- التربية الإسلامية
- /
- ٠3فوائد السلوك إلى الله
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه ، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون :
يقول أحد العلماء الكرام : الجاهل يشكو الله إلى الناس وهذا غاية الجهل بالمَشكُو والمَشكُو إليه ، المَشكُو كامل كمالاً مطلقاً ، والمشكو إليه ناقص وضعيف ، شكوت الذي يرحم إلى الذي لا يرحم ، شكوت الكامل إلى الناقص ، شكوت الغني إلى الفقير ، شكوت القوي إلى الضعيف ، يعني : أحمق إنسان أن يشكو الله إلى الناس ، هذه الحالات موجودة وكثيرة ، يعبر لك عن نقمته على الله ، عن رفضه لقضاء الله وقدره .
يقول لك ماذا أفعل ؟ فأنا أقول له : الآمر ضامن ، يعني أمعقول أنّ إنساناً أطاع الله وخاف الله أن يكون في الصف الأخير ، والذي لم يبالِ وارتكب المعاصي والآثام في الصف الأول؟ أترضى هذا أن عن الله عز وجل ؟ أين قوله تعالى :
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾
أين قوله تعالى :
﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾
أين قوله تعالى :
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾
مستحيل ، فالجاهل يشكو الله إلى الناس وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه ، فإنه لو عرف ربه لما شكاه إلى أحد ولو عرف الناس لما شكا إليهم شيئاً ، إن عرفت الله ما شكوته، وإن عرفت الناس لا تشكو الله إليهم أبداً ، انتبهوا : الإنسان أحياناً يزلُّ لسانه ، يعني يعترض على قضاء الله وقدره ، يبدي اعتراضه لإنسان آخر والإنسان ضعيف لا يملك شيئاً.
رأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى رجل فاقته فقال : يا هذا والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك ، لهذا قال بعض العارفين بالله :
وإذا شكوت الله لابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
أما العارف بالله يشكو إلى الله وحده ، لكن هناك تعليق وجيز نذكره كثيراً ، من اشتكى إلى مؤمن فكأنما اشتكى إلى الله ، ومن اشتكى إلى كافر فكأنما اشتكى على الله .
قال : أعرف العارفين من جعل شكواه إلى الله من نفسه لا من الناس عندنا حالة إنسان أساء إليه فلان من الناس شكاه إلى الله ، أي أنّ فلاناً لم يعطه حقه فشكاه إلى الله ، فهو ما اشتكى إلى الناس بل اشتكى إلى الله ، كذلك من شكا نفسه إلى الله لم يشكِ أحداً ، إن هؤلاء الذين سلطوا عليه هم بيد الله وما سمح الله لهم أن يصلوا إليك إلا لخلل في نفسك فالذكاء لا أن تشكو هؤلاء الناس إلى الله بل أن تشكو نفسك إلى الله لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
" لا يخافن العبد إلا ذنبه ولا يرجون إلا ربه "
اسمعوا الآية قال تعالى :
﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير﴾
﴿وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾
﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
إذاً هناك من يشكو الله إلى خلقه وهذا أحمق وغبي وهناك من يشكو الناس إلى الله وهذا توحيده ضعيف ، أما أعقل إنسان هو الذي يشكو نفسه إلى الله ، يا ربي أصلح لي نفسي، يا ربي ارزقني موجبات رحمتك ، وعزائم مغفرتك فالمراتب ثلاثة أخسها أن تشكو الله إلى خلقه وأعلاها أن تشكو نفسك إليه وأوسطها ان تشكو خلقه إليه ، ياربي فلان ضربني، فلان أكل مالي ، فلان ظلمني ، الجواب لماذا ظلمك ؟ ومن سمح له أن يظلمك ولماذا ضربك ومن سمح له أن يضربك ؟ ولماذا أكل مالك ومن سمح له أن يأكل مالك ؟ لو فكرت بحسب الآيات قال تعالى :
﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾
﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾
﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
لو فكرت قليلاً كنت تستحي أن تشكو الناس إلى الله ، لكن عليك أن تشكو نفسك إلى الله .
