الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
إذا انحرف المؤمن عن منهج الله يسوق له بعض الشدائد ليعيده إلى الطريق الصحيح:
أيها الإخوة الكِرام؛ مع الدرس الخامس والعشرين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الواحدة والخمسين وهي قوله تعالى:
﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)﴾
وقبل هذه الآية: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ .
أيها الإخوة؛ بشكلٍ مختصرٍ مُرَكَّز خلق الله الإنسان ليسعده في الدنيا والآخرة، فإذا انحرف عن منهج الله تقتضي رحمة الله أن يسوق له بعض الشدائد كي يعيده إليه، هذا كل ما في الأمر:
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)﴾
وقال:
﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)﴾
من أشدّ أنواع القهر أن تُساق المصيبة على يد إنسانٍ مثلك يقهرك:
لذلك العِلاجات التي يسوقها الله عزَّ وجل لعباده مُنَوَّعةٌ وكثيرةٌ، وعلى درجات، وعلى مستويات، لعلَّ من أشدِّها أن يبتليهم الله عزَّ وجل بظالمٍ يُذَبِّح أبناءهم ويستحيي نساءهم يؤكِّد هذا المعنى قوله تعالى:
﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)﴾
الصواعق، والصواريخ: ﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ الزلازل، والألغام، ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ لعلَّ من أشدِّ المصائب أن يَقَهَرَ إنسانٌ إنساناً، قد تأتي المصيبة من الله مباشرةً، تُقبَل بشكلٍ أو بآخر، أما أن تُساق المصيبة على يد إنسانٍ مثلك يقهرك النبي عليه الصلاة والسلام استعاذ بالله من:
(( عن أبي سعيد الخدري: ألا أعلمُكَ كلامًا إذا قلتَه أذهَب اللهُ تعالى همَّكَ وقضى عنكَ دَينَكَ ؟ قُلْ إذا أصبَحتَ وإذا أمسَيتَ ؛ اللهم إني أعوذُ بكَ منَ الهمِّ والحزَنِ، وأعوذُ بكَ منَ العجزِ والكسلِ، وأعوذُ بكَ منَ الجُبنِ والبخلِ ؛ وأعوذُ بكَ مِن غلبةِ الدَّينِ وقهرِ الرجالِ. ))
[ السيوطي : الجامع الصغير: خلاصة حكم المحدث : صحيح ]
ورد عن سيدنا علي: "واللهِ والله مرَّتين لحفر بئرين بإبرتين، وكنس أرض الحجاز في يومٍ عاصفٍ بريشتين، ونقل بحرين زاخرين بمنخلين، وغسل عبدين أسودين حتَّى يصيرا أبيضين، أهون عليَّ من طلب حاجةٍ من لئيمٍ لوفاء دين" ، قيل: "ما الذُل؟، قال: أن يقف الكريم بباب اللئيم ثمَّ يردُّه.
تيمورلنك سُئل مرَّة: "من أنت؟" أجاب إجابة رائعة قال: "أنا غضب الرَّب" .
الأقوياء في الأرض عصيٌّ بيدِ الله ينتقم بهم ثم ينتقم منهم:
حينما يغضب الإنسان يصيح، ويشتم، ويضرب، وينفعل، ويرتجف، ولكن ماذا يفعل الله جلَّ جلاله حينما يغضب؟ يسوق تيمورلنك، يسوق فرعون: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ* وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ .
أنا ملك الملوك، ومالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فإن العباد أطاعوني حوّلت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة، وإن العباد عصوني حوّلت قلوب ملوكهم عليهم بالسخطة والنقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسبّ الملوك، وادعوا لهم بالصلاح فإن صلاحهم بصلاحكم.
الأقوياء في الأرض عصيٌّ بيدِ الله ينتقم بهم ثم ينتقم منهم:
﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)﴾
الظالم قهراً يُسلَّطُ على ظالِمِ نفسِهِ كي يُقوِّمه.
