الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابه الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
السكينة عطاء إلهي كبير يتمتع به المؤمن :
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثالث والعشرين من دروس سورة التوبة، ومع الآية السادسة والعشرين وهي قوله تعالى:
﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ(26)﴾
أيها الإخوة، لا بدّ من وقفة متأنية عند كلمة سكينة، هذا عطاء إلهي كبير، هذه ميزة يتمتع بها المؤمن، إن الله يعطي الصحة، والذكاء، والمال، والجمال، للكثيرين من خلقه، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين، السكينة نعرف آثارها لكن لا نعرف حقيقتها، حينما يتجلى رب العزة على مؤمن بالسكينة، أو حينما يُنزِل الله بالتعبير القرآني سكينته على رسوله، أو على المؤمنين، أو على مؤمن، هذا عطاء ما بعده عطاء، هذا عطاءٌ أقل ما يوصف به أنك تسعد به ولو لا تملك شيئاً، وتشقى بفقده ولو ملكت كل شيء، هذه السكينة أنزلها الله على قلب نبيه وهو في الغار، وهو مطارَد، ومئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً.
(( يا رسول الله لقد رأونا، فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ))
[ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن أنس بن مالك ]
ما هذه الثقة؟ ما هذه الطمأنينة؟ النبي -عليه الصلاة والسلام- في الهجرة تبعهم سراقة طمعاً بمئة ناقة لمن يأتي بالنبي حياً أو ميتاً، فقال له النبي -عليه الصلاة و السلام-: يا سراقة كيف بك إذا لبست سوار كسرى؟
إنسان مطارد، مهدور دمه، مئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، يقول لسراقة: كيف بك يا سراقة إذا لبست سوار كسرى؟
كأن النبي يقول: أنا سأصل سالماً إلى المدينة، وسأؤسس دولة، وسأبني جيشاً، وسأحارب أكبر دولتين في العالم، وسأنتصر عليهما، ولك يا سراقة سوار كسرى، ما هذه الثقة؟ هكذا ينبغي أن يكون المؤمن، أن يثق بالله، لأن زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين:
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾
من أخلّ بما كلفه الله به من عبادة فالله جلّ جلاله في حلٍّ من وعوده :
لكن: ﴿يَعْبُدُونَنِي﴾ فإذا أخلَّ الطرف الآخر بما كلفه الله به من عبادة فالله -جلّ جلاله- في حلٍّ من وعوده الثلاث، ولا تنسوا أن زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين، لذلك حينما تتنزل السكينة على قلب مؤمن يسعد ولو كان في السجن، سيدنا يوسف أين كان؟ بالسجن، نبيٌ كريم دخل السجن، لكن مع السكينة كأنه في أتمِّ سعادته، سيدنا رسول الله أنزل الله على قلبه السكينة وكان في الغار، أنزل عليه السكينة وكان في طريق الهجرة فلم يتأثر.
الأشياء التي وصف بها الأنبياء والرسل لكل مؤمن منها نصيب بقدر إيمانه وإخلاصه :
وبالمناسبة وهذا أخطر شيء أقوله في هذا اللقاء الطيب: الأشياء التي وُصف بها الأنبياء والرسل لكل مؤمن منها نصيب بقدر إيمانه وإخلاصه، أي الله -عز وجل- حينما يقول للنبي الكريم:
﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4)﴾
هذه للنبي الكريم، ولكل مؤمن صدق مع الله، يرفع الله له ذكره، لذلك أنا أحياناً أجد شاباً مستقيماً يخاف الله، يضبط نفسه، يتبع منهج ربه، أقسم لكم بالله أقول له: لا تخف، أتنبأ لك بمستقبل زاهر، كيف؟ لا أعلم، لكن زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين، الله -عز وجل- وعد المؤمن بحياة طيبة:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾
بأي وضع، بأي بلد، بأي ظرف، بأي بيئة، هذا وعد فوق المكان والزمان، فوق كل المعطيات، فوق كل الأشياء التي توحي بالضعف.
