- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (009)سورة التوبة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
الحاجات التي أودعها الله في الإنسان سبب ارتقائه :
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثاني والثلاثين من دروس سورة التوبة، ومع الآية السابعة والثلاثين وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(37)﴾
الحقيقة أيها الإخوة أن هناك هداية المصالح، وأن هناك هداية الوحي، وأن هناك هداية التوفيق، وأن هناك الهداية إلى الجنة، أربعة أنواع من الهداية.
أولاً: في حياتنا الدنيا الله -جلّ جلاله- هدانا إلى مصالحنا، فلولا الجوع لما كان هذا الدرس، فبالجوع تبحث عن الطعام، تعمل، تكسب مالاً، تشتري به طعاماً، تأكل تلبي حاجة الجسد، لك حاجة أخرى، أنت بحاجة إلى الطرف الآخر، تتزوج، لك حاجة ثالثة هي تأكيد الذات تتفوق، لولا هذه الحاجات التي أودعها الله فينا ما ارتقينا، نسلم بها ونسعد.
السعادة التي لا توصف تأتي بعد الصلح مع الله عز وجل :
لذلك هدانا الله إلى مصالحنا، كل إنسان حريص على صحته، حريص على رزقه، حريص على أولاده، جعل في قلب الزوج مودة لزوجته من خلق الله، جعل في قلب الآباء والأمهات محبة لأولادهم، أي هناك هداية المصالح، كل شيء أمرنا الله به فطرنا عليه، بتعبير معاصر: برمجنا عليه، فأنت حينما تتحرك وفق منهج الله ترتاح نفسك، أساساً السعادة التي لا توصف التي تأتي بعد الصلح مع الله سببها أنك في الحقيقة اصطلحت مع نفسك، عندما أطعت الله ارتاحت نفسك، اطمأنت، الله -عز وجل- خلق الإنسان ضعيفاً، هذا الضعف يتجاوزه إذا أطاع الله، والدليل القرآني:
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً(19)﴾
في أصل خلقه، نقطة ضعف في أصل خلقه،
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً(19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً(20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً(21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ(22)﴾
معنى ذلك أن المصلي له خصائص إيجابية كبيرة جداً، لكن ليس كل مصلٍّ،
﴿ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ(23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ(24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ(26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ(27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ(28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ(31)﴾
صفات المصلين :
إخواننا الكرام، في مناسبة هذه الآية لي تعليق عليها أذكره كثيراً، لكن يحسن أن أعيد ذكره الآن: أنت إذا قلت: مسلم، بل إذا قلت: إنسان، هذه الكلمة يأتي تحتها ستة آلاف مليون إنسان، على وجه الأرض ستة آلاف مليون، أضف إلى هذه الكلمة كلمة ثانية، قل: إنسان مسلم كنا بستة آلاف مليوناً، أصبحنا بمليار وثمانمئة مليوناً، كنا ستة مليارات، عدد سكان الأرض، عندما قلت: إنسان مسلم ضاقت الدائرة إلى مليار وثمانمئة مليوناً، فإذا قلت إنسان مسلم عربي، ضاقت الدائرة إلى أربعمئة مليوناً، فإذا قلت: إنسان مسلم عربي سوري، ضاقت الدائرة إلى عشرين مليوناً، فإذا قلت: إنسان مسلم عربي سوري مثقف، ضاقت الدائرة لعشرة ملايين، فإذا قلت: إنسان مسلم عربي مثقف طبيب بقوا خمسين ألفاً، إذا قلت: إنسان مسلم عربي مثقف طبيب قلب بقوا ألفاً، إذا قلت: جراح بقوا خمسين، جراح مقيم في دمشق أربعة، كلما أضفت صفة ضاقت الدائرة.
هذا المقياس، أو هذا المثل طبقوه على الآية الكريمة:
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ(33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ(35)﴾
ضاقت الدائرة، كلنا هكذا؟ فالعبرة كما ورد :
(( ليس كل مصلٍّ يصلي، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي ))
أي فكر بالكون، رأى عظمة الله -عز وجل- فتواضع.
