الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الله تعالى يخفف عن نبيِّه ويسرّي عنه لئلا يتسرَّب إلى نفسه شيء من الضيق:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثلاثين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الخامسة والسبعين وهي قوله تعالى:
﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ لأن الله عزَّ وجل يعلم أن هؤلاء اليهود سيكون لهم مواقف مع المسلمين متعبة ومزعجة في مستقبل الأيام، فالله سبحانه وتعالى يُعزِّي ويُسلِّي ويُسري عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فيقول له: يا محمد لا تطمع بإيمانهم، لأنهم أُنزِل عليهم التوراة، وقرؤوه، وعقلوه، وحرَّفوه، وهم يعلمون ما يترتب على من يُحرِّف كلام الله، فهؤلاء شاردون، هؤلاء بعيدون، لأن الإنسان إذا دعا إلى الله وقابله المدعو بالتكذيب والسخرية والإعراض يتألَّمُ أشدّ الألم، فلئلا يتسرَّب إلى نفس النبي عليه الصلاة والسلام شيءٌ من الضيق أو من الإحباط، الله عزَّ وجل يخفف عن نبيِّه، ويسرّي عنه، ويجعله يطمئن إلى أن المدعو إذا لم يؤمن، وإذا لم يستجب، وإذا لم يلتزم فهذا لا يعبِّر عن عدم صدق الداعية، لأن الله عزَّ وجل ما كلَّفه أن يحملهم على الإيمان.
الله تعالى ما كلَّف نبيه الكريم أن يحمل الناس على الإيمان بل أن يبلغهم فقط:
قال تعالى:
﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)﴾
لست عليهم بحفيظ:
﴿ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)﴾
لست عليهم بوكيل:
﴿ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)﴾
وقال:
﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22)﴾
وقال:
﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)﴾
النبي عليه الصلاة والسلام عليه البلاغ، أما هذا الإنسان يستجيب أو لا يستجيب، لا يستجيب لجهله، أو لا يستجيب لخبثه، أو لاحتياله هذا شيءٌ آخر.
الدقة العلمية في القرآن الكريم:
الله عزَّ وجل كأنه يُطمئن المسلمين إلى آخر الزمان أن هؤلاء اليهود متعبون، وأنهم مُشاكسون، وأنهم يُزوِّرون الكُتُبَ المقدسة، وأنهم يردون دعوة أنبيائهم، وأنهم قتلوا أنبياءهم بغير حق، وأنهم مجرمون فلا تبتئسوا أيها المؤمنون لمواقفهم، هم من نوعٍ خاص، ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ أي هل تنتظر من إنسان مجرم أن يكون رحيماً؟ حينما يقتل وحينما يسفك الدم كيف تنتظر منه أن يكون رحيماً؟
فيا أيها الإخوة؛ لأن الله عزَّ وجل يعلم ما سيكون، يعلم من معاناة المسلمين من هؤلاء الذين اتّخذوا العنصرية منهجاً لهم، وأرادوا أن يعيشوا على أنقاض شعوب العالم، وأرادوا أن يبنوا مجدَهم على سلامة هؤلاء الشعوب، لذلك ربنا عزَّ وجل يُبَيِّن ويقول: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ هل تطمع من إنسان قاطع طريق أن يرحم الناس؟! تطمع من إنسان يحارب العلم أن يتعلم؟! تطمع من إنسان يحارب العمل الصالح أن يكون صالحاً: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ .
أيها الإخوة؛ في القرآن موضوعيةٌ مذهلة، أليس من اليهود من آمن برسول الله وكانت تفيض عينه خُشوعاً؟ عبد الله بن سلام آمن برسول الله، لولا كلمة منهم ما الذي يحصل؟ إنسان من اليهود قرأ في التوراة أوصاف النبي وهو ينتظر مجيئه، فلما بعثه الله عزَّ وجل بادر إلى الإيمان به، وإلى نصرته، وكان من أقرب أصحابه إليه، لولا كلمة ﴿مِنْهُمْ﴾ هذا يُحدث ارتباكاً عند هذا اليهودي، ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ هذه الدقة العلمية في القرآن الكريم:
﴿ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا(36)﴾
النسبية في القرآن الكريم:
هناك من يتوهَّم أن هناك أبيض وأسود، ولكن هناك آلاف الألوان الرمادية بين الأبيض والأسود، أي هناك شيء نسبي، وهل النسبية في القرآن الكريم؟ دقق:
﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)﴾
الموقع نسبي، قال تعالى:
﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)﴾
هؤلاء الروم أهل الكتاب، ولكن عقيدتهم لا تلتقي مع عقيدة المسلمين، تلتقي معها في بعض الجوانب، إذاً هؤلاء المؤمنون يتمنَّون أن ينتصر أهل الكتاب على الوثنيين، إذاً لعل أهل الكتاب أقرب إلى المؤمنين من الوثنيين، الذي يؤمن أن لهذا الكون خالقاً ولكن له شريك هذا أفضل من الذي يقول: ليس لهذا الكون خالقٌ إطلاقاً، معنى ذلك الألوان متعددة، وما بين الأبيض والأسود ملايين الألوان الرمادية، والإنسان كلما كان دقيقاً كلما أتى حُكْمُهُ موضوعياً، فكلمة ﴿مِنْهُمْ﴾ لو لم تكن هذه الكلمة وهي ثلاثة حروف، لو لم تكن هذه الكلمة في هذه الآية وقرأ الآية عبد الله بن سلام، بماذا يشعر؟ قال: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ دائماً لا تُعَمِّم، التعميم من العمى.
على الإنسان ألا يعمم أو يطلق الأحكام القطعية بل يجب أن يكون موضوعياً في أحكامه:
كل إنسان يقول لك: هلك الناس؟ لا، بعض الناس لم يهلكوا، أو يقول: الناس لا يوجد فيهم خير، لا: الخير فيّ وفي أمتي إلى يوم القيامة.
(( عن ابن عمر رضي الله عنه: أمتي كالمطر لا يُدْرَى أوله خير أم آخره. ))
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ ـ قَالَ أَبُو إِسْحَقَ: لا أَدْرِي أَهْلَكَهُمْ بِالنَّصْبِ أَوْ أَهْلَكُهُمْ بِالرَّفْعِ. ))
هو الذي وصفهم بالهلاك وهم ليسوا كذلك، إيَّاكَ أن تعمم، إياك أن تطلق الأحكام القَطْعِيَّة، كن موضوعياً في أحكامك، الله عزَّ وجل قال على فرعون:
﴿ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى (25)﴾
قد يقول قائل: لِمَ لَمْ يقل الله عزَّ وجل: فأخذه الله نكال الأولى والآخرة، هذا هو الترتيب المنطقي؟ لماذا قدّم الآخرة على الأولى؟ لأن فرعون قال في الآخرة:
﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى(24)﴾
جازماً، وفي الأولى قال:
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)﴾
يوجد تَحَفُّظ، أي بحسب علمي ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ فالله عزَّ وجل بدأ بالآخرة لأنها أشدّ كفراً وأشدّ عتواً، فكلمة: ﴿أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى﴾ غير ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ فأنت دائماً وأبداً حينما تُطْلِق الأحكام، هناك من يقول: هؤلاء ليس فيهم خير، هؤلاء القوم مجرمون، هذه أحكامٌ مُضْحِكَة، التعميم من العمى، لا يُطلق الأحكام المُطْلَقَةَ على الناس، وعلى البُلدان، وعلى الشعوب، وعلى الأمم، وعلى الأقاليم، وعلى الأعصار، وعلى الأمصار إلا جاهل.