بعدما قرأت الآيات الثلاث السابقة أيها الإخوة الكرام :
الحياة الحقيقية ، قال تعالى :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾
كلنا أحياء تنبض عروقنا ، ونمشي ، ونأكل ، ونشرب ، وننام ، ونعمل ونتزوج ، وننجب ، هذه ليست هي الحياة ، الحياة التي أرادها الله في هذه الآية كما قال بعض العلماء حياة الاستجابة إلى الله ، أنت حي إذا استجبت إلى الله ، إن لم تستجب فأنت ميت ، الآية دقيقة جداً لو أمضينا كل أوقاتنا في معرفة كلام الله لما وفينا كلام الله حقه .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾
أول شيء فإن هذه الآية تدعو إلى الحياة الحقيقية ، الحياة النافعة ، الحياة السعيدة ، الحياة الإنسانية وليست البهيمية ، الحياة التي تليق بك ، الحياة التي ينبغي أن تصبو إليها ، الحياة التي ينبغي أن تبحث عنها ، الحياة التي تسعدك هي حياة استجابتك إلى الله ، كلام الله عز وجل واضح كالشمس .
﴿ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾
قال : وإن كانت له حياة بهيمية فحسب فهذه مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات يعني أخس حيوان يلتقي مع الأنثى وينجب ، أحقر حيوان ، أي حيوان تحتقره يقترن وينجب، فهل تعد حياة الزواج حياةً ؟ أخس حيوان يأكل ، أخس حيوان يشرب ، أخس حيوان ينام ، طعام وشراب ، ونوم ، وإنجاب هذه ليست حياة الإنسان ، قال : فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله وللرسول ظاهراً وباطناً فهناك استجابة ظاهرية واستجابة باطنية ، والشيء الحقيقي أن تستجيب ظاهراً وباطناً وهذه هي الحياة ، ذات مرةٍ قلت لإنسان : الدعاة إلى الله يفلحون ، وينجحون ، ويوفقون ، ويتفوقون بقدر استجابتهم لرسول الله ، ويأفل نجمهم، ويضعف تأثيرهم، ويكرههم من يكرههم إذا انحرفوا عن سنة رسول الله ، لا تفلح إلا إذا اتبعت رسول الله لأنه معصوم ولأن طاعته هي طاعة الله عز وجل .
أيها الإخوة الكرام أمعنوا أنظاركم ؛ هؤلاء الذين استجابوا لله وللرسول أحياء وإن ماتوا ، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان ، لذلك قال سيدنا علي : يا بني العلم خير من المال لأن العلم يحرسك وأنت تحرس المال والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق ، مات خزان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر .
وبهذا السبب قد تجلس إلى غني شارد غير مستقيم ، غير مؤمن تضيق به ذرعاً فهو ميت، أنيق جداً ثيابه غالية جداً ، مركبته فارهة جداً بيته فخم جداً ، لكنك لا تشعر بسرور بالجلسة معه ، فهو متكبر ومتصحر ، وقلب كالصخر ، وقلب صدئ ، أما المظهر فخم جداً وقد تجلس إلى مؤمن فقير متواضع ، يعني ليس من علية القوم بل من عامة الناس لكنك تأنس به، أخ حدثني أنه دعي إلى طعام الإفطار في رمضان في أفخر مطعم على الإطلاق ، يعني قد يكون الطعام بعشرات الألوف فما وجد سروراً ، لكنه حسن ، دعي مع طلبة علمٍ فقراء والبيت صعب المرتقى فهو في رأس الجبل فقد سعد سعادةً عند هؤلاء الطلبة المؤمنين مع أن الطعام متواضع جداً ، والبيت متواضع جداً ففي الأمر سر ، الله عز وجل قادر أن يسعدك وطعامك أخشن طعام ، وأن تشعر بالملل والسأم والضجر مع أفخر طعام ، فالسعادة مصدرها حب وصلة وانشراح صدر من الله عز وجل ، وأداء مناسك الحج كان من الممكن أن يجعل الله مكة في أجمل بقاع العالم ، والله هناك أماكن في العالم كالجنة تماماً ، جبال خضراء ، بحيرات ، نسمات عليلة مناظر جميلة ، سماء زرقاء صافية ، بحر ، قال تعالى:
