- التربية الإسلامية / ٠7موضوعات مختلفة في التربية
- /
- ٠1موضوعات مختلفة في التربية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون... لا زلنا مع الحديث النبوي الشريف، ولا زلنا في كتاب رياض الصالحين، وفي هذا الكتاب أبواب عدَّة، من هذه الأبواب باب الخوف، ومن هذه الأبواب باب الرجاء، ومن هذه الأبواب باب الخوف والرجاء معاً، أي لابد من أن يجتمع في قلب المؤمن خوفٌ ورجاء..
﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً﴾
﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً﴾
والله سبحانه وتعالى كما قال في الحديث القدسي، حينما سأله سيدنا موسى في المناجاة:
((ـ يا رب أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبكـ فقال: أحب عبادي إلي تقي القلب نقي اليدين، لا يمشي إلى أحدٍ بسوء، أحبني وأحب مَن أحبني وحببني إلى خلقي.ـ قال: يا رب إنك تعلم أني أحبك وأحب من يحبك، فكيف أحببك إلى خلقك ؟ـ قال: ذكرهم بآلائي وبنعمائي وبلائي ))
من أجل أن يجتمع في قلب المؤمن خوفٌ ورجاء، ذكرهم بآلائي من أجل أن يعظموني، ذكرهم بنعمائي من أجل أن يحبوني، ذكرهم ببلائي من أجل أن يخافوني، محبة من دون خوف، قد يشتط معها الإنسان، خوفٌ من دون محبة، قد يقع في اليأس والقنوط، الخوف وحده وضع غير صحيح، الرجاء وحده وضع غير صحيح، أما إذا اجتمع الخوف والرجاء أن يعبد الله رغباً ورهباً، خوفاً وطعما، يجمع بين محبته وبين الخوف منه، لأن اليأس قاتل، والمحبة من دون خوف، العارفين بالله قال: " يا ربي والله لو عرفوك ما عبدوك "، لو عرفوا ما عنده من رحمة لما عبدوه، فإذا لما يعبدوه شقوا، وقعوا في الشقاء.
سيدنا عمر رضي الله عنه، حينما قال له أبو ذر رضي الله عنه:
ـ والله يا أمير المؤمنين إن الناس يخافون شدتك.
فبكى سيدنا عمر، وقال:
ـ والله يا أبا ذر ما يعلم الناس ما في قلبي من الرحمة لأخذوا عباءتي هذه.
في قلبه رحمة، ولكن لا يناسب أن تكون هذه الرحمة بادية وحدها، لذلك المربي، المعلِّم، الأب، من السهل أن يكون ليناً، ومن السهل أن يكون قاسياً، القسوة شيءٌ سهل، ضرب مبرح وانتهى الأمر، أو حبلٌ أرخي على غاربة، ولكن البطولة أن تجمع بين الشدة واللين، بين الضبط وبين التساهل، بين الرحمة وبين المحاسبة.
فربنا سبحانه وتعالى، المؤمن أحياناً يرى من رحمته، ومن في تجلياته، إلى درجة أنه يطمع بهذه الرحمة فيقصِّر، تأتي الشدة، يأتي التضييق فينضبط، ينضبط إلى أن ييأس، يأتي التجلي فيرتاح، فربنا عز وجل يقلِّب هذا المؤمن بين الشدة والرخاء، فإذا أعطى أدهش، وإذا حاسب فتَّش، إذا تجلى على قلبك ظننت أنه لن يبقى في النار أحد، وإذا أذاقك من شدته ظننت أنه لن يدخل الجنة أحد، وربنا عز وجل حكيم ؛ يقلب بين حالتين، والقلب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء.
إذاً لفت نظري في هذا الكتاب، باب الخوف، وباب الرجاء، وباب الخوف والرجاء معاً، الحالة الصحية، الحالة السليمة السوية أن يجتمع في قلبك خوف ورجاء، ذكرهم بآلائي أي بآياتي من أجل أن يعظموني، لأن الله عز وجل يقول:
﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾
وذكرهم ببلائي من أجل أن يخافوني، وذكرهم بنعمائي من أجل أن يحبوني، فإذا دعوت إلى الله أيها الأخ الكريم، فاسلك هذا المنهج، ذكر الناس بآيات الله، اتلو عليهم آيات الله، آيات الله نوعان ؛ آيات كونيةٌ وآيات قرآنية، هذا الكون خلقه، وهذا القرآن كلامه، اتلوا عليهم آيات الله، ذكرهم بآياتي، بآلاء الله، وذكرهم بنعمائه، فلو الإنسان عرف قيمة كليتيه لذاب لله شكراً لله، لا يعرف قيمة الكليتين إلا من اضطر إلى أن يغسلهما في الأسبوع مرتين، وكم ينتظر، وكم يتألَّم، وكم يدفع من أمواله، وقد لا ينجح الغسيل، كلٌ منا له كليتان تعملان بانتظام، هل شكر الله عز وجل عليهما ؟ هل شكرت الله على كمال خلقك ؟ النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا نظر إلى المرآة قال:
(( اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي ))
مَن أدرك الإسلام والصحة ما فاته شيء، ذكرهم بنعماء الله، ذكرهم بآيات الله، ذكرهم ببلاء الله، هناك نقطة مهمة جداً، ليس كل الناس يخافون الله عز وجل، ليس كل الناس يخافون النار، لذلك يتفلَّتون من منهج الله، من أجل ألا تفسد الأرض، ربنا سبحانه وتعالى يعجِّل بالعقوبة لبعض العباد، ترى أمراض وبيلة، ترى فقر متقع، ترى مرضين بآن واحد، أدوية هذا المرض يتفاقم لها ذاك المرض، أدوية هذا المرض يتفاقم لها هذا المرض، ترى حياة زوجية تعيسة أحياناً، ترى شقاق زوجي، ترى أمراض وبيلة، ترى قهر، ترى فقر، هذه تذكِّرنا ببطش الله عز وجل..
﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)﴾
فلذلك، من باب الخوف، وباب الرجاء، وباب الخوف والرجاء في أحاديث كثيرة، اخترت لكم من باب الخوف هذا الحديث، وهذا الحديث سمعتموه مني كثيراً، ولكنني بين أنني أن أذكر الحديث كشاهدٍ، وبين أن أفصِّل فيه.
عن أبي برزة نضلة بن عبيد الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( لا تزول قدما عبدٍ... ))
أحياناً في بالدنيا شيء يشبه هذا الموقف ؛ وأنت تسافر، لا تُعْطَى بطاقة الركوب الصعود إلى الطائرة إلا بعد أن تفتش حقائبك، إلا بعد أن يعرض اسمك على قائمة معيَّنة، فإن كنت فيها مُنِعْتَ من السفر، لابد من أن تأتي بشهادة تلقيح، لابد من أن تأتي ببيان، لابد من أن تأتي بطابع، لابد من أن تأتي بقسيمة، وغيرها.. لن تعطى هذه البطاقة البطاقة الأخيرة لصعود الطائرة حتى تحاسب، وحتى تسأل، وحتى تدفع، وحتى تقدِّم، وحتى توقِّع، وحتى وحتى، لا تزول قدما عبدٍ، وقد لا تأخذ هذه البضاعة حتى تقدم هذه الشهادة الصحية، وهذا الدليل، وهذا البيان، وهذه الفاتورة، وهذه براءة الذمة، وهذه وهذه، لا تنتقل إلى استلام البضاعة، لا تنتقل للسفر، إلا وتشعر أنك مقيد، هناك مَن يسألك، هناك مَن يحاسبك، أين الشهادة الصحية لهذه البضاعة ؟ ائتي بها وتعالى، تأتي بها، ائتي بالوثيقة الفلانية، ائتي ببراءة الذمة، ائتي بكذا بكذا بكذا.
(( لا تزول قدما عبد ))
أي لن ينصرف إلى الجنة ولا إلى النار، بعد أن يسأل، النبي عليه الصلاة والسلام لما قال:
يحشر الأغنياء أربع فرق يوم القيامة، فريق جمع المال من حرام ـ عنده ملهى ولكنه درجة أولى ـ وأنفقه في حرام ـ جمع من هذا الملهى وأنفقه على الليالي الحمراء، أو الموائد الخضراء، هذه تعبيرين ـ فيقال خذوه إلى النار ـ وفريق جمع المال من حلال ـ تجارة مشروعة، ولكن ـ أنفقه في حرام ـ أنفقه في الليالي الحمراء وعلى الموائد الخضراء ـ فيقال: خذوه إلى النار، وفريق جمع المال من حرام ـ من تجارة غير مشروعة ـ وأنفقه في حلال ـ تزوج واشترى بيت، واشترى مركبة ـ فيقال: خذوه إلى النار ـ فيكفي فقرة من الفقرتين أن تكون حراماً إما الجمع أو الإنفاق، أما الفريق الرابع هو ـ الذي جمع المال من حلال وأنفقه في حلال ـ التجارة مشروعة، والإنفاق مشروع، هذا يسأل، هذا قفوه فسألوه: هل ضيع فرض صلاة، هل قصر في حق إخوانه، هل قال جيرانه: يا رب قد أغنيته بين أظهرنا، فقصَّر في حقنا، قد نسي الأرملة والمسكين، هل نسي قريباً له بعيداً مفتقر، هل نسي أختاً له، هل نسي مَن يلوذ به، هل شعر أنه فوق الناس، هل، هل، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان بليغاً، أشد البلاغة، فلكي يعبِّر عن كثرة الأسئلة، وعن شدة المحاسبة، وقف انتظر طويلاً، أسئلة كثيرة جداً، قال: فما زال يسأل ويسأل " أي ضاق خلقه، انتظر انتظر انتظر أسئلة كثيرة، أحياناً خمسمائة سؤال سألوني، ملأت عشرين استمارة، هذا مع إنسان هكذا، فكيف مع خالق البشر.
إذاً، لا تزول قدما عبد حتى يسأل، وربنا عز وجل يقول:
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) ﴾
أي إلى درجة لماذا قبَّلت هذا الابن ولم تقبِّل أخاه، أيها القاضي لماذا ابتسمت لفلان ولم تبتسم لفلان ؟ أيها القاضي لماذا قلت لهذا الخصم أبو فلان، وقلت لهذا باسمه الصريح، والقصة معروفة، سيدنا علي عندما كان مع سيدنا عمر، فجاء يهودي يقاضيه، فقال عمر رضي الله عنه: قم يا أبا حسن فقف إلى جنب الرجل، هكذا العدل، فتغير لون سيدنا علي بعدما حكم له، قال:
ـ يا أبا حسن أوجدت علي ؟
ـ قال: نعم.
ـ قال: ولمَ ؟
ـ قال: لما ناديتني يا أبا الحسن، ولم تقل لي يا علي ؟ لقد ميزتني عنه.