النكبات المتتالية أورثت ثقافة اليأس والإحباط لكن الله أعطانا جرعات منعشة:
لذلك مرة ثالثة: زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين، أحياناً تشيع في حياة المسلمين ثقافة اليأس، أو ثقافة الإحباط، أو ثقافة الطريق المسدود، بسبب النكبات التي تتالت على الأمة الإسلامية في تاريخها الحديث، هذه النكبات المتتالية أورثت ثقافة اليأس والإحباط والطريق المسدود، لكن الله -جلّ جلاله- أنا أقول بالتعبير التالي: أعطانا جرعات منعشة، يعني رابع جيش بالعالم، جيش العدو رابع جيش في العالم، أول جيش في الشرق الأوسط، أول جيش بتنوع الأسلحة، ولم يستطع لاثنين وعشرين يوماً أن يحقق أي هدفٍ من أهدافه حينما اشتبك مع فئة قليلة مؤمنة لا تملك شيئاً، أليست هذه جرعة منعشة؟ نظام عالمي عملاق ينهار، وتعلن عشرات مئات البنوك إفلاسها، لأنها أنظمة قائمة على الربا، أليست هذه جرعة منعشة؟ فالله -عز وجل- رحمة بنا وأشفق علينا من أن نقع في اليأس، والطريق المسدود والإحباط، أعطانا في التاريخ الحديث جرعات منعشة، ثم أنزل الله سكينته، فقد ورد في الأثر القدسي:
(( إن بيوتي في الأرض المساجد ـ هذا بيت الله ـ وإن زوارها هم عمارها، فطوبى لعبدٍ تطهر في بيته ثم زارني، وحُقَّ على المزور أن يكرم الزائر. ))
[ أبو نعيم عن أبي سعيد الخدري ]
بربكم أنتم في بيتٍ من بيوت الله، ما الإكرام الذي تتوقعونه من رب العزة؟ (إن بيوتي في الأرض المساجد، وإن زوارها هم عمارها، فطوبى لعبدٍ تطهر في بيته ثم زارني، وحق على المزور أن يكرم الزائر) .
من ذكر الله أدى واجب العبودية ومن ذكره الله منحه الحكمة و الأمن :
تقول لي: لا يوجد بالمسجد مقعد مريح، الجلوس على الأرض، لا يوجد عصير، ولا شاي، ولا أي ضيافة، فأي إكرام هذا؟ انتظر، ورد في قوله تعالى:
﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)﴾
قال علماء التفسير: ذكر الله أكبر ما في الصلاة، لأن الله -عز وجل- يقول:
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾
هذا تفسير، لكن ابن عباس -رضي الله عنه- له رأي آخر، قال في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ أيها المسلم أنت في الصلاة تذكر الله، لكن ذكر الله لك وأنت في الصلاة تذكره أكبر من ذكرك له، لأنك إن ذكرته أديت واجب العبودية له، لكنه إذا ذكرك وأنت في الصلاة، وأنت في المسجد إذا ذكرك منحك نعمة لا يتمتع بها في الأرض إلا المؤمن، منحك نعمة الأمن، قال تعالى:
﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ۚ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)﴾
المعنى نفسه، جاء بآية أخرى:
﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)﴾
لنا لها معنى، وعلينا لها معنى، لنا خير ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾ بل إن النبي -عليه الصلاة والسلام- في مرض وفاته أعطي دواء ذات الجنب، فغضب وقال: إن هذا المرض ما كان الله ليصيبني به.
الشاب المستقيم لن يضيعه الله أبداً و سيكرمه بالدنيا قبل الآخرة :
وأنا أقول لكم تطبيقاً لهذه الآيات الشاب المستقيم يجب أن يعتقد يقيناً أن الله لن يضيعه، وأن الله سيكرمه بالدنيا قبل الآخرة:
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ(18)﴾
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾
﴿ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾
﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(154)﴾
فأنت أيها الشاب حينما تتوجه إلى الله، حينما تصطلح معه، حينما تتوب إليه، حينما تعاهده على الطاعة، حينما تقوم في خدمة خلقه، إن الله -عز وجل- لن يضيعك، وليس أمامك إلا الخير، هذه الآيات لنا جميعاً ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾ .
الأمن و السلامة :
لذلك هذا الكلام في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ﴾ هذه السكينة تعني الشعور بالقرب من الله، الحياة الطيبة، الثقة بالله، عدم توقع السوء، لأنهم قالوا: توقع المصيبة مصيبة أكبر منها، أنت من خوف الفقر في فقر، ومن خوف المرض في مرض، وتوقع المصيبة مصيبة أكبر منها، نحن عندنا حالة اسمها السلامة، وعندنا حالة اسمها الأمن، الأمن أبلغ من السلامة، لأن السلامة: انطلقت بمركبتك من دمشق إلى حمص في الساعة الخامسة فجراً والعجلة الاحتياط ليست صالحة، تقود المركبة مدة ساعتين وأنت قلق جداً، لأنه إن تعطلت إحدى العجلتين، أو تعطلت عجلة واحدة لن تستطيع متابعة السير، وصلت إلى حمص ولم يقع شيء، تحققت السلامة ولم يتحقق الأمن، الأمن أبلغ من السلامة، لأنك إن توقعت المصيبة فأنت في مصيبة، إن توقعت الفقر فأنت في فقر، إن توقعت المرض فأنت في مرض، هناك أمراض تصيب القلب بسبب توقع إصابته بمرض، أحياناً الخوف من مرض القلب، هذا الخوف يصيب صاحبه بمرض القلب، الناس يعيشون قلقاً كبيراً، نعمة الأمن من حق المؤمن وحده، والشاهد واضح جداً: ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾
لابدّ من أن يجتمع في قلب المؤمن تعظيمٌ لله ومحبة له وخوفٌ منه :
إذاً: إنه إن ذكرك فضلاً عن نعمة الأمن يمنحك نعمة الرضا، أنت راضٍ، راضٍ عن الله.
(( أن يا رب أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك ؟ قال : أحب عبادي إليّ تقي القلب ، نقي اليدين ، لا يمشي إلى أحد بسوء ، أحبني ، وأحب من أحبني ، وحببني إلى خلقي ، قال : يا رب إنك تعلم أني أحبك ، وأحب من يحبك ، فكيف أحببك إلى خلقك ؟ قال : ذكرهم بآلائي ، ونعمائي ، وبلائي ))
[ أخرجه البيهقي في الشعب وابن عساكر عن ابن عباس وفي سنده انقطاع
]
دققوا أيها الدعاة، فكيف أحببك إلى خلقك؟ قال:
(( ذكرهم بآلائي ، ونعمائي ، وبلائي ))
أي ذكرهم بآلائي كي يعظموني، وذكرهم بنعمائي كي يحبوني، وذكرهم ببلائي كي يخافوني، معنى ذلك أنه لا بدّ من أن يجتمع في قلب المؤمن تعظيمٌ لله، ومحبة له، وخوفٌ منه، التعظيم من خلال آلائه العظيمة، والمحبة من خلال نعمه الوفيرة، والخوف من خلال البلاء الذي لا يُحتَمل، يجب أن تعظمه، وأن تحبه، وأن تخافه، لذلك:
﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ(25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ(26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ(27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ(28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ(29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ(30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ(32) إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ(33)﴾
تحت العظيم أربعة خطوط، هو آمن بالله لكن ما آمن به عظيماً، كشأن معظم الناس آمنوا بالله خالقاً، لكن ما آمنوا به عظيماً، لو أن الإنسان آمن بالله العظيم لا يمكن أن يعصيه، لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر على من اجترأت، والدليل:
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً(12)﴾
من أيقن أن علم الله يطوله و قدرته كذلك لا يمكن أن يعصيه :
أسماؤه الحسنى كثيرة، تسعة وتسعون اسماً، اختار الله من أسمائه اسمين؛ العلم والقدرة، أي أنت حينما توقن أن علم الله يطولك، وأن قدرته تطولك، لا يمكن أن تعصيه، ليس مع خالق السماوات والأرض، بل مع إنسان من بني جلدتك، تركب مركبة والإشارة حمراء، والشرطي واقف، فإذا تجاوزت الإشارة الحمراء علم الشرطي يصل إلى واضع قانون السير، وقدرة واضع قانون السير قد تُنزِل بالمخالف أشد العقاب، فأنت حينما توقن مع إنسان من بني جلدتك أن علمه يطولك، وأن قدرته تطولك، لا يمكن أن تعصيه أبداً، مثلاً إنسان تجاوز الإشارة الحمراء وهناك شرطي بمكان غير واضح، غير ظاهر، فنبه هذا السائق، قال له: ألا ترى أن الإشارة حمراء؟ قال له: والله رأيتها ولكن ما رأيتك، رأيتها لكنني لم أرك، فمعنى ذلك النظام الوضعي لا يُطبَّق إلا بوجود من يتابع هذا النظام.
كلكم تصومون رمضان بأيام الصيف الحارة، تدخل إلى بيتك لا تستطيع أن تضع قطرة ماء في فمك، والحرارة قد تكون خمساً وأربعين درجة وستاً وأربعين، وتكاد لا تستطيع متابعة الصيام ومع ذلك تصوم.
الحياة لا تنضبط إلا بالإيمان بالله :
لذلك أي نظام وضعي، لِمَ لا ينجح؟ لأنه لا يوجد مراقبة فعالة، مثلاً هناك إنسان يعجن العجين، ودخل إلى الحمام الساعة الثانية ليلاً ولم يغسل يديه، وتابع عجن العجين، و كان معه التهاب كبد وبائي، يصيب من ثلاثمئة إلى خمسمئة إنسان يأكل من هذا الخبز، الحياة لا تنضبط إلا بالإيمان بالله.
لذلك عندما يكون هناك نظام إلهي، الله مع كل إنسان، سيدنا ابن عمر امتحن راعياً، قال له: بعني هذه الشاة وخذ ثمنها، قال له: ليست لي، قال: قل لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب، قال: والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني، فإني عنده صادق أمين، ولكن أين الله؟ هذا البدوي، الراعي، الأعرابي، لا يوجد عنده أشرطة كاسيت، ولا سيديات، ولا مكتبة أربعة جدران، لكنه عرف الله، قال له: ولكن أين الله؟ وفي اللحظة التي تقول فيها أين الله؟ قطعت أربعة أخماس الطريق إلى الله، هذا الدين كله، الدين حينما تبتعد عن كل معصية، فأنت ورب الكعبة مؤمن.
لذلك يقول أحد العلماء أظنه التستري، ترك دانق من حرام خيرٌ من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام، وسيدنا ابن عباس كان معتكفاً في مسجد النبي -عليه الصلاة والسلام- رأى رجلاً كئيباً، قال له: ما لي أراك كئيباً؟ قال له: ديون لزمتني ما أطيق سدادها، قال: لمن؟ قال: لفلان، قال ابن عباس لهذا الكئيب أتحب أن أكلمه لك؟ قال: إذا شئت، فقام ابن عباس من معتكفه، يبدو أن إنساناً قال له: يا ابن عباس أنسيت أنك معتكف؟ قال: لا والله ما نسيت، ولكنني سمعت صاحب هذا القبر - وأشار إلى قبر النبي -عليه الصلاة والسلام - والعهد به قريب ودمعت عيناه، قال صاحب هذا القبر: والله لأن أمشي مع أخٍ في حاجته خيرٌ لي من صيام شهرٍ واعتكافه في مسجدي هذا.
نظرت إلى الدين، ترك دانق من حرام خيرٌ من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام، ولأن أمشي مع أخٍ في حاجته خيرٌ لي من صيام شهرٍ واعتكافه في مسجدي هذا، لأنه النبي -عليه الصلاة والسلام- قال:
(( بُنِي الإسلامُ على خَمْسٍ ))
[ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمر ]
الخمس ليست هي الإسلام، هي أركان الإسلام، ولكن الإسلام بناء عظيم، الإسلام -والله لا أبالغ- خمسمئة ألف بنداً، هذه البنود تبدأ من أخصّ خصوصيات الإنسان، تبدأ من فراش الزوجية وتنتهي بالعلاقات الدولية، لكل حركة حكم شرعي، هناك فرض، وهناك واجب، وهناك سنة، وهناك مستحب، وهناك مباح، وهناك مكروه تنزيهاً، ومكروه تحريماً، وهناك حرام، بكل حركة، وسكنة، بالأخذ والعطاء، والعمل، والغضب، والرضا، هناك أحكام شرعية، لذلك إذا قلت منهج الله التفصيلي قد يصل إلى خمسمئة ألف بنداً، يبدأ من فراش الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية، فأنت إذا كنت حريصاً على سلامتك، وحريصاً على سعادتك، ينبغي أن تبحث عن منهج ربك، وأن تطبقه عندئذٍ تحقق السلامة في الدنيا والآخرة.
