الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
لا تحتمل طبيعة الإنسان أن ترى الله عز وجل في الدنيا:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السادس والعشرين من دروس تفسير سورة البقرة، ومع الآية الخامسة والخمسين وهي قوله تعالى:
﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)﴾
قال المفسِّرون: هؤلاء السبعون الذين اختارهم موسى معه في المناجاة حينما رأوا بعض المعجزات طلبوا من موسى عليه السلام أن يروا الله جهرةً، والشيء الثابت هو أن الله سبحانه وتعالى هذه سُنَنه لا تدركه الأبصار في الدنيا، في الدنيا لا يستطيع الإنسان أن يرى الله جهرةً، ما رآه لا رسولٌ، ولا نبي جهرة، ولا صدِّيقٌ، ولا ولي، لأن طاقة الإنسان لا تحتمل رؤية الله عزَّ وجل، عندما قال سيدنا موسى:
﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)﴾
إذا كان تجلِّي الله عزَّ وجل للجبل جعله دكَّاً فهل يحتمل الإنسان؟ لا تحتمل طبيعة الإنسان أن ترى الله، لكن في الآخرة:
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾
(( عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ: أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا. ))
وهناك أحاديث كثيرة جداً عن أن الإنسان إذا رأى الله عزَّ وجل يوم القيامة وهو في الجنة يبقى في نشوة الرؤية خمسين ألف عام.
زيادة على الجنَّة يسمح الله تعالى للمؤمنين يوم القيامة أن يروا وجهه الكريم:
رؤية وجه الله الكريم هي المعنيَّة بقوله تعالى :
﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)﴾
زيادة على الجنَّة يسمح الله لهم أن يروا وجهه الكريم، فعند أهل السنَّة والجماعة لا يُرى الله جلّ جلاله في الدنيا ؛ ولكن النصوص الثابتة، وعلى رأسها القرآن، ومن بعدها السُّنة تؤكِّد أن المؤمن يرى ربَّه جهاراً وعياناً يوم القيامة كما يرى الإنسان البدر في الدنيا ولكن يوم القيامة، والجزاء الذي ينتظر المؤمن يفوق حدَّ الخيال:
﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)﴾
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ذُخْرًا بَلْهَ مَا أُطْلِعْتُمْ عَلَيْهِ» ثمَّ قَرَأَ {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . ))
﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ يروي بعض المفسِّرين أنَّهم صعقوا، ولكن الله امتنَّ عليهم أنه أحياهم من جديد بعد أن صعقوا ليتابعوا مسيرتهم مع سيدنا موسى.
الإنسان يرى في الدنيا آثار اسم الجَميل في مخلوقاته:
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)﴾
لو أردنا أن نتوسَّع قليلاً، الاتصال بالله عزَّ وجل هو قمَّة السعادة في الدنيا، ولكنه اتصال على نحوٍ أراده الله، اتصال إقبال، اتصال توجُّه، اتصال مناجاة، اتصال استغفار، اتصال استعانة، اتصال إنابة، اتصال دعاء، هذا الاتصال المسموح في الدنيا، ولكن يوم القيامة هناك اتصال مباشر، هناك رؤية، فإذا كنت تستمتع أيها الأخ الكريم في الدنيا برؤية جبلٍ أخضر فيه مَسْحَةٌ من جمال الله، أو رؤية جنَّةٍ خضراء، أو رؤية بحرٍ ساكن بزرقةٍ تُحَيِّر الألباب، أو رؤية وجه طفلٍ صبوح فيه من الجاذبيَّة والتألُّق ما لا يوصَف، هذه كلُّها مخلوقاتٌ أخذت من جمال الله مَسَحات، فكيف لو أتيح للإنسان المؤمن يوم القيامة أن يرى أصل الجمال؟ أنت حينما ترى آثار اسم الجَميل في مخلوقاته، ألم تر إلى باقة وردٍ ألوان، تناسب ألوان، روائح شذيَّة، الأزهار تمثِّل جانباً من جمال الله، الوجوه الصَبوحة تمثِّل مظهراً من جمال الله عزَّ وجل، هذا الجمال الذي أودعه الله في الدنيا لحكمةٍ تربويَّة، لأنه إذا حدَّثنا عن جمال الآخرة وعن الجنَّات التي تجري من تحتها الأنهار، وعن الحور العين، والأولاد المُخَلَّدين، وعن الطعام الطيِّب، وعن الفواكه التي بين أيديهم، وعن هذا اللقاء الطيِّب بين المؤمنين على سررٍ متقابلين، وعن رؤية وجه الله الكريم، إذا حدَّثنا ربنا عن هذا الجمال، وعن هذا الكمال، وعن هذا النعيم المُقيم في الجنَّة، فلأن الإنسان عنده بعض المرتكزات في الدنيا، ولولا هذه المرتكزات الجماليَّة في الدنيا لما فهم الإنسان معنى الجمال، ما فَهِم الإنسان معنى جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهار، فالجمال في الدنيا جمال ابتلاء، إنسان يعطيه الله جمالاً، يعطيه جمالاً أقل، أقل وأقل، يعطيه دمامة أحياناً، لكن الدنيا دار ابتلاء، قد تجد إنساناً في قمِّة الصلة بالله وليس له وجهٌ صَبوح، هذا شيء موجود، قد تجد إنساناً في أعلى درجة من الكمال وليس له شكلٌ يلفت النظر.
الجمال في الدنيا موزَّع توزيع ابتلاء:
تروي كتب التاريخ عن أحد التابعين الكبار الأحنف بن قيس أنه كان قصير القامة، أسمر اللون، غائر العَيْنَين، ناتئ الوجنتين، أحنف الرجل، مائل الذقن، ليس شيءٌ من قبح المَنْظَر إلا هو آخذٌ منه بنصيب، وكان مع ذلك سيد قومه، إذا غضبَ غضب لغضبته مئة ألف سيف لا يسألونه فيمَ غضب؟
الجمال في الدنيا موزَّع توزيع ابتلاء، فقد تجد امرأةً صالحةً مؤمنةً تقيَّةً طاهرةً عفيفةً بوضع جمالي دون الوَسَط، وقد تجد هذه المرأة في الجنَّة في أعلى عليين، هذه نقطة مهمَّة جداً أن الله سبحانه وتعالى وزَّع الحظوظ في الدنيا توزيع ابتلاء، والدنيا مؤقَّتة، وسوف توزَّع هذه الحظوظ في الآخرة توزيع جزاء، دقِّق في قوله تعالى:
﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)﴾
إنسان يعمل أستاذاً في الجامعة وإنسان يعمل أستاذاً في التعليم الابتدائي في قرية، مسافةٌ كبيرةٌ جداً بين الوظيفتين، إنسان يعمل رئيس أركان الجيش وجندي في خدمةٍ إلزاميَّةٍ في مكانٍ صعبٍ باردٍ موحش، طبيب جرَّاح وممرِّض ناشئ مثلاً، مدير مؤسَّسة وحاجب، رئيس غرفة تجارة وبائع متجوِّل: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ لكن: ﴿وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾ .
الحظوظ موزَّعة توزيع ابتلاء والعبرة أن تنجح في مادَّة امتحانك مع الله:
مرتبة الدنيا لا تعني شيئاً وقد تعني العكس، لأن المترفين في ثماني آيات كُفَّار، أُترفوا، كفروا:
﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)﴾
فالدنيا لها وضع خاص، قد تجد:
(( عن أبي هريرة: كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ. ))
وقال:
﴿ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)﴾
الدنيا دار ابتلاء ليست دار استقرار، ليست دار جزاء، فالحظوظ موزَّعة توزيع ابتلاء، هناك غني وهناك فقير، وهناك جميل وهناك دميم، وهناك ذكي وهناك أقل ذكاء، وهناك صحيح وهناك مريض، هذه الحظوظ موزَّعة توزيع ابتلاء، العبرة أن تنجح في مادَّة امتحانك مع الله، هذه هي العبرة.