﴿بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾
حر لا يحتمل ، كنت أخرج من البيت في مكة في حجة سابقة فكأني قد أطللتُ على فرن تنور ، الساعة العاشرة في الليل كأنك بفرن ، ففي هذه الأيام المعتدلة عندنا تجد الحرارة اثنين وأربعين في مكة ، حر لا يوجد عرق أخضر ، لا يوجد جبال خضراء بل الجبال سوداء كالمنشار مسننة ، والازدحام شديد ومع ذلك يتجلى الله على الحاج فيملأ قلبه سعادةً ولا شيء يسعده إلا أن يعود إلى الحج مرةً ثانية ، هذا معنى قوله تعالى :
﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ﴾
فكلمة (مثابةً) مصدر من ثاب أي رجع ، إذاً الله عز وجل جمد كل وسائل اللذة المادية وحرك واحدة وهي القرب من الله ، بهذا القرب تسعد ، فلو وازنت بين حاج وسائح ، السائح بفندق فخم مطل على منظر جميل جداً ، على بحر أو على جبل أخضر ، هدوء ، تكييف ، طعام طيب والحاج بعرفات حاله أسعد ، وفي مرة توقعت ونحن في أداء المناسك ألّا نعيش إلى المساء من شدة الحر، ومع ذلك كنا سعداء ، ونبكي فرحاً ، فما هذا السر ؟ عرفات أرض ممهدة وحر لا يحتمل ، وازدحام لا يحتمل ، لكنك قريب من الله عز وجل فأنت سعيد، ربنا أراد أن يبين لك أن أسعد شيء أن تكون قريباً منه ، وليكون هذا واضحاً لك تماماً عطل لك كل وسائل المتع المادية هناك ، لذلك أكمل الناس حياةً أكملهم استجابةً لرسول الله ، بالمناسبة هذه لفتة لطيفة جداً ، قال تعالى :
﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾
قال : أكمل الناس حياةً أكملهم استجابةً لرسول الله ، يعني أنت حي ، والحياة التي تليق بك بقدر استجابتك لرسول الله ، ولكن بالمناسبة فالله عز وجل ما قبل دعوى محبته إلا بالدليل ، والدليل طاعة رسول الله قال تعالى:
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾
قال بعض العلماء : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ
يعني إذا دعاكم إلى الحق ، فما الحق ؟ هذه الكلمة وردت في كتاب الله مئات المرات، الحق هو الله ، يعني إذا دعُيت إلى الله ، دُعيت إلى طاعته ، دُعيت إلى محبته ، دُعيت إلى القرب منه ، دُعيت إلى جنته ؛ هذه واحدة ، أما الحق فالحق هو الله ، الحق في الأرض. ما هو الحق في الأرض الشيء الثابت والهادف والدليل عندنا في أصول الفقه هو المعنى المخالف ، قال تعالى :
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾
الحق لابَسَ خلق السماوات والأرض ، وفي آية أخرى ، قال تعالى :
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾
معنى هذا أن الحق خلاف اللعب ، اللعب عبث ، وفي آية ثالثة :
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً﴾
الباطل الشيء الزائل ، الشيء الذي يزول ليس حقاً ، والشيء العابث ليس حقاً ، الحق ما كان خلاف العبث والزوال ، أي الشيء الثابت والهادف ، فكل شيء زائل باطل :
﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾
لماذا لم يقل تعالى زاهقاً ؟ وهو اسم فاعل ، بل قال زهوقاً ، وهذه مبالغة اسم فاعل ما معنى المبالغة ؟ يعني مهما كان الباطل كبيراً فهو زاهق ، عمره سبعون سنة يتهاوى كبيت العنكبوت، مهما كان كبيراً لو يمثل نصف العالم مادام باطلاً فهو زاهق بل زهوق ، ومهما تعدد الباطل، ومهما كان كبيراً نوعاً ، أو مهما كان كثيراً عدداً ، مليون باطل كلها زائلة لا يبقى إلا الحق .