الله عزَّ وجل يُسَلِّي نبيه ويخفف عنه من شدة تكذيب اليهود له:
بالمناسبة، الدين كالهواء للإنسان، هل يستطيع أحد أن يحتكر الهواء؟ لا أمة، ولا شعب، ولا عَصر، ولا مِصر، ولا إقليم، ولا جماعة، ولا طائفة، ولا فئة، ولا مذهب، أبداً، هذا الدين دين الله، لا يستطيع أحد أن يحتكره، فإيَّاك والأحكام المُطلقة، إياك والأحكام العنيفة، إياك والأحكام الحادَّة، إياك أن تُطْلِقَ الحكم دون تحفظ، والآية الكريمة: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ فريقٌ منهم (من) للتبعيض، أي بعضهم، وبعضهم الآخر آمنوا برسول الله، وكانوا من أقرب الناس إليه، وكانوا من أرقى أصحابه، وعلى رأسهم عبد الله بن سلام، إذاً: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾ دائماً الإنسان الخبيث حينما لا يستطيع رَدَّ النص يُحرّفه، القرآن قطعي الثبوت، لا يستطيع أحدٌ أن يقول: هذه ليست آية في كتاب الله، لذلك هؤلاء كما قال عليه الصلاة والسلام كأن الله عزَّ وجل يُسَلِّي نبيه، يخفف عن نبيه من شدة تكذيب اليهود له قال: يا محمد لا تحزن عليهم، لا تبالي بتكذيبهم، عليك البلاغ وعلينا الحساب.
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)﴾
هم أتعبوا نبيَّهم، وكذبوا أنبياءهم، وقتلوا أنبياءهم، وفعلوا كل شيء.
القرآن قطعي الثبوت والحديث ظني الثبوت:
الآن كما قلت لكم في كل درسٍ في هذه السورة: إن الأمراض التي وقع بها اليهود نحن مرشَّحون أن نقع بها، هم بدَّلوا وغيّروا، ونحن معنا كتاب قطعي الثبوت، الحديث ظني الثبوت، فهناك من يردُّ حديثاً لا ينسجم مع هوى نفسه، لكن هذا المنحرف، هذا المبتدع لا يستطيع أن يرد آيةً، ماذا يفعل؟ يأتي إلى تأويلها، ما دامت آيات القرآن الكريم كلها قطعية الثبوت فلا سبيل إلى تكذيب آيةٍ منها، والقرآن كله قطعي الثبوت، إذاً هناك من يلجأ إلى اللعب بالتأويل فيؤول، فإذا أراد أن يبيح لنفسه الربا قال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)﴾
يقول: إن الله نهانا عن أكل الربا أضعافاً مضاعفة، ولم ينهنا عن أكله بنسبٍ ضئيلة، أليس هذا تحريفاً لكلام الله؟ لو سألت عالم الأصول لقال لك: إن هذا قيداً وصفياً وليس قيداً احترازياً، هذه قضية دقيقة بالتفسير، مثلاً هناك أوضح من ذلك:
﴿ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)﴾
لو أن الفتاة لم ترد التحصن هل يباح للأب أن يُكرهها على الزنا؟ مستحيل وألف مستحيل، ما معنى هذه الآية؟ أي: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ﴾ اللاتي من شأنهن أن يُردن التحصُّن والزواج، العلماء قالوا: هذا قيد وصفي وليس قيداً احترازياً.
مشكلة لَيِّ أعناق النصوص وقع بها المسلمون إلى درجة أنك لا تجد شيئاً حراماً:
إذاً كلمة: ﴿أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً﴾ هذا قيد وصفي، أي من شأن الربا أنه أضعاف مضاعفة، مثلاً يقول لك: لا يوجد آية تحرم الخمر، أعوذ بالله، لا يوجد إن الخمر حرام، أو محرمةٌ عليكم، لا، يوجد: ﴿فاجتنبوه﴾ الاجتناب أشدّ أنواع التحريم، لأنه لو أن الله عزَّ وجل حرم علينا الخمر لكان من الممكن أن نتاجر بها، حرم علينا شربها، أما حينما أمرنا أن نجتنبها، لذلك أمرنا أن نبتعد عن بيعها، وعن شرائها، وعن حملها، وعن نقلها، وعن عصرها، وعن كل شيءٍ يتصل بها، فآية الاجتناب أبلغ من آية التحريم، إذاً يلوون أعناق النصوص، يقول لك: الخمر ليست محرمة.
﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)﴾
فُهِمَت هذه الآية على غير ما أراد الله عزَّ وجل، هذا من لَيّ أعناق النصوص، ومن تحريف الكَلِمِ عن مواضعه.
﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)﴾
لا يُصلون، لأن الله لم يُمكنهم في الأرض، كلامٌ مضحك، لَيّ أعناق النصوص، هذه مشكلة التبديل والتغيير، والتزوير والتحوير، وهذا وقع به المسلمون إلى درجة أنك لا تجد شيئاً حراماً في النهاية، يقول لك: الفائدة ليست حراماً، هذه عائدة وليست فائدة، تضع المال في مصرف ربوي، وتتلقى فائدة ربوية، والوصف أنها عائدة وليست فائدة، أليس هذا تزويراً لكلام الله عزَّ وجل؟ ألم يقل الله عزَّ وجل:
﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)﴾
لأن كل معصيةٍ لها مستوى، الذي يشرب الخمر يضرّ نفسه، والذي يزني يؤذي معه فتاةً، والذي يأكل الربا يُسْهِمُ في انهيار مجتمعٍ بأكمله، لأن هذه الكتلة النقدية في الأصل ينبغي أن تكون بين أيدي الناس جميعاً، موزعة بين كل الناس، فبأيَّة طريقةٍ إذا اجتمعت في أيدٍ قليلة وحُرِمَت منها الكثرة الكثيرة كانت الكوارث، والحروب، والمنازعات، والشقاء البشري، ثلاثة أرباع موارد الأرض، الخمس قارَّات، الثروات الباطنية، كل ما في الأرض من ثروات يملكها عشرون بالمئة من سكان العالم، ثلاثة أرباع ما في الأرض يملكها عشرون بالمئة من سكان العالم، لذلك تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً فيأتي أخي عيسى فيملؤها قسطاً وعدلاً.
تحريم ربنا الربا ليضمن أن يعيش الناس جميعاً في سعةٍ وأمنٍ وبحبوحة:
أيها الإخوة؛ من أجل أن تبقى هذه الكتلة النقدية بين أيدي الناس جميعاً حرَّم الشرع أن يَلِدَ المالُ المال، المال يَلِد بالأعمال، فإذا حصرنا كسب المال بالأعمال توازنت الأمور، ووزعت هذه الكتلة النقدية بين أيدي الجميع، بين أيدي كل من يعمل، أما إذا استطاع أحدنا بماله فقط أن ينمِّيه نماءً فاحشاً من دون عمل عن طريق الربا ما الذي يحصل؟ تتجمع الأموال كلها في أيدٍ قليلة وتُحرم منها الكثرة الكثيرة، لذلك أكثر الثورات والحروب العالمية وراء سوء توزيع الثروة، طبعاً هذا شيء ثابت، فلما حَرَّمَ ربنا الربا حرمه ليضمن أن يعيش الناس جميعاً في سعةٍ وفي أمنٍ وفي بحبوحة، فهذا الذي يُبَدِّلَ ويغيِّر: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾ إلى أن تصل إلى درجة أن لكل معصيةٍ فتوى أبداً، الغناء، والرقص، والتمثيل، كل معصية لها فتوى، ما هذا الدين المرن؟ صار غازاً، الدين غاز، في أي مكان يدخل، ينبغي أن تقول: أنا مسلم فقط، افعل ما تشاء، لك أن تكسب المال الحرام، ولك أن تضع الأموال في المصارف الربوية، ولك أن تلتقي مع من تشاء، إذا وصل الدين إلى هذا المستوى انتهى الدين، الدين منهج، الدين صُلب لا يسيخ ولا يتبخَّر، فلذلك النقطة الدقيقة أنه حينما يريد أناسٌ من أعداء الدين أن يضعضعوا قيمة الدين، ومعهم كتاب قطعي الثبوت ماذا يفعلون؟ يبدلون في التأويلات، أي يأتون بتأويلات ما أنزل الله بها من سلطان، يقول لك أحدهم الذي يدافع عن سفور النساء لماذا يوجد آية غض البصر؟ والله استنباط لا يخطر ببال إنسان، يوجد آية غض البصر معنى هذا أن النساء سافرات كلهن، لو أنهم محجبات لما كان هناك من فائدة من غض البصر، هكذا يفهم الناس النصوص، فحينما يواجهون نصاً قطعي الثبوت، قرآناً قطعي الثبوت، ماذا يفعلون؟ يلوون أعناق النصوص، يحرِّفون، يبدِّلون، يزورون.