من أشدّ أنواع البلاء أن يُؤَمَّر المترفون ويُمَكَّن الطغاة والظالمون:
قال تعالى:
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)﴾
إذا عصاني من يعرفني سَلَّطت عليه من لا يعرفني:
﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)﴾
وفي قراءة: أمّرنا مترفيها ففسقوا فيها، لعلَّه من أشدِ أنواع البلاء أن يُؤَمَّر المترفون، أن يُمَكَّن الطغاة والظالمون، هذا علاجٌ إلهي وهو من أقسى أنواع العلاج، الطبيب مثلاً يعطي المريض دواء عيار خمسة عشر، يقول له: والله لم أستفد، يقول له: ارفع العيار، يوجد خمسمئة، يوجد ألف، يوجد نصف مليون، يوجد مليون، هذا العذاب الصُّعُد، يعطى المستوى الأعلى والعيار الأشد إذا لم يؤثر المستوى الأقل.
استحق اليهود غضب الله وعقابه لأنهم كانوا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه:
فيا أيُّها الإخوة الكرام؛ يقول الله عزَّ وجل يخاطب بني إسرائيل وقلت لكم كثيراً في مطلع هذه السورة: نحن مُرَشَّحون أن نقع بالأمراض التي وقع بها بنو إسرائيل، وقد يقال: وقد وقعنا بها، استحق اليهود غضب الله وعقابه أنهم كانوا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه،ذا مَرَضٌ خطير يوجب الهلاك، وقد يقع به بعض المسلمين، يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف.
لابدّ من أن يسير الابن على سير أبيه في التفلُّت، وفي الاختلاط، وفي كسب المال الحرام: ((كيف بكم)) .
من أمراض اليهود الذين استحقّوا عليها الهلاك كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.
امرأةٌ سرقت فجاء حِبُّ رسول الله يشفع لها عند رسول الله، فغضب النبي أشدَّ الغضب قال يا أسامة:
(( عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ قُرَيْشًا أهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتي سَرَقَتْ، فَقالوا: ومَن يُكَلِّمُ فِيهَا رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فَقالوا: ومَن يَجْتَرِئُ عليه إلَّا أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قالَ: إنَّما أهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا. ))
إذاً هذه الأمراض التي ذكرها الله في سورة البقرة والتي تلبَّس بها بنو إسرائيل، هذه الأمراض من المحتمل جداً أن نقع بها، وقد وقعنا بها، لذلك يبيِّن الله لنا أمراض من سبقونا في أسلوبٌ تربويٌ رائع، وأنتم أيها المؤمنون يمكن أن تقعوا في هذه الأمراض.
الناس رجلان قويٌّ ونبي فالقوي يملك الرقاب بقوَّته والنبي يملك القلوب بكماله:
﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ بمعنى آل فرعون أي من كان على منهج فرعون، من كان على شاكلة فرعون، ليس معنى آل فرعون أقرباءه، فآل النبي من سار على منهجه، فهل يُعَدُّ أبو لهب من آل النبي؟ لا، هل يعدُّ أبو جهل من آل النبي؟ لا، ولكن يُعَدُّ سلمان الفارسي من آل بيت النبي، ويعدُّ صُهَيْبُ الرومي من آل بيت النبي، ويُعدّ بلال الحبشي من آل بيت النبي، كل من آمن بالنبي، وسار على نهجه، واتبع سنَّته القوليَّة والعمليَّة فهو من آله، وكل من شاكل إنساناً وسار على نهجه فهو من آله.