(( ليس كل مصلٍّ يصلي، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، وكف شهواته عن محارمي ))
واستقام، فكر بالكون، استعظم ربه، عظّمه، خشع له، فاستقام على أمره.
(( وكف شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي ))
إذا وقع بذنب يتوب سريعاً.
(( وأطعم الجائع - له عمل صالح - وكسا العريان، ورحم المصاب، وأوى الغريب - أعمال صالحة - كل ذلك لي - الإخلاص- وعزتي وجلالي، إن نور وجه لأضوأ عندي من نور الشمس، على أن أجعل الجهالة له حلماً، والظلمة نوراً، يدعوني فألبيه، يسألني فأعطيه، يقسم علي فأبره، أكلؤه بقربي، وأستحفظه بملائكتي، مثله عندي كمثل الفردوس، لا يمس ثمرها، ولا يتغير حالها ))
تعظيم الله و محبته و الخوف منه مشاعر إيمانية طبيعية :
إخوتنا الكرام، معنى ذلك أن هذا الأثر القدسي الرائع الصحيح فيه كليات الدين، أول كلية ممن تواضع لعظمتي، أي تفكر في خلق السماوات والأرض، هذا التفكر يُورثه تعظيماً لله -عز وجل-.
﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۖ
تفكر في خلق السماوات والأرض.
(( ليس كل مصلٍّ يصلي، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي ))
بالمناسبة ورد أيضاً:
(( يا رب أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك؟ قال: أحب عبادي إلي تقي القلب، نقي اليدين، لا يمشي إلى أحد بسوء، أحبني، وأحب من أحبني، وحببني إلى خلقي، قال: يا ربي إنك تعلم أني أحبك، وأحب من يحبك، فكيف أحببك إلى خلقك؟ قال: ذكرهم بآلائي ونعمائي وبلائي ))
أي ذكرهم بآلائي كي يعظموني، وذكّرهم بنعمائي كي يحبوني، وذكّرهم ببلائي كي يخافوني، يُستنبَط من هذا الأثر أنه لا بد من أن يستقر في قلب المؤمن تعظيم لله، وهذا التعظيم يأتي من التفكر في خلق السماوات والأرض، ولا بد من أن يستقر في قلب المؤمن محبة لله، وهذه المحبة تتأتى من التفكر في نعم الله، ولا بد من أن يستقر في قلب المؤمن خوف من الله، وهذا الخوف يتأتّى من النظر في بلاء الله، بلاؤه ينبغي أن تخاف منه، ونعمه ينبغي أن تحبه من أجلها، وآلاؤه ينبغي أن تعظمه فيها، فتعظيم وحب وخوف، هذه مشاعر إيمانية طبيعية، إذا بقلبك مشاعر الخوف من الله، ومشاعر الحب لله -عز وجل-، ومشاعر التعظيم، فأنت مؤمن ورب الكعبة.
أنواع الهداية :
1 ـ هداية المصالح :
الآيات الكونية تدعوك إلى التعظيم، والنعم تدعوك إلى الحب، والبلاء يدعوك إلى الخوف، والأنبياء يعبدون الله رغَباً ورهَباً، إذاً هداية المصالح، الله -عز وجل- هداك إلى مصالحك، محبة الآباء لأولادهم هداية المصالح، محبة الأبناء لأهاليهم هداية المصالح، المودة والرحمة التي أودعها الله في قلب الزوج تجاه زوجته هذه من هداية المصالح، والمودة البالغة التي تكنها الزوجة لزوجها هذه من هداية المصالح، هداك إلى مصالحك.