كنت قد ذكرت لكم من قبل أنّ رجلاً في فرنسا تسلم رئاسة الوزراة فترة وهو من أرقى العوائل الباريسية ، محترم جداً وغني ، ليست عنده مشكلة ، وفي سن السبعين انتحر ، مئة صحفي اجتهدوا في شرح سبب انتحاره فلم يجدوا أي سبب ، الفقر مع الكفر قد يؤدي إلى الانتحار ، أو الفضيحة ، فإذا وجدت فضيحة فقد ينتحر الإنسان أيضاً ، إذاً لا فضيحة ولا قضية مالية ، لكنّ صحفياً واحداً اكتشف سر انتحاره ، كان يعتنق مذهباً هو باطل ، فلما ظهر بطلان هذا المذهب بعد انهيار ما كان في الشرق من لا إله ، فلما انهار هذا المذهب احتقر نفسه لأنه سبعين سنة غلطان ومخدوع ، هذه مشكلة لا تكون مع المسلم ولا يمكن للأيام أن تكشف خطأ في الإسلام ، الإسلام دين الله ، كلما ازدادت الأيام تقدماً ازدَدْت رسوخاً وقناعة بعظمة الإسلام ، مشكلة كبيرة فإذا توهم الناس صحة مذهب وسلامته وصوابه ثم اكتشف أنه خطأ فخيبة الأمل قاتلة ، وهي خيبة أمل مرة ، فكأنه يقول : ثلاثين سنة وأنا موهوم ، ثلاثين سنة أسير في طريق غير صحيح ، أما المسلم كلما تقدمت به السن ازداد يقيناً بعظمة هذا الدين ، من باب الطرفة كانوا يقولون هارون الرشيد كلما رأى غيمةً يداعبها ويقول اذهبي أينما شئتِ يأتِني خراجك ، بلاد ممتدة من الشرق إلى الغرب فهذه السحابة أينما ذهبت وأمطرت وأنبتت يأتي هذا الخليفة المتألق خراجُها ؛ فالقياس مضحك ، وبعد ، فأي إنسان مهما شرد عن الله فلا بد من عودته إلى الدين ، بعد الأربعين أو الخمسة والأربعين أوالخمسين ، أصدقاؤه نصفهم ماتوا فيتساءل أين تمشي ؟ بدأ ملحداً وتراه في الأربعين بدأ يصلي وجاء إلى المساجد ، والموت قضية كبيرة جداً ، المغادرة قضية خطيرة جداً ، أنا أقول من باب الدعابة اذهبْ أينما شئت واعتنق أي مذهب شئت ففي النهاية مصيرك إلينا إلى الجامع لا محالة ، لأنه عندك شعور بالقلق عميق ، الإنسان وهو شاب بالثلاثينات مهتم بالعمل ، بزواج ، ببناء مجد ، لكن لما تجاوز عتبة الأربعين ، ثم الخمسين صار احتمالُ المغادرة بلا عودة، هذا احتمال قائم، إلى أين ماذا بعد الموت ؟ هنا يساوره قلق ، أما المؤمن سبحان الله لا تزيده الأيام إلا طمأنينةً، لا تزيده الأيام إلا تفاؤلاً ، قال تعالى :
﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾
لا تزيده الأيام إلا راحةً واطمئناناً لمصيره دائماً فالزمن في غير صالح الإنسان كلما ازداد عمره ازداد تراجعاً ولا بد من أن ينتبه لمآله، عند أهل الدنيا قاعدة متداولة في فرنسا كثيراً وهي أن السعادة المادية أساسها ثلاثة عناصر ، الصحة ، والوقت ، والمال ، ودائماً يجد الإنسان أن واحدة ناقصة لديه ؛ في أول العمر صحة درجة أولى صحة مثل الحصان والوقت موجود ولكن لا يوجد مال ، فالسرور المادي يحتاج إلى مال وفير.
ثم بالمرحلة الوسطى يؤسس عملاً وصحته جيدة والمال موجود ولكن ليس لديه وقت فراغ، قال لي مرة أخ في المكان الذي سافرت إليه : أعمل من الخامسة إلى الحادية عشرة بالليل عمليات جراحية ، ما هذه الحياة ؟ مال موجود ، صحة موجودة لكن وقت الفراغ معدوم، صار بالخمسين أو بالستين فابنه استلم مكانه وخفف عنه من أعباء عمله ، فارتاح قليلاً، المال كثير والوقت متسع ولكن لا يوجد صحة ، فهذه الأكلة ممنوعة ، وهذه تزيد نسبة الكوليسترول ، وهذه تؤثر على مفاصله وأصابه مؤخراً انزلاق فقرة ، هنا أسيد أوريك ، هنا شحوم ثلاثية ، معه حقيبة أدوية دائماً ، قبل الطعام وبعده ، نصف حبة ، أوحبة ثم تجده انتهى، فهناك مرحلة يتوفر فيها الوقت والصحة ولا يوجد المال، ثم هناك مرحلةٌ المال متوفر وكذلك الصحة ولا يوجد وقت ، والثالثة كثر المال واتسع الوقت ولا يوجد صحة . أما المؤمن فهو إنسان آخر ، المؤمن عرف الله عز وجل وسخر كل طاقاته للآخرة فليست عنده مشكلة ، سعادته بالقرب من الله .