وكما قلت لكم من قبل: هناك قويٌّ ونبي، فالقوي يملك الرقاب بقوَّته، والنبي يملك القلوب بكماله، وكل الناس تبعٌ إما لقوي أو لنبي، أدنى وظيفة الموظَّف مهما تكن وظيفته متواضعةً بإمكانه أن يفعل شيئاً يُزْعِجُكَ، إذاً هو يستخدم قوَّته، فحينما تملك الرقاب بقوَّتك فأنت من أتباع القوي، وحينما تملك القلوب بكمالك فأنت من أتباع النبي، ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ لذلك:
﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)﴾
أنت لن تنجو من عذاب الله إذا نفذت أمراً لا يُرضي الله وقلت: أنا عبد مأمور، من قال لك ذلك؟ من قال لك: إنك عبدٌ مأمور؟ العبد هو عبد الله فقط، ولا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، أن تقول: أنا عبد مأمور وتفعل بالناس ما تفعل هذا كلامٌ مردودٌ عليك، وله بحثٌ طويل في الفقه، على كل إن لم تكن قانعاً بهذا الذي تفعله اترك هذا العمل.
البطل هو الذي يهيِّئ جواباً لله عزَّ وجل لا لعبد الله:
يقول لك: موظَّف أنا بالتموين ويجب عليَّ أن أكتب باليوم عشرة ضبوطات، لعلَّ هذا الإنسان مظلوم، لا يوجد عبد مأمور، افعل قناعتك وانتظر أن يحاسبك الله عزَّ وجل، البطل الذي يهيِّئ جواباً لله عزَّ وجل لا لعبد الله، لله:
﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)﴾
تقول لي: أنا عبد مأمور، لا، لست عبداً مأموراً، وهذه كذبة تكذبها أنت، الذين هم فوقك لا يُرضيهم أن تفعل ما تفعل، لكن أنت تفعل ما تفعل وتبتز أموال الناس وتقول: أنا عبد مأمور، كلام فارغ، أنت وحدك المسؤول، إذا لم يعجبك العمل فدعه، أما أن تؤذي الناس وتقول: أنا عبد مأمور، لأن الله عزَّ وجل يقول: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ .
﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ هناك إذلال، أي لا يوجد حالة ذلّ أشدّ من أن يُنْتَهَكَ عرض الإنسان أمامه، شيء فوق طاقة البشر.
إيَّاك أن تصل مع الله إلى طريق مسدود فيأتي العقاب الأليم:
﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ﴾ ما قال الله تعالى: ويستحيون فتياتكم، قال: نساءَكم، من أجل المُتْعَة، ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ لذلك الدعاء القرآني :
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾
والله أيُّها الإخوة؛ هناك مصائب لا يحتملها الإنسان، فوق طاقته، لا تعمل عملاً تصل مع الله إلى طريقٍ مسدود، تصوَّر إنساناً وُضِع ليُشْنَقَ أمام مئة ألف إنسان، مجرم ارتكب جريمة قتل، أو ارتكب جريمة زنا وجريمة قتل فاستحقَّ أن يُعْدَم أمام الناس جميعاً، هو وصل لطريق مسدود قبل أن يُوضَع الحبل في رقبته ليُشْنَق، إذا أحبّ أن يصبر فليصبر أو إذا أحبّ ألا يصبر لا يصبر، إذا أحب أن يتوسَّل فليتوسَّل، إذا أحب أن يستعطف فليستعطف، أحب أن يبكي فليبكِ، أحب أن يضحك فليضحك، لكن الطريق صار مسدوداً، إيَّاك أن تصل مع الله إلى طريق مسدود، أن ترتكب جرماً، أن تنتهك عرضاً، أن تأخذ مالاً حراماً فيأتي العقاب الأليم: ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ والعقابات منوعة؛ هناك أمراض عضالة، أنا أُقسم عليكم لو أن إنساناً وصل إلى أعلى درجة في الدنيا وأصابه مرضٌ عضال، وعُرِضَ عليه أن يكون في أقل درجة، وأن يعافى من هذا المرض، هل يتردَّد لحظة في قبول ذلك؟ لو كان ملكاً وأصابه مرض عُضال، عُرِض عليه أن يكون موظَّفاً بسيطاً ضارب آلة كاتبة، هل يتردَّد في قبول هذه الوظيفة المتواضعة جداً على أن يشفى من مرضه؟ لا يتردَّد، فالذي عافاه الله هو في نعمةٍ كبرى، المعافى في نعمةٍ لا تُقدَّر بثمن، قد يصل الإنسان إلى أعلى مرتبة في الحياة ومعه مرض عضال، ماذا يفعل؟ أطبَّاء العالم كلِّهم تحت تصرُّفه وماذا يفعل؟ هذا قهر الله عزَّ وجل.