قاضي يرحب بواحد يعبس في الثاني، سوف تسأل، ففي أسئلة كثيرة:
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾
المعلم مسؤول عن تلاميذه، الطبيب: لمَ لمْ تعتني بهذا المريض، أخذت منه كما تريد ؟ لمَ لمْ تسأله عن حساسية هذا الدواء ؟ صار معه صدمة عندما أخذ الدواء، الطبيب يسأل، المحام يسأل: لمَ قدمت مذكرةً ضعيفة فخسرت الدعوة، وقد وضع ثقته فيك ؟ البائع يسأل: لمَ لمْ تقل له هذا القماش ينكمش ؟ قل قضية فيها سؤال.
فلذلك الإنسان، هذه كلمة أقولها لكم والله من أعماقي، البطل ليس من يقطع طرقاً بطلاً، إنما مَن يتقي الله البطل، البطل هو الذي يهيئ، لكل موقف يقفه جواباً لله عز وجل، لا للبشر، قد تكون ذكياً فتهيئ جواب مقنع ومسكت لكل مَن يحاسبك، ولكن البطولة أن تهيئ الجواب لله عز وجل، الله عز وجل يعلم السر وأخفى، يطلع على ما في القلوب.
فعن أبي برزة نضلة بن عبيد الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه))
لنأخذ فقرات هذا الحديث واحدة واحدة، فهذا العمر المديد، شخص عاش ستين سنة، مر عليه ستين ربيع، وستين خريف، وستين صيف، وستين شتاء، كم مرة أكل العنب ؟ كم مرة أكل البطيخ ؟ كم مرة أكل الفواكه ؟ كم مرة أكل البرتقال ؟ كم مرة ذهب إلى بعض البساتين في الربيع رأى هذا الجمال الأخَّاذ ؟ كم مرة رأى آيات الله تتلى عليه ؟ كم مرة رأى الشمس تشرق والشمس تغيب ؟ فربنا عز وجل قال:
﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ﴾
عمَّرت، عشتم ما فيه الكفاية، أمضيتم وقتاً طويلاً، لو أنكم تودون أن تتعرفوا إلى الله لتعرفتم إليه..
﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾
الأقارب ماتوا أمامكم، الرأس اشتعل شيباً، العمر أربعين، العمر ستين، الأنبياء جاءوا، القرآن نزل، العلماء يتكلمون، المصائب كثيرة، هذه كلها نذير، لذلك، لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره، أنا أشعر أن في إنسان عمره رخيص، والزمن عنده رخيص، يستهلكه استهلاكاً رخيصاً، ينام حتي يشبع، يجلس سهرة للساعة اثنين ليلاً كلام فارغ، حديث في الدنيا، كلام ليس له معنى إطلاقاً ؛ فلان، وعلان، وزيد وعبيد، وفلان تزوج، وفلان طلق، وفلان أكل، وفلان شرب، وفلان سافر، وفلان سرق في هذا السفر ثلاثين ألف، وفلان لم يسافر، وفلان سمحوا له، وأفلام لم يسمحوا له، وفلان أرسلوه بعثة، وفلان لم يبعثوه بعثة، فلان اشترى بيت، طلع البيت مباع سابقاً، هذا الكلام كله فارغ، النبي عليه الصلاة والسلام، قال:
(( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ))
(( طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ))
أحياناً، سيدنا الشافعي كم عاش ؟ تسعة وأربعين عاماً، مؤلف هذا الكتاب الإمام النووي مؤلف رياض الصالحين، الذي ترك أكثر من مائتين مؤلف، هذا عاش أقل من خمسة وأربعين سنة، الإمام النووي رحمه الله تعالى عاش فيما أذكر بين الاثنتين والأربعين، والخامسة والأربعين، وترك هذه المؤلفات، فالقضية ليست بطول العمر، بالإنجاز، إذا واحد فتح المحل التجاري اثني عشر ساعة باع بألف ليرة، واحد فتحه ساعة باع بمائة ألف، فهل القضية بالوقت ؟ لا، بل بالغلة، القضية بالغلة لا بالوقت، أحياناً الإنسان يتحرك حركة يأخذ مبلغ ضخم، أحياناً يرفع صوته طوال النهار، ويبيع بألف ليرة، يربح مائة ليرة منهم.
فهناك أناس عمرهم ثمين يستهلكونه استهلاكاً ثميناً، شخص يكبس آلة العملة، هذه الكبسة على الليرات، في كبسة على الخمسمئات، في فرق كبير كثير، أحياناً نسك نقود، هناك مَن يسك ليرة سوري، وفي ليرة ذهب، هذه ثمنها خمسة آلاف، كل كبسة بخمسة آلاف، ففي أعمال صالحة كبيرة كثير، فالإنسان أكل، شرب، نام، تسيرن، تنزه، جلس، التقى مع أصدقاؤه، تحادثوا، ضحكوا، مزحوا، تحدثوا عن الأكل، عن الشرب، عن الأسعار، عن الرحلات، عن النزهات، عن الأقارب، عن الأباعد، عن الأحداث، عن الأخبار، عن الصحف، عن المجلات، عن الأرباح، عن الخسائر، كل هذا كلام فارغ لا يقدم ولا يؤخر، " ما جلس قومٌ مجلساً لم يذكروا الله فيه إلا قاموا عن أنتن من جيفة حمار ".