والله أقول لكم كلام دقيق ، فممكن أن يعمل عشرين ساعة في اليوم ولا يتعب لأنه يمشي في طريق هدفه واضح ، انظر مثلاً إلى التاجر متى يتعب ؟ إذا توقف البيع ، فهو جالس مرتاح وفنجان القهوة أمامه والصحيفة أمامه وهواتف ولكن البيع متوقف ، يقول لك مسموم بدني لو فرضنا أن السوق ساخن جداً فينسى أن يأكل ، يعود إلى بيته الساعة الحادية عشرة وكان قد خرج من الساعة الخامسة وليس متعباً لأن السوق رائحة ، والغلة ترضي ، فالمؤمن كذلك هو تاجر ولكن غلته العمل الصالح مهما اشتغل فلا يتعب ، أموره مبرمجة ، هدفه الله والدار الآخرة فكلما أقدره الله على عمل صالح يسعد أكثر ، كلما أجرى على يده عملاً صالحاً يسعد أكثر ، وكلما أعطاه الله واستغل عطاء الله يسعد أكثر ، والنبي صلى الله عليه وسلم تمنى أن يكون له مثل أحد ذهباً بشرط ألّا يبقى عنده أكثر من ثلاثة أيام ، بل ينفقه كله في سبيل الله.
يحييكم هو الحق ، والله هو الحق والشيء الثابت والهادف هو الحق والشيء الباطل والعابث هو عكس الحق ، وقال عالم آخر : ِلما يحييكم: هو الإسلام أحياهم بعد موتهم بالكفر ، وعالم ثالث قال : الحق لما يحييكم يعني : القرآن ، منهج كامل ، وعالم رابع قال لما يحييكم : الجهاد جهاد النفس والهوى الجهاد الدعوي .
الإنسان إذا شعر أنه في قلوب الناس هذه أكبر سعادة ، قال تعالى :
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾
قد تجد شخصاً ليس له أي عمل صالح ، هذا شخص مهمل ، لكن هناك إنسان بالتعبير الجديد له بصمات ، له آثار طيبة جداً فيمن حوله قال تعالى :
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾
يحول بين المرء وقلبه يعني أن الله عز وجل بينك وبين قلبك ، الخواطر كلها في علم الله ، لذلك قال العلماء : أمة محمد أمتان أمة الاستجابة وأمة التبليغ ، فالذين استجابوا هم خير أمة أخرجت للناس علة هذه الخيرية تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ، أما الذين لم يستجيبوا فهؤلاء أمة التبليغ ليس لهم فضل إطلاقاً على أي إنسان ، قال تعالى :
﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ﴾
ألا تنطبق هذه الآية علينا تماماً ؟ قال تعالى :
﴿فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ﴾
و لي كلمة أقولها دائماً وهي دقيقة : لقد هان أمر الله على المسلمين فهانوا على الله ، أوضحُ مثلٍ أنك تجد مسلماً من أسرة عريقة ، وترتدي نساؤه أحدث الأزياء وكذلك بناته . فهل من المعقول أن تخضع امرأة إلى مصمم أزياء يهودي بفرنسا ؟ أمعقول أن تكشف عن مفاتنها كي تكون مع أحدث صرعات الأزياء ؟ فإذا كان أمر الله قد هان علينا إلى هذه الدرجة فليتربصوا، فإن هان أمر الله عليهم هانوا على الله ، لذلك لا أحد يعتب على ما يصيبه .