2 ـ هداية الوحي :
ثم هداك هداية الوحي، جاء وحي من السماء يقول لك:
﴿
حدثك القرآن عن ذات الله بآيات كثيرة، حدثك عن مخلوقاته، عن الكون، عن الحياة، عن الإنسان، عن سر وجودك، عن غاية وجودك، عن أن العبادة علة وجودك، والعبادة: طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية، فهذه هداية الوحي، القرآن حدثك عن الجنة والنار:
﴿
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ(19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ(20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ(23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ(24)﴾
وحدثك عن النار:
﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ(25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ(26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ(27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ(28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ(29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ(30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ(32) إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ(33)﴾
آمن بالله، لكنه ما آمن بالله العظيم، والتفكر في خلق السماوات والأرض يوصلك إلى الإيمان بالله العظيم، فأول هداية: هداية المصالح، والهداية الثانية: هداية الوحي.
3 ـ هداية التوفيق :
الهداية الثالثة لمن استجاب للوحي، هداية التوفيق، أنت لمجرد أن تقول: يا رب، أنا تبت إليك، الله -عز وجل- يقبلك، يا رب أعني على نفسي، يا رب ارزقني عملاً صالحاً، الآن هناك هداية ثالثة اسمها هداية التوفيق، الله يوفقك لجهة إيمانية صادقة تأخذ منها، يوفقك إلى أعمال صالحة كثيرة، تتقرب بها إلى الله، يوقفك إلى زوجة صالحة، إلى أولاد أبرار، إلى سمعة طيبة، إلى عمل مريح، أنت حينما تصطلح مع الله، أمامك سلسلة لا تنتهي من التوفيقات، والعطاءات.
(( استقيموا ولن تُحْصُوا ))
لن تحصي الخيرات، أي مستحيل وألف ألف مستحيل أن تكون حياة المؤمن كغيره:
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ(18) ﴾
في الدنيا قبل الآخرة:
﴿
والله الذي لا إله إلا هو لو لم يكن في القرآن إلا هذه الآية لكفت،
أقول لكم كلمة دقيقة، والله بشارة لكم جميعاً: حينما تقول يا رب أعني على نفسي، يا رب ألهمني رشدي، يا رب ارزقني عملاً صالحاً، الآن تأتي هداية التوفيق، يوفقك إلى حياة هادئة، سعيدة، إلى زوجة صالحة- الكلام للشباب - إلى أولاد أبرار، إلى رزق حلال، أي ثمار الإيمان لا تعد ولا تحصى، أنت تعامل من؟ تعامل خالق السماوات والأرض، هذه الهداية التي تأتي اسمها هداية التوفيق.
4 ـ الهداية إلى الجنة :
وآخر هداية الهداية إلى الجنة، فأنت بين هداية المصالح، وهداية الوحي، وهداية التوفيق، والهداية إلى الجنة.
الكافرون و الفاسقون و الخائنون و الظالمون لا يهديهم الله عز وجل :
من هؤلاء الذين لا يهديهم الله؟ حصراً في القرآن الكريم الذين لا يهديهم الله هم القوم الكافرون:
﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۗ
والذين لا يهديهم الله هم القوم الظالمون:
﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ
والذين لا يهديهم الله هم الخائنون:
﴿ ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ
والذين لا يهديهم الله هم القوم الفاسقون، ولا يهدي كيد الخائنين، ولا يهدي من يضل، الذي أراد إضلال الناس لا يهديه الله -عز وجل-، ولا يهدي من هو كاذب كفّار، ولا يهدي من هو مسرف كذاب.
﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ(17)﴾
يعني حركة منك إلى الله، يأتي العطاء الإلهي، حركة منك إلى الله، التوجه إلى الله، طلب المعونة من الله، الاستقامة على أمر الله، التقرب إلى الله بالعمل الصالح، حضور مجلس علم، ذكر، ذكر الله -عز وجل-، الدعوة إلى الله، أيّ حركة نحو مرضاة الله، هذه يأتيك مقابلها أضعاف مضاعفة من الحفظ، والمعونة، والتوفيق.