مادَّة امتحانك مع الله ما أنت فيه من إيجابيَّات ومن حظوظ مُنِحْتَ إيَّاها أو حُرِمْتَ منها:
الفتاة التي وهبها الله مسحةً من الجمال، نجاحها في أن تكون لزوجها فقط، وأن تكون متواضعةً لزوجها، وأن تكون ذات تَبَعُّلٍ جيدٍ لزوجها وأولادها، أما قد تُمنح المرأة بعض الجمال فتتطلع إلى عملٍ في الحقل الفني كي يستمتع بجمالها كل الناس هكذا، هذه رسبت وتلك نجحت، وقد تكون امرأةٌ ذات جمالٍ متوسِّط، أو أقلَّ من وسط؛ لكنَّها صائمةٌ مصليَّةٌ، تائبةٌ عابدةٌ، راكعةٌ ساجدةٌ، تُحسن تبعُّل زوجها وأولادها، نجحت في امتحان الجمال المتوسِّط، هذا من حيث الجمال .
من حيث المال، الغني له امتحان مع الله والفقير له امتحان، والقوي له امتحان والضعيف له امتحان، والصحيح له امتحان والمريض له امتحان، ما أنت فيه مادَّة امتحانك مع الله، ما أنت فيه من إيجابيَّات، من حظوظ مُنِحْتَ إيَّاها مادَّة امتحانك مع الله، وما حُرِمْتَ منه مادَّة امتحانك مع الله:
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)﴾
حقيقة الحياة الدنيا أن الدنيا دار ابتلاء لا دار استواء، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء، الرخاء مؤقَّت والشقاء مؤقَّت.
الغفلة وطول الأمل من أشدِّ الأمراض خطورةً على المؤمن:
قد تصل إلى أعلى منصب في العالَم، وتستمتع به أشدَّ الاستمتاع، الدنيا كلُّها بين يديك، كل مالها، ونسائها، وطعامها، وشرابها، وقصورها، ومُتَعِها بين يديك، وقد تأتي ساعةٌ تخفق جميع العمليَّات ولابد من لقاء الله عزَّ وجل، فبمَ تلقى الله عزَّ وجل؟
(( أَتيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأُبايِعَهُ على الإسلامِ، فاشْتَرَطَ عَلَيَّ: تَشهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللهُ وأنَّ مُحمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، وتُصلِّي الخَمْسَ، وتَصومُ رمضانَ، وتُؤدِّي الزَّكاةَ، وتَحُجُّ البيتَ، وتُجاهِدُ في سبيلِ اللهِ، قالَ: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أمَّا اثنتانِ فلا أُطيقُهُما؛ أمَّا الزَّكاةُ فمالي إلَّا عَشْرُ ذَوْدٍ ، هُنَّ رُسُلُ أَهْلي وحَمولَتُهُم، وأمَّا الجهادُ فيَزعُمونَ أنَّه مَنْ وَلَّى؛ فقد باءَ بغضبٍ مِنَ اللهِ، فأَخافُ إذا حَضَرَني قتالٌ كَرِهْتُ الموتَ، وخَشَعَتْ نَفْسي، قالَ: فقَبَضَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يدَهُ، ثُمَّ حَرَّكَها، ثُمَّ قالَ: لا صَدَقَةَ ولا جهادَ، فبِمَ تَدخُلُ الجنَّةَ؟ قالَ: ثُمَّ قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أُبايعُكَ، فبايَعَني عليْهِنَّ كُلِّهنَّ. ))
[ ابن الخصاصية: الحاكم : المستدرك على الصحيحين: خلاصة حكم المحدث : صحيح الإسناد ]
