية، فمن الممكن أن تتحرك بالشهوة مئة وثمانين درجة، لكن في الشرع الإسلامي مسموح لك بسبعين درجة، المرأة عند المؤمن زوجة، أو أم، أو بنت، أو أخت، أو عمة، أو خالة، أو بنت أخ، أو بنت أخت، هذه المحارم اللواتي يمكن أن ألتقي بهن، وأن أجلس معهن بثياب محتشمة، لا قيد ولا شرط بين الزوجين، أما المحارم فلا بد من الاحتشام، فهذه الشهوة التي أودعها الله في الإنسان لها زاوية محددة.
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) ﴾
أودع فيك حب المال، إذا كسبته من طريق مشروعة، وأنفقته في الطرق المشروعة ارتقيت به وكان نعمة وأيّ نعمة، أما إذا اكتسبته من طرق غير مشروعة، وأنفقته في طرق غير مشروعة كان نقمة وأيّ نقمة، إذاً الهوى هو الميل، إما أن يكون الهوى راقياً جداً يسمو بك إلى الله، وإما أن يكون هوى حسيّاً ماديّاً يهوي بالإنسان إلى دركات النار، الهوى متعلق بالعلم، أنت حينما تقرأ هذه اللوحة تتجه في الطريق الصاعدة، أما إن لم تقرأ هذه اللوحة فأمامك طريقان، واحد هابط، والثاني صاعد، وراكب الدراجة يهوى الطريق الهابط، إذاً:
تكذيب اليهود لأنبيائهم :
أيها الإخوة؛ هؤلاء اليهود كانوا يكذبون أنبياءهم، وتكذيب رسول معه معجزة أرسله الله رحمة لهؤلاء القوم لينقلهم من الظلمات إلى النور، من وحول الشهوات إلى جنات القربات، من الجهل إلى العلم، من الشقاء إلى السعادة، يكذبونه؟ فما بالكم إذا قتلوه، لذلك الله عز وجل قال: ﴿ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ﴾
تعدد المواثيق :
ذكرت قبل قليل أن المواثيق كثيرة، فالنبي عليه الصلاة والسلام بايعه الأنصار بيعات ثلاثة؛ الأولى، والثانية، والثالثة، نقف عند الثالثة، النبي عليه الصلاة والسلام قال للأنصار: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، فقال البراء بن معروف: نعم والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعنك مما نمنع منه نساءنا وأبناءنا، فبايِعْنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب، وأهل الحلقة، وتكلم أبو الهيثم، فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال ـ أي اليهود ـ حبالاً وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا كذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا، فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال:
(( بَلِ الدَّمُ الدَّمُ، والهَدْمُ الهَدْمُ ، أنا منكم وأنتم مني ، أُحارِبُ مَنْ حارَبْتُمْ، وأُسالِمُ منْ سالَمْتُمْ ))
وبسط يده عليه الصلاة والسلام فبايعوه، فكانت بيعة العقبة ميثاقاً يضمن لأهل البيعة بالجنة إن أوفوا بما عاهدوا الله عليه، هذا ميثاق، عقد الزواج ميثاق.
﴿ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (21) ﴾
عقد العمل ميثاق، لا تخون صاحب الشركة، عقد الزواج ميثاق، عقد بيع ميثاق، لا تبع على بيع أخيك، أي أمر إلهي في المعاملات ميثاق من الله يؤكده ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
المعرفة هي التي تحدد نوع الهوى :
أيها الإخوة الكرام؛ يقول عليه الصلاة والسلام:
(( لا يؤمنُ أحدُكم حتَّى يَكونَ هواهُ تبعًا لمَّا جئتُ بِهِ ))
هواك أنت كونك مؤمناً وفق منهج الله، لا ينبغي أن يكون هواك في وادٍ، والدين في واد آخر ((... حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ))
كملخص: الهوى هو الميل، يمكن أن يكون الهوى سامياً يرقى بك إلى الله، وإلى الجنة، وإلى نعيم مقيم، ويمكن أن يكون الهوى متدنياً يهوي بالإنسان إلى دركات النار، ما الذي يحدد نوع الهوى؟ أهو هوى سام أم هوى منحط؟ المعرفة، مستحيل وألف ألف مستحيل أن تعرفه ثم لا تحبه، ومستحيل وألف ألف مستحيل أن تحبه ثم لا تطيعه.