أي آية بالقرآن تتصدر بـ
أيها الإخوة، لذلك إذا قال الله -عز وجل-:
﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ
أي آية بالقرآن أنت معني بها، أيّة آية بالقرآن تتصدر هذا النص، أو يتصدرها هذا النص:
من علامات الإيمان أن الإنسان إذا قرأ القرآن يشعر أن الله يحدثه :
إخواننا الكرام، قد ورد عن بعض السلف: إذا أردت أن تحدث الله عز وجل فادعه .
دعاؤك لله حديث لله، وإذا أردت أن يحدثك الله -عز وجل- فاقرأ القرآن، تحدثه بالدعاء، ويحدثك بتلاوة القرآن، وأقول لك كلمة دقيقة: من علامات الإيمان أنك إذا قرأت القرآن تشعر أن الله يحدثك:
﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(102)﴾
يجب أن تشعر كل خلية في جسمك، وكل قطرة من دمك أن الله يحدثك، وهذه حالة قراءة القرآن حالة رائعة جداً:
﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ
حينما تقرأ القرآن فجراً هذه القراءة في وقت صاف، في وقت ملائكي، في وقت تتنزل فيه الرحمة.
من صحت عبادته التعاملية قطف ثمارها في العبادة الشعائرية :
أيها الإخوة الكرام، أيّ كلام يأتي بعد:
(( أردف خلفه معاذ بن جبل، قال له: يا معاذ ما حق الله على عباده؟- فسيدنا معاذ أديب جداً - قال: يا رسول الله، الله ورسوله أعلم، سأله ثانية: يا معاذ ما حق الله على عباده؟ سأله ثالثة - وسيدنا معاذ يتأدب مع النبي - ويقول: الله ورسوله أعلم، في المرة الرابعة، قال له: يا معاذ حق الله على عباده أن يعبدوه وألا يشركوا به شيئاً))
هذا الحق، أنت حينما تصلي تؤدي واجبك تجاه ربك، أنت حينما تصوم، حينما تحج بيت الله الحرام، حينما تغض بصرك عن محارم الله، حينما تكون صادقاً، اعتقد يقيناً هناك عبادات شعائرية، وهناك عبادات تعاملية، الشعائرية لا تزيد عن خمس: أن تنطق بالشهادة، وأن تصلي وأن تصوم، وأن تحج، وأن تزكي، أما العبادات التعاملية فقد تصل إلى خمسمئة ألف بند، في بيتك، في عملك، في الطريق، مع جارك، مع صديقك، مع زميلك، في كسب المال، في إنفاق المال، في تمضية وقت الفراغ، كيف تعامل زوجتك، أولادك، أقرباءك، أمك، أباك، العبادة التعاملية هي أصل في الدين، إن صحت العبادة التعاملية قطفت ثمارها في العبادة الشعائرية، إن صحت العبادة التعاملية استقامة وانضباطاً وإحساناً قطفت ثمارها في العبادة الشعائرية، فلذلك:
(( ليس كل مصلٍّ يصلي، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، وكف شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي، وأطعم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب، وآوى الغريب، كل ذلك لي، وعزتي وجلالي، إن نور وجه لأضوأ عندي من نور الشمس، على أن أجعل الجهالة له حلماً، والظلمة نوراً، يدعوني فألبيه، يسألني فأعطيه، يقسم علي فأبره، أكلؤه بقربي، وأستحفظه بملائكتي، مثله عندي كمثل الفردوس، لا يمس ثمرها، ولا يتغير حالها ))
من استقام على أمر الله عز وجل سعد و سلم في الدنيا و الآخرة :
أيها الإخوة، إذاً: أية آية تأتي بعد:
لذلك أي إنسان على وجه الأرض من الستة آلاف مليون إنساناً، ستة مليارات، كل واحد من هؤلاء حريص حرصاً لا حدود له على سلامة وجوده، وعلى كمال وجوده، وعلى استمرار وجوده، سلامة وجودك باتباع تعليمات الصانع، مستحيل أن تطبق منهج الله في كسب المال ويتدمر مالك؟ مستحيل، أن تطبق منهج الله في اختيار زوجتك ثم تُفاجأ بزوجة خائنة؟ مستحيل، أن تطبق منهج الله في تربية أولادك وتفاجأ بابن عاق؟ مستحيل! سلامة وجودك باتباع تعليمات ربك، هذه التعليمات ثمارها كبيرة جداً، ثمارها سعادة في الدنيا، ثمارها استقرار في الدنيا، ثمارها مكانة في الدنيا، ثمارها حياة بالتعبير المعاصر: سَلِسَة، سلامة وجودك باتباع تعليمات الصانع بالاستقامة يعني، ومعنى سلامة لا تعني سعادة، أي لا يوجد عندك مشكلة كبيرة، لست مريضاً بمرض عضال، لست مصاباً بحادث سير مدمر، لم تعلن إفلاسك بشكل كامل، هذه الأحداث الخطيرة التي تدمر الإنسان، من باب حسن الظن بالله، المؤمن معافى، لأنه طبق منهج الله، لذلك لمجرد أن تستقيم على أمر الله، أنت في سلامة، في سلام مع الله.
