- أحاديث رمضان
- /
- ٠18رمضان 1435 هـ - خواطر إيمانية
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وعلى آل بيته الطيّبين الطاهرين ، وعلى صحابته الغر الميامين ، أمناء دعوته ، وقادة ألوِيَتِه ، وارضَ عنّا وعنهم يا ربّ العالمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم ، إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وُحول الشهوات إلى جنّات القربات.
تسخير الكون للإنسان تسخير تكريم و تعريف :
أيها الأخوة الكرام ، لا شك أن الإنسان مخير فإذا ألغي اختياره ، ألغيت الجنة والنار والثواب والعقاب ، وألغيت المسؤولية ، لأنه مخير هناك تكليف ، لأنه مخير هناك تشريف، لأنه مخير هناك جنة يستحقها ، فلذلك الإنسان حينما يرفض شيئاً وهو في الأصل مخير يرفضه احتقاراً له ، هذا البيت لا يعجبه مساحته قليلة ، ثمنه كبير ، هذه الحرفة لا يقبلها بل يرفضها ، إلا في حالة واحدة فإذا رفض أن يسير في طريق الحق يحتقر نفسه ، الدليل :
﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾
لك أن ترفض مليون شيء في الحياة إلا أنك إذا رفضت الدين رفض الخضوع لمنهج الله احتقرت نفسك ، فالله سبحانه و تعالى حين عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال أبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ، لأنه قبِل حمل الأمانة كان عند الله المخلوق الأول ، ولأنه قبِل حمل الأمانة سخر الله ما في السموات والأرض جميعاً منه ، تسخير تعريف وتكريم ، تسخير التعريف يقتضي أن تؤمن ، وتسخير التكليف يقتضي أن تشكر ، فإذا آمنت وشكرت حققت الهدف من وجودك .
الفرق بين حلاوة الإيمان و حقائق الإيمان :
لذلك أيها الأخوة يوجد بالسنة الشريفة مصطلح اسمه حلاوة الإيمان ، نحن عندنا مصطلح اسمه : حقائق الإيمان ، ومصطلح آخر اسمه حلاوة الإيمان ، للتقريب والقرآن ضرب أمثلة كثيرة ، أي قد تمسك بصورة لسيارة حديثة جداً ، صور متعددة لها خارجية وداخلية إلى آخره ، شيء رائع ، كم هي المسافة وكم هو الفرق بين أن تملك هذه الصورة وبين أن تكون صاحب هذه السيارة تركبها وتستمتع بها ؟ مسافة كبيرة جداً .
مثل آخر قصر معك خارطة له ، أبعاد الغرف ، الحدائق ، الإطلالة ، الشرف ، لكن كله على الورق و لا تملك كوخاً ، بين أن تملك هذه الأوراق وهذه الخطوط والمقاييس وبين أن تسكن هذا القصر !!
هذا هو الفرق بالضبط بين حقائق الإيمان وبين حلاوة الإيمان ، حلاوة الإيمان تجعلك بطلاً ، حلاوة الإيمان تجعلك أكبر من أكبر همّ تعانيه ، أنت أكبر من كل الهموم .
