- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (005)سورة المائدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
البطولة أن تعرف الحقيقة المُرّة وأنت حيّ قبل أن يفوت الأوان :
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثالث والثلاثين من دروس سورة المائدة، ومع الآية الثامنة والستين، وهي قوله تعالى:
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) ﴾
أيها الإخوة الكرام؛ أقول وأكرر: الحقيقة المُرّة أفضل ألف مَرَة من الوهم المريح، الإنسان قد يتوهم أنه على شيء وهو ليس على شيء، قد يتوهم أنه مؤمن وهو في الحقيقة ليس بمؤمن، قد يتوهم أن مصيره إلى الجنة، والحقيقة قد تكون خلاف ذلك، فالبطولة أن تعرف الحقيقة المُرّة وأنت حي قبل أن يفوت الأوان، لأنه أكفر كفار الأرض حينما أدركه الغرق قال:
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
فقال الله له:
﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) ﴾
ينبغي أن تعرف الحقيقة وأنت حي، ينبغي أن تعرف الحقيقة قبل فوات الأوان.
مع الإيمان لك خيار وقت لا خيار قبول أو رفض :
كنت أقول أيها الإخوة؛ إن خيار الإنسان مع آلاف الموضوعات خيار قبول أو رفض، قد ترفض حرفة دخلها قليل، وقد ترفض سفرةً نتائجها هزيلة، وقد ترفض فتاةً لا يعجبك مظهرها، إلا أنك مع الإيمان لك خيار وقت لا خيار قبول أو رفض، فإما أن تؤمن في الوقت المناسب، أو أن إيمانك بعد فوات الأوان لا قيمة له، لأن الذي قال:
﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ (24) ﴾
ولأن الذي قال:
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي
حينما أدركه الغرق قال : ﴿ آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
العبرة أنالإنسان قد يتوهم أنه على شيء وهو عند الله ليس على شيء :
أنا أخاطب المسلمين، قد يتوهم المسلمون أنهم على شيء وهم ليسوا على شيء، قد يتوهم المسلمون أنهم أمة النبي عليه الصلاة والسلام والنبي يوم القيامة سيتبرأ منهم، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ النبي عليه الصلاة والسلام يَقُولُ:
(( أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَمَنْ وَرَدَهُ شَرِبَ مِنْهُ، وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَداً، لَيَرِدُ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، قَالَ: إِنَّهُمْ مِنِّي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقاً، سُحْقاً لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي ))
كلمة شيء في اللغة لا أدري ماذا أقول، لو وجدت في المسجد قشةً طولها نصف ملم، وقطرها عشر ملم، هذه شيء، أي أحقر شيء تتصوره هو الشيء، أقل شيء تفكر فيه هو الشيء، ليس من كلمة في اللغة العربية مدلولها أقل من الشيء، شيء: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ﴾
معية الله لها ثمن والآخرة لها ثمن :
قبل أن أتابع ما بعد حتى ، ﴿ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ﴾
﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ۖ
إذاً معية الله لها ثمن.
﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا
الآخرة لها ثمن.