وضعنا أمام إنسان إناء كبيراً من أرخص أنواع البلّور، ثمنه عشر ليرات، ووضعنا إلى الجانب كأس كريستال ثمنه ألف ليرة، و وضعنا ماسة موجودة باسطنبول ثمنها يقدر بمئة وخمسين مليون دولار، وقلنا له: اختر، فالجاهل يأخذ أكبر قطعة، التي ثمنها عشر ليرات، لأنه جاهل، لو علم أن هذه الماسة ثمنها يقدر بمئة وخمسين مليون دولار لاختارها، مع أنها صغيرة بحجم البيضة، ما الذي حملك على أن تختار هذه القطعة الثمينة جداً؟ المعرفة.
لذلك إذا عرفت الله اخترته، إذا عرفت الله طلبت رضاه، إذا عرفت الله خفت من وعيده، إذا عرفت الله طمعت في جنته، إذا عرفت الله أسعدك القرب منه، وإذا ما عرفته، فتاة بغي تسوقك إلى النار وأنت لا تشعر، هلاك الناس الآن بالنساء، بالمال الحرام، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، أما المؤمن:
(( والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله، أو أهلك دونه ))
هذا الثبات على المبدأ، لذلك قال تعالى:
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) ﴾
عاهدنا رسول الله على السمع والطاعة، في المكره والمنشط، في الغنى والفقر، في إقبال الدنيا وإدبارها، المؤمن أخذ قراراً مصيريّاً، وهناك من يعبد الله على حرف، إن أقبلت عليه الدنيا شكر الله، وإن أدبرت أعرض عن الله عز وجل.
كلما وفَّى الإنسان بما عاهد الله عليه كان عند الله مقرباً :
أيها الإخوة الكرام، أردت أن أقف وقفة متأنية عند موضوع الميثاق، أنت مرتبط مع الله بآلاف المواثيق، والمواثيق مع خالق الأكوان، الميثاق ليس مع واحد من بني البشر، مع خالق البشر، فكلما وفيت بما عاهدت الله عليه كنت عند الله مقرباً، لذلك ألا تهز مشاعرك هذه الآية؟
﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) ﴾
وفَّى كل مواثيقه، ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾
﴿ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ﴾
لا تكن مع الأكثرية الفاسقة كن مع القلة التي وفت بما عاهدت عليه الله عز وجل.
النبي لا ينطق عن الهوى وما من شيء يرقى بالإنسان كأن ينطق بالحق :
الآن مقام النبوة أنه:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) ﴾
أحياناً ينطق الإنسان عن الهوى، أي ينطق بحسب مصلحته، يُقيِّم الشيء تبعاً لمصلحته، يمدحه أحياناً، ويذمه أحياناً أخرى، لكن المؤمن ينطق بالحق، بينما النبي عليه الصلاة والسلام: ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴾
أروي طرفة، مرة أردت أن أشتري ستائر، دُللت على إنسان تاجر في أحد أسواق دمشق، فقبل أن أختار أحد أنواع القماش تكلم بمحاضرة، قال لي: الستارة كلما كانت عريضة أكثر، ثم انثنت على بعضها كانت أجمل، والله كلام طيب، قال لي: ضع دائماً ضعف عرض الغرفة زائد متر، قاعدة، عندك جدار أربعة أمتار لا بد من ثمانية أمتار زائد متر أي تسعة أمتار، قلت له: غرفتي بالبيت ثلاثة أمتار، قال لي: جيد إذاً نريد سبعة أمتار، اخترت ثوباً، قاسَ عوض السبعة أمتار خمسة أمتار، وأنا أعجبني هذا الثوب، قال لي: يا أستاذ، المطرز على الفرد يكون أجمل، معنى ذلك نطق عن الهوى.