الإنسان حينما يعرف الله في الوقت المناسب ويستقيم على أمره يحفظه وينصره:
فيا أيُّها الإخوة الكرام؛ ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ هناك أشياء لا تُحتمل، والإنسان حينما يعرف الله في الوقت المناسب، وحينما يستقيم على أمره، وحينما يخافه يرفع الله له ذكره، ويحفظه، وينصره، ويوفِّقه، ويقرِّبه، ويسلِّمه، ويسعده، ويعطيه عطاءً كبيراً، ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ هل تحتمل مرضاً عُضالاً؟ هل تحتمل فقراً مُدقعاً يحملك على أن تُنَقِّب في الحاوية؟ هل تحتمل أن تتخلَّى عنك زوجتك وأولادك؟ أن يلقوك في الطريق؟ هل تحتمل ذلك؟ هل تحتمل أن تكون في غيابة السجن سنوات وسنوات؟ قل: ﴿رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا﴾ فإذا كنت لا تحتمل فاستقم على أمر الله، والمستقيم له معاملة خاصَّة، والمستقيم له حفظ من الله، والمستقيم له توفيق من الله، والمستقيم له هداية من الله عزَّ وجل، والله جلَّ جلاله يَسْلُكُ به سبل السلام، سبل الأمان، سبل السعادة، سبل الرفْعَة، سبل التوفيق.
إذا وجد الإيمان فإن المعركة بين الحق والباطل لا تطول لأن الله مع الحق:
شاهد بنو إسرائيل بأعينهم كيف أن البحر انشقَّ طريقاً يبساً: ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ مُعجزات مُدهشة، صار البحر طريقاً، ﴿فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ الله يتدخل أحياناً، وإذا تدخَّل تنتهي كل مشاكلنا، ولكن أنت اطلب منه موجبات رحمته، يوجد بعض الشواهد في حياتنا، شيء لا يُحتمل صرفه الله عزَّ وجل من عنده، أنا كنت دعوت في خطبة: "اللهمَّ انصرنا على أنفسنا حتى ننتصر لك فنستحقَّ أن تنصرنا على عدوِّنا" .
لأن المعركة بين حقَّين لا تكون، الحق لا يتعدَّد، وبين حقّ وباطل لا تكون لأن الله مع الحق، وبين باطلين لا تنتهي لأن الله تخلَّى عن الطرفين، الأقوى ينتصر، الأذكى ينتصر، الذي عنده سلاح أكثر فاعليَّة ينتصر، الذي عنده معلومات أكثر ينتصر، الذي عنده أقمار ينتصر، الذي عنده رصد ينتصر، الذي عنده ليزر ينتصر، اختلف الوضع، إذا ابتعد الفريقان عن الله عزَّ وجل يكون هناك حديث آخر، هناك حديث الأقوى والأذكى والذي عنده سلاح أكثر جدوى، أما إذا وجد الإيمان فإن المعركة بين حق وباطل لا تطول لأن الله مع الحق.
أغرق الله فرعون ولكنه نَجَّاه ببدنه إلى الشَاطئ لكي يجعله عبرة:
﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ أغرق الله فرعون، لكن نَجَّاه ببدنه إلى الشَاطئ، لأنه لو أغرقه واستقرَّ في أعماق البحر ما صدَّق أحدٌ أنه غرق، لأنه عندهم إله، قال :
﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)﴾
وقال:
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)﴾
ولكنَّ الله أراد أن يجعله عبرةً:
﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)﴾
ما قال الله: لتكون آية لمن حولك، قال:﴿لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾ .
المُعجزات الحِسَّية وحدها لا تكفي ما لم يبحث الإنسان عن الحقيقة:
هناك شخص يقرا القرآن في أمريكا، حديث عهدٍ بالإسلام، يقرأ القرآن متفحِّصاً، فلمَّا وصل لهذه الآية قال: هنا خطأ، كيف يقول الله عزَّ وجل إن كان هذا كلام الله –هكذا يقول-: ﴿لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾ فاتصل بعالم من علماء المسلمين بفرنسا، أجابه: إن فرعون موسى موجود في متحف مصر، نفسه موجود، فرعون الذي غرق في عهد موسى مُحَنَّط، وقد أُخِذَ إلى فرنسا لترميم جثَّته، وعاد، وفي فمه آثار فطور بحريَّة، وفي فمه آثار ملوحة، وكل علامات الغَرَقَ بادية على جسمه، فالآية الكريمة: ﴿لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾ .
﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ* وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ وعد الله عزَّ وجل موسى مع النقباءِ وعلية القوم ليعطيهم المَنْهَج، ماذا فعل قومه في غيبته؟ اتخذوا من الذهب الذي أخذوه من بيوت فرعون عِجْلاً ذهباً وعبدوه من دون الله، ماذا نستنتج؟ هذا الذي رأى البحر أصبح طريقاً يبساً كيف يعبُدُ عجلاً من دون الله؟ نستنبط من هذا أن المُعجزات الحِسَّية وحدها لا تكفي ما لم يبحث الإنسان عن الحقيقة، الكون بما هو عليه من دون خَرْقٍ للعادات يُعَدُّ معجزةً وأيَّةَ معجزة، هذا النظام المستقر، الشمس والقمر، والليل والنهار، المجرَّات، الجبال، السهول، البحار، النباتات، الأطيار، الأسماك، أنواع الخضراوات، المحاصيل، نظام النبات، خَلق الإنسان، هذا كلُّه لم يلفت نظرك، تبحث عن معجزة، تبحث عن خرقٍ للعادات.
أشدّ أنواع الظلم أن تشرك بالله:
هؤلاء الذين رأوا البحر أصبح طريقاً يبساً، حينما نجَّاهم الله عزَّ وجل اتخذوا من الذهب عجلاً له خوارٌ وعبدوه من دون الله: ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾ طبعاً أشدّ أنواع الظُلْمِ أن تعبد غير الله، أشدّ أنواع الظلم أن تشرك بالله، أشدّ أنواع الظلم أن تعبد إلهاً صنعته بيدك، بلاد إلى الآن تدخل إلى معبد بالهند تجد صنماً، ارتفاعه ثلاثون متراً، وأمامه أنواع منوَّعة من الفواكه، تسأل: لمن هذه الفواكه؟ يجيبونك: هو يأكلها في الليل، والحقيقة أن الكُهَّان يأكلونها في الليل، الآن في عصر النور والحضارة كما يدَّعون.
حينما يؤمن الإنسان بالله يكون قد احترم نفسه، الإنسان حينما يكون عاقلاً يوحِّد، يكون قد عرف قيمته كإنسان، يكون قد كرَّم نفسه، طبعاً هذا هو الشرك الجَلِيّ، لكنَّ المسلمين والمؤمنين قد يقعون في شركٍ خفي، حينما يتوهَّمون أن المال يحلَّ كل مشكلة، لا، المال لا يحل مشكلة، إذا تفلتت الخلايا بالنمو، المال لا يحل مشكلة، ولا أن تكون في أعلى درجة في الحياة، لا تحل المشكلة، الله عزَّ وجل هو الفعَّال، هو القهَّار، هو واهب الحياة، هو المُحيي، هو المُميت، هو الحافظ، هو الناصر، هو الموفِّق، هو الرافع، هو الخافض، هو المعطي، هو المانع، هو الرازق، هو المعز، هو المذل.
﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)﴾
حينما تتجه لغير الله أو تعتمد على غير الله فقد وقعت في ظلمٍ شديد.