الإنسان مُخير بدليل أن أقرب أقرباء النبي لم يؤمن به:
الحقيقة هناك من يُفتي بجهل، هذا إنسان جاهل، ولكن الذي يُفتي بخلاف ما يعلم هذا إنسان يرتكب في الدين جريمةً كبيرة، يفتي بخلاف ما يعلم، يعلم الحكم الشرعي ولكن يغير ويبدل ويلوي أعناق النصوص كي يصل إلى فتوى ما أنزل الله بها من سلطان، لذلك الفتوى جِسْرٌ إلى النار، والإنسان إذا كان جباناً في الفتوى فهو بسبب ورعه وخوفه من الله عزَّ وجل.
النبي عليه الصلاة والسلام يطمع بهداية الناس جميعاً، لأنه حمل هذه الدعوة، وكل داعية صادق يطمع بهداية الناس جميعاً، ويبذل كل ما في وسعه، ولكن حينما يَصُدُّ الناس عن النبي، وحينما لا يستجيب الناس لهذه الدعوة، هذا لا يقدح في نزاهة الداعية، ولا يقدح في إخلاصه، ولا في صدقه، لأن الإنسان مُخير، بدليل أن أقرب أقرباء النبي لم يؤمن به، عمه أبو طالب لم يؤمن به، أبو جهل، أبو لهب، أعمامه لم يؤمنوا به:
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1)مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2)﴾
من هنا قال عليه الصلاة والسلام:
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) قَالَ: (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا-اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. ))
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه. ))
[ صحيح ابن حبان أخرجه في صحيحه ]
لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم.
إنك لا تستطيع هداية من أحببت كما أنك لا تُسأل عن ذلك:
لو وقفنا وقفةً متأنيةً عند كلمة: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ الإنسان متى يطمع؟ حينما تتطلع إلى ما لا تملك، حينما تتطلع إلى ما لم تُكلَّف، حينما تتطلع إلى ما ليس في مقدورك، فأنت بهذا تطمع، أحياناً الإنسان الذي تقدمت به السن يطمع أن يكون شاباً، لكن هذا مستحيل، عقارب الزمن لا ترجع إلى الوراء، الفقير يطمع أن يكون غنياً، إلا أن الإنسان إذا أراد أن يوسِّع حركته في الدنيا، فبذل جهداً كبيراً كي يوسِّع هذه الحركة هذا لا يطمع، أما حينما يبني رفاهه ورَغَدَ عيشه على حركة الآخرين، على جهدهم، على كسبهم، على كد يمينهم، وعرق جبينهم هذا ظالمٌ لنفسه، أنت إذا بذلت جهداً كبيراً وحصَّلت دخلاً واستمتعت به لك حساب آخر من نوع ثان، أنك ضيَّعْتَ الوقت فيما لم تُخْلق له، أما حينما تريد أن تعيش حياةً ناعمةً رغيدةً على حساب الآخرين هذا ليس من حقك، هذا أصل الطمع، أن تتطلع إلى ما ليس لك، أن تَتطلع إلى ما لم تُكلف به، أن تتطلع إلى ما يفوق قدراتك، هذا أصل الطمع، لو وقفنا عند أصله بشكل موضوعي، أنت حينما تتطلع إلى ما لا تملك، أو إلى ما ليس لك، أو إلى ما لا تقدر عليه، فأنت وقعت في الطمع والطمع ليس خلقاً محموداً، أما في الهداية فهذا موضوع ثان، المؤمن يطمع بهداية الناس جميعاً مع أنه لم يُكَلَّف بذلك:
﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)﴾
﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)﴾
إنك لا تستطيع هداية من أحببت كما لا تُسأل عن ذلك، لا تستطيع ولا تُسأل، فحينما طمع النبي بهداية كل الخلق، بهداية المشركين، وبهداية أهل الكتاب هذا من كماله، ومن رحمته، ومن قربه من الله عزَّ وجل، ولكن حينما أعرض عنه اليهود ولم يستجيبوا، وبدلوا، وزوّروا، وكذبوا، هؤلاء ليس عليه المسؤولية ولم يُكَلف بما لا يطيق.