الفرق بين السلامة و السعادة :
لكن السلامة شيء، والسعادة شيء آخر، يعني ليس لديك مشكلة، لا يوجد مرض عضال، لا يوجد هم ساحق، لا يوجد فقد حرية، لكنك إذا عملت الصالحات أنت في سعادة، السعادة شيء، والسلامة شيء آخر، السلامة سلبية، ما أُصبت بمرض، ما افتقرت، ما، ما، كلها فيها ما، أما السعادة فإيجابية، تأتيك من الله سكينة،
إذاً أول شيء: السلامة، ثاني شيء: السعادة، وكل إنسان مجبول على حب سلامة وجوده، وكمال وجوده، والثالثة استمرار وجوده، الاستمرار يأتي أنك حينما ربيت أولادك تربية صحيحة كانوا استمراراً لك.
والله مرة لا أنسى هذا الموقف، توفي عالم جليل في الشام، أقيم له العزاء في الجامع الأموي، ذهبت للتعزية، في اليوم الثالث وقف ابنه وألقى خطبة لا تبتعد كثيراً عن خطبة أبيه، هذا الأب ربّى ابناً داعية، أنا قلت: إذاً لم يمت هذا الأب، لم يمت مادام له خليفة، له ابن استمر، فأنت باستقامتك تحقق سلامتك، بالعمل الصالح تحقق سعادتك، وبتربية أولادك تحقق استمرارك، السلامة بالاستقامة، والسعادة بالعمل الصالح، والاستمرار بتربية أولادك.
بطولة الإنسان أن يحب الله الحي الباقي على الدوام :
أيها الإخوة الكرام، إذاً: الإنسان مجبول على سلامة وجوده، وعلى كمال وجوده، وعلى استمرار وجوده، من تعريفات الإنسان أيضاً: هو عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك، يا ترى الدين يلبي كل هذه الحاجات؟ عندك حاجة أساسية إلى علم يملأ عقلك، وعندك حاجة أساسية إلى حب يملأ قلبك.
مرة كنا في الجامعة، عندنا أستاذ علم نفس يعد أحد كبار الأساتذة في العالم العربي، قال: أي إنسان لا يجد حاجة إلى أن يُحِب، أو إلى أن يُحَب، ليس من بني البشر، أنت كإنسان عندك حاجة إلى أن تُحِب، وحاجة إلى أن تُحَب، أما أن تُحِب فينبغي أن تُحِب من هو أصلٌ لوجودك خالق السماوات والأرض، الحي الباقي على الدوام، البطولة أن تعرف من تُحِب، الإنسان أحياناً يحب إنساناً، يموت هذا الإنسان يتألم أشد الألم، أما إذا أحببت الواحد الديان، هو حيٌّ باقٍ على الدوام، أنت في الدنيا والآخرة مع محبوبك، فأنت عقل يدرك، والعقل يحتاج إلى علم، وقلب يحب، والقلب يحتاج إلى محبوب، وكلما كان هذا المحبوب عظيماً كنت أذكى في اختيارك، فإذا كان الذي اخترته هو الله، أنت معه إلى أبد الآبدين، كل بطولتك أن تحب الله، ومحبة الله أسبابها بين أيدينا، الله يحب عباده جميعاً، وأساساً ما أراد أن تكون علاقته بنا علاقة إكراه. قال:
﴿
الأقوياء يُطاعون قهراً، إكراهاً، أما الله -عز وجل- الذي خلقنا فما أراد أن تكون علاقتنا به علاقة إكراه، قال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ
إذاً علاقة الحب بينك وبين الله، فأنت عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك، غذاء العقل العلم، وغذاء القلب الحب، وغذاء الجسم الطعام والشراب.