فهذا العمر، إما أن تستهلكه استهلاكاً ثميناً، وإما أن تستهلكه استهلاكاً رخيصاً، الزمن يمشي، السيدة رابعة العدوية تقول: " الإنسان بضعة أيام، كلما انقضى منه يوم، انقضى بضعٌ منه " فالأيام تسير، ماذا فعلت في هذا اليوم، انظر إلى النبي اللهم صلي عليه، قال:
(( لا بارك الله لي في طلوع شمس يوم لم أزدد فيه من الله علماً ))
وفي رواية أخرى:
(( لم أزدد فيه من الله قرباً ))
فأنت أمام حالتين ؛ إما أنك تعلمت شيئاً من الله عز وجل فازداد علمك، وحينما يزداد علمك يزداد عملك، أو يرتقي عملك، أو أنك فعلت عملاً صالحاً تقرَّبت به إلى الله عز وجل.
والله يا إخوان، وما سوى ذلك خسارة في خسارة، والدليل قوله تعالى:
﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)﴾
فإذا شخص عنده أضخم شركة في العالم، في شركات يسمونها ذات جنسيات متعددة، يقول لك: هذه الشركة لها فرع بفرنسا، وفرع بألمانيا، وفرع بإنكلترا، وفرع بتايوان، وفرع بالصين، وفرع بأمريكا، شركة ميزانيتها تساوي ميزانية خمسة دول أحياناً، لو أنك تملك مثل هذه الشركة، أو تملك عشرات من هذه الشركات، ولك دخل يومي يفوق عن ألف مليون، ربنا قال:
﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾
انتهى الأمر، باليوم إن لم يكن هناك معرفةٌ بالله جديدة، أو لم يكن هناك عملٌ جديد، أو لم يكن هناك دعوةٌ إلى الله، أو أمرٌ بالمعروف، أو نهيٌ عن المنكر، إن لم يكن هناك صبر على ماذا ؟ أنا كنت أظن هذا الصبر فقد بالدعوة إلى الله، صبر على الإيمان، وصبر على العمل الصالح، والصبر على الدعوة إلى الله، فالصبر يشمل كل المراحل، فحياة الإنسان خسارةٌ في خسارة.
فالذي أتمنى أن أقوله لكم: استهلاك الوقت، أثمن شيء تملكه هو الوقت، في هذا الوقت قد تقرأ القرآن، قد تقرأ حديثاً شريفاً، قد تقرأ شرح حديثٍ شريف، قد تقرأ حُكماً فقهياً، قد تقرأ موقفاً لصحابة رسول الله، قد تقرأ السيرة النبوية، أي شيءٍ تزداد به علماً ينعكس على عملك، فلذلك تعلَّموا، العلم العلم، أطلعني إنسان اليوم على صفحة في معجم فيها أنواع الخطوط، الخط الثلثي، والفارسي، والكوفي، والديواني، والرُقَعي، وهذا الأخ هو خطاط، اختار آية:
﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾
فقلت له: هل تعلم أن الله سبحانه وتعالى لم يرض أن يعتمد أية قيمة تواضع الناس عليها، فالناس تواضعوا على أن قيمة المال قيمة كبيرة، فصاحب المال معزز مكرم محترم، والقوة قيمةٌ أيضاً، صاحب الشأن، والحول، والطول هذا محترم ومبجل ومعزز ومكرم أيضاً، وصاحب الوسامة والجمال يلفت النظر وهو معزز ومبجل، والذكي أيضاً يلفت النظر، هل تعلم أن الله سبحانه وتعالى ليس في كتابه كله إشارةٌ لا إلى الذكي، ولا إلى القوي، ولا إلى صاحب المال، ولا إلى صاحب الجاه، ولكن الله عز وجل اعتمد هذه القيمة الوحيدة وجعلها أداة ترجيحٍ بين خلقه ألا وهي العلم، فقال:
﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾
العلم العلم، ما من مرتبة أعظم عند الله من أن تكون عالماً، رتبة العلم أعلى الرتب، شتان بين العالم والجاهل، شتان بين مَن يعلم ومَن لا يعلم، بين مَن يعرف ومَن لا يعرف، فالذي أريده استهلاك العمر، كيف تستهلك هذا العمر ؟ وقت للعمل، العمل شيء مهم جداً، منه تكسب قوت يومك، تطعم أولادك، ترتدي ثياباً، تعيش مع أهلك في البيت بسبب هذا الرزق الذي مَنَّ الله به عليك، هل تعلم أن رزقك هذا يجب أن تنوي به أن تكفي نفسك وأن تتقرب إلى ربك، وأن تنفع المسلمين، وأن يكون هذا العمل مشروعاً، وأن تتعامل مع الناس فيه وفق قواعد الشرع، وألا يشغلك عن مجلس علمٍ أو عن عبادةٍ أو عن فرض صلاةٍ، إذا فعلت هذا أصبح عملك عبادة، فوقتك بالمكتب، بالمعمل، بالمتجر، بالوظيفة، هذا بالعيادة، بمكتب المحاماة، بقاعة التدريس، هذا جزء من عبادتك.
الآن، مع أهلك، إذا جلست مع أهلك ونويت أن تؤنسهم فهذه عبادة، نويت أن تملك قلوبهم فهذه عبادة، نويت أن تداعبهم فهذه عبادة، نويت أن تعلِّمهم، أن ترشدهم فهذه عبادة، وأنت في البيت يجب أن تكون في طاعة الله دائماً، وأنت في نزهة، وأنت في العمل، وأنت حتى إذا نمت، النوم عبادة، غير نوم الظالمين عبادة، هذه لحالها، فأنت إذا نمت من أجل أن تتقوى على طاعة الله فالنوم عبادة.
