- التربية الإسلامية / ٠7موضوعات مختلفة في التربية
- /
- ٠1موضوعات مختلفة في التربية
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الهدف من وجود الإنسان في الدنيا :
أيها الأخوة المؤمنون . . . الحديث الشريف في هذا اليوم من باب فضل الزهد في الدنيا ، والحث على التقلل منها ، وقبل أن نبدأ بقراءة بعض الأحاديث من هذا الباب لابدَّ من مقدمة .
المقدمة هي أن الإنسان وجد في هذه الدنيا ، ولكن الله سبحانه وتعالى تفضل عليه بأن أرسل إليه الأنبياء المرسلين ، وأنزل عليهم الكُتُب ، لماذا ؟ كأن الإنسان وجد في أرضٍ فيها تضاريس ، فيها أكمات ، فيها وديان ، فيها أشياء مخيفة ، فيها أشياء نافعة ، فكأن ضوءاً شديداً سلِّط على هذه الأرض ؛ فرأيت الحفرة ، ورأيت الحشرة ، ورأيت الوحش ، ورأيت الثمرة ، ورأيت كل شيءٍ واضحاً ، فهذه الكتب السماوية ، أو بالأخص هذا القرآن الكريم ألقى ضوءاً على أشياء ثلاثة ؛ ألقى ضوءاً ساطعاً على حقيقة الكون ، وألقى ضوءاً ساطعاً على حقيقة الحياة ، وألقى ضوءاً ساطعاً على حقيقة الإنسان .
أي أنت أيها الإنسان ، وأنت على ظهر الأرض مفتقرٌ افتقاراً شديداً إلى تفسيرٍ صحيحٍ للكون والحياة وللإنسان ، في ضوء هذا التفسير تتحرَّك تحركاً صحيحاً ، الأشياء موجودة ، الكون موجود ، ولكن العقبة في أن تملك التفسير الصحيح لهذا الكون ، والحياة قائمة، ولكن الشيء الخطير أن تملك التفسير الصحيح للحياة ، وأنت موجود ، ولكن الشيء الذي هو أهم من وجودك أن تعرف لماذا أنت موجود ؟ وما المهمة التي أنت بصددها ؟ فلذلك الكتب السماوية كما أنزلها الله عزَّ وجل ، والقرآن الكريم بشكلٍ خاص نورٌ من الله عزَّ وجل أضاء للإنسان حقيقة الكون ، وحقيقة الحياة ، وحقيقة وجوده ، فالعلم الذي في القرآن الكريم هو علم كشفٍ لحقائق الأشياء . .
فبادئ ذي بدء أنت إنسان موجود ، وغيرك موجود ، والكافر موجود ، والذي أنكر وجود الله موجود ، والمنحرف موجود ، والفاسق موجود ، والكافر موجود ، ولكن المؤمن ما الذي رفعه عن غيره ؟ هو أنه صَدَّق هذا التفسير الذي أنزله خالق الكون ، فلو أن إنساناً صنع آلة وأعطاك نشرة يقول لك : هذه الآلة مهمتها كذا وكذا وكذا ، طريقة صيانتها كذا وكذا وكذا ، طريقة استعمالها كذا وكذا وكذا ، فلما الإنسان يتقبَّل من الله عزَّ وجل هذا التفسير للكون ، والحياة ، ولحقيقة الإنسان الآن التحرك صار صحيحاً .
وكما أقول دائماً : إذا عرفت أنك في هذه المدينة من أجل التجارة إذاً توجَّه نحو المعامل ، إذا عرفت أنك من أجل العلم توجه نحو الجامعات ، إذا عرفت أنك من أجل السياحة توجه نحو الأماكن الأثرية ، إذاً طريقة التحرك أساسها أن تملك التفسير الصحيح ، لماذا أنت هنا ؟ فهناك أحاديث كثيرة عن النبي عليه الصلاة والسلام في حقيقة الدنيا ، وهذه الأحاديث خطيرة جداً ، الناس يأخذونها هكذا على محملٍ حسن من دون أن يدققوا ، يعمِّقوا ، وكأن الحديث يقرؤونه للتبرُّك ، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام يبين لنا . .
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾
النبي عليه الصلاة والسلام يقدِّم لنا تفسيراً للدنيا عن الله عزَّ وجل ، عن خالق الكون ، فأنت بين أمرين إما أن تقبل هذا التفسير ، وفي ضوء هذا التفسير الصحيح تتحرك حركةً صحيحة ، وإما أن ترفضه ، فإذا رفضته كان التحرك مغلوطاً .
من عرف سرّ وجوده كان انطلاقه إلى هدفه واضحاً :
الحديث اليوم عن الحياة الدنيا ، هذه الحياة الدنيا شغلت الناس كلهم . النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( حبّ الدنيا رأس كل خطيئة ))
والدعاء الشريف يقول : " اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا " . . فالدنيا عند بعض الناس أكبر همهم ، ومبلغ علمهم ، ينتهي علمهم ، تنتهي خبرتهم ، ينتهي ذكاؤهم ، ينتهي نشاطهم ، ينتهي سعيهم عند الدنيا ، فإذا جاء الموت ، أو قربت أيامه ، أو دخل الإنسان في خريف العمر شعر بكآبة لا توصف ، لأن هذا الذي أقبل عليه طوال حياته يوشك أن يزول عنه . فنحن أمام مشكلة أنه أنت على وجه الأرض ، وجودك صحيح ، قائم ، صارخ ، أنت مؤمن بوجودك بشكلٍ قطعي ، ولكن البطولة أن تعرف لماذا أنت هنا موجود ؟ الذي يظن أنه موجود ليجمع الدرهم والدينار . . قال تعالى :
﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾
الموجود على وجه الأرض من أجل أن ينغمس في المُتَع الرخيصة ، هذا فهم مغلوط ، فإذا جاء خريف العمر شعر بالخيبة والخسران . فأنت حينما تطلب العلم أنت تبحث عن أساس وجودك ، تبحث عن التفسير الصحيح لوجودك ، تبحث عن علَّة وجودك ، تبحث عن حكمة وجودك ، تبحث عن سبب وجودك ، فإذا عرفت السبب كان الانطلاق إلى الهدف واضحاً .