لي صديق طبيب كان يتابع إذاعة أجنبية في منتصف الليل فسمع وقائع لقاء بين المفتي البوسني و بين شخص آخر باللغة الأجنبية . نقل لي ما قاله هذا المفتي بالضبط ، قال : لا ينبغي لإخوتنا في المشرق أن يعتبوا على الله من أجلنا فنحن لسنا مسلمين لأننا نشرب الخمر و نأكل الخنزير و نأتي الفواحش ، والآن عرفنا الله و الآن أصبحنا مسلمين ، أي بعد هذه الشدة أصبحوا مسلمين أي أنا ذكرت لكم أحد أخواننا الخطباء الكبار في الشام قال لي : ذهبت إلى بلد مسلم في أوروبا و ألقيت خطبة بأكبر مسجد ، قال لي : خمسة آلاف مصلٍ أمامي ، والله، من فمه إلى أذني و بكوا بكاء أثناء الخطبة فرآهم بعينه يفتحون أزرار المعاطف ويخرجون زجاجاتٍ يشربون منها ، فسأل : ما هذا ؟ قالوا له : هذا عرق ، ويشربه أحدهم ضمن المسجد لأنه تأثر جداً بالخطبة ، تأثر فشرب . و الله من فمه إلى أذني والخطيب من ألمع خطباء دمشق. هؤلاء المسلمون الذين تخلى الله عنهم ، في بقية البلاد الإسلامية هذه النساء الكاسيات العاريات ، الثياب الضيقة ، الثياب الفاضحة العطور ، كلهن بنات المسلمين أين آباؤهن ؟ أين أزواجهن ؟ أين أخوانهن ؟ فهان أمر الله علينا فهُنّا على الله قال تعالى :
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾
و هذه الآية تنطبق علينا تمام الانطباق :
﴿بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾
أيها الأخوة :
أي هذه الآية :
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ(24)
الحياة الحقيقية ، الحياة الإنسانية ، الحياة التي تليق بالإنسان ، الحياة التي ينبغي أن يطمح لها الإنسان : الحياة المسعدة هي حياة الاستجابة إلى الله ، أيْ حياة طاعة الله ، فأنت حي بقدر استجابتك و تنقص هذه الحياة بقدر نقص استجابتك لله عز وجل ، و إن استجبت لله عز وجل فأنت من أمة الاستجابة هذه خير أمة أخرجت للناس أحد طلابي كان يوماً ببلد أوربي شرقي قال لي : الطائرة التي سيسافر عليها ستقلع الساعة الثانية بعد منتصف الليل ، فركب سيارة من الفندق ، وأقسم بالله و هو عندي صادق ، فقال : الثلج بعلوّ ثلاثين إلى أربعين سنتمتراً في بوخارست والساعة الثانية بالليل وجد طابوراً طوله ثماينة كيلو مترات تقريباً مؤلف من أناسٍ واقفين فسأل : ماذا هناك ؟ قالوا له : أذاعوا بالإذاعة أنه سيتم توزيع لحم الساعة الثامنة صباحاً ، فمن الساعة الثانية وقف الناس والثلج بعلو خمسين سنتمتراً ليأخذ الرجل أو المرأة قطعة لحم ، هان أمر الله عليهم فهانوا على الله ، احفظوها فهذه عبارة ذهبية.
هان أمر الله عليهم فهانوا عليه ، فإذا عظّمت أمر الله فأنت غال على الله ، كرامتك غالية عليه، وقتك غال عنده ، أسرتك غالية كذلك كلما عظمت أمر الله كنت عند الله :
﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾
كلما عظمت أمره كنت قريباً منه و تولى أمرك و دافع عنك و طمأنك و أسعدك و وفقك و نصرك و حفظك هذا معنى قوله تعالى :
﴿وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾
معهم بالتوفيق و الحفظ و الرعاية و التوفيق ، و الشيء واضح قال تعالى :
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾
محور الدرس قوله تعالى :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
سألت طلاباً من طلابي يوماً من يذكر اسم تاجر كبير أو غني عاش في دمشق عام ألف وثمانمائة و ستةٍ و سبعين ؟ لم يستطع طالب أن يتذكر اسم رجل غني عاش في دمشق سنة كذا ، فأنا طمأنتهم و قلت لهم وأنا لا أعرف ، أما سيدنا صلاح الدين ، سيدنا عمر ، سيدنا خالد ، هؤلاء الأبطال وهؤلاء العلماء الكبار الإمام الشافعي ، الإمام الحنفي ، أبو حنيفة النعمان ، الإمام مالك ، الإمام ابن حنبل ، الصحابة الكرام أسماؤهم ملء السمع و البصر ، لذلك يجب على الإنسان أن يعمل عملاً يبقى على مر الأيام و هذه هي الصدقة الجارية .