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا
النسبية مقبولة في كل شيء إلا في الدين :
لقاء الله له ثمن، لكن أيها الإخوة هناك حقيقة دقيقة، النسبية مقبولة في كل شيء إلا في الدين، إذا عملت بالتجارة، وبذلت جهداً بسيطاً تأخذ ربحاً قليلاً، إذا درست، ونلت ابتدائية فأنت بعيد عن الأمية، الشهادة الإعدادية أعلى، الثانوية أعلى، الليسانس أعلى، الماجستير أعلى، الدكتوراه أعلى، ففي العلم نسبي، فلان ثقافته وسط، معلوماته محدودة، فلان حجمه المالي قليل، يوجد أشياء كثيرة نسبية، إلا في الدين:
﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) ﴾
ووضعت مصحفاً في مركبتك، هذا ليس هو الدين، هناك من يتوهم أنك إذا أخذت ببعض ما في الدين تنتقي ما يعجبك، وتدع ما لا يعجبك، تنتقي ما لا يكلفك شيئاً، وتدع ما هو يضعك أمام مسؤوليتك، لذلك هذا الكلام يوجه لأهل الكتاب، ويوجه أيضاً للمسلمين، لأن الأمراض التي وقع بها أهل الكتاب المسلمون مهيئون أن يقعوا فيها نفسها، أو قد وقعوا فيها، الدليل: الله عز وجل أهلك بني إسرائيل لأنهم:
﴿ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ
لسنا على شيء حتى نقيم القرآن الكريم بكل تفاصيله :
الآن في الأوساط الإسلامية قد تأتي ابنة أخيك، وترتدي ثياباً فاضحة، ثياباً تصف معالم جسمها بدقة بالغة، ترحب بها، وتثني على هيأتها، وتسألها: كيف حالها، ولا تفكر أبداً أن توجهها إلى الثياب التي ينبغي أن ترتديها فتاة مسلمة، أليس كذلك؟ ﴿ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾
كذلك الدين، إما أن تأخذ بهذا المنهج بكل تفاصيله، وأنا لا أشدد عليكم، لكنها الحقيقة، والدليل هذا الذي نجده في العالم الإسلامي من قهرٍ، وظلمٍ، وضياعٍ، وتشتتٍ، وتفلتٍ، وتشرذمٍ، وتجزئةٍ، وقهرٍ، لماذا حصل ما حصل؟ لأننا لسنا على شيء، ولو كنا على شيء لعوملنا غير هذه المعاملة من قبل الله عز وجل، لأن الأمر بيد الله، وطنوا أنفسكم على أن تقبلوا الحقيقة المرة، لسنا على شيء حتى نقيم القرآن الكريم بكل تفاصيله، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما إذا استمسكتم بهما: كتاب اللّه القرآن وسنتي ))
أيها الإخوة الكرام؛ وطنوا أنفسكم على أن تقبلوا الحقيقة المرة:
المؤمن يحاسب نفسه حساباً عسيراً في الدنيا حتى يكون حسابه يسيراً يوم القيامة :
المؤمن يحاسب نفسه حساباً عسيراً في الدنيا حتى يكون حسابه يسيراً يوم القيامة، وغير المؤمن يحاسب نفسه حساباً يسيراً في الدنيا، فإذا هو يحاسب حساباً عسيراً يوم القيامة، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، اسأل نفسك كل يوم: هل بيتي إسلامي؟ هل تجارتي إسلامية؟ هل علاقاتي الاجتماعية وفق منهج الله؟ هل تغضب لله؟ هل ترضى لله؟ هل تعطي لله؟ هل تمنع لله؟ هل تتصور أن الله سيحاسبك عن كل حركة وسكنة وكلمة ولفتة وابتسامة وعبوس، أم أن الأمور هكذا كما تتوهم؟
(( ما من عثرة ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم، وما يغفر الله أكثر ))
عود نفسك أن تواجه الحقيقة الصعبة، عود نفسك أن تواجه الحقيقة المرة: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ﴾
ما دامت سنة النبي مطبقةً في علاقاتنا الداخلية والخارجية فنحن في مأمن من عذاب الله:
الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ
كأننا في مأمن أن نعذب، والنبي عليه الصلاة والسلام فينا، كيف يكون النبي عليه الصلاة والسلام فينا؟ طبعاً حينما كان حياً الآية واضحة، ما دام النبي عليه الصلاة والسلام بين ظهرانينا فلن نعذب، ضمن الامتحان، لكن بعد أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى ما معنى الآية؟ أي ما دامت سنته مطبقة في بيوتنا، وفي أفراحنا، وفي أحزاننا، وفي كسب أموالنا وفي إنفاق أموالنا، ما دامت سنته مطبقةً في علاقاتنا الداخلية والخارجية، فنحن في مأمن من عذاب الله، وهناك مأمن آخر ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾
(( كُنْتُ رِدْفَ النبي عليه الصلاة والسلام عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ: عُفَيْرٌ، فَقَالَ: يَا مُعَاذُ هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ـ دققوا في هذه الإجابة ـ قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا ))
أنشأ الله لك حقّاً عليه، أنك إذا أطعته لن يعذبك، فإذا كان المسلمون يعذبون ليلاً ونهاراً، وصباحاً ومساءً، وفي كل أقطارهم، معنى ذلك أن هذه رسالة من الله أن يا أيها المؤمنون غيّروا ما بكم، غيروا ما بأنفسكم حتى أغيّر ما بكم.
﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ
حفظ كتاب الله من لوازمه حفظ سنة النبي عليه الصلاة والسلام :
هذه الشدة التي يتحملها المسلمون في شتى أقطارهم إنما هي رسالة من الله
أيها الإخوة؛ مصيبة المسلمين الكبرى أنهم حينما أضافوا على دينهم ما ليس منه تفرقوا، واقتتلوا، وكان بأسهم بينهم، وحينما حذفوا من الدين ما هو منه ضعفوا، وأصبحوا في مؤخرة الأمم، هذا الدين توقيفي، لا يضاف عليه، لأن الإضافة عليه اتهام له بالنقص، ولا يحذف منه، لأن الحذف منه إتهام له بالزيادة.
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا
لذلك إذا قلنا كلمة تجديد في الدين لا تعني إلا شيئاً واحداً، أن ننزع عن الدين كل ما علق به مما ليس منه، هذا هو التجديد، التجديد في الدين أن تعود إلى ينابيعه الأصيلة، أرأيت إلى نهر بردى، مياه عذبة صافية رقراقة رائعة، يمشي في طريقه إلى دمشق، تأتيه الروافد يمنة ويسرة، في مصبه ماء أسود، أليس كذلك؟ فإذا أردت أن تجدد في هذا الدين فارجع إلى ينابيعه الأصيلة، ارجع إلى الكتاب والسنة، لأن الله جل في علاه تولى حفظهما، وحفظ كتاب الله من لوازمه حفظ سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا الذي تجده في العالم الإسلامي من عناية بنص القرآن تفوق حد الخيال، لأن الله تولى حفظ هذا القرآن بأمر تكويني، بينما كلف الأنبياء السابقين أي يحفظوا كتبهم السماوية بأمر تكليفي، والأمر التكليفي يعصى، بينما الأمر التكويني لا يتبدل، لأنه فعل الله عز وجل.
الدين أن يجدك الله عند الحلال والحرام :
إذاً الحقيقة الأولى في هذا الدرس: يجب أن نخاطب أنفسنا ونحن المعنيون، والقرآن الكريم إذا تحدث عن أهل الكتاب فبأسلوب: إياكِ أعني واسمعي يا جارة، نحن المعنيون بهذه الآية: يا أيها المسلمون: ﴿لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ ﴾
ليس الولي الذي يمشي على وجه الماء، ولا الذي يطير في الهواء، ولكن الولي كل الولي أن يجدك حيث أمرك، وأن يفتقدك حيث نهاك، أن يراك الله في طاعته، وأن يفتقدك في معصيته، هذه الولاية، والولاية في المفهوم القرآني بسيطة جداً:
﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) ﴾
هذه الوَلاية كلها، ولولا أن الولاية في متناول كل إنسان لما كان الحساب عسيراً.
هذا الدين أيها الإخوة مثله مثل الهواء، ينبغي أن يستنشقه كل إنسان، وهناك قاعدة في هذا الدين رائعة: الانتفاع بالشيء ليس أحد فروع العلم به، لمجرد أن تطبق هذا الدين تقطف كل ثماره، إن طبقته عن علم أو عن غير علم، بعمق فلسفي أو بغير عمق، لأن هذا الدين منهج موضوعي، يعطي ثماره لكل من طبقه.
الأدق من ذلك لو جاء كافر، لو جاء ملحد، وطبق المنهج الإلهي في بلده لقطف ثماره، لذلك تعجب أن هذه الدول القوية كل إيجابياتها إسلامية، دون أن يؤمنوا بالله، هم آمنوا بالمال، هم عبدوا المال من دون الله، فطبقوا المنهج الإلهي عن ذكاء لا عن تعبد ، فقطفوا ثماره كلها.
كلما جاءت الآيات الباهرات تؤيد هذا الدين العظيم ازداد الكفار بغضاً وكفراً :
أيها الإخوة؛ هذه الحقيقة الأولى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ ﴾
الآن القسم الآخر في الآية: ﴿ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً ﴾
علاقة الإنسان بالقرآن :
هذه الحقيقة لها ما يقابلها في عالَم الفيزياء مبدأ العطالة، الجسم المتحرك يرفض السكون، والجسم الساكن يرفض الحركة، أي أنت حينما تركب مركبة، ويوقف السائق المركبة فجأةً، الركاب متحركون مع المركبة، يرفضون أن يقفوا، فتكون الحوادث المؤلمة، لذلك صنعوا الحزام، حزام الأمان كي تبقى مرتبطاً بالمركبة إذا وقفت، فالذي يركب مركبةً، وتقف فجأة يندفع نحو الأمام، فقد يموت بفعل الصدمة، فالأجسام المتحركة ترفض السكون، والأجسام الساكنة ترفض الحركة.
فإذا مشى الإنسان في طريق الكفر لا تزيده الأيام إلا كفراً، والذي مشى في طريق الإيمان لا تزيده الأيام إلا إيماناً، فاحرص على أن تكون بين المؤمنين، الإنسان أحياناً يبالغ في العداوة والبغضاء، كلما جاءت آية باهرة ازداد كفراً، وكلما جاء تأييد سماوي ازداد تعنتاً، هكذا قال الله عز وجل، لذلك يقول الله عز وجل عن القرآن:
﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا
ويقول الله عنه:
﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ۗ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى
يقول الله عز وجل موضحاً علاقة الإنسان بالقرآن:
﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) ﴾
القرآن بإعجازه وكماله ووضوحه يزيد الكافر طغياناً وكفراً :
إذا كان الإنسان بعيداً عن الله، غارقاً في الشهوات، منحرفاً، لو قرأ القرآن يزداد بالقرآن بعداً عن الله عز وجل.
﴿ الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) ﴾
﴿ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً﴾
﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) ﴾
فهذا القرآن بإعجازه، بكماله، بوضوحه، يزيد الكافر طغياناً وكفراً: ﴿ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾
هل اعتمر أحدهم، ووقف أمام قبر أبي جهل؟ مستحيل، إياك أن تقف في خندق معارض للحق، لأن المصير في مزبلة التاريخ، أما هؤلاء الذين نصروه في الدنيا كانوا أعلاماً يوم القيامة.
الآية التاليةأصل في حقيقة التدين :
لذلك أنا أقول لكم أيها الإخوة؛ لا تقلق على هذا الدين، إنه دين الله مهما تآمر المتآمرون عليه، مهما ائتمرت قوى البغي على هذا الدين، إنه دين الله، لكن يسمح لهم إلى حين كي يعربوا عن عداوتهم له، سوف يؤلفون لنا فرقاناً، من آيات هذا الفرقان: يا محمد أأنت أضللت عبادي؟ يقول يا ربي أنا ضللت فأضللتهم، هذا يعد لنا ليكون كتابنا المقدس بعد حين، لكن خاب ظنهم، والله طفل من أطفال العالم الإسلامي إذا سمع فقرات من هذا الفرقان الحق لا تستأهل آية منه إلا سخريته فقط.
أيها الإخوة؛ هذا كلام الله، وزوال الكون أهون على الله من أن يبدل أو يغير، ولكن نية الكافر شر من عمله، مهما فعل فهو ينوي أشد مما فعل. يقول الله عز وجل:
إذا تخلى الله عنا لأسباب وجيهة فقد هان أمر الله علينا فهنّا على الله :
قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
الانتماء الشكلي للأديان والتعصب لها يسبب الحروب الطائفية في العالم :
قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
(( عن أبي عوف الأشجعي قال : أَتَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ وهو في قُبَّةٍ مِن أَدَمٍ، فَقالَ: اعْدُدْ سِتًّا بيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ المَقْدِسِ، ثُمَّ مُوْتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الغَنَمِ
وموت ( كعقاص الغنم )
(( والَّذي نَفْسِي بيَدِهِ، لا تَذْهَبُ الدُّنْيا حتَّى يَأْتِيَ علَى النَّاسِ يَوْمٌ لا يَدْرِي القاتِلُ فِيمَ قَتَلَ، ولا المَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ
في تاريخ البشرية القاتل يقتل، أما الآن الحروب الأهلية، خمسمئة ألف إنسان ذبحوا في أيام في رواندا بجنوب إفريقيا، الآن أقل خبر يقول لك: مئتا قتيل ومئة جريح، في جنوب السودان ثلاثمئة ألف شخص على وشك الموت الآن جوعاً وتشرداً.