فالنبي عليه الصلاة والسلام في طائفةٍ كثيرةٍ من أحاديثه الشريفة المتعلقة بالدنيا وحقيقة الدنيا يصف لكم الدنيا ، فمَن كان تصوره للدنيا خلاف هذا التصور فهو في ضلال ، ومن جاء تصوره للدنيا وفق هذا التصور فهو في هدى ، فمتى يفلح الإنسان ؟ إذا جاءت حركته اليومية ؛ تصوراته ، انطلاقه في الحياة وفق الهدف الكبير الذي رسمه الله له .
الآن الطالب ، لماذا هناك طالب يأخذ علامات عالية جداً في الامتحان ، ما هو السر ؟ السر هو أن هذا الطالب من أول يوم في العام الدراسي ما غفل عن الامتحان ، الامتحان الذي سيكون في الخامس من حزيران مثلاً ، وهو في أيلول ، تسعة أشهر ، وصورة الامتحان ، والتفوق في الامتحان ، وأداء الامتحان ، والنجاح في هذا الامتحان لا يبرح مخيلته أبداً ، من هنا ينظِّم وقته ، ويوزِّع وقته ، ويستهلك جهوده ، ويستهلك عضلاته ، ويستهلك أفكاره، ويستهلك طاقاته بشكلٍ يؤدي إلى التفوق في الامتحان . فسيدنا سعد عندما قال : " ثلاثةٌ أنا فيهن رجل وفيما سوى ذلك أنا واحدٌ من الناس - أحدها - ما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حقٌ من الله تعالى " . فهذا الحديث الشريف بلغة معاصرة : تعليمات الصانع ، أو تفسيرات الصانع ، أو إيضاحات الصانع جاءتنا عن طريق النبي عليه الصلاة والسلام .
في الإسلام إضاءة و رسم للطريق الصحيح :
يوجد بالإسلام شيئان ، إضاءة و رسم للطريق الصحيح ، عندما قلنا : إن الإنسان وجد في أرض فيها تضاريس متنوعة ، فيها حفر ، وفيها أكمات ، وفيها طريق معبَّد ، وفيها ورود ، وفيها ثمار ، وفيها مياه للشرب ، وفيها مياه آسنة ، وفيها بحيرات للسباحة ، وبحيرات عميقة قد يغرق الإنسان فيها ، وهو لا يرى شيئاً في ظلامٍ دامس ، فجأةً أضيء له ضوء ساطع؛ فرأى بعينه الجبل ، رأى الحفرة ، رأى الماء العذب الذي يشربه ، ورأى الماء الآسن الذي يجب أن يبتعد عنه ، ورأى البحيرة التي يمكن أن يسبح بها ، ورأى البحيرة العميقة التي يخشى أن يغرق فيها ، فهذا الضوء الساطع هو القرآن الكريم . .
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
الله عزَّ وجل أضاء لك الحياة ، قال لك : هذا صح ، هذا يسعدك وهذا لا يسعدك ، هذا يقربك مني وهذا يبعدك عني ، هذا يجعلك موفقاً وهذا يجعلك في أمرٍ عَسِر . فربنا عزَّ وجل بعث القرآن .
الآن ، في هذه الأرض المتنوعة في التضاريس طريق ، هذا الطريق معبَّد ، حوله إشارات ، وأسهم ، وتحذيرات ، وإيضاحات هذا هو طريق الإيمان . فبالإسلام يوجد شيئان ؛ توضيح ، و رسم لطريق السعادة ، فأنت أولاً لابد من أن تقبل التوضيح الإلهي ، فعندما تقرأ القرآن هذا القرآن شيء خطير جداً ، هذا القرآن توضيحٌ لحقيقة الكون والحياة والإنسان ، هذا مصطلح فلسفي ؛ الكون والحياة والإنسان ، وفي القرآن أيضاً رسمٌ لمنهجٍ يوصلك إلى السعادة الأبدية . الآن ، النبي عليه الصلاة والسلام فسر هذا القرآن من خلال أحاديثه الشريفة ، فالسنة النبوية المطهرة في حقيقتها توضيحٌ ، وتبيينٌ ، وتفصيلٌ للقرآن الكريم ، فالآن أنت إذا قرأت حديثاً شريفاً يجب أن تعلم ماذا تقرأ ، إنك تقرأ توضيحات الصانع ، توضيحات الخالق ، وهي أصح التوضيحات ، لا يوجد نظرية وضعية إلا لها توضيحات
الحياة عند أحد الفلاسفة مثلاً جنس فقط من أولها إلى آخر ، عند (فرويد) ، كل ظاهرةٍ إنسانية ، كل تحرك بشري ، كل مشكلة ، كل تجمُّع ، كل تفرق ، كل نزاع ، كل صراع أساسه الجنس ، هذا عند إنسان ضالٌ مضل . والحياة عند إنسان آخر مادة ، يفسر التاريخ كله ، والعلاقات الإنسانية كلها ، والقيم كلها في ضوء المادة ، في ضوء المنافع فقط ، وهذا أيضاً ضلالٌ في ضلال . وإنسان آخر يفسر الحياة كلها في ضوء اللذة ، اقتناص اللذة من أي طريق ، وبأي شكل ، ودون أي رادع ، هذا المذهب الوجودي . لكن الإسلام هو فلسفة الكون من وجهة نظر خالق الكون ، إذاً هي أصح فلسفة ، أصح توضيح ، فعندما يعطيك النبي الكريم الآن توجيهات عن الدنيا فأنت بين أمرين ؛ إما أن تأخذ بها فتسعد ، وإما أن تدعها فتشقى ، فالقضية ليست قضية اقتنعت أم لم تقتنع ، هذه القضية تعليمات الصانع ، هذه تعليمات الخالق ، هذه توضيحات الخالق وتعليمات الخالق فإذا طبقتها ، وأخذت بها ، وضِعْتَ على الطريق الصحيح الذي تسعد به في الدنيا والآخرة .