ثلاثة أرباع كلام الناس ينطق عن الهوى، تقول له: انصحني، فينصحك بالبضاعة الكاسدة التي عنده، إذا كان وكيل شركة يمدحها مدحاً غير طبيعي، إذا سحبوا منه الوكالة يذمها في اليوم الثاني، يقول لك: هذه سيئة جداً، تسعون بالمئة من كلام الناس ينطقون عن الهوى، عن مصالحهم، وهذا يحدث في الخطبة أحياناً، يخطب إنسان من بيت يصبح ملاكاً، تقياً، نقياً، ورعاً، فهيماً، ذكياً، تحدث مشكلة، يترك الخطبة، يصبح سيئاً، مريضاً، يصاب بالصرع، يتكلمون عنه كلمات منها الصحيح ومنها ما هو غير صحيح، معظم الناس ينطقون عن الهوى، لكن المؤمن ينطق بالحق، لكنه غير معصوم، أما النبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى، يتكلم الحقيقة، وما من شيء يرقى بالإنسان كأن ينطق بالحق، لذلك ببعض الأحاديث:
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرني ربي بتسع : خشية الله في السر والعلانية ، وكلمة العدل في الغضب والرضى ، والقصد في الفقر والغنى ، وأن أصل من قطعني ، وأعطي من حرمني ، وأعفو عمن ظلمني ، وأن يكون صمتي فكرا ، ونطقي ذكرا ، ونظري عبرة ، وآمر بالعرف وقيل : بالمعروف. ))
الناس تحت سيف المصيبة يلجؤون إلى الله لكن في الرخاء شاردون عن الله :
معظم الناس في المصيبة يلجؤون إلى الله، لكن في الرخاء شاردون عن الله، حدثني أخ من اسطنبول قال لي: والله عقب الزلزال الذي أصاب اسطنبول لم نجد مكاناً بالجوامع ولا بالصحن، الصلوات الخمس، بعدما غاب الزلزال سنة لم نجد صفين بالجوامع، الناس تحت سيف المصيبة يلجؤون إلى الله.
(( أمرني ربي بتسع: خشية الله في السر والعلانية، كلمة العدل في الغضب والرضا، القصد في الفقر والغنى، وأن أصل من قطعني، وأن أعفو عمن ظلمني، وأن أعطي من حرمني، وأن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً، ونظري عبرةً ))
﴿ وَحَسِبُوا ﴾
﴿ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) ﴾
أي كذبوا الأنبياء، هم أبناء الله وأحباؤه.
﴿ وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً
وقالوا:
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ
إذاً لو أنهم قتلوا الأنبياء فالقضية بسيطة جداً، الآن مثل الغربيين:
قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب مسلم مسألة فيها نظر
* * *
المسلم وقاف عند كتاب الله ووقاف عند الأمر والنهي :
قال تعالى: ﴿ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾
الله عز وجل فتح باب التوبة:
قال تعالى: ﴿ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ﴾
التوبة النصوح كما وردت في الكتاب والسُّنة :
قال تعالى:
﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ
(( لله أفرح بتوبة عبده من العقيم الوالد، ومن الضال الواجد، ومن الظمآن الوارد ))
العبد إذا تاب إلى الله توبة نصوحاً أنسى الله حافظيه والملائكة وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه ، إذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ مِنْ رَجُلٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ دَوِيَّةٍ مَهْلَكَةٍ، مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، وَمَا يُصْلِحُهُ، فَأَضَلَّهَا، فَخَرَجَ فِي طَلَبِهَا، حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي الَّذِي أَضْلَلْتُهَا فِيهِ فَأَمُوتُ فِيهِ، فَرَجَعَ إِلَى مَكَانِهِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ، فَاسْتَيْقَظَ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَ رَأْسِهِ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، وَمَا يُصْلِحُهُ ))
﴿ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾
الله عز وجل يسوق للإنسان أحياناً بعض الشدائد ليحمله على التوبة :
هناك توبة تأتي بعد قبول من الله عز وجل، تابوا: ﴿ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾
﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ
لا أمل، أحياناً تجد أن لا أمل، دولة متغطرسة، معها أسلحة فتاكة، معها أسلحة نووية، معها طائرات، معها حاملات طائرات، يمكن أن تقصف أي مكان في العالم بأسلحة لم تستخدم بعد، يمكن أن تُدمَّر القوة البشرية في مدينة، وتبقى المدينة كما هي، ممكن أن تعطل الاتصالات كلها في مدينة، تنشل قوة العدو، فدولة عظيمة، قوية، متغطرسة، جبارة، متكبرة، مستعلية، ليس في قلبها رحمة، تريد أن تبني مجدها على أنقاض الآخرين، لا أمل، لسان حال بعض المسلمين يقول: لا أمل، لا ، ﴿ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾
﴿ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) ﴾
فَشُقَّ لهم البحر طريقاً يبساً، دخلوا فيه وخرجوا من الطرف الآخر، تبعهم فرعون، في منتصف الطريق عاد البحر بحراً فغرق فرعون.
وصف الله تعالى جهل اليهود وبعدهم عن الحقيقة وحبهم للدنيا :
أيها الإخوة، إذاً لأنهم توهموا أنهم أبناء الله وأحباءه، لأنهم توهموا أن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة قالوا: ﴿ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ ۚ
يصف الله جهلهم وبعدهم عن الحقيقة وحبهم للدنيا: ﴿ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين