الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
فضل علم النبي على علم أعلم علماء الأرض كفضل الله على خلقه:
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثامن عشر من سورة البقرة، ومع الآية الواحدة والثلاثين وهي قوله تعالى:
﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ(33)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ محور هذه الآيات أن آدم عليه السلام وذُرِّيّته مخلوقاتٌ متميِّزة قَبِلت حمل الأمانة، وحينما قَبِلت حمل الأمانة فُتِحت لها أبواب المعارف، فسيدنا آدم علَّمه الله، وحينما يُعلّم الله الإنسان فإن هذا الشيء يصعب تصوره، الله عزَّ وجل علَّم النبي، قال تعالى:
﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)﴾
ففضل علم النبي على علم أعلم علماء الأرض كفضل الله على خلقه، يتباهى الطالب أحياناً أنَّه تلميذ فلان، علَّمني فلان، علَّمني هذا الأستاذ الكبير، فكلَّما كان قدر المُعَلِّم كبيراً كان افتخار الطالب بمعلِّمه كثيراً، فإذا كان المعلّم هو الله الشيء لا يُصدَّق أن الله يعلّم الإنسان بطريقةٍ تعطيه كل شيء في أقلّ زمن، الطالب الآن حينما يأتي ببعض الأحاديث الشريفة، يضبطها، ويشرحها، ويستنبط منها بعض الأحكام، ويقدِّم هذا البحث رسالة دكتوراه، تُناقش هذه الرسالة ويُعطى لقب دكتور، لماذا؟ لأنه فهم بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين مقام النبي عليه الصلاة والسلام؟
يا أيها الأمي حسبك رتبة في العلم أن دانت لك العلماء
سبب جعل النبي عليه الصلاة والسلام أمّيّاً:
أقف عند كلمة: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ﴾ كما أن الله علَّم آدم الأسماء علَّم النبي عليه الصلاة والسلام كل شيء، لماذا جعله أُمِّياً؟ لأنه لو استقى من ثقافات عصره ثم جاءه وحيّ السماء لتداخلَ علم الأرض مع علم السماء، ولو كان الأمر لسأله أصحابه كل دقيقة، هل هذا الكلام من ثقافتك أم من وحي السماء؟ فالله سبحانه وتعالى جعل وعاء النبي خالياً من كل ثقافةٍ أرضية، وجعله:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾
فإذا قسنا تعليم آدم عليه السلام، كما أن الله تعالى علَّم نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ﴾ اختلف العلماء في هذه الكلمة، أولاً اختلفوا في آدم، لمَ سمِّي آدمُ آدماً؟ قال: لأنه أُخِذَ من أديم الأرض، من تراب الأرض، وصنعه الله بيده، ونَفَخَ فيه من روحه، فهو المخلوق الأول.
الإنسان مركّب من عقلٍ وشهوة:
قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)﴾
الإنسان كما تعلمون رُكِّب من عقلٍ وشهوة، فيه قبضةٌ من تراب الأرض، وفيه نفخةٌ من روح الله، فإذا سَمَتْ نفخة الروح على تراب الأرض كان فوق الملائكة، وإذا سَمَتْ قبضة التراب على نفخة الله عزَّ وجل كان دون الحيوان، هو وحده يتذبذب بين أن يكون فوق الملائكة:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)﴾
وبين أن يكون شَرَّ البرية:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)﴾
الأنبياء يتعلَّمون بالوحيّ لكن المؤمنين يتعلَّمون بالقراءة والكتابة:
وضع الإنسان يتذبذب بين أن يكون فوق الملائكة المقرَّبين، وبين أن يكون في أسفل سافلين، فيه قبضةٌ من تراب الأرض؛ يأكل، ويشرب، ويشتهي النساء، ويشتهي أن يستريح، وأن يستمْتِع، هذا الخلود إلى الأرض، ويتمنى أن يعرف الله، وأن يكون مستقيماً على أمره، وأن يكون محبَّاً له، وأن ينشر الخير بين الخلائق، هذه نفخة الروح التي في كيانه، فيه نفخةٌ من روح الله، وفيه قبضةٌ من تراب الأرض، فلذلك حينما قبِل هذا الإنسان حمل الأمانة كان المخلوق الأول.
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾
لمجرد أنه حمل الأمانة وقبِل حملها كان المخلوق الأول، وحينما كان المخلوق الأول سُخِّرت له السماوات والأرض جميعاً، في هذه الآيات إشاراتٌ لطيفة إلى أن مقام آدم هو المقام الأول، عرَّفه الله عزَّ وجل، إذاً آدم من أديم الأرض: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ﴾ وتعليم الله عزَّ وجل متميّزٌ عن تعليم البشر، أي حينما يعلّمك الله عزَّ وجل تغدو أعلم علماء الأرض، ولكن علَّم الله أنبياءه، علَّمهم بالوحيّ، أو كلَّمهم، أو قرَّبهم إليه، أما بنو البشر فيتعلَّمون من علم الأنبياء، نحن نتعلَّم بالتعلُّم، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( عن أبي هريرة: إِنَّما العلمُ بِالتَّعَلُّمِ ، و إِنَّما الحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، و مَنْ يَتَحَرَّ الخَيْرَ يُعْطَهُ، و مَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ. ))
[ السلسلة الصحيحة: خلاصة حكم المحدث : إسناده حسن أو قريب منه ]
أما الأنبياء فيتعلَّمون بالوحيّ، لكن المؤمنين يتعلَّمون بالقراءة والكتابة، من هنا قال عليه الصلاة والسلام: (( إنما العلم بالتعلُّم، وإنما الحِلم بالتحلّم)) وإنما الكرم بالتكرم.
بعض التأويلات المحتملة للآية التالية:
بينما الأنبياء: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ وقال:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)﴾
أما الأسماء التي وردت في هذه الآية فهناك اختلافٌ كبير بين المفسرين، قال بعض المفسرين: "الله عز وجل بعد أن خلق المسميات كلها-نحن عندنا اسم ومسمى، هذا منديل، هذا مسمى، ومنديل اسم، ولا اسم بلا مسمى-حينما خلق المسميات كلَّها علَّم آدم أسماءها" ، وكأن الله أراد من هذه الآية أن يبين أن آدم له طريق إلى الله يعلِّمه كلّ شيء، والإنسان حينما يصدق في طلب شيء الله عزَّ وجل يعطيه إيَّاه: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ وبعضهم قال: "علَّمه أسماء ذرِّيته جميعاً لأن كل ذرِّيته في ظهره" .
وبعضهم قال: "علَّمه أسماء الملائكة" .
وبعضهم قال: "علَّمه أسماء الله الحُسنى" ، فلك أن تختار من بين هذه التفسيرات، إما أنه علَّمه أسماءه الحسنى وصفاته الفُضلى، أو علَّمه أسماء الملائكة، أو علَّمه أسماء ذرٍّيته جميعاً، أو علًّمه حقائق الكون، علَّمه المُسَمَّيات وأسماءها، هذه التأويلات المحتملة لهذه الكلمة: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ .
الله سبحانه وتعالى كرَّم الإنسان وجعله المخلوق الأول:
الملائكة ممن أشفقوا ولم يحملوا الأمانة؟ ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾ الملائكة مخلوقاتٌ عابدةٌ، منيبةٌ، متَّصلةٌ بالله عزَّ وجل، تُسبِّح الله دائماً، ولكنّها ليست مُكَلَّفة، ليس عندها تكليف، ليس عندها نجاح أو رسوب، فلاح أو سقوط، جنَّةٌ أو نار، مستقبلها مضمون لأنها لم تخاطر، لكن الإنسان قال: أنا لها، وحملها الإنسان، فالذي قَبِلَ المغامرة يفوق الذي أَشْفَقَ من هذه المغامرة فيما لو نجح، فلذلك يتّضح من خلال هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى كرَّم الإنسان وجعله المخلوق الأول، وفضَّله على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً، بل إن العلماء يقولون: "المؤمن إذا عرف الله عزَّ وجل، وأدَّى الأمانة التي أُنيطت به، وحقق الهدف الذي من أجله خُلِق هو فوق الملائكة المقرَّبين".
وعند بعض العلماء بعض المقولات، الرسل من بني البشر أعظم من رسل الملائكة، والأولياء من بني البشر أعظم من أولياء الملائكة، ولكن إذا وازنَّا الملَك بمخلوقٍ شاردٍ عن الله عزَّ وجل فإن ذرَّةً من هذا المَلَك أفضل من مليار إنسان عاصٍ، أما حينما يرشد الإنسان، ويتَّصل بالله عزَّ وجل فهو فوق الملائكة المقرَّبين: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ .
مقام الإنسان يتذبذب بين أن يسبق الملائكة وبين أن يكون من أَحَطّ المخلوقات:
﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي هذا المخلوق البشري إذا عرف الله وصل إلى مرتبةٍ لا تصل الملائكة إليها، مقامه يتذبذب بين أن يسبق الملائكة، وبين أن يكون من أَحَط المخلوقات، أنت حينما تعرف الله، وتستقيم على أمره، وتسمو إليه، أنت في المرتبة الأولى من مخلوقات الأرض؛ وحينما تخلد إلى الأرض، وتتبع هواك، وتُغلب، أنت دون كل المخلوقات، فهذه المرتبة التي تتلوّن وتتذبذب بين قمَّة المجد وبين حضيض السقوط، هكذا الإنسان إما أنه خير البرية، وإما أنه شَرُّ البرية، ومتاحٌ لك أن تكون من خير البرية، لأن هذه الشهوات التي غُلِبت بها رُسِمت لها قنواتٌ نظيفة تسري خلالها، ليس في الإسلام حِرْمان، ولكن في الإسلام ضبط، عملية ضبط، فأية شهوةٍ أودعها الله في الإنسان جعل لها قناةً نظيفةً تسري خلالها، بل إنني أقول لكم: إن استمتاع المؤمن بالحلال فيه متعةٌ وطمأنينةٌ وسعادةٌ تفوق بكثير متعة المنحرف العاصي بالحرام، شَتَّان بين الزواج والزنا، وشتَّان بين كسب المال الحلال وبين كسب المال الحرام، وشتَّان بين أن تعلو في الأرض بعملٍ صالح، أو بجريمةٍ فظيعة.
الإنسان مخير ولأنه مخير فالنتائج متباينة:
أيها الإخوة الكرام؛ نحن أمام خيار مصيري، إما أن تكون المخلوق الأول، وإما أن يهبط الإنسان فيكون في أسفل سافلين، في الدرجة الدنيا: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ﴾ أنتم يا ملائكتي الذين قلتم في أنفسكم: لعل هذا المخلوق يُفسِد، ويسفِكُ الدماء، ونحن نسبح الله عزَّ وجل، فقال الله عزَّ وجل: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ .
ذكرت لكم في الدرس الماضي أن الكمال في الجامعة لا أن ينجح كل الطُلاب، بل أن تأتي النتائج وفق المقدِّمات، ينجح المتفوِّق، ويرسب الكسول، وهكذا الإنسان مخيّر، فإما أن تختار الحقيقة، وإما أن تختار الشهوة، إما أن تختار المصلحة، وإما أن تختار المبدأ، إما أن تختار الآخرة، وإما أن تختار الدنيا، أنت مخيّر، ولأنك مخيّر النتائج متباينة، فكما أنه إذا أَعْطَينا للطلاب حرية الاختيار في الدراسة أو عدمها ورسب مجموعة من الطلاب هذا لا يعني أن نغلق الجامعة، بالعكس نتابع افتتاح الجامعات ونقول: كلٌ يلقى نتائج عمله، فالطالب المجتهد يلقى نتائج عمله، والطالب الكسول يلقى نتائج عمله، أعطى الله عزَّ وجل الملائكة درساً لا يُنسَى، أنتم الذين قلتم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ .
الإنسان لتميّزه بقبول حمل الأمانة استحق أن يُكشَف له الغطاء:
﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ﴾ وذكرت قبل قليل لك أن تفهم الأسماء أسماء ذريّته جميعاً، أو أسماء الملائكة كلَّهم، أو أسماء المُسميات جميعاً، إما أنه علَّمه حقائق الوجود، أو علَّمه أسماء الملائكة، أو علَّمه أسماء ذريّته، أو علَّمه أسماءه الحسنى، على كل هذا الإنسان لتميّزه بقبول حمل الأمانة استحق أن يُكشَف له الغطاء فيعلم من الله ما لم يعلم غيره من الله: ﴿عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ﴾ هذا الذي خلقته وهذا الذي جعلته خليفتي في الأرض هل عندكم شيء من علمه؟ ﴿فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾ ماذا تعرفون من هذه الأسماء؟ وهذا ينقلنا إلى موضوعٍ دقيق، الله عزَّ وجل قد يعطي الأدنى ما يفوق الأعلى، سيدنا موسى نبيٌّ كريم سئِل: مـن أعلم من في الأرض؟ فقال: أنا، فلفـت ربنا عزَّ وجل نظره إلى شيءٍ لم يكن في الحُسبان، أعطى الله سيدنا الخضِر سرَّ الأمر التكليفي، فلمَّا ترافق سيدنا موسى مع سيدنا الخضر اعترض عليه، وإذا بالخضر عليه السلام يعطيه حقائق الأمور ويعطيه حِكَم أفعال الله عزَّ وجل، فإذا كان الله تعالى قد خصَّ موسى بالأمر التكليفي فقد خصَّ الخضر عليه السلام بسرِّ الأمر التكويني.
الله عزَّ وجل طليق الإرادة يعطي من هو أدنى منك شيئاً يفوقك به:
دائماً وأبداً يعطي الله عزَّ وجل الأدنى أحياناً ما يفوق به الأعلى، أي كلفت نظرٍ قال الهدهد:
﴿ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)﴾
سيدنا سليمان الذي آتاه الله مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده، سيدنا سليمان الذي سخَّر الله له الريح، سيدنا سليمان الذي علَّمه الله لغة الطير:
﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)﴾
قال له الهدهد: ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ هذا درس، لا تقل: أنا أعلم من في الأرض، لا تقل: أنا متفوق في كذا، فالله في أية لحظة، الله عزَّ وجل طليق الإرادة، يعطي من هو أدنى منك شيئاً يفوقك به، قيل: إن الإمام أبا حنيفة رأى مرة طفلاً يمشي في الطريق أمامه حفرة فقال له: احذر يا غلام أن تسقط، فقال له الغلام: بل احذر أنت يا إمام أن تسقط، إني إن سقطت سقطتُ وحدي، وإنك إن سقطت سقط معك العالم.
كان سيدنا عبد الله بن الزبير في المدينة مع بعض الغلمان مرَّ سيدنا عمر، تفرَّق الأولاد إلا عبد الله بن الزبير بقي واقفاً في مكانه، قال له سيدنا عمر: يا غلام لمَ لمْ تهرب مع من هرب؟ قال له: "أيها الأمير لستَ ظالماً فأخشى ظلمك، ولستُ مذنباً فأخشى عقابك والطريق يسعني ويسعك" ، فدائماً لا تقل: أنا، هناك دروس بليغة جداً في الحياة.
حجم علم الإنسان بحجم صدقه في طلب الحقيقة:
أيها الإخوة؛
﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)﴾
أي هذا الذي اعترضتم عليه، ظننتم أنكم أفضل منه، هذا الذي توهَّمتم أنه سيسفك الدماء، ويُفسِد في الأرض علمه أعلى من علمكم، لكن يوجد سؤال: إذا كنت أنت علَّمته أنت الذي ميزته علينا؟ الجواب: إن علم الإنسان بحسب صدقه، فكلَّما كان أكثر صدقاً في طلب الحقيقة كان علمه أعمق وأشمل من الله عزَّ وجل، فحجم علم الإنسان بحجم صدقه في طلب الحقيقة، لذلك يُعَدُّ النبي عليه الصلاة والسلام أعلمنا بالله عزَّ وجل، أي العلم متعلق بالصدق، فكلَّما كنت أكثر صدقاً في طلب الحقيقة كلَّما كنت أكثر صدقاً في معرفة الله كلَّما كنت أكثر علماً، فيبدو أن هذا النبي الكريم أبو البشر سيدنا آدم كان طلبه للمعرفة عالياً جداً، فعلَّمه الله ما لم يعلِّم الملائكة.
كلمة (لا أدري) نصف العلم:
أما حينما نفهم الآية فهماً ساذجاً أن الله علَّمه، ثم قال: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾ لا تعلمون هو أفضل منكم، هذا الشيء بهذا الشكل غير مقبول، أما علمه الذي فاق به الملائكة بسبب محبَّته لله، وصدقه في طلب الحقيقة، وإقباله على الله، هناك شيء منه، تجد أخّوين، أحدهما تابع دراسته حتى الدكتوراه، والآخر قنع بابتدائية، أو بإعدادية، والأب واحد، والأم واحدة، اختيار، فيبدو أن هذا النبي العظيم أبو الأنبياء أراد أن يكون في أعلى مرتبة منحه الله إياها، فلمَّا اعترضت الملائكة قال: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ هنا يوجد وقفة متأنّية.
إخواننا الكرام؛ كما قال الإمام الشافعي: "كلّما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي" ، والإنسان المتعلّم أو طالب العلم الشرعي يجب أن يكون متواضعاً جداً وأن يُجْري على لسانه كلمة لا أدري، لا أدري نصف العلم، جاء وفد من المغرب إلى المشرق معهم أسئلة عديدة جداً، فالتقوا الإمام مالك إمام دار الهجرة، عرضوا عليه مجموعة أسئلة أجاب عن ثلثها، وأما الأسئلة الباقية فقال: لا أدري، قالوا: يا الله الإمام مالك إمام دار الهجرة لا يدري؟! قال لهم: قولوا لأهل المغرب الإمام مالك لا يدري.
عوّد نفسك أن تقول: واللهِ لا أعلم، إن قلت: لا أعلم فأنت عالم، أما هذا الذي يعلم كل شيء فهو لا يعلم شيئاً، كذَّاب، عَوِّد تلاميذك، عوِّد إخوانك كلمة لا أعلم طبيعية جداً، وأنت في مكانك العلي لا تستحي أن تقول: لا أعلم، لأنك إذا قلت ما لا تعلم فقد اقترفت إثماً مبيناً، وردت المعاصي في كتاب الله بشكل تصاعدي؛ الفحشاء، والمنكر، والإثم، والعدوان، والشرك، والكفر، وأعلى معصية:
﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)﴾
النبي عليه الصلاة والسلام على علوّ قدره وعِظَم شأنه لا يعلم إلا أن يُعلِّمه الله:
يقول الإمام الغزالي: "العوام لأن يرتكبوا الكبائر أهون من أن يقولوا على الله ما لا يعلمون" .
وَطِّن نفسك أن تقول هذه الآية ما معناها والله لا أدري أراجعها إن شاء الله، ما معنى هذا الحديث؟ والله لا أدري أراجعه إن شاء الله، فأنت عالم، هذه الموضوعية، وهذا التواضع العلمي، أما أن تجيب عن كل شيء بسرعة، بلا تريّث، بلا تَرَوّ! ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا﴾ نحن لا نعلم يا رب إلا أن تعلّمنا، توجد في السيرة النبوية أشياء مخيفة، النبي عليه الصلاة والسلام على علوّ قدره، وعِظَم شأنه، وقربه من الله، واستنارة قلبه، والوحيّ يتنزَّل عليه، جاءه أناسٌ من إحدى القبائل وطلبوا منه قُرَّاء للقرآن الكريم كي يُعلّموا قومهم، أرسل معهم سبعين قارئاً فذبحوهم في الطريق، لِمَ لم يعلم؟ معنى ذلك أن النبي لا يعلم إلا أن يُعلِّمَه الله، أي مخلوقٍ لا يعلم بذاته أبداً إلا أن يُعلِّمك الله عزَّ وجل، مع أن الوحي جاءه في موضوعاتٍ كثيرةٍ جداً وهي أقل شأناً من هذا، ولكن هذا درس، هو لا يعلم على علوّ قدره إلا أن يُعلمه الله، فقد يلقي الله في قلبك العلم وقد لا يُلقي فلا تعلم، فهذا الموقف الأديب: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ كن طبيعياً، سؤال فقهي، والله سأُراجعه، فتوى، دعني أُفكِّر فيها، هل تعلم ما معنى هذه الآية؟ والله لا أعلم، لا أعلم أنت عالم، أما كلَّما سئِلت أجبت إجابة طائشة، معنى ذلك أنت لا تعلم، عوّد نفسك أن تقول: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ .
(( عن عبد الله بن عمر: أنَّ رجلًا سألَ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أيُّ البِقاعِ خيرٌ؟ وأيُّ البِقاعِ شرٌّ؟ قالَ: لا أَدري حتَّى أسألَ جبريلَ عليهِ السَّلامُ فسألَ جبريلُ عليهِ السَّلامُ فقال: لا أدري حتَّى أسألَ ميكائيلَ فجاءَ فقالَ: خيرُ البقاعِ المساجدُ وشرُّ البقاعِ الأسواقُ. ))
[ أخرجه ابن حبان :الترغيب والترهيب : خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح أو حسن ]
خيرها مساجدها، يوجد علم، يوجد معرفة، يوجد وجهة إلى الله عزَّ وجل، وشرُّها أسواقها.