مرة ثانية: أنت حريص حرصاً لا حدود له على سلامة وجودك، وعلى كمال وجودك، وعلى استمرار وجودك، سلامتك باستقامتك، وكمالك بالعمل الصالح، واستمرار وجودك بتربية أولادك.
البشر عند الله عز وجل لا يزيدون عن صنفين لا ثالث لهما :
أيها الإخوة، الله -عز وجل- حينما هدانا إلى مصالحنا، وهدانا إلى الوحي وحي السماء، ووفّقنا بعد أن اهتدينا إليه، الآن آخر هداية الهداية إلى الجنة التي فيها:
(( ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ ))
هذه الجنة خُلقنا من أجلها، والبشر حيال هذا الموضوع ينقسمون إلى قسمين: الله -عز وجل- يقول:
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى(1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى(2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى(3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى(4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6)﴾
تصوّر أن البشر يُصنَّفون مئات التصانيف، أهل الشمال، وأهل الجنوب، دول الشمال قوية وغنية، ودول الجنوب فقيرة وضعيفة، العرق الأبيض والملون، هذا تقسيم ثان، والعرق الأنكلو سكسوني، والعرق السامي، هذا تقسيم ثالث، وتقسيم رابع الدول الصناعية والدول الزراعية، الدول المتقدمة والدول المتخلفة، تقسيمات لا تعد ولا تحصى، الأذكياء والأغبياء، المستغِلون والمستغَلون، المنتجون والمستهلكون، تقسيمات لا تعد ولا تحصى، ما قولكم أن هذه التقسيمات كلهاعند الله باطلة، ولم يعتمدها القرآن، اعتمد القرآن تقسيمين فقط مؤمن وغير مؤمن، المؤمن له صفات وغيره له صفات، هذا التقسيم جاء في قوله تعالى:
الفرق الكبير بين المؤمن وغير المؤمن فرق جوهري :
البشر الستة آلاف مليون ينقسمون إلى قسمين، قسم آمن أنه مخلوق للجنة، وقسم أيقن أنه مخلوق للدنيا فقط،
والله مرة أخ طلب مني أن أدله على إنسان يعلمه صنع مادة غذائية معينة، قلت له: سوق البزورية يوجد فيه أربعون محلاً يبيعون حلويات اسألهم، أقسم بالله ولا إنسان أعطاه نصيحة، إلا إنساناً واحداً قال له: هذه المادة مربحة، ومادتها الأولية موجودة، وأرباحها جيدة، سبحان الله! المؤمن نصوح، علامة المؤمن نصوح، والأقل إيماناً يتوهم إذا دخل إنسان على هذه الحرفة قلّ ربحه.
فلذلك الفرق الكبير بين المؤمن وغير المؤمن فرق جوهري، إذاً الشيء الدقيق أنت مجبول على سلامة وجودك، وعلى كمال وجودك، وعلى استمرار وجودك، ولك عقل غذاؤه العلم، ولك قلب غذاؤه الحب، ولك جسم غذاؤه الطعام والشراب.
وإن شاء الله في درس قادم نتابع هذه الآيات.
والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تُهنّا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضِنا وارضَ عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
الملف مدقق