الأشياء العظيمة التي خصّ الله بها رسوله خصّ بها المؤمنين :
إخواننا الكرام، في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ الأشياء العظيمة التي خص الله -جلّ جلاله- بها رسوله جزءٌ منها خصّ بها المؤمنين، والآية واضحة، ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ وأي مؤمن بأي مكان بأي زمان، أي هؤلاء الصحابة، ولكن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال:
(( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة, فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين, وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أني قد رأيت إخواننا، فقالوا: يا رسول الله, ألسنا بإخوانك؟ قال بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم على الحوض، فقالوا: يا رسول الله, كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيت لو كان لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غرًّا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم, ألا هلم, ألا هلم. فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا. ))
[ صحيح مسلم عن أبي هريرة ]
(( إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا، الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ ." قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ ؟! قَالَ: بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ . ))
[ رواه أبو داوود والترمذي وابن حبان ]
طبيعة العصر الحديث، المعصية موجودة بأي مكان، موجودة على الشاشة، موجودة في الانترنت، موجودة في الصحف، موجودة في المجلات، موجودة في الطريق، موجودة في الجامعات، في اي مكان هناك معاصٍ، فهذا الذي يقبض على دينه كأنما يقبض على الجمر لأنه من علامات قيام الساعة موتٌ كعقاص الغنم، لا يدري القاتل لِمَ يقتل ولا المقتول فيمَ قتل؟
حدثني أخ من بلد مجاور قال لي: إنني أودع زوجتي وأولادي كل يوم، لأن احتمال الموت خمسون بالمئة، أيضاً هذا يعني أن نشكر الله -عز وجل- من أعماق قلوبنا على نعمة الأمن التي نتمتع بها. يعني هناك حالات صعبة جداً.
من نعم الله العظيمة على الإنسان أنه يعيش بين مؤمنين :
لذلك: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ﴾ الحالة النفسية المريحة، الثقة بالله، الطمأنينة، الرضا، الإنسان حينما يصلي ذكر الله له أكبر من ذكر العبد لربه، إن ذكرك الله في الصلاة منحك نعمة الأمن، منحك نعمة الرضا، منحك الحكمة، أنت بالحكمة تسعد بزوجة من الدرجة العاشرة، ومن دون حكمة تشقى بزوجة من الدرجة الأولى، أنت بالحكمة تجعل العدو صديقاً، وبالحُمق تجعل الصديق عدواً، أنت بالحكمة تتدبر أمرك بدخل محدود، ومن دون حكمة تبدد المال الكثير، يعني الفرق بين المؤمن وغير المؤمن ليس بالدرجة إنما الفرق بالنوع.
للتقريب: أنت من أسبوع لم تأكل، وهناك لحم مشوي بأعلى مستوى، وهناك لحم بمكان آخر متفسخ له رائحة تصل لخمسين متراً، تكاد تخرج من جلدك من رائحة اللحم المتفسخ، وهناك لحم آخر مشوي تتوق إليه، القطعتان لحم، لكن الأولى لحم متفسخ والثانية لحم شهي.
وهكذا الإنسان، هناك إنسان تشتهي أن تجلس معه، تشتهي أن يحدثك، تشتهي أن تجاوره، تشتهي أن تسافر معه، وهناك إنسان لا تحتمل مزاحه، ولا تعليقاته، ولا عاداته، ولا تقاليده.
لذلك أيها الإخوة، من نعم الله العظمى أنك تعيش بين مؤمنين، فإذا كنت أنت مع إخوة مؤمنين، طيبين، طاهرين، صادقين، أوفياء، يتعاونون معك، هذه نعمة لا تعدلها نعمة.
﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ دعني أقول لك بصراحة: إن لم تقل أنا أسعد من في الأرض إلا أن يكون الآخر أتقى مني فعندك مشكلة، حتى إن بعض العلماء قال: إن ذكرت الله فلم تشعر بشيء، إن صليت الفريضة فلم تشعر بشيء، إن قرأت القرآن فلم تشعر بشيء، فاعلم أنه لا قلب لك، مستحيل أن تذكر الله ولا يذكرك؟ أن تقبل عليه ولا يقبل عليك؟ أن تخطب وده ولا يخطب ودك؟ مستحيل!.
(( إِذَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا ، وَإِذَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا ، وَإِذَا أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ أُهَرْوِلُ ))
[ البزار عن سلمان الفارسي ]
هذا المعنى دقيق جداً ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا﴾ .
عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود :
عندنا قاعدة بالمنطق: عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، أي لو أيقظنا إنساناً من قبره من خمسين سنة، أريناه قرصاً، أنا عندي قرص فيه خمسة عشر ألف عنواناً، معنى عنوان، قد يكون كتاب مؤلفاً من أربعين جزءاً، ما قلت كتاباً، قلت عنواناً، القرطبي 29 جزءاً، فإذا كان على قرص 15000 عنواناً ضرب خمسة كحد أدنى، فالنصوص على القرص مضبوطة بالشكل، يمكن أن تبحث عن موضوع بخمسة عشر ألف عنواناً أو بمئة ألف كتاباً ببضع ثوان، هذا الذي أيقظته من قبره قبل خمسين عاماً يصدقك؟ يقول لك: أنت مجنون، لأن عقله مرتبط بواقع لم يكن فيه كمبيوتر.
لما كان الخليفة يعطي أمراً بالمدينة، حتى تتبلغ الأمر تحتاج إلى شهر، كان الفارس يركب على جواده من المدينة إلى الشام، إلى بغداد، يحتاج إلى شهر، الآن بثانية، أنا أقول: العالم خمس قارات صار قارة وحدة، صار بلداً، صار مدينة، صار قرية، صار بيتاً، صار غرفة، الآن العالم سطح مكتب، أي شيء يقع في العالم بعد ثوان تراه بعينك، أليس كذلك؟ فإذا أيقظت إنساناً من قبره قبل خمسين عاماً لا يصدق ذلك إطلاقاً.
لذلك عندنا عقل وعندنا نقل، أيهما أخطر؟ النقل، النقل وحي السماء، النقل من عند خالق السماوات والأرض، أما العقل فمرتبط بالواقع.
فلذلك: ﴿وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا﴾ والله سمعت ولا أدري مبلغ هذا الخبر من الصحة، عندما كان الأعداء يقبضون على جندي من غزة، يقولون له: ماذا يرتدي الجنود عندكم؟ يقول لهم: ثياباً مبرقعة، يقولون له: أنت كاذب، يرتدون ثياباً بيضاء، الله موجود إذا كان هناك إخلاص ينصرك، شيء مدهش أنه لمدة اثنين و عشرين يوماً لم يتمكن أقوى جيش بالمنطقة أن يحقق أي هدف من أهدافه، أليس كذلك؟ يقولون له: كانوا يرتدون ثياباً بيضاء، فالقرآن قرآن.
فلذلك: ﴿وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا﴾ هذه القصص تواترت كثيراً، أنا لا أصدق أنها من لا شيء، أو أنها مُختَلقة، كان هناك معونة إلهية والله موجود: ﴿وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ .
السكينة أكبر عطاء إلهي للإنسان :
إخواننا الكرام، مركز الثقل في هذا الدرس السكينة، تسعد بها ولو فقدت كل شيء وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء، أنت بمكان حُجزت به حريتك مع السكينة أسعد إنسان، وبأجمل بيت في الأرض بلا سكينة أشقى إنسان، أنت مع المال القليل والسكينة أسعد إنسان، ومع الدخل الفلكي بلا سكينة أشقى إنسان، سعادتك بالسكينة، لأن السكينة أكبر عطاء إلهي لك في الدنيا، والسكينة ليس لها علاقة لا مكان، ولا بزمان، ولا ببيئة، ولا بظروف صعبة، وعد الله -عز وجل- فوق كل الظروف، وفوق كل المعطيات، فآية اليوم: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ .
الملف مدقق