الهامش الاجتهادي تُرِك للنبي ليكون هناك فرقٌ بين مقام الألوهية ومقام النبوّة:
النبي سيد الخلق وُضِع في ظروف يقول: لا أعلم، تُرِك له هامش اجتهادي طفيف جداً، فإذا أصاب فالوحي يؤيِّدُهُ، وإذا جانَبَ الأولى يأتي الوحي ويصوِّب له، هذا الهامش الاجتهادي ليكون هناك فرقٌ بين مقام الألوهية ومقام النبوّة، هناك فرق: ﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ علم الله مطلق، وحكمته مطلقة، وعدلـه مطلق، ورحمته مطلقة، وإرادته مطلقة، فالاعتراض أو التساؤل في أفعال الله وفي علمه يحتاج إلى معالجة، وها قد عُولِج الملائكة بهذه القصَّة.
يمكن أن نستنبط من هذه الآيات الثلاثة أن علم الإنسان بقدر صدقه في معرفة الحقيقة، ومن زادك في العلم زادك في القُرب، العلم الذي أراده الله العلم بالله، والعلم بأسمائه الحسنى، والعلم بصفاته الفضلى، والعلم بأمره ونهيه، حجم الإنسان بهذا العلم بحجم صدقه في طلب الحقيقة، لذلك فاق سيدنا آدم الملائكة؛ والدليل أن الله عزَّ وجل قال:
﴿ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)﴾
النقاط الأساسية في هذا الدرس:
1 ـ الذي يرفعك عند الله هو العلم:
أيها الإخوة؛ الآن العلم هو الذي يرفعك عند الله، والدليل:
﴿ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)﴾
تطبيقاً لهذا الدرس الذي يرفعك عند الله هو العلم، الآية الأولى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ هذا استفهام إنكاري، أي لا يستوون، فالناس رجلان؛ يعلم ولا يعلم، وشتَّان بين من يعلم وبين من لا يعلم: الناس رجلان عالمٌ ومتعلم ولا خير فيمن سواهما.
يقول سيدنا علي: "الناس ثلاثة؛ عالمٌ ربَّاني، ومتعلمٌ على سبيل نجاة، وهمجٌ رعاع، أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركنه الوثيق فاحذر يا كميل أن تكون منهم" .
يقول سيدنا علي: "العلم خيرٌ من المال، لأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق" ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ .
2 ـ إن كنت طموحاً فاطلب العلم لا تطلب المال ولا الجاه:
إذا كنت طموحاً فاقرأ هذه الآية:
﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)﴾
لم يقل: زدني مالاً، لم يقل: زدني جاهاً: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ .
3 ـ تفاوت العلماء في علمهم:
الشيء الثالث: يتفاوت العلماء في علمهم:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)﴾
4 ـ من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة:
الشيء الرابع:
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ، ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه . ))
[ صحيح ابن حبان أخرجه في صحيحه ]
حينما يأتي الإنسان من بيته ليتعلَّم كتاب الله، ليفهم تفسير آيات الله، هذا الطريق من بيتك إلى المسجد هو الطريق إلى الجنة، وطالب العلم يؤْثِر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً، والجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً، "والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً" ، و: "يظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهِل"، وحينما تتعلم اقرأ قوله تعالى:
﴿ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)﴾
وحينما تتوسَّع في معرفة اختصاصٍ ما اقرأ قوله تعالى:
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)﴾
العالم الحقيقي متواضع لأنه كلَّما ازداد علماً ازداد شعوراً بعظمة الله:
أبيّن من حين لآخر عظمة الله عزَّ وجل من خلال خلقه، أقول: طول لسان لهب الشمس ستمئة ألف كيلو متر إلى مليون، مليون كيلو متر لسان اللهب؟ ثم اطّلعت على بحثٍ في الفلك فإذا هناك شمسٌ تزيد بحجمها عن شمسنا اثنين واثنين بالعشرة بليون مرَّة، ولسان لهبها مئة وخمسون سنة ضوئية: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً﴾ اجتمع الناس حول عالم شاب مرة وانتفعوا بعلمه، فجاء رجل ليُصَغِّرَهُ، قال له: يا هذا هَذا الذي تقوله ما سمعناه، قال له: وهل حصَّلت العلم كلَّه؟ فأُسقط في يده، قال له: لا، قال له: كم حصَّلت منه؟ قال: بعض العلم، قال: هذا من الشطر الذي لا تعرفه.
"كلَّما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي" ، العالم الحقيقي متواضع، لأنه كلَّما ازداد علماً ازداد شعوراً بعظمة الله عزَّ وجل، فتضاءل في نفسه.
فيا أيها الإخوة؛ هذا درس لنا: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ .
وفي درسٍ قادم إن شاء الله ننتقل إلى قوله تعالى:
﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)﴾
الملف مدقق