الإنسان هو المخلوق الأول و المكرم و المكلف :
سألني البارحة أخ : ما هي علامات الشيخوخة ؟ قلت له : لا يوجد ذلك عند الإنسان ، ما دامت أهدافك أكبر منك فأنت شاب ، ولو كنت بالتسعين ، ما دام هدفك أكبر منك، هدفك الله عز وجل ، النقطة الدقيقة جداً لأنك خلقت لمعرفة الله أنت مصمم تصميم لا نهائي ، أما عندما تختار هدفاً محدوداً وهو المال مثلاً أو المكانة الاجتماعية أو المنصب فهذا الهدف الصغير حينما تصل إليه يبدأ السقم والملل والضجر ، فلذلك مرّ معنا بالفلسفة أن الإنسان إذا استهدف اللذة انقلبت إلى مبدأ ألم ، فأنت أكبر من ذلك حينما تعرف من أنت ، أنت المخلوق الأول ، وأنت المخلوق المكرم ، وأنت المخلوق المكلف :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
الموت عرس المؤمن :
إذاً أنت حينما تتحرك وفق الخطة التي رسمها الله لك ترقى عند الله وعند الناس ، وحينما تلتفت إلى شيء ينتهي بالموت ، أي الموت ينهي كل شيء
ينهي قوة القوي ، وضعف الضعيف ، وغنى الغني ، وفقر الفقير ، ووسامة الوسيم ، ودمامة الدميم ، ينهي كل شيء، مرة كتاب قرأته عن قصص العرب أربعة أجزاء استنبطت استنباطاً دقيقاً ، الأغنياء ماتوا ، والفقراء ماتوا ، والأقوياء ماتوا ، والضعفاء ماتوا ، والأذكياء ماتوا ، والأغبياء ماتوا ، الموت ينهي كل شيء ، فلذلك النقطة الدقيقة أنت تملك الزمن لا تملك غيره ، إنك بضعة أيام ، هذا الزمن هو أنت ، فقط ينفق هذا الزمن استثماراً وقد ينفق استهلاكاً ، فمعظم الناس نأكل ونشرب ونستمتع ثم نفاجأ بالموت ، هذا إنفاق استهلاكي أما المؤمن فيفعل في الزمن الذي سينقضي عملاً ينفعه بعد انقضاء الزمن ، قيل : من قدم ماله أمامه سره اللحاق به ، ومن خلّف ماله وراء ظهره آلمه ترك الدنيا .
أنا درست عن سبعين صحابياً لفت نظري شيء أنهم جميعاً من دون استثناء كانوا في أسعد لجظات حيتاتهم عند موتهم ، وا كربتاه يا أبتِ ، بنت سيدنا بلال ، قال : لا كرب على أبيك بعد اليوم غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه .
هذه حالة المؤمن هو في أسعد لحظات حياته عندما يغادر الدنيا ، لذلك قالوا الموت عرس المؤمن ، والموت تحفة المؤمن ، أي كل بطولاتنا أن نجعل من الموت ليس مصيبة ولكنه نجاح كبير .
الدين منهج كامل :
أخواننا الكرام :
(( ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ ... ))
حقائق الإيمان شيء و حلاوة الإيمان شيء آخر ، حقائق الإيمان سهلة جداً ، علق في غرفة الضيوف آية الكرسي ، جميل أنت مسلم ، وعلى السيارة مصحف صغير ، شيء جيد لكن ليس هذا الدين ، الدين منهج كامل يبدأ من أخص خصوصياتك وهو فراش الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية ، كيف تأكل ، تشرب ، تشتغل ، كيف تعامل زوجتك ، أقاربك ، من حولك، من فوقك ، من دونك ، كيف تستمتع بوقت الفراغ ، كيف تربي أولادك ، منهج تفصيلي ، والله لا أبالغ قد يصل لخمسمئة ألف بند ، أنت المخلوق الأول عند الله ، مخلوق لجنة عرضها السموات والأرض .
من عاش تقياً عاش قوياً :
ما معنى الأبد ؟ قد لا نفهم معنى الأبد ، واحد هنا و ثلاثة أصفار ألف ، ثلاثة أخر مليون ، ثلاثة ثالثة ألف مليون ، ثلاثة رابعة مليون مليون ، من هنا إلى آخر الطاولة ما هذا الرقم ؟
من هنا إلى آخر الجامع كل ميلمتر صفر ، من الأرض إلى الشمس ، مئة وستة وخمسون مليون كيلو متر كل ميلمتر صفر ، هذا الرقم إذا نسب إلى اللانهاية قيمته صفر ، اسألوا أخواننا في الرياضيات أي رقم مهما بدا لك كبيراً إذا نسب إلى اللانهاية قيمته صفر ، أنت خلقت للأبد ، فإذا اخترت هدفاً محدوداً انتهيت ، فأنا أقول من هو الشاب ؟ الذي هدفه أكبر من عمره شاب دائماً ، كان هناك عالم من علماء الشام بلغ ثمان وتسعين سنة كان منتصب القامة ، حاد البصر ، أسنانه في فمه ، كان إذا سُئل يا سيدي ما هذه الصحة التي حباك الله بها ؟! قال : يا بني حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر ، من عاش تقياً عاش قوياً .