من الشرك أن تعتمد على شيءٍ آخر غير الله عزَّ وجل:
﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾ تصوَّر إنساناً لديه قضيَّة خطيرة جداً، لو أخذ الموافقة يربح مئات الملايين، هذه الدائرة فيها مدير عام الأمر مُناط به وحده، وفيها موظَّفون، وفيها حُجَّاب، وفيها حارس، فإذا وقف هذا الإنسان الذي معه المعاملة أمام الحارس أو الحاجب وترجَّاه، وتضعضع أمامه، وبذل ماء وجهه، وعلَّق عليه الآمال، ثم خاب ظنُّه به، هذا الشرك، هذا الذي تضعضعت أمامه عبد مثلك، هذا الذي بذلت ماء وجهك أمامه عبدٌ مثلك، هذا الذي توهَّمت أنه يحلُّ هذه المشكلة لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ضراً ولا نفعاً، فإذا كان الله يأمر سيد الخلق أن يقول لقومه:
﴿ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً (21)﴾
سيد الخلق، وفي آية أخرى :
﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)﴾
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) قَالَ: (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا-اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. ))
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه. ))
[ صحيح ابن حبان أخرجه في صحيحه ]
إذاً أشدّ أنواع الظلم أن تعبد إلهاً آخر غير الله عزَّ وجل، أو أن تعتمد على شيءٍ آخر غير الله عزَّ وجل.
ثمَّ يقول الله عزَّ وجل :
﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ صعبٌ جداً أن تتصوَّروا ديناً من دون توبة، أقل ذنب من دون توبة يقودك إلى أكبر ذنب إلى النار، أما مع التوبة فأكبر ذنب يعفو الله عنك:
(( عن أنس بن مالك قال اللهُ تعالى: يا بنَ آدمَ! إِنَّكَ ما دَعَوْتَنِي ورَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لكَ على ما كان فيكَ ولا أُبالِي يا بنَ آدمَ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لكَ ولا أُبالِي، يا بنَ آدمَ! لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خطَايا ثُمَّ لَقِيْتَني لا تُشْرِكْ بِيْ شَيْئَا لأتيْتُكَ بِقِرَابِها مَغْفِرَةً. ))
[ صحيح الترغيب حسن لغيره أخرجه الترمذي ]
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾
وقال:
﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)﴾
هكذا، ﴿ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ﴾ ماذا فعل هؤلاء؟ فعلوا أشدَّ أنواع الذنوب، أشركوا بالله، عبدوا عجلاً من دون الله، صنعوه بأيديهم وعبدوه من دون الله ومع ذلك باب التوبة مفتوحٌ على مِصراعيه، تصوَّر لو لم يكن هناك توبة ليئس الإنسان من أقل ذنب، لو ارتكب الإنسان ذنباً بسيطاً ولا يوجد توبة فسمح لنفسه أن يرتكب ذنباً أكبر، وهكذا إلى أن يفعل كل الذنوب والآثام، وينتهي إلى النار.
الله تعالى رَحِمَ أمَّة محمِّد فجعل توبة المؤمنين لا تقتضي أن يقتل بعضهم بعضاً إذا أذنبوا:
﴿ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)﴾
أيها الإخوة؛ هذا مما حُمِّله بنو إسرائيل لأنهم عبدوا العجل من دون الله، وهذا معنى قول الله عزَّ وجل: ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ أي هؤلاء الذين عبدوا العجل أمر الله الذين لم يعبدوا العجل أن يقتلوهم جزاء ارتكابهم أكبر ذنب في الدين، أن تُشرك، لكن الله عزَّ وجل رَحِمَ أمَّة محمِّد صلى الله عليه وسلَّم فجعل توبة المؤمنين لا تقتضي هذا القتل، يكفي أن تقول: يا رب لقد تبت إليك، يقول لك: عبدي وأنا قد قبلت، هذه رحمةٌ كبيرة، أي كُلِّفوا أن يقتل بعضهم بعضاً، أن يقتل الذين لم يعبدوا العجل أن يقتلوا الذين عبدوا العجل.