هذا الموت الذي قُهِرَ الإنسان به، سبحان من قهر عباده بالموت، كل مخلوقٍ يموت ؛ صحيح مريض، قوي ضعيف، ملك نبي، مُجرم، فقير غني، كل مخلوقٍ يموت ولا يبقى إلا ذو العزَّة والجبروت، و:
والليل مهما طال فلابد من طلوع الفجر والعمر مهما طال فلابد من نزول القبر
[ صالح بن محمد بن عبد الله ]
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول
فإذا حملت إلى القبــور جنــازة فاعـلم بأنـك بعدهـا محمـول
أيها الإخوة؛ كلام دقيق، الإنسان حينما يُدْهَش، أو حينما يندم يكون قد استعمل عقله استعمالاً غير صحيح، الموت مفاجأة؟ أبداً، الموت مصير كل حي، ما الفرق بين المؤمن وغير المؤمن؟ المؤمن يستعدُّ له طوال حياته، طوال حياته يستعد له فإذا جاء الموت لا يُفاجأ، ولا يندم على ما فعل، يقول سيدنا علي : "والله لو علمت أن غداً أجلي ما قدرت أن أزيد في عملي"، وصل إلى أعلى درجة، فأنت حينما تفاجأ بشيء، أو حينما تندم على شيء، معنى ذلك أن العقل لم يستعمل بشكل جيِّد، أهل الدنيا في غفلة، أكبر مرض يُصيب الناس الغفلة عن الله، يعيش وقته، مال الناس إلى الشهوات يميل معهم، مال الناس إلى متعٍ رخيصة يميل معهم، وضعوا الصحون يضعها، ألبسوا نساءهم هذه الأزياء يفعل كما يفعلون، هذا الإنسان الذي يعيش لحظته بلا تفكير، ويغفل عن هذه الساعة التي لابد منها عن ساعة المصير هذا إنسانٌ أحمق، إنسان غافل:
﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)﴾
الغفلة وطول الأمل من أشدِّ الأمراض خطورةً على المؤمن.
النعمة الأولى التي أنعم الله بها على بني إسرائيل أنه بعثهم من بعد موتهم:
إذاً وصلنا في موضوع الحظوظ إلى أنها موزَّعةٌ في الدنيا توزيع ابتلاء، وسوف تُوزَّع في الآخرة توزيع جزاء.
﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)﴾
يُعدد الله عزَّ وجل على بني إسرائيل النعَمَ التي أنعم بها عليهم، من هذه النعَم؛ النعمة الأولى في هذا الدرس طبعاً أنه بعثهم من بعد موتهم، كل إنسان إذا أخطأ رحمة الله تَسَع خطأه، الله تعالى لا يُدمِّر من أول خطأ، لا يُهلك من أول خطأ، يعفو.
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾
الإنسان قد لا يغفر، قد يُخطئ الإنسان مع ملك فيقطع رأسه، هذا شأن ملوك الأرض، ولكن شأن ملك الملوك ليس كذلك:
﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)﴾
﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ يُروى أن رجلاً سيق إلى سيدنا عمر متلبّساً بسرقة فقال: "والله يا أمير المؤمنين إنها أول مرَّةٍ أفعلها في حياتي"، قال له: "كذبت إن الله لا يفضح من أول مرَّة"، فكانت المرَّة الثامنة، فالله عزَّ وجل يعطي مهلة، هناك خطأ، هناك معصية، هناك تقصير يعطي مهلة إلى أن يُصِر على ذنبه .