لي صديق زرته في العيد فتح لي والده جلست معه ؛ قال لي : عمري ست وتسعون سنة البارحة عملنا فحصاً كاملاً فكان كل شيء طبيعي ، ثم قال لي : والله أنا الحرام لا أعرفه بحياتي لا حرام المال ولا حرام النساء .
إيثار المؤمن طاعة الله على مصالحه الشخصية :
أخواننا الكرام هناك حقائق صارخة أنت إنسان غال على الله ، مخلوق للجنة ، و لا يوجد شيء ممنوع ، وما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناةً نظيفة تسري خلالها، بالعرس يطلق الناس أبواق سياراتهم لا يخجلون من ذلك ، لأن هذا شيء شرعي ، شرعي أن هذا الإنسان سيتزوج ، لكن إذا كان هناك غلط يخجل بنفسه ، فنحن أمام منهج دقيق. لذلك :
(( ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا... ))
أنا أقول لكم لو سألنا مليار وثمانمئة مليون مسلم - أعتقد الآن صرنا مليارين - ألا تحب الله ورسوله ؟ يقول لك : نعم ، هذا الكلام عادي جداً ، متى تحب الله ورسوله ؟ عند التعارض ، حينما تتعارض مصلحتك المادية القريبة المتوهمة مع حكم شرعي مع نص شرعي وتؤثر مصلحتك فأنت ليس كما ينبغي ، أما حينما تركل بقدمك مصلحة متوهمة مادية محدودة في الدنيا وتؤثر طاعة الله فأنت مؤمن و الله ، لذلك زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين .
(( ما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه ))
لذلك أن يكون الله في قرآنه ورسوله في سنته أحب إليه مما سواهما متى ؟ عند التعارض ، مع وكالة شركة عملاقة ودخلك فلكي منها هناك مادة محرمة ألزموك بشرائها فإذا قلت : لا ، سحبوا الوكالة منك ، ماذا نفعل عندنا أولاد ومصالح ؟ فعندما تنازلت انتهيت عند الله .
الولاء و البراء :
الآن :
(( ... وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ ... ))
هذا اسمه الولاء والبراء ينبغي أن تحب المؤمنين ولو كانوا ضعافاً وفقراء ، وينبغي أن تتبرأ من الكفار والمشركين ولو كانوا أقوياء وأغنياء ، هذا الولاء والبراء ، فالإنسان أحياناً يميل للأقوياء والأغنياء وينسى من حوله ، لذلك قالوا :
(( من جلس إلى غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه ))
((ابتغوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير))
المداهنة و المداراة :
أيها الأخوة الكرام :
﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾
هذا الشرك ليس الشرك الذي نفهمه نحن في التاريخ ، هناك شرك جلي ، هناك بلاد في آسيا تعبد بوذا من دون الله ، هذا شرك جلي لكن المؤمنين أحياناً يمتحنون بالشرك الخفي ، إنسان قوي تطيعه على حساب دينك ، ما الفرق بين المداهنة و المداراة ؟ المداراة أن تبذل الدنيا من أجل الدين ، أما المداهنة فأن تبذل الدين من أجل الدنيا ، مسافة كبيرة جداً :
((بعثت بمداراة الناس))
أن تبذل الدنيا من أجل الدين ، أما بالعكس المداهنة فأن تبذل دينك من أجل دنياك لذلك :
﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾
هذا الشرك الخفي ورد في بعض الآثار النبوية : " أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي، أما إني لست أقول أنكم تعبدون صنماً ولا حجراً، ولكن شهوة خفية، وأعمالاً لغير الله ".