هدف كل إنسان على وجه الأرض يحدد مصيره :
أنا لا أقبل ، أو لا أصدق أن إنساناً على وجه الأرض لا يتمنى أن يعيش حياةً في سلام من كل مرض ، من كل همّ ، من كل مشكلة ، من كل أزمة ، من كل شيء مزعج ، ولا يتمنى أن يستمر وجوده ، وأن يعافى وجوده ، وأن يكمل وجوده ، هذه الفطرة ، فإذا عرفت أنك إذا سرت على منهج الله عزَّ وجل تحققت سلامة وجودك ، وتحقق كمال وجودك ، وتحقق استمرار وجودك ، الاستمرار بعد الموت ، الإنسان يتمنى أن يبقى إلى الأبد ، هذا الهدف الحقيقي لا يتحقق إلا إذا عرفت الله ، فإذا عرفت الله عزَّ وجل وسرت على منهجه كانت حياتك خطاً صاعداً إلى ما شاء الله ، صعود مستمر ، والموت نقطة على هذا الخط ، بعد الموت حياة أسعد . لذلك هذه المقدمة أردتها من أجل أن تعرف أن حقيقة الدنيا كما نطق بها عليه الصلاة والسلام شيءٌ دقيقٌ جداً ، إما أن تأخذ به وإما أن تدعه ، إن أخذت به سعدت في الدنيا والآخرة. يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إن الدنيا حلوةٌ خضرة ))
وهذه من حكمة الله عزَّ وجل ، جعل فيها طعاماً ، وشراباً ، وحدائق ، وبساتين ، وأسبغ على بعض المخلوقات الجمال ، هناك مخلوقات جميلة ، و أماكن جميلة ، و رياض غنَّاء ، و بساتين جميلة ، و وجاهة ، و سمعة ، و علو ، و انغماس في الملذَّات ، هناك أشياء لا تعد ولا تحصى . .
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾
هو لولا أن في الدنيا شيء جميل ، ولولا أن فطرة الإنسان تتوق إلى هذا الشيء الجميل ، لما صحَّ الامتحان ، ولما صحَّ الابتلاء ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إن الدنيا حلوةٌ خضرة وإن الله تعالى مستخلفكم فيها ))
الحكمة من استخلاف الإنسان في الأرض :
حينما قال الله عزَّ وجل :
﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾
استخلفك على أولادك ، هل تأخذ بيدهم إلى الله أم تنتفع بهم فقط ؟ استخلفك على زوجتك ، هل يعنيك من زوجتك أن تكون زوجةً تلبي كل حاجاتك أم أنك تهدف من هذه الزوجة إلى أن تأخذ بها إلى الله والدار الآخرة ؟ استخلفك على طلاَّبك إذا كنت معلماً ، هل يعنيك أن تأخذ المال فقط من دون أن تقدم ما يكافئ هذا المال أم أن هدفك الأول أن تهديهم إلى سواء السبيل ؟ الإنسان مستخلف ، مستخلف على أهله ، مستخلف على أولاده ، مستخلف على زبائنه، هذا زبونك أعطاك هذا المبلغ وهو تعبان فيه ، أعطيته مقابل هذا المبلغ شيئاً صحيحاً جيداً شيئاً ينتفع به أم أعطيته شيئاً مزيفاً أو فيه غش ؟ فالإنسان مستخلف بأوسع معاني هذه الكلمة ، في بيتك مستخلف ، في عملك مستخلف ، مع إخوانك مستخلف ، مع جيرانك مستخلف، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( إن الدنيا حلوةٌ خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ))
أنت تحت المراقبة ماذا تعمل ؟ هل تؤثر الشهوة أم تؤثر إرضاء الله عزَّ وجل ؟ هل تؤثر الدرهم والدينار أم تؤثر ما يرضي الله عزَّ وجل ؟ هل تؤثر راحتك أم تؤثر معادك ؟ هل تؤثر الشهوة أم تؤثر العقل ؟ هل تؤثر الحاجة أم تؤثر القيمة ؟ فدائماً الإنسان في محك ، لذلك ربنا عزَّ وجل جعل أحد أسباب خلقك في هذه الدنيا هو الابتلاء . .