فأنا الذي لفت نظري في هذا الحديث استهلاك الوقت، يجب أن تستهلكه بعنايةٍ فائقة، بتخطيطٍ دقيق، بتنظيمٍ شديد، أما هكذا أن تمضي الأيام والسنين !! سبعة أيام في غفلة، عشرة أيام في نزهة، ثمانية عشر يوماً في مكان جميل ليس لك عمل صالح إطلاقاً، بسبب تافه تدع مجالس العلم !! والله هذا ليس من أخلاق المؤمن.
لذلك واحد عاش أربعين سنة، في سؤال مر: هل بقي من العمر بقدر ما مضى، سؤال؟ والله سؤال محرج، أغلب الظن أنه مضى أكثر مما بقي، ما بقي أقل مما مضى، أنظر إلى الناس إذا راح إلى نزهة، أول يوم في إقبال إقبال إقبال، فهو سيمكث خمسة أيام، أول يوم، ثاني يوم، ثالث يوم، باليوم الرابع تجده متوجها توجه آخر ؛ جمع الأغراض، قطع تذاكر العودة أو تثبيت الحجز مثلاً، الانتقال لمركز الانطلاق، الوصول قبل بيوم دخل في عالم آخر، لذلك قال العلماء: " مَن بلغ سن الأربعين فقد دخل في أسواق الآخرة "، لازم ينصرف الإنسان في الأربعين فما فوق إلى كيفية لقاء الله عز وجل، حل مشكلات مع الله عز وجل، حل مشكلات مع الناس، تصفية حسابات، تبرئة ذِمَم، إلغاء خصومات، إلغاء مُشاحنات، عمل الصالحات، زيادة القربات، المبادرة للطاعات، هكذا بعد سن الأربعين، فذلك كما يقول عليه الصلاة والسلام:
((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه ))
كيف أمضيت هذه الليالي ؟ للساعة اثني عشر كل يوم كل يوم، للساعة الواحدة، شخص يلعب طاولة، غلبه بثلاثة دقوق وراء بعضهم، كسر له شوكته، ما هذا الكلام ؟ هذه بطولة هذه ؟ أو بالشدة، أو بالبرجيس للساعة اثنين مساء أحياناً، أو بألعاب ليس لها معنى تقريباً، هذا عمر ثمين.
مر أحد العلماء وأظن أنه الشيخ بدر الدين الحسني، رحمه الله تعالى، مر على مقهى، رأى أناس يلعبون النرد فقال: " سبحان الله لو أن الوقت يشترى لاشتريته من هؤلاء ". والله المؤمن يتمنى يكون النهار خمسين ساعة، قد ما في عنده أشغال، وكلها لله، يتمنى يعيش ألف سنة، ليس حباً، لا والله ولك حباً بأن يزداد عمله، عندما يأتي الموت يختم العمل، انتهى، تفضل ؛ إما إلى جنة يدوم نعيمها، أو إلى نار لا ينفد عذابها، فالقضية حينما يختم العمل هكذا إلى هنا، واحد دخل إلى مكان وفي جواهر ولآلئ وقطع ذهب وسبائك، وقال له خذ قر ما تستطيع ؛ كيس شوال قلم أحمر، عبئ على قدر استطاعتك، فأخذ قطعة واحدة فقط، ألا يكون مجنون ؟ فرصة لا تعوض ثمينة جداً، وأنت في الدنيا أنت الآن في فرصة لا تعوض، فأعمالك الصالحة سوف تحدد مصير سعادتك.
فو الله الذي لا إله إلا هو لو عرفنا قيمة الوقت، لضننا على أنفسنا أن ننام، تجد النوم خسارة، أحياناً حديث خسارة، جلسة مع فلان خسارة، أن تزور فلان خسارة، اعتبرها خسارة، أن تقرأ هذه القصة خسارة، اقرأ موضوع يفيدك، هذه قصة وبالأخير تزوجوا، معروفة، ألف قصة بموضوع واحد، ففي قراءة خسارة، في لقاء خسارة، في سهرة خسارة، في نزهة خسارة، في عمل خسارة، لذلك أنا الذي لفت نظري في هذا الحديث أن المؤمن يعرف كيف يستهلك عمره، يعرف كيف يستهلك وقته، إن أثمن شيءٍ تملكه الوقت، لذلك الوقت ما من يومٍ إلا وكأن اليوم يقول لبني آدم: يا ابن آدم يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد، إلى يوم القيامة، فتزود منه.