أنواع العلم :
لذلك أيها الأخوة ، هناك علم بخلقه هذا اختصاص الجامعات في الأرض ، أي جامعة فيها كلية علوم وفيزياء وكيمياء وطبيعيات ورياضيات وعلم التاريخ والجغرافيا ، هذا علم بخلقه ، كيف نصل إليه ؟ بالمدارسة ، تحتاج إلى جامعة ، إلى أستاذ ، إلى كتاب ، إلى متابعة، إلى وقت للدراسة ، هذا علم بخلقه ، وهناك علم بأمره كليات الشريعة الإسلامية الأمر والنهي والواجب والفرض والسنة ، وما شاكل ذلك ، لكن هناك شيئاً ثالثاً دقيقاً جداً هو علم به، العلم بأمره وبخلقه يحتاج إلى مدارسة ، بينما العلم به يحتاج إلى مجاهدة ، لذلك قال بعض الصحابة وقد عاد من غزوة : رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر جهاد النفس والهوى.
أنواع الجهاد :
بالمناسبة نحن عندنا الجهاد الأصلي جهاد النفس والهوى هذا الجهاد الأكبر ، وهناك جهاد ثان الجهاد البنائي ، أنت عندما تتقن عملاً وتوفر على أمتنا استقدام خبير فأنت جاهدت جهاداً بنائياً ، وحينما تفهم كتاب الله وتعلمه أنت تجاهد جهاداً دعوياً والدليل :
﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ﴾
عندنا جهاد بنائي ، و جهاد نفسي - جهاد النفس والهوى – ، وجهاد دعوي ، وجهاد قتالي وهو آخر جهاد .
الحب في الله و الحب مع الله :
أيها الأخوة الكرام قضية أن تحب في الله أو أن تحب مع الله العلماء قالوا : الحب في الله عين التوحيد ، أنت تحب الله وتحب أنبياء الله ورسله وسيد الأنبياء والمرسلين وتحب والديك وتحب أهل بيتك ، الحمد لله الذي رزقني حب عائشة ، مرة السيدة عائشة سألت رسول الله كأي زوجة كيف حبك لي ؟ قال لها : كعقدة الحبل ، تسأله من حين لآخر كيف العقدة ؟ فيقول : على حالها.
أنت حينما تحب زوجتك هذا من علامة إيمانك ، أما إذا التفت لغير زوجتك فهناك مشكلة كبيرة .
مرة ثانية ما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناةً نظيفة تسري خلالها ، لذلك هناك حب في الله يتفرع عنه مئة حب ، محبة الزوجة من حب الله ، هذا الشرع، هذا الحلال ، محبة الأخوة المؤمنين من هذا الحب يتفرع عن الحب في الله مئات الأنواع .
وهناك حب مع الله ، الحب مع الله حينما يبعدك هذا الحب عن الله صار حباً مع الله ، الحب في الله عين التوحيد والحب مع الله عين الشرك ، لذلك لنا أستاذ في الجامعة أحد كبار علماء النفس قال مرة كلمة : الذي لا يجد حاجة إلى أن يحب أو إلى أن يحب ليس من بني البشر ، لأنك عقل يدرك وقلب يحب وجسم يتحرك ، غذاء العقل العلم، وغذاء القلب الحب، وغذاء الجسم الطعام والشراب .
وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يحفظ لكم جميعاً إيمانكم ، وأهلكم ، وأولادكم ، وصحتكم ، ودعوة أضيفها واستقرار بلادكم وهذه نعمة لا يعرفها إلا من فقدها .