إيَّاك أن تعتمد على جهةٍ غير الله فيخيبُ ظنُّك بها وهذا من رحمة الله بالإنسان:
﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ* وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ﴾ أما ما الذي يحصل الآن؟ إذا أشرك الإنسان ماذا يحصل له؟ الله عزَّ وجل يؤدبه بأن يخيِّب ظنَّه بهذا الذي عَبَدَهُ من دون الله، اعتمد على ماله، يسوق الله له مصيبةً لا يحلُّها المال، اعتمد على إنسان قريبه قوي يلهم الله هذا القريب أن يتخلَّى عنه، يقف منه موقفاً لئيماً، هذه معالجة الله، اعتمد على زوجته وظنَّ أنها تُسعده إلى أبد الآبدين، فإذا هي تعامله أسوأ معاملة، اعتمد على ابنه، يسافر لا يرسل رسالة إلا مرَّة كل سنتين، يتجنَّس، يتزوَّج، وينسى أباه، إيَّاك أن تعتمد على جهةٍ غير الله فيخيبُ ظنُّك بها وهذا من رحمة الله بالإنسان، اعتمد على الله، لا على مال، ولا على جاه، ولا على أتباع، ولا على أهل، ولا على زوجة، طبِّق منهج الله واعتمد على الله ولا تعتمد على مخلوقٍ سوى الله فهذا نوعٌ من أنواع الشرك.
كل إنسان خاف الله فيما بينه وبين الله أمَّنه الله فيما بينه وبين الناس:
﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ يقودنا هذا المعنى إلى معنى آخر وهو أن الله جلَّ جلاله يسوق لك أحياناً شدَّةً شديدةً من أجل أن تُرمِّم خللاً خطيراً.
أيُّها الإخوة؛ من نِعَمِ الله الكبرى أن شرعنا الإسلامي لا يقتضي من أجل أن تتوب إلى الله أن تقتُل نفسك، ولا أن تُقتَل، وهذه رحمةٌ بأمة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، ولكن المؤمن العاقل يبتعد عن ذنبٍ خطير، يوجد الحياة الآن عقابات غير القتل، يوجد أمراض عُضالة، يوجد عاهات، يوجد حوادث سير، يوجد فقر مدقع، يوجد تشتيت أسرة، هناك أحياناً ذُل، يوجد أحياناً قَهر، يوجد فقد حُرِّية، عند الله معالجات منوَّعة كثيرة جداً، فالمؤمن العاقل هو الذي يحتاط للأمور قبل وقوعها، ويخاف من الله فيما بينه وبين الله، وكل إنسان خاف الله عز وجل فيما بينه وبين الله أمَّنه الله فيما بينه وبين الناس، هذه قاعدة؛ مستحيل ثم مستحيل ثم مستحيل أن تخاف الله فيما بينك وبينه ثم يُخيفك من أحد، يطمئِنُك.
(( عن أبي هريرة: وعِزَّتِي لا أجمعُ على عَبدي خَوفيْنِ وأَمنيْنِ، إذا خافَني في الدُّنيا أمَّنْتُه يومَ القيامةِ، وإذا أمِنَني في الدُّنيا أَخَفْتُه في الآخِرةِ. ))
[ أخرجه ابن المبارك: صحيح الترغيب : خلاصة حكم المحدث : حسن صحيح ]
هذا كلام دقيق وخطير، وكلام مصيري، ليس الأمر على مستوى أن تقول: والله الدرس ممتع، لا، لا، الأمر أخطر من ذلك، الدرس خطير يتعلَّق بالمصير، المصير الأبدي، وساعة الموت هي ساعة الفصل، وهذه تنتظرنا جميعاً ولا أحد ينجو من هذه الساعة، فبقدر معرفته بالله، وبقدر طاعته، وبقدر إخلاصه، وبقدر عمله الصالح ينجيه الله عزَّ وجل من هذه الساعة العصيبة.
الملف مدقق