الكافر واضح والمؤمن واضح أما المنافق فمخيف:
أيها الإخوة؛ ثم يقول الله عزَّ وجل بعد أن قال:
﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)﴾
إخواننا الكرام؛ المؤمن انسجم مع فطرته، وانسجم مع الكون، في الكون حقيقة كُبرى هي الله، فالمؤمن انسجم مع نفسه، مع فطرته، ومع حقيقة الكون الأولى، الكافر انسجم مع نفسه، ولم ينسجم مع حقيقة الكون الأولى، أما المنافق لم ينسجم لا مع نفسه ولا مع حقيقة الكون الأولى، المؤمن انسجم مع نفسه وفطرته ومع حقيقة الكون الأولى، مع الله، والكافر انسجم مع نفسه، ولم ينسجم مع حقيقة الكون، أما المنافق يقول بما لا يؤمن، ويؤمن بما لا يقول، لا مع نفسه كان صادقاً، ولا مع الحقيقة العظمى في الكون كان صادقاً، لذلك:
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)﴾
الدليل: الكافر واضح، والمؤمن واضح، أما المنافق مخيف، له ظاهر وله باطن، له كلام يعلنه وله معانٍ يُبَطِّنُهَا، له موقف مع المؤمنين، يقول لك: أعطه جمله، يسايره، وله موقف مع الكفار والمُلحدين.
معرفة اليهود للنبي كمعرفة الإنسان لابنه ومع ذلك كابروا وأنكروا رسالته:
لذلك: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا﴾ اليهود عندهم في توراتهم أوصاف النبي كاملةً، وكانوا يتحدَّوْنَ العرب بهذه الأوصاف، سيأتي نبي منكم ونحن سنكون أول من يؤمن به، فلما حَدَّثَ هؤلاء اليهود بعضهم بعضاً: ﴿قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ كأن الله عزَّ وجل لا يعلم، لأن الله عز وجل قال بالمناسبة يمكن لا يوجد معرفة بالأرض أقوى ولا أرسخ ولا أثبت ولا أوضح ولا أسهل من معرفة الأب لابنه، هل سمعتم في كل حياتكم أن أباً قال لابنه: ما اسمك أنت يا بني؟ مستحيل، مستحيل، قال:
﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)﴾
معرفة اليهود للنبي كمعرفة الإنسان لابنه، ومع ذلك ركبوا رؤوسهم وكابروا وأنكروا رسالته، فلذلك: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ .
وصف الله عز وجل المنافقين في عدة آيات:
أيها الإخوة؛ هؤلاء اليهود منافقون، وشأن المنافق أنه ليس مع المؤمنين، وليس مع الكافرين، حالة نادرة، لا ينسجم لا مع نفسه ولا مع الحقيقة، لذلك وصفهم الله عزَّ وجل بآيات أخرى قال:
﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)﴾
وقال:
﴿ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)﴾
وقال:
﴿ وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ(61)﴾
المناظرة الرائعة التي عرضها الله عزَّ وجل لنا في القرآن الكريم:
طبعاً هنا: ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ الحُجَّة: المناظرة، والله عزَّ وجل عرض لنا بالقرآن الكريم مناظرة رائعة، قال:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)﴾
عنده جنود، أمر جندياً أن يقتل رجلاً، ثم أمره أن يَكُفَّ عن قتله، قال: إن شئت قتلته –أمته-وإن شئت عفوت عنه –أحييته-أنا أحيي وأميت، إذا كنت تَدَّعي أن الله يحيي ويميت أنا أحيي وأميت، هذا النمرود، الله علمنا فن الحوار، وفن المناظرة، صار هناك تأويلات، هو أوَّل الحياة بأنها عفو، وأَوَّلَ الموت بأنه إعدام، مع أن الموت ليس إعداماً:
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)﴾
قال: المتأوّلان لا يتفقان إلى يوم القيامة.
تتمة المناظرة كما عرضها القرآن:
إذا أردت أن تناظر إنساناً وكل إنسان يفهم النص كما يحلو له فالطريق مسدود، فسيدنا إبراهيم وجد أن هذا الطريق مسدود، قال: ﴿رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ هذا الطريق لأنه صار هناك تأويل، القصد بالحياة منح الحياة، والموت إنهاء الحياة، النمرود فهم الحياة العفو والموت القتل، تركه في هذا الطريق المسدود وسلك طريقاً آخر: ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ﴾ قال: ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ .
لا يمكن لإنسان أن يقلب الحق إلى باطل بكلمة:
هؤلاء اليهود قالوا: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ أي أنتم تعطون للعرب حججاً: ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ﴾ يوم القيامة ﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ أنتم تقدمون أوصاف النبي كما جاءت في توراتكم، صار معهم حجة، وكأن الله لا علاقة له بهذا الموضوع إطلاقاً، أرأيتم إلى إيمانهم؟ القضية أنه إذا كان ذكر هذا الشيء وهذا ما يقع به المسلمون أحياناً، ممكن إنسان بكلمة أن يقلب الحق إلى باطل؟ مستحيل، لو قلنا: عوائد فوائد، بَدَّلنا كلمة فوائد بكلمة عوائد فهل ألغي الربا؟ إذا تكلمنا كلمة التغى الزنا؟ إذا قلنا لمرة واحدة: أجرة، مُتْعَة، فهل صار بذلك الزنا مباحاً؟ هل من الممكن أن تنقلب الأمور بكلمة أو بحرف؟ مستحيل، فلذلك ربنا عزَّ وجل قال: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ .
الآن اسمع الآية الكريمة:
﴿ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ(77)﴾
أرأيت إلى ضعف الإيمان، كأن الله في السماء لا يرى شيئاً في الأرض، قضية معك حجة، لا يوجد معي حجة، بلغته أم لم تبلغه، شيء مضحك، كثيراً ما تجد في الفتاوى أشياء مضحكة جداً، كأن يقول لك: بكم سعر هذا الشيء؟ يقول لك: بألف نقداً، وبألف وخمسمئة تقسيطاً، صار هناك مشكلة، يقول له: بألف نقداً، ماذا طبخت اليوم؟ يقول له: فاصولياء، وألف وخمسمئة تقسيطاً، ما دام هناك فاصولياء بين السعرين لم يبق هناك أي مشكلة، والله شيء مضحك، هذا نفسه يقع عندنا، دخلت كلمة غريبة، صار هناك مجلسان، أُلغيت الحُرْمَة.
أغلب ما فعله اليهود نفعله نحن اليوم:
قديماً كان يضع زكاة ماله برغيف خبز ويهبها للفقير، ثم يقول للفقير: بعني هذا الرغيف بخمس ليرات؟ ويكون في داخل رغيف الخبز خمسة آلاف ليرة، أعطى رغيف الخبز للفقير، دفع زكاة ماله، استرده بخمس ليرات، وكأن الله لا يعلم أبداً، اليهود فعلوا هذا أيضاً:
﴿ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)﴾
فَجَمَّعوا الحيتان يوم السبت وصادوها يوم الأحد، نحن لم نعمل شيئاً، والمسلمون وقعوا في حِيَلٍ شرعيةٍ لا تقل عن هذا، يجب أن يجلس مع زوجة أخيه، القضية سهلة، يحضر طفلة صغيرة عمرها سنة ترضعها زوجة أخيه، أصبحت أمها، يعقد عقده على هذه الطفلة، أصبحت زوجة أخيه حماته على التأبيد، يطلقها فيستطيع بذلك أن يجلس مع زوجة أخيه، انتهت العملية، فلذلك الإسلام عظمته أكثر أنواع هذه الفتاوى سببها: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ .
من ضعف الإيمان أن يظن الإنسان أن الحيل الشرعية مقبولة عند الله تعالى:
من ضعف إيمانهم يظنون أنهم يأتون بحيلٍ شرعيةٍ مقبولةٍ عند الله عزَّ وجل، قبل أن يحول الحول على المليون يدفعه عربوناً لأيّ بيت، بعد ذلك يلغي العقد، التغى الحول، استرد المليون، أو يريد ألا يورِّط أحداً يكتب سندَ دينٍ وهمي بخمسة ملايين فصار الميت مديوناً، كل شيء نقدي انتهى، أو يطلِّق زوجته على فراش الموت حتى ينتهي، ويتخلص من ميراثها، هناك آلاف آلاف الفتاوى كلها باطلة، كلها أساسها أن الذي يفعل هذا لا يعلم أن الله يعلم، يظنه لا يعلم: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ .
وفي درسٍ آخر نتابع هذه الآيات، وهي قوله تعالى:
﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ(79)﴾
الملف مدقق