﴿كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
يقول عليه الصلاة والسلام :
(( فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ))
فالدنيا كما قال عليه الصلاة والسلام خطرة ، فيها منزلقات ، فإذا أقبلت عليها بنور الله عزَّ وجل ، وسرت فيها بتوجيه النبي عليه الصلاة والسلام ، أغلب الظن أنك تنجو منها ، فإذا آثرت حظك فيها وقعت في حبائلها :
(( فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ))
أي اتقوا النساء ، النساء كما قال عليه الصلاة والسلام :
(( حبائل الشيطان ))
الشيطان إذا أحبّ أن يوقع مؤمناً في فخٍ يستخدم المرأة ، فالمؤمن محصن من المرأة ، لأن الله أمره بغض البصر ، وأمره بالعفة ، وما من رجل في الأرض إلا وفيه نقطة ضعف ؛ المال والنساء ، نقطتا ضعفٍ في شخصية الإنسان العادي ، المؤمن محصَّن من هاتين النقطتين الضعيفتين ، لا يكسب مالاً إلا حلالاً ، ولا يقبل أية علاقةٍ إلا العلاقة التي شرعها الله عزَّ وجل ، إذاً هو في حصن ، إذاً :
((وإن الله مستخلفكم ))
فالاستخلاف أن الله سبحانه وتعالى جعل الدنيا خضرةً حلوة ، الإنسان في الطريق قد يرى امرأةً جميلة ، هو الآن مستخلف ؛ إما أن يغض بصره عن محارم الله ، وإما أن ينظر ، فإذا نظر سقط ، وإذا غضَّ بصره نجح ، قد يكون في يده مال ، وصاحب هذا المال توفي ، والورثة لا يعلمون هذا المال ، الآن هو في امتحان ؛ إما أن يأكل هذا المال ، وإما أن يعطيه للورثة ؟ إن أعطاه للورثة فقط نجح وإن أكله فقد رسب . .
(( إن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون ))
حال المراقبة أن تشعر أن الله سبحانه وتعالى مطلعٌ عليك ؛ مطلعٌ على ظاهرك ، مطلعٌ على جوارحك ، مطلعٌ على قلبك ، مطلعٌ على نواياك ، مطلعٌ على صراعاتك ، مطلعٌ على طموحاتك ، أن تشعر أن الله مطلعٌ عليك هذه حالةٌ راقية ، وهذه الحالة سمَّاها بعض الصوفيين حالة المراقبة ، فإذا بلغها الإنسان فهو بخير ، أن تكون في حال المراقبة ، أن تشعر أن الله سبحانه وتعالى مطلعٌ عليك . . " اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " . . اعبده كأنه يراك .
ذكر الله عزَّ وجل هو طريق المؤمن دائماً :
الشيء الآخر بعض الأدعية النبوية :
(( اللهم اجعلني أخشاك حتى كأنني أراك وأسعدني بلقياك ))
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
(( يتبع الميت ثلاثة ـ أهله ، وماله ، وعمله ـ . . . ))
أحياناً يكون هناك سيارات بالجنازة ، أحد هذه السيارات كانت للميت ، فهذا ماله يمشي معه ، ويمشي معه أولاده ، وأخواته ، وأقرباؤه ، وهو معهم كذلك ، حينما يدفن هو يبقى في القبر ، والأهل والمال يرجعون إلى البيت ، ويبقى عمله . فالمشكلة أنه دائماً في كل لحظة من لحظات الإنسان ؛ النظرة ، والكلمة ، والحركة ، وإنفاق المال ، وكسب المال ، والغضب والرضا ، والحب والبغض ، والعطاء والمنع ، هذا النشاط الإنساني يجب أن يقيَّم دائماً في علاقته في القبر ؛ هذا الموقف يدخل معي في القبر أم يقف هنا ؟ أنت سهرت سهرة ممتعة للساعة الثانية ولكن لا يوجد فيها ذكر لله عزَّ وجل ، هذه السهرة ينتهي أثرها بانتهائها أم يستمر أثرها بعد الموت ؟ إذا ذكرت الله في هذه السهرة استمر أثرها بعد الموت ، فإذا ذكرت الدنيا انتهت في وقتها ، فإذا كان فيها الغيبة والنميمة حمِّلت منها أوزاراً . فالإنسان وهو جالس مع أصدقائه ، مع أقربائه ، مع جيرانه يا ترى هذا الموقف ، ذكر اسم شخص ، هل اغتابه ؟ هناك وزر ، بقي ساكتاً يبقى في سلام ، ما تكلم عن الله عزَّ وجل هناك خسارة ، لذلك . . " برئ من النفاق من أكثر من ذكر الله " . . المؤمن شغله الشاغل أن يذكر الله عزَّ وجل ، وربنا عزَّ وجل قال :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ﴾
الدنيا دار عمل و ابتلاء :
يقول عليه الصلاة و السلام :
(( يتبع الميت ثلاثة ؛ أهله ، وماله ، وعمله ـ فيرجع اثنان - أهله وماله - ويبقى واحد ))
وعنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة ))
أنعم أهل الدنيا ، الإنسان يعيش في بيت مساحته تقدر بسبعين متراً ، فإذا كان بيته مئة متر والله أفضل ، مئة وخمسون ، مئتان ، إذا إنسان كانت مساحة بيته أربعمئة متر ، أو خمسمئة متر ، أو ثلاثة طوابق فيلا مستقلة مع حديقة غنَّاء ، فهذا متنعِّم ، متنعم بالحديقة ، متنعم بهذه المساحات الواسعة ، متنعم بهذا التبريد ، بهذا التكييف ، بهذه التدفئة ، متنعم بهذا الطعام والشراب ، بهذه الثياب الأنيقة جداً ، كل ثيابه أجنبية ، وحياته عطرة كلها ، وطعامه نفيس ، ومناظره جميلة ، ومرفَّه رفاهية كاملة . يقول عليه الصلاة والسلام :
(( يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار - أنعم أهل الدنيا أي أشد أهل الدنيا نعيماً - يوم القيامة ، فيصبغ في النار صبغةً - معنى يصبغ أي يغمس ، غمسة واحدة - ثم يقال له : يا بن آدم - اسمعوا هذا الجواب - هل رأيت خيراً قط ؟ - عاش ثمانين سنة غارقاً في النعيم ، غارقاً في الرفاه ، غارقاً فيما لذّ وطاب ، غارقاً في الوجاهة ، غارقاً في المتع ، غارقاً في المباهج ، غارقاً في كل شيء - يقال له : يا بن آدم هل رأيت خيراً قط ؟ هل مرَّ بك نعيمٌ قط ؟ فيقول : لا والله يا رب ))
لذلك حديث سيدنا علي يقول لابنه الحسن : " يا بني ما خير بعده النار بخير ، وما شرٌ بعده الجنة بشر " .
(( يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار - من العصاة طبعاً ، من الفاسقين ، من الظالمين ، من المنحرفين ، من الكفار - يوم القيامة فيصبغ في النار صبغةً - أي يغمس في النار غمسةً واحدة - ثم يقال له : يا بن آدم هل رأيت خيراً قط ؟ - هل مر بك نعيمٌ قط ؟ فيقول : لا والله يا رب ، أين النعيم ؟ أين الطعام والشراب ؟ أين ما لذَّ وطاب ؟ أين الوجاهة؟ أين القيمة الاجتماعية ؟ أين البيت الفخم ؟ - لا والله يا رب ،ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة ، فيصبغ صبغةً في الجنة - يدخل إليها - فيقال له : يا بن آدم هل رأيت بؤساً قط ؟ هل مرت بك شدةً قط ؟ فيقول : لا والله يا رب ما مرّ بي بؤسٌ قط ولا رأيت شدةً قط ))
فما قولكم ؟ إذا الإنسان انغمس غمسة واحدة في النار ينسى نعيم الدنيا كلها ، وإذا أطل على الجنة إطلالة واحدة ينسى بؤس الدنيا كلها ، إذاً هذه الدنيا لا تستحق أن نجعلها أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، هذا توضيح الصانع ، هذا توضيح الخالق لحقيقة الدنيا ، إذاً هي شيء عابر ، شيء طارئ ، شيء مؤقَّت ، شيء سوف يمضي ، دار ابتلاءٍ وانقطاع ، دار غرور ، دار عمل ، دار مرور ، فمن جعلها مستقراً فقط وقع في خطأٍ كبير . وقد قال عليه الصلاة والسلام في حديثٍ آخر عن الدنيا :
((ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما يرجع ))
هذا تشبيه النبي عليه الصلاة والسلام للدنيا ، إنسان يركب قارباً في البحر ، غمس يده ، غمس إصبعه فقط ، يا ترى هل هناك قطرة ماء ؟ هذه القطرة انسبها إلى مياه البحر كله ، هذا ما أخذت الدنيا من الآخرة ، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام ، فعندما يقضي الإنسان أربعاً وعشرين ساعة ؛ ثماني ساعات في النوم ، واثنتا عشرة ساعة في عمله ، وربنا عزَّ وجل ألا يوجد له نصيب أبداً ؟ إذاً يكون في خسارة كبيرة ، فهذا . .
﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾
وعنه صلى الله عليه وسلم إذ يقول :
(( تعس عبد الدينار والدرهم ، والقطيفة والخميصة ، إن أعطي رضي وإن لم يعطَ لم يرض ))
من جعل الدنيا أكبر همه أصبح عبداً لها :
إذاً الإنسان حينما يجعل الدنيا أكبر همه أصبح عبداً لها ، فبين أن تكون عبداً لله ، أخ اليوم ذكر لي أنه يلتقي مع بعض أصدقائه ، مع بعض جيرانه ، يحس بهموم ساحقة ، إذا الإنسان ترك الله عزَّ وجل الهم يأكل قلبه ، تجده تحت ثقل كبير ، تحت كابوس من الهم . " من سكن قلبه حبُّ الدنيا ابتلي بثلاثةٍ ؛ شغلٍ لا يبلغ مَداه ، وفقر لا يبلغ غناه ، وأمل لا يبلغ منتهاه" دائماً يشكو الفقر ، يقول لك : الأسواق ميتة ، وهو ربحان نصف مليون ، وأكثر من مصروفه بعشرة أضعاف ويقول لك : الأسواق ميتة ، سوق مسموم ، قل : الحمد لله ، الحمد لله صحتك طيبة ، كليتاك سليمتان ، أجهزتك ، قلبك ، رئتاك ، أولادك ، أهلك، كلمة الحمد لله فيها أدب مع الله عزَّ وجل ، فيها شكر ، دائماً يشكو ، الذي يشكو دائماً ولا يعرف ما هو فيه من نعمةٍ ، هو إنسان بعيد عن الله عزَّ وجل .
سيدنا عمر عندما أصابته مصيبة قال : " الحمد لله ثلاثاً ، الحمد لله إذ لم تكن في ديني - مال ذهب يذهب ، بيعة لم تباع معنا ، هذه البضاعة لم تباع ، أو ارتفع ثمنها فلم نشترها ، الآن سعرها صار الضعف ، هذا كله مال ، لكن دينك سليم ، وقعت بمعصية ، خرقت الاستقامة ، أكلت مالاً حراماً ؟ ملت للمعصية ميلاً ؟- الحمد لله إذ لم تكن في ديني ، والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها ، والحمد لله إذ ألهمت الصبر عليها " .
الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر :
وعنه صلى الله عليه وسلم :
(( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ))
لأن الإيمان قيد الفتك ، فهل أنت تستطيع أن تأكل مالاً حراماً ؟ لا تستطيع ، تستطيع أن تدخل إلى مطعم فيه نساء كاسيات عاريات وفيه خمر ؟ تستطيع أن تعمل عملاً فيه إعطاء حظ للنفس على حساب طاعتك لله عزَّ وجل ؟ لا تقدر ، فمعنى سجن أي أنت مقيد بالشرع ، ليس لك حق أن تجلس في أي مكان ، ولا بأي فندق ، ولا بأي سهرة تحضرها ، ولا بأي نزهة ، هناك نزهة فيها شبهات ، فيها نساء كاسيات عاريات ، هناك أماكن موبوءة ، هناك طرقات موبوءة ، هناك علاقات فاسدة ، هناك أماكن فيها اختلاط ، فأنت عندك شرع ، عندك حدود ، هذه تجوز ، وهذه لا تجوز ، المؤمن مقيد بالشرع ، إن القرآن قد قيد المؤمن عن كثيرٍ من هوى نفسه وحفظه من أن يقع في الحرام ، فـ . .
(( الدنيا سجن المؤمن))
يجلسون مع بعضهم بسهرة زوجة هذا ، وزوجة هذا ، عينه على هذه ، وعلى هذه ، مزح مع هذه ، ونظر لهذه ، وهذه نظرة مغشوشة ، وهذه نظرة مقصودة ، أي لا يوجد تكليف بينهم ، فالدنيا سجن المؤمن لأنه لا يستطيع أن يجلس سهرة مختلطة ، ولا يجلس في مكان فيه معصية ، فحركته مقيدة بالشرع ، قبضه للمال بالشرع مقيد ، هل يستطيع أن يأخذ أي مبلغ ؟ لا يقدر ، فهل يأكل أي طعام لو سافر ؟ أي شيء يأكله يخاف أن يكون فيه لحم خنزير فلا يقدر، يخاف أن يكون في هذه المادة كحول ، فطعامه وشرابه فيه قيد ، حركته فيها قيد ، مكان إقامته فيها قيد ، يقدر أن يعمل أي عمل ؟ إذا كان العمل رائجاً ولكنه حرام ، أحياناً يكون هناك بضاعة محرمة ولكن رائجة جداً ، فيها أرباح طائلة ، أخي والله سأفتح محلاً وأبيع هذه الأشرطة، لا تقدر لأنها محرمة . فما معنى سجن ؟ أي أنت مقيد ، أنت عبد لله عزَّ وجل ، هل تستطيع أن تأكل مالاً حراماً ؟ لا تقدر
هل تستطيع أن تدين مبلغاً لك وهذه فائدة عليه ؟ هذه الفائدة حرام ، فمعنى سجن أنك مقيد في كسب المال ، في إنفاق المال ، في علاقاتك الاجتماعية ، في رحلاتك ، في نزهاتك ، في حِلَّك ، في ترحالك ، في عملك ، في أي حركة مقيد بالشرع ، فمعنى السجن بمعنى القيد . .
((وجنة الكافر ))
هذا فلتان ولا يوجد قيد . فيبدو للإنسان ضعيف النظر هذا الكافر آخذ حريته ، لا يتقيد بشيء يصافح ، ويمزح ، ويسهر ، ويأتي إلى البيت ، الزوج غير موجود يدخل ويجلس مع الزوجة ، عنده روح رياضية ، الزوج غير موجود يدخل يجلس مع الزوجة ، قعد عندها وأداروا حديثاً ممتعاً حتى يأتي زوجها ، يأتي : أهلاً وسهلاً ، فيبدو أن الكافر أخذ حريته في حركاته ، في نزهاته ، يلعبون مثلاً نساء ورجالاً بالثلج ، يتضاربون ، يمزحون مع بعضهم ، يقرؤون مجلات وقصصاً فاضحة ، يشاهدون مسلسلات ممتعة ، هناك أفلام خاصة يأتون بها ، فيبدو للإنسان القاصر الذهن أن الكافر في جنة ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام فيما يبدو لعامة الناس :
(( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ))
شعور الأمن شعور لا يملكه إلا المؤمن :
لكن المؤمن بقلبه سعادة والله الذي لا إله إلا هو لو وزعت على أهل بلدٍ لكفتهم ، شعورك أن الله يحبك ، وأن الله راضٍ عنك ، وأنك في عين الله ، وأنك في حفظ الله ، وأنك نظيف ، علاقاتك كلها واضحة ، كل علاقاتك مقننة بالشرع ، لا يوجد عندك شيء غامض أبداً، هذا الشعور - شعور الأمن - لا يملكه إلا المؤمن . .
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
يقولون : إن رجلاً ذمياً يعمل عملاً شاقاً جداً في الأسيقة ، وبحالة من البؤس ، والفقر، والحاجة ، والضعف ، شاهد عالماً من علماء المسلمين بين إخوانه في موكب ، شكله جميل ، ولباسه أنيق ، والأخوان يحفون فيه من كل جانب ، ومعزز ، مبجَّل ، مكرَّم ، مرفَّه ، فيبدو أن هذا الذمي قرأ هذا الحديث فطار عقله ، واستوقفه ، قال له : يا سيدي أي سجنٍ أنت فيه وأية جنةٍ أنا فيها ؟ ما هذا الحديث ؟ لأن نبيكم قال :
(( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ))
فأي سجنٍ أنت فيه وأي جنةٍ أنا فيها ؟!! أنا محروق نفسي أي جنة هذه ؟ فأجابه قائلاً : ما أنت فيه لما ينتظرك فأنت في جنة ، وما أنا لما ينتظرني فأنا في سجن . معنى ذلك الإنسان مهما ترفه في الدنيا لو قست حياته بما بعد الموت فحياته لا شيء .