ربنا عفوّ كريم يعفو ويسامح ولكن حينما يصرُّ العبد على خطئه يأتي الردُّ الإلهي:
حدَّثني رجل قال لي: لي أبٌ باعه طويل في تجارة المواشي والأغنام، والسمن والصوف، فلمَّا أراد أن يتقاعد من عمله باختياره وكَّلني أن أكون مكانه في هذا العمل، قال لي: أنا شاب جاهل، ركبت السيارة، وذهبت إلى البادية لأشتري الصوف، ومعي ميزان ضخم، فأردت أن أحتال على هذا الإنسان البدوي الساذج، كان كلَّما وزن جَزَة يقول له رقماً فيه كسور، ثلاثة وعشرون كيلو وثمانمئة غرام، طرب هذا البدوي لهذا الوزن الدقيق علماً أنه حذف عشرة كيلو، طرب هذا البدوي لهذا الوزن الدقيق، لكنه شعر بِحِسِّه العام عندما انتهى الوزن أن هذه الكميَّة مثلاً ثمنها أربعون ألفاً، أعطاه ثمنها خمسة وعشرين ألفاً، فقال له باللغة البدوية: "ترى برقبتك إذا لعبت عليَّ"، قال لي: أنا بعدما غادرت هذا المكان شعرت بخوف، بخطأ، هل أرجع لأطلب السماح منه، أمضي، ماذا أفعل؟ قال لي: بقيت في صراع مع نفسي من مكان شراء الصوف إلى مكان بعد الضمير تقريباً، قال لي: قلت في نفسي، خاطر داخلي، بالتعبير الدارج: "حط بالخرج"، قال لي: ما أتممت هذا الخاطر إلا رأيت نفسي وسط بركةٍ من الدماء، انقلبت السيارة، وتناثرت البضاعة، وسال السمن من أوعيته، وأنا وسط الدماء، هذا معنى قوله تعالى:
﴿ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)﴾
ما دام الإنسان بين الخوف والرجاء، والاستغفار والتردُّد، هناك بحبوحة، أما إذا اتخذ قراراً قطعياً يأتي الرد الإلهي.
المعنى الذي نستنبطه من هذا أن ربنا عزَّ وجل عفوّ كريم، يعفو ويسامح، ويعطي فرصة للاستغفار، ولكن حينما يُصرُّ العبد على خطئه يأتي الردُّ الإلهي، هذا معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ .
إذا قننّ الله لا عن عجز ولا عن تعذيب ولا عن بُخل ولكن عن تأديب فقط:
من النعَم التي امتنَّ الله بها على بني إسرائيل:
﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)﴾
يوجد شمس بالصحراء لا تُحتمل، غيمة واحدة كانت تسير معهم أينما ساروا، يقال أحياناً: "إذا أحبَّ الله قوماً أمطرهم ليلاً وأطلع عليهم الشمس نهاراً" ، تأتي أحياناً نسمات لطيفة في الصيف تلغي مكيِّفات ثمنها ألف مليون يقول: كم متراً غرفتك؟ أنت تحسبها، يقول لك: إذاً تحتاج لاثنين طن، تأتي نسمات لطيفة من الله عزَّ وجل تلغي عمل المُكَيِّفات كلها، أحياناً نستورد أعلافاً بألوف الملايين، موسم مطير واحد يُغني عن كل هذا الاستيراد، قد نستورد بألوف الملايين قمحاً لنأكله، موسم مطير واحد يُغني عن كل هذا الاستيراد، الله إذا أعطى أدهش.
كلام دقيق جداً، إذا قننّ الله لا عن عجز، ولا عن تعذيب، ولا عن بُخل؛ ولكن عن تأديب فقط:
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)﴾
هو الله عزَّ وجل، هذا أول درس .
من نعم الله أن تجد الهواء تستنشقه والماء العذب الفرات تشربه:
الدرس الثاني:
﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)﴾
أي أن تجد الهواء تستنشقه، أن تجد الهواء غير الملوَّث تستنشقه، وأن تجد الماء العَذْبَ الفُرات تشربه، استوردت دولة مجاورة ماءً من العدو، فباعها ماء المجاري الماء المالح، وحدثت تسمُّمات، وامتلأت المستشفيات بالمصابين، وبيعت قارورة الماء بمئةٍ وخمسين ليرة، أنت حينما تفتح الصنبور في البيت، وتشرب كأس ماء صافٍ، هذه نعمةٌ لا تُقدَّر بثمن، لكن الإنسان لا يعبأ بالشيء المتوافر، يوجد ماء، يوجد هواء، معك قوت يومك.