إذا الإنسان استيقظ صباحاً ورأى أن الله سبحانه وتعالى سمح له أن يعيش يوماً جديداً، تجد واحد يقول لك: نام لم يفق. لي قريب التفت إلى الله التفاتة بسبب شريك، نام ما فاق، واحد نام زوجته مسَّته وجدت يده باردة، فقامت مذعورة، فإذا هو ميت، فإذا الإنسان يفتح عينه صباحاً، سمح له أن يعيش يوماً جديد، فاستهلاك العمر، استهلاك العمر، كيف تستهلك الوقت ؟ هل هذه الدراسة مجدية ؟ هل قراءة هذه القصة مجدية ؟ هل أن تجلس وراء هذا الجهاز للساعة واحدة شيء مجدي ؟ ماذا استفدت؟ هل لقاءك مع هذا الإنسان مجدي ؟ هل الحديث في الغيبة والنميمة مجدي ؟ شيء مهم جداً، هذا الذي أتمناه عليكم، أتمنى أن أنقل ما شعرت تجاه هذا الحديث، أن تستهلك العمر استهلاك ثمين،
(( لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيما أفناه))
يعمل ويعمل، القلب يضخ باليوم ثمانية أمتار مكعبة، الذي لديه مستودع للوقود السائل متر مكعب أي خمسة براميل، متر بمتر بمتر هذا يعني خمسة براميل، البرميل مائتين لتر، هذا يسع ألف ليتر، القلب يضج باليوم ثمانية آلاف لتر، يضخ بالعمر، واحد عاش ستين أو خمسة وستين يضخ ما يعادل حجم أكبر ناطحة سحاب في العالم، ثلاثمائة ألف متر، فإذا كان أرض مساحتها ألف متر، ما معنى ألف متر ؟ أي ثلاثين بخمسة وثلاثين تقريباً، وارتفاع ثلاثمائة متر، طابقين، القلب يضخ بعمر متوسط دم يملأ هذه الناطحة، أو هذه البناء، أي يملأ القلب دماً في عمر متوسط مستودع بحجم ثلاثمائة ألف متر مكعب، هذا الضخ ماذا فائدته ؟ في عمر سخيف، وفي عمر ثمين.
مجلس العلم حافظ عليه، الصلاة حافظ عليها، تعرَّف إلى الله عز وجل، تحرك للعمل الصالح، اعمل عمل ليس لك مصلحة فيه، خالص لوجه الله، فهنيئاً لهؤلاء الذين ينطلقون إلى أعمال صالحة، إلى خدمة الخلق، والإنسان بين خمسة أيام ؛ يوم ما مضى فات، والمؤمل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها، ما مضى مضى، فالكلام عنه غير مجدي، يوم مفقود، ويوم مشهود، ويوم موعود، ويوم مورود، ويوم ممدود، أخطر شيء اليوم الممدود، اليوم الممدود له علاقة باليوم المشهود، ما تفعله في هذا اليوم المشهود يؤثِّر في ذلك اليوم الممدود، أما المفقود مفقود، والمورود مورود، والموعود موعود، الموت موعدين فيه، ويوم القيامة سوف نرده، المفقود مفقود، والمورود مورود، والموعود موعود، بقي الممدود والمشهود، المشهود يومك هذا، لحظتك هذه، هذه الساعة التي أنت فيها، هذا المشهود، والنبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( هلك المسوفون ))
كلما دعوته إلى التوبة قال: غداً أو بعد غد، هلك المسوفون.
(( لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيما أفناه وعن علمه فيما فعل فيه ))
أحياناً يقول لك: أخي والله أخذنا أول درس، وثاني درس، وثلاث دروس الحمد لله، والدرس فيه أحاديث كثيرة، وآيات كثيرة، وقطعنا الآن ثلث القرآن فسرناه، وفسرنا كذا، وأنا قرأت السيرة الفلانية، وقرأت... لا تحتاج لكل هذا الكلام، حديث واحد يكفيك طول عمرك، آية واحدة ؛ لما قال له:
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7)﴾
قال له: قد كفيت، فقال عليه الصلاة والسلام:
(( فقه الرجل ))
وانتهى أمره، لسنا بحاجة لكثير معلومات، بحاجة إلى أعمال كثيرة، كل واحد يكون عنده معلومات فتكفي ألف سنة، شغل ألف سنة، مليون سنة، أحياناً يكون عندك مواد أولية تكفيك لخمسة سنوات، العبرة تصنعها، تقدمها إنتاج للسوق، فهذا العلم مثل مواد أولية، ولكن غير مصنعة، لن تكون بضاعةً إلا إذا صنعتها، لن تباع إلا إذ صنعتها، ففي تقصير بالتصنيع، المواد الأولية تتراكم، تتراكم تتراكم والتصنيع واقف، فالإنسان إذا كان ارتفع مستوى علمه ولم يرافقه عمل بمستوى علمه يقع بشكل كاريكاتوري، يتضخم علمه ويتضاءل عمله، ليس هناك تناسب، تضخم في العلم وضآلة في العمل، فالمفروض يكون في توازي وتنسيق بين العلم والعمل، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول ( عن علمه فيما فعل فيه ))
. سؤال: ماذا تعرف عن بر الوالدين ؟ قال تعالى:
﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾
حافظ الآية، حافظ الحديث، والحديث، الزم قدميهما فتلك الجنة، فهناك أحاديث للنبي الكريم ؛
(( فيهما فجاهد، ارجع إليهما،))
لكن ماذا فعلت في هذه الأحاديث والآيات ؟ ماذا عملت بهما ؟ ماذا تعرف عن الإحسان للخلق ؟ ماذا تعرف عن الإحسان للحيوان ؟ ماذا تعرف عن صلاة الليل ؟ ماذا تعرف عن خدمة المؤمنين ؟ ماذا تعرف عن الإحسان إلى الجار، ما في مسلم لا يعرف أشياء كثيرة، لكن المشكلة ليس الذي يعرفه بل الذي يفعله، ربنا ما قال: قد أفلح من تعلَّم كيف يزكيها، قال:
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)﴾
أكثر الناس يتعلمون كيف يزكون أنفسهم، البطولة كيف تزكيها لا كيف تعلم كيف تزكيها.