استغلال الوقت لأنه أثمن شيء في حياة الإنسان :
لذلك ربنا عزَّ وجل قال :
(( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت ))
أنت لك مشاهدات ، لو سألناك : أنت أين مسافر ؟ والله أنا أعرف حلب ، وذاهب إلى الحج ، فأعرف مكة والمدينة وجدة فقط ، وذاهب مرة لمصر فرضاً ، إذاً القاهرة ، وجدة ، ومكة ، والمدينة ، وحلب ، ودمشق ، هذه عينٌ رأت ، فهل رأيت الأرجنتين ؟ لا والله ، ذهبت إلى اليابان ؟ لا والله لم أذهب ، زرت أمريكا ؟ لا والله ، كندا ؟ لا والله لا أعرفها ، ألم تذهب إلى المكان الفلاني ؟ لا والله لا أعرفه ، فأضيق دائرة بحياة الإنسان هي المشاهدات ، المرئيات، فالله عزّ وجل قال في الحديث القدسي :
(( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت ))
هناك إنسان رأى القارات الخمس ، بعض التجار الكبار يوم في اليابان ، يوم بأمريكا ، يوم بالبرازيل ، يوم بفرنسا ، يوم بإنكلترا ، هذا مرئياته واسعة جداً ولكنها كلها تتم في الأرض ، ولكن رواد الفضاء وصلوا إلى القمر ، إذاً يضاف للأرض القمر هذه المرئيات ، لكن:
((ولا أذنٌ سمعت ))
أوسع بكثير ، تسمع بكل دول العالم بالأخبار ، يقول لك : صار زلزال باليابان ، صار فيضان بدولة من دول آسيا ، بالهند مثلاً ، هناك جراد بالسودان ، أنت تسمع عن السودان، والهند ، والباكستان ، وبنغلاديش ، فمسموعاتك أوسع بكثير من مرئياتك ، ضرب مليون ، ضرب خمسة ملايين ، تسمع بالمجرات ، تسمع بالقمر ، سمعت بكل شيء ، إذاً دائرة المسموعات أوسع بكثير من دائرة المرئيات ، أما دائرة الخواطر فهذه ليس لها حدود ، ممكن أن يخطر في بالك إنسان طوله من هنا إلى القمر ؟ ممكن ولكن هذا خاطر ، ممكن أن تتصور مثلاً ماء مثل القطر لزجاً ؟ هذا خاطر ، ممكن أن تتصور مثلاً أفعى طولها من هنا إلى حلب؟ هذا خاطر ، ماذا قال الله عزَّ وجل ؟
(( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت - هذه أضيق دائرة - ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر ))
فهذا الذي ينتظرك أيها الأخ المؤمن ، لو تعلم ماذا ينتظرك ؛ والله لوجدت أن كل ثانيةٍ تضيع منك خسارة ما بعدها خسارة ، فإذا ركب الإنسان سيارة وسافر يذكر الله عزَّ وجل ، يقرأ موضوعاً إن تمكن له أن يقرأ ، يقرأ قرآناً إذا كان حافظه ، جلس مع إنسان يذكره بالآخرة ، النبي الكريم قال :
(( أمرت أن يكون صمتي فكراً ، ونطقي ذكراً ، ونظري عبرةً ))
إذا نظر يعتبر ، وإذا صمت يفكر ، وإذا تكلم يتكلم عن الله عزَّ وجل ، هذا من استغلال الوقت لأن الوقت أثمن شيء ، الآية الكريمة :
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾
العصر هنا مطلق الزمن ، أي إذا أنت ذهبت إلى نزهة مثلاً ، وحجزت في الفندق خمسة أيام ، كلما تمضى ساعة المسافة قصرت ، أبداً ، فالزمن ليس في صالح الإنسان إلا في حالة واحدة . .
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
الإنسان ما تاب لله عزَّ وجل الأيام تمضي ، مضت أول سنة بالسبعينات ، صار بالثمانينات ، صار بالخامسة والثمانين ، بالثامنة والثمانين ، بالتسعين ، الزمن يمشي ، هل في صالحه ؟ لا ، ليس في صالحه لأنه كلما مضت سنة اقترب من الموت ، من الحساب ، من نهاية اللذائذ كلها ، من بدء العذاب ، إلا المؤمن . .
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
هذا مستثنى من هذه الخسارة ، فهذه الآية دقيقة جداً ، فتحرك الزمن ليس في صالح الإنسان ، بل إنه ينقِص من وجوده ، لأن الإنسان في حقيقته بضعة أيام فكلما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه .
(( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ))
من تعلق بالدنيا شقي و خسر :
آخر حديث ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل ))
الإنسان عندما يذهب إلى مكان مؤقتاً ، لو استأجر بيتاً في مصيف لمدة شهر لا يهتم بشيء إطلاقاً ، يقول لك : هذه الإقامة مؤقتة ، يمكن أن يجد السجادة مهترئة يقول لك : لابأس ، فلماذا قبل كل هذا ؟ لأن القضية قضية شهر واحد ، فلو أن الإنسان تعمق في الدنيا يجدها مؤقتة كلها ، فعندما يهتم بتنظيم أموره بأقصى درجة النبي الكريم قال :
(( كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل ))
كلما رأيت نفسك مسافراً تخف طلباتك ، تخف حاجاتك ، تخف همومك ، تخف متاعبك ، تخف مقلقاتك ، كلما كثرت الحاجات ورأيت أن الدنيا طويلة ، وفيها كل شيء ، تبدأ المشاكل ، لذلك : إن أسعد الناس فيها أرغبهم عنها ، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها ، كلما تعلقت فيها أكثر تشقى بها ، وكلما تركتها أكثر تسعد بها ، لذلك :
(( كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل ))
هذه بعض الأحاديث الشريفة المتعلقة بالدنيا ، هذه توضيحات الخالق ، الكون والدنيا والإنسان ، أشياء أساسية في حياتك ، فإذا عرفت لماذا أنت في الدنيا ، وأنها مؤقتة ، وأن العمل الصالح هو أساس كل شيء لتركتها و سعيت إلى الاخرة .
العمل الصالح الشيء الوحيد الذي يندم عليه الإنسان في الآخرة :
هناك نقطة مهمة إذا إنسان جاءه ملك الموت وكان تاجر عمار ، ماذا يقول لملك الموت ؟ فقط أعطني مهلة لمدة أسبوع كي أصب السقف الأخير ؟ هذه هل قالها أحد ؟ لو كان تاجراً : أخي لأبيع البضاعة ، لم أبعها بعد ، لا ، لا يقول هذا ، لكن ماذا يقول ؟ يقول :
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ ﴾
إذاً ما هو أهم شيءٍ في الدنيا ؟ العمل الصالح ، هذا الذي على وشك الموت ، على فراش الموت ، في النزع الأخير ، ماذا يقول ؟ . .
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ ﴾
ما قال شيئاً آخر إطلاقاً ، هذه الحقيقة ، معنى هذا أن الذي تندم عليه هو العمل الصالح ، لا تندم على شيء إلا العمل الصالح ، إذاً هو حقيقة الدنيا ، لذلك :
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
* * *
لقطة من السيرة النبوية المطهرة :
بقي موضوع قصير عن السيرة - الحديث الشريف استغرق الوقت كله - النبي عليه الصلاة والسلام حينما اتجر بمال السيدة خديجة ، فعند الفقهاء النبي عليه الصلاة والسلام أول مضاربٍ في الإسلام ، معنى مضارب - هذا مصطلح فقهي - شركة المضاربة أي المال من إنسان والجهد من إنسان آخر ، فإذا اشترك إنسان بجهده وإنسان بماله ، فهذه شركة مضاربة، فالنبي عليه الصلاة والسلام اتجر بمال السيدة خديجة . الشيء المهم أن النبي عليه الصلاة والسلام ذهب إلى الشام بمال السيدة خديجة رضي الله عنها ، وكان معه ميسرة غلام خديجة . ميسرة رأى من صدقه ، ومن أمانته ، ومن استقامته ، ومن عفَّته الشيء الذي لا يوصف ، فلما عاد إلى مكة ، أخبر السيدة خديجة بما رآه من رسول الله صلى الله عليه وسلم . التعليق على هذا الحدث في السيرة أن المؤمن لا تبدو قيمته في صلاته وصيامه ، ولكن في محاككته بالدرهم والدينار ، عندما تعامله ، عندما تعطيه نقوداً يشغلها لك ، عندما تدينه مبلغاً ، فالنبي عليه الصلاة والسلام متى ظهر ؟ متى تألَّق ؟ حينما اتجر بمال السيدة خديجة ، فهذا النبي قدوة ، أولاً رعى الغنم - في درس سابق - لماذا رعى الغنم ؟ لأنه أكَّد قيمة العمل ، وأكّد أن اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى ، وأكَّد أن الذي لا عمل له لا قيمة له ، وسيدنا عمر رضي الله عنه لما يقول : " إني أرى الرجل ليس له عمل فيسقط من عيني " . فرعي الغنم فيه تأكيدٌ لقيمة العمل ، وهذا الذي رآه النبي يصلي في المسجد سأله : من يطعمك ؟ قال : أخي
قال : أخوك أعبد منك ، والنبي حينما أمسك يد أحد أصحابه وكانت خشنة قال :" إن هذه اليد يحبها الله ورسوله ".
فهذه السنة المطهرة نبراس لنا ، مشعل وضَّاء ، فالنبي على عظم شأنه ، على أنه سيد الخلق وحبيب الحق ، على أنه سيد ولد آدم كان يعمل ، عمل عملاً دخله قليل جداً ، على قراريط رعي الغنم ، وعمل في مال السيدة خديجة ، فكان مثلاً أعلى في الأمانة ، لذلك لا صلاة ولا صوم ولا حج ولا زكاة تُذْكَر أمام الخيانة ، انتهيت كمؤمن .
فأنت بطولتك باستقامتك ، بأمانتك ، بصدقك ، بورعك ، بحرصك الحرص الشديد على كسب المال ، وعلى إنفاق المال ، فهذه لقطة من السيرة النبوية المطهرة ، أن الذي رفع مكانة النبي عند السيدة خديجة أمانته واستقامته ، لذلك تمنَّته أن يكون زوجاً لها ، وسعت لأن يكون زوجاً لها عن طريق صديقتها السيدة نفسية . لكن الذي يلفت النظر من يقول : أخي أنا أصلي جميع الأوقات ، دينك بالتعامل المادي ، لا يبدو الدين الصحيح إلا بالتعامل المادي الصحيح ، وإلا الصلاة والصيام والحج والزكاة ليست بشيءٍ إطلاقاً أمام الانحراف في كسب المال ، أو في إنفاق المال .