وصف دقيق لآخر الزمان :
أيها الإخوة ؛ وموت
الدين أداة وحدة لا أداة تفرق :
دققوا: سواء عند الله، انتماء شكلي، انتماء تاريخي، هذا الانتماء الشكلي معه تعصب، والعلاقات مصالح، والمصالح متناقضة، إذاً هناك حروب، تجد أحقاداً بين المسلمين، بينما في غير المسلمين لا يعلمها إلا الله لأن الانتماء شكلي، الدليل:
﴿ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ
الأسير عند المسلمين كان يطعم أطيب الطعام، ويأكل الذي أسره أردأ الطعام، النبي عليه الصلاة والسلام خلع رداءه، وألبسه لأسير، أما في بغداد فيعرى الأسير، ويذل، وتنتهك حرماته، هكذا، فلذلك:
كل يدعي وصل بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا
* * *
كل فئة وكل أتباع دين يتوهمون أن الله لهم وأن الجنة لهم والله بريء منهم جميعاً :
الآن كل إنسان، وكل فئة، وكل طائفة، وكل جماعة، وكل دين، الله لهم والجنة لهم، والله سبحانه وتعالى لا يقرهم على ذلك أبداً.
﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) ﴾
﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) ﴾
كل يدعي وصل بليلى، كل فئة، وكل طائفة، وكل أتباع دين يتوهمون أن الله لهم، وأن الجنة لهم، والله بريء منهم جميعاً ﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ
واقع المسلمين اليوم :
هذه الآية تنطبق أشد الانطباق على المسلمين المعاصرين، وقال المسلمون: نحن أتباع أمة محمد، نحن أتباع سيد الخلق وحبيب الحق، نحن أتباع وحي السماء، يردّ الله علينا: فلمَ أعذبكم بذنوبكم، هل هناك خبر واحد سار من خمسين سنة إلى الآن؟ أبداً، كأن الله تخلى عنا، لكنه وعدنا، وزوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين.
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (59) ﴾
وقد لقينا ذلك الغي، الآن المسلم أو المسلمون فيه تجسيد وصفي، إنسان يضرب ضرباً حتى تكسر كل عظامه، ما اكتفينا، هذا الذي ضربه وقته ثمين، ومصروفه كبير، يحتاج إلى أجرة، لأنه ضربك، يريد أجرة، سيأخذ كل ما تملك أجرة له، لا يكفي، وتريد مدحه أيضاً، تريد أن تُضرَب، وتدفع أجرة، وتمدح، هذا واقع المسلمين اليوم أليس كذلك؟ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾
مقياس الإيمان أن يحملك على طاعة الله :
أنت حينما تؤمن الإيمان الحقيقي الذي يحملك على طاعة الله، مقياس الإيمان أن يحملك على طاعة الله: ﴿ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾
(( من قال : لا إله إلا الله بحقها دخل الجنة ، قيل : وما حقها ؟ قال : أن تحجزه عن محارم الله ))
لذلك: ﴿ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ﴾
حقيقة الدين وفحواه :
لذلك أيها الإخوة ؛ كفى بالمرء علماً أن يطيع الله، وكفى به جهلاً أن يعصيه
آيات قرآنية تبين أن حقيقة الدين أن تؤمن بالله موجوداً وواحداً وكاملاً :
قال تعالى:
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ
﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدً (26) ﴾
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) ﴾
﴿ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾
﴿ يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ
﴿ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ۚ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ
﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتِى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) ﴾
﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) ﴾
الآيات التي قرأناها موجهة إلينا نحن المسلمين :
قال تعالى: ﴿ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾
أيها الإخوة الكرام ؛ الآيات التي قرأناها موجهة إلينا نحن المسلمين، لا تخاطب بها غير المسلمين، هي موجهة إلينا، ولكن من باب إياكِ أعني، واسمعي يا جارة، فنحن كمسلمين، والله لا أبالغ، لسنا على شيء حتى نقيم القرآن الكريم في بيوتنا، وفي أعمالنا، وفي تجارتنا، وفي كسب أموالنا، وفي إنفاق أموالنا، وفي لهونا، وفي أفراحنا، وفي أتراحنا، وفي إقامتنا، وفي سفرنا، فإن لم نفعل فلسنا على شيء، وليس لنا عند الله ولا ميزة، هذه الحقيقة المرة التي أعتقد أنها أفضل ألف مرة من الوهم المريح.
والحمد لله رب العالمين