(( وعن علمه فيما فعل فيه..))
. دائماً الإنسان يحس في عتاب إلهي: أنه يا عبدي أنت كما تعلم، فعلك في مستوى علمك ؟ أنت هكذا، إذا قلت للناس شيئاً، أنت كذا ؟ أنت بهذا الورع؟ أنت بهذه الدقة في المعاملة ؟ أنت بهذا الوفاء ؟ أنت بهذا الإكرام ؟ سؤال، كأن الله يعاتبك، أنت كذلك يا عبدي ؟
تعصي الإله وأنت تظـهر حـبه ذاك لعمري في المقال بديع
لو كان حبـك صـادقاً لأطعـته إن المحب لمن يحب يطيع
* * *
لذلك تعلموا ما شئتم فو الله لن تؤجروا حتى تعملوا بما علمتم، وكل علم وبالٌ على صاحبه ما لم يعمل به، وعالم بعلمه لم يعملن معذب من قبل عبَّاد الوثن، والعلم ما عمل به فإن لم يعمل كان الجهل أفضل منه، وعن علمه ماذا فعل فيه، ماذا فعلت بقوله تعالى
((التائبون الحامدون، السائحون الراكعون الساجدون))
هل أنت في هذا المستوى ؟ ماذا فعلت في قوله تعالى
(( من عمل صالحاً. هل عملك صالح.))
((وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ))
.. أول بند العمر، ثاني بند العلم، ثالث بند المال، هذا المال الذي بين يديك من أين جئت به ؟ هل جاءك من طريق مشروع، أو من طريق غير مشروع ؟ هل في كسبه شبهة ؟ هل أنت موقن أنه حلال مائة بالمائة ؟ هل سألت؟ هل تحققت ؟ الكسب سهل، ولكن البطولة أن تحاسب نفسك كيف اكتسبت المال، الشيء الدارج: كم سآخذ على هذا العمل ؟ أما السلف الصالح: أيحق لي أن آخذ على هذا العمل شيئاً ؟ هل يرضى الله عني إذا أخذت على هذا العمل شيئاً؟ فكانت المشكلة: هل يجوز أن آخذ أو لا يجوز، أما الآن: كم آخذ، أما البطولة: هل يجوز أن آخذ على هذا العمل أجراً أم لا يجوز ؟
(( وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه...))
فأحياناً المال يكون وسيلة فعالة لبلوغ أعلى درجات الآخرة، قد يستهلك بشيء تافه، أو شيء زائل، أو شيء نتحول عنه، ممكن واحد يشتري سجادة فرضاً جيدة وصوف مائة في المائة، تؤدي الوظائف كاملةً، وفي سجادة ثمنها عشرة أمثال ومائة مثل، ولكنها أجمل، يقدر تلك يريها للضيوف، ما في منها، قطعتان فقط في سوريا، هذه أخذتها من المحل الفلاني بالزور أخذتها بثمانين ألف للأقدام، يا ترى بهذه السبعين ألف فرق بين سجادتين، ماذا تفعل بالسبعين ألف ؟ هذا المبلغ قد يرقى بك إلى أعلى عليين، قد تستر إنسان بهذا المبلغ، قد تطعم أسرة لسنة تقريباً، قد تزوج شاب بهذا المبلغ، فالمال ثمين جداً، فالمؤمن قال له: اتضع لا ترتفع، اتبع لا تبتدع، الورع لا يتسع، أحياً يكون الفارق بين المواد الأساسية، وبين المواد المترفة فارق كبير جداً، في شيء يقدم لك الوظيفة كاملة، وفي شيء في معه فخامة، معه جمال، معه روعة زائدة، هذا الشيء لو أن الإنسان أنفقه في طاعة الله لبلغ به أعلى عليين في جنَّات النعيم،
(( وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه.وعن جسمه فيما أبلاه ))
... هذه الكلاوي تعبت، وهذا القلب تعب، والرئتين تعبت، والعضلات تعبت، والمفاصل تيبسوا، والمخ نشف قليلاً، لم يتذكر، والله لم أتذكر، هذا العمر كيف أبليته ؟ هذا الجسم كيف أبليته؟ كيف استهلكته ؟ أول شيء يرى اثني عشر على عشرة، بعد ذلك عشرة، بعد ذلك ثمانية، وبعد ذلك نظارة يحتاج كل سنة تبديلها، بعد ذلك يحتاج ضوء قوي، ونظارة قوية، كان يسمع أدق الهمس، الآن يحتاج أن يقرب أذنه هكذا، يحتاج مقوي للسمع، كان يقفز فوق الدرج درجتين درجتين، الآن درجة درجة، ترى واحد متقدم بالسن يصعد درجة درجة، كيف استهلك جسمه هذا الإنسان، هاتان العينان ماذا نظر بهما إلى عورات المسلمين أم إلى خلق الله ؟ هل تأمل في ملكوت السماوات والأرض ؟ نظر إلى أشياء محببة أشياء مباحة، أما إلى أشياء محرمة ؟ هذه الأذن ماذا استمعت، استمعت إلى قصص لا ترضي الله عز وجل، إلى حديث باطل، إلى حديث مثير حول بعض الشهوات، أم استمع إلى الحق ؟ جلس بمجلس العلم واستمع للحق ؟ هذه الأذن محاسب عليها، والعين محاسب عليها، والشم، واليد، واللمس، والرِجل، كل شيء محاسب عليه.