نعمة الهدى والصحَّة والكفاية هذه نعمٌ إذا توافرت فقد حيزت لك الدنيا بحذافيرها:
إخواننا الكرام؛ كلمةٌ من القلب: حينما يمتنُّ الله على الإنسان بالهدى، هو يعبد الله، ويعرف أن هناك جنَّةً، وأن هناك ناراً، وأن هناك حساباً، وأن الإنسان هو المخلوق الأول، حينما يعرف ربَّه، ويعرف نفسه، ويعرف سرَّ وجوده، وغاية وجوده، ويمتِّعه الله بصحَّة، إذا إنسان يملك البلاد كلها، وأصابه مرض عُضال يتمنَّى أن يعود مواطناً عادياً بأجر زهيد على أن يعافى من المرض، أليس كذلك؟ فكل إنسان معافى هذه نعمةٌ لا تقدَّر بثمن، فنعمة الهدى، ونعمة الصحَّة، ونعمة الكفاية، هذه نعمٌ إذا توافرت فقد حيزت لك الدنيا بحذافيرها.
هناك كلمة لا أنساها: ملك اسمه إبراهيم بن الأدهم، كان ملكاً، فترك الملك زُهداً به وصار عارفاً بالله، لأنه كان ملكاً وصار عارفاً بالله أنا أصدِّقه وَحْدَهُ، قال: "لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسيوف" ، لأنه يعرف ما هم عليه الملوك، كان ملكاً وصار عارفاً بالله، أي إنسان مؤمن يعرف الله، يعرف منهجه، يعرف أن الله قد وعده الجنَّة، يعرف ما يجب وما لا يجب، ما ينبغي وما لا ينبغي، ما يجوز وما لا يجوز، مُنضبط، وَقَّافٌ عند حدود الله، له عملٌ طيِّب، أجرى الله عزَّ وجل على يده عملاً طيباً، هذا الإنسان أسعد أهل الدنيا؛ ولو كان في التعتيم، ولو كان في الظلال، ولو لم يعرفه أحد إذا دخل إلى مجلس، هؤلاء الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يُفتقدوا، وإذا حضروا لم يعرفوا، أتقياء أخفياء هم عند الله في أعلى مرتبة.
النعمة الثانية التي أنعم الله بها على بني إسرائيل أنه ظلّل عليهم الغمام:
امتن الله عزَّ وجل على بني إسرائيل بأن ظلّل عليهم الغمام: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ المعنى: هذه النعَم التي أنعم الله بها عليهم، المَن والسلوى طعام نفيس جداً، طعام نفيس امتنَّ الله به على بني إسرائيل، وظلّل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى: ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ إذا استمتع الإنسان بهذه النعم دون أن يشكر الله عليها لا يُعدُّ ظالماً لله ولكن هو يظلم نفسه، قس على ذلك، أي إنسان الله أعطاه، تمتَّع بهذا العطاء، تمتَّع بصحَّة، تمتَّع بمال، تمتَّع بزوجة، تمتَّع بأولاد، تمتَّع بكل شيء، عدَّ نفسه شاطراً وذكياً أنه هو وصل إلى شيء نفيس في الحياة ونسي الله، أكبر ظالم لنفسه لأنه لم يشكر، النبي عليه الصلاة والسلام كانت تَعْظُم عنده النعمة مهما دقَّت، إذا شرب كأس ماء، إذا أفرغ هذا الكأس، الطرق كلها سالكة، والأجهزة تعمل بانتظام، هذه نعمةٌ لا تقدَّر بثمن، إذا أكل هذه نعمةٌ لا تقدر بثمن، إذا خرج هذا الطعام نعمةٌ لا تقدَّر بثمن، إذا كانت الأجهزة تعمل بانتظام نعمة لا تقدر بثمن: ﴿وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ .
لا يوجد في الدنيا حرمان ولكن يوجد تنظيم:
لا زالت النعَم تترا على بني إسرائيل:
﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)﴾
متواضعون، باب بيت المَقْدِس، ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾ أي يا رب اغفر لنا ذنوبنا، حُطَّ عنَّا خطايانا، ﴿نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾ للمذنبين، ﴿وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ إحساناً، أي كُلْ واشرب، وتزوَّج، وأسِّس عملاً، ونَل شهادة عُليا، وأنجب أولاداً وربِّهِم، افعل ما تشاء من المباحات على شرط أن تعبد الله، أن تقف عند حدوده، أن تأتمر بأمره، أن تنتهي عما عنه نهاك، أن تحبَّ الله ورسوله، لا يوجد في الدنيا حرمان ولكن يوجد تنظيم، كل الشهوات التي أودعها الله بالإنسان لها قنوات نظيفة، أية شهوةٍ أُودِعَت في الإنسان لها قناةٌ نظيفةٌ تسري خلالها، فأنت حينما تعرف الله تفعل كل شيء لكن وَفْقَ منهج الله.
المؤمن يتبع هوى نفسه وفق منهج الله أما الكافر فيتبع هوى نفسه بغير هدى من الله:
الكافر يتبع هوى نفسه من غير هدىً من الله، أما المؤمن فهو يتبع هوى نفسه وفق منهج الله، إذاً الشهوات التي أودعها الله في الإنسان لها قنوات نظيفة: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ القرية هي بيت المقدس في أرجح الأقوال: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً﴾ خضوعاً لله، عندما فتح النبي الكريم مكَّة المكرَّمة دخلها خافض الرأس، حتى كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره تواضعاً لله عزَّ وجل: ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾ أي يا رب حُطَّ عنا ذنوبنا، ﴿نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾ للمذنبين، ﴿وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ .
ما أكثر من يُبَدِّل في القرآن قولاً غير الذي قاله الله عزَّ وجل:
﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)﴾
عندما يصير الدين شكلاً، فُولكلوراً، تقاليد، رقصاً، دوراناً وله ثوب كبير، أو غناء، أو طرباً، أو احتفالات، أو إلقاء كلمات، أو مؤتمرات لكن لا يُطَبَّق المنهج الإلهي، إذا أصبح الدين كذلك فهذه أمَّةٌ تودِّعَ منها: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ أهكذا ذَكَرَ أصحاب رسول الله ربَّهم وهم يرقصون؟ أهكذا كانت ثيابهم؟ أفَعَلوا هذا تطبيقاً لمنهج الله عزَّ وجل؟ ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ تكاد تجد أكثر المعاصي مُغَطَّاة بفتاوى، لم يبق شيء بالدين، بقي فقط فولكلوراً، تُراثاً، يقول لك: التراث الإسلامي، الدين أي أقواس، تيجان، زخرفة إسلاميَّة، لوحات إسلاميَّة، قرآن مُزَخرف، مسجد مزخرف، شكل لكن لا يوجد مضمون، لا يوجد منهج مُطبَّق، المنهج غربي، التقاليد والعادات كلها غربيَّة؛ في الطعام والشراب، والاختلاط، والفنون، والغناء، والأفلام، كله غربي، لا يوجد شيء إسلامي إلا المسجد والزخارف وبعض الثياب، هذا لا يجوز: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ وما أكثر من يُبَدِّل في القرآن قولاً غير الذي قاله الله عزَّ وجل.