((. وعن جسمه فيما أبلاه ))
كيف استهلك هذه الكليتين، والقلب والرئتين، والمعدة والأمعاء، كيف استهلك هذا السمع والبصر، والعضلات والمفاصل كلها أجهزة دقيقة جداً، أحياناً تستهلك كلها في طاعة الله، اللهم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:
(( اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا ))
هذا الحديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، أي حديث مهم جداً، عن أبي برزة نضلة بن عبيد الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( لا تزول قدما عبدٍ حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ))
انظر لهذه الملاحظة: العمر سؤال، والعلم سؤال، والجسم سؤال، أما المال في سؤالين، العلماء قالوا: تسعة أعشار المعاصي من كسب المال، في مركزين خطيرين في حياة الإنسان المال والنساء، المال محبب، والمرأة محببة، فإذا كان انضبط انضباط دقيق في كسب المال وإنفاق المال، وفي علاقته بالنساء، فقد حقق تسعة أعشار الطاعة، الباقي سهل، أما أخطر شيء كسب المال وإنفاقه، وعلاقة الإنسان بالمرأة، هذه حلال، هذه أم، أخت، زوجة فرضاً، بنت أخ، بنت أخت، عمة، خالة، هذه المحارم، غيرهم في غض بصر، وليس طليق في الحديث، نظرات بريئة، هذا كلام فارغ، نظرات بريئة، روح رياضية عالية، كله كلام تزييف للانحراف.
عن أبي برزة نضلة بن عبيد الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره في أفناه، وعن علمه فيما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه ))
بقي علينا شيء من السيرة المطهرة.
الحقيقة الوقت ضاق جداً، ولكن لقطة واحدة عن النبي عليه الصلاة والسلام. فالنبي عليه الصلاة والسلام لاقى من المتاعب ما لاقى، وقال:
(( ما أوذي أحد ما أوذيت))
فهل إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام، هل المتاعب التي لاقاها، هل البلاء الذي ابتلي به، هل المؤامرات التي واجهها، هل إخراج قريشٍ له، هل كيدهم ائتمارهم على قتله، إخراجهم له من مكة إلى المدينة، حربهم له ثلاث مرات، هذه المتاعب، والمحن، والعقبات، والمؤامرات، ما حكمة ذلك ؟ لماذا لم يخلق الله عز وجل أعداء النبي في زمن آخر، وقت آخر ؟ لماذا لم يجعل الله عز وجل حياة النبي كلها مسرات ومباهج ويسر وسهولة؟! لماذا شاءت حكمة المولى جل وعلا أن تكون حياة النبي كلها متاعب ؟
أولاً: لأن الجنة شيء ثمين، وأن يدخل الإنسان هذه الجنة من دون ثمن هذا مستحيل
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)﴾
ألا إن سلعة الله غالية، لو أن النبي عليه الصلاة والسلام وحده نجا من هذه المتاعب، وهذه الشدائد، وهذه البلايا، وهذا التضييق، وهذه المؤامرات، وهذه المعارضات، وهذه الحروب، لو نجا وحده لما كان النبي عليه الصلاة والسلام لنا أسوة حسنة، عندئذٍ لا يتحمل المؤمن أية مصيبة، يقول لك: هذه لي وحدي، النبي لم يصب بمصيبة. لكن الله سبحانه وتعالى شاءت حكمته أن يجعل النبي قدوة حسنة وأسوة صالحة عن طريق أنه ابتلي بالمصائب، وتحمل الشدائد، ولاقى المتاعب، وواجه الأمرّين، وواجه الخصوم، وواجه المعارضة، وواجه التكذيب، وواجه السخرية، وواجه القهر، وواجه الضعف، هذا كله واجهه، والدليل قول الله عز وجل:
﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾
حينما أمر الله النبي عليه الصلاة والسلام أن يصبر، ذلك أنا أيضاً مكلف أن أصبر، فهذا الكلام له ما وراءه، فالمؤمن لا يظن الحياة كلها وروود ورياحين وطرق عريضة، ونزهات وسرور، وطعام وشراب ونوم ملء العين، وأعمال ميسرة، لا، فأنت تطلب الجنة، والجنة لها ثمن باهظ، أحد أثمانها الابتلاء، أحد أثمانها الفتنة..
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾
أحد أثمانها الضيق، الضيق المادي أحياناً، المرض أحياناً، لذلك المؤمن مبتلى، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( إذا أحب الله عبده ابتلاه، فإن صبر اجتباه، فإن شكر اقتناه ))
هذا الكلام له ما وراءه، فهو يدفعنا إلى تحمل الشدائد، يدفعنا إلى الصبر، يدفعنا إلى الرضا بقضاء الله وقدره، يدفعنا إلى أن يكون النبي أسوة لنا صالحة، مَن أنا ؟ إذا كان النبي قد عورض وكذب وأوذي في سبيل الله، وإذا كان النبي قد توفيت زوجته وتوفي ابنه، وتحدث الناس عن السيدة عائشة أنها زانية، وتحمل وصبر، وقد فقد أمه وهو صغير وفقد أباه قبل أن يراه، وفقد جده، لاقى ما لاقى، وعمل في رعي الغنم، النبي قدوة لنا، فالإنسان أحياناً يرى نفسه ضئيلاً جداً أمام هذه الشدائد، هذا المعنى يدفعنا إلى تحمُّل كل شيء، المؤمن كالجبل الراسخ، كالسفينة الشامخة لا ينهز لأقل خبر.