الدين لا يقبل الزيادة لأن أية زيادةٍ فيه تُعدّ اتهاماً له بالنقص:
قال تعالى:
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)﴾
الدين لا يقبل الزيادة لأن أية زيادةٍ فيه تُعدّ اتهاماً له بالنقص، والدين لا يقبل الحذف أيُّ حذفٍ منه اتهامٌ له بالزيادة، هو دين الله عزَّ وجل، كمال مُطْلَق:
﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)﴾
أنا أقول لكم كلمة: والله الذي لا إله إلا هو لو خرج أهل بلدةٍ إلى مكانٍ فسيح متذلِّلين، خاضعين، يسألون الله السقْيَا، والله الذي لا إله إلا هو من الثابت أن الله يُمْطِرهم مطراً يملأ آبارهم، ليُعرّفهم ربُّهم أن الذي تدعونه بيده المطر، وهذا الشيء يحصل في العالم الإسلامي، صلاة الاستسقاء عبادة ولكنها لا تنجح بشكل فردي إلا أن تكون جماعيَّةً، يجب أن يخلع الناس كِبْرَهُم، يخلعوا عنجهيَّتهم، أن يخضعوا لله عزَّ وجل، أن يسألوه السقيا، فإذا سألوه السقيا بتواضعٍ وتذلُّل وتَخَشُّع أمدَّهم الله بالأمطار الغزيرة التي تملأ آبارهم، وتحيي أراضيهم، وتنقذ نباتاتهم من الجفاف.
عندما يستهدف الإنسان الدنيا وليس له رسالة في الحياة يملُّ كل شيء:
﴿ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)﴾
كُلْ واشرب من غير كِبْر، من دون آثام، تزوج من دون اختلاط، تزوج وحجِّب زوجتك، اجعل القرآن في بيتك، افعل الطاعات، الذي حصل:
﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)﴾
أفخر أنواع الطعام، توجد هنا لفتة دقيقة جداً، الإنسان إذا استهدف الدنيا يَمَلُّ منها، إذا لم يكن له رسالة، لم يكن له هدف، يعيش ليأكل، ليستمتع، يَملُّ كل شيء، والدليل أن هؤلاء الشاردين في أوروبا وأمريكا هؤلاء ملّوا كل شيء، لذلك انحرافاتٌ خطيرة سببها المَلَل والسأَم، ملوا المرأة فتوجَّهوا إلى الجنس المثلي، مُدن بأكملها، من المدن الجميلة جداً خمسة وسبعون بالمئة من بيوتها شاذون، ذكور ذُكور، إناث إِناث، السبب هو الملل، أنت عندما تستهدف الدنيا وليس لك رسالة في الحياة تملُّ كل شيء، تبحث عن الجديد ولو كان قذراً، تبحث عن التجديد ولو كان انحطاطاً، تبحث عن التغيير ولو كان نحو الأسوأ، هذا شأن الإنسان.
صفات من ضُرِبَت عليهم الذلَّة والمسكنة وباؤوا بغضبٍ من الله:
المؤمن هدفه الله عزَّ وجل، لا يمل النعم التي بين يديه لأنها وسائل وليست غاية، النعم التي بين يديك تملُّها إن أصبحت غايات، وترتاح لها، وتستعين بها، ولا تَمَلُّها إذا جعلتها وسائل، فلذلك المَن والسلوى قال:
﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)﴾
هؤلاء الذين ضُرِبَت عليهم الذلَّة والمسكنة وباؤوا بغضبٍ من الله كيف بهم إذا أصبحوا مستكبرين؟ معنى ذلك أن هؤلاء الذين استكبروا عليهم أقل منهم، هؤلاء الذين ضُرِبَت عليهم الذلَّة والمسكنة وباؤوا بغضبٍ من الله يتجبَّرون على من هم أضعف منهم، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ هذه صفاتهم؛ يعصون الله، يعتدون على حقوق الآخرين، يقتلون الأنبياء بغير حق، طبعاً لا يوجد قتل بالحق، هذا ليس قيداً احترازياً، هذا قيد وصفي، أي دائماً وأبداً الذين يقتلون الأنبياء بغير حق، الأنبياء دعاة إلى الله عزَّ وجل، هذه صفاتهم التي أنبأنا الله بها في القرآن الكريم.
في درسٍ آخر إن شاء الله تعالى ننتقل إلى قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)﴾
الملف مدقق