- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (005)سورة المائدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا بما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
التلازم الحتمي بين رؤية النعمة ومحبة المنعم :
أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الحادي عشر من دروس سورة المائدة، ومع الآية الحادية عشرة، وهي قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ﴾
أيها الأخوة، من خصائص النفس البشرية أنها جبلت على حب من أحسن إليها، فهنالك تلازم حتمي بين رؤية النعمة ومحبة المنعم، هذا شيء قطعي، إلا أن الإنسان قد ينسى النعم، وأحيانا يبحث عن الشيء الذي ينقصه، فإذا هو في همّ وحزن وسخط، وأحيانا يبلغ درجة النقمة، وهو مغمور بالنعم، ولأن هذا الدين أساسه محبة الله، ومحبة الله أساسية في العبادة، لأن من أدق تعريفات العبادة: طاعة طوعية ممزوجة بمحبة قلبية، ما عبدَ الله من أطاعه ولم يحبه، كما أنه ما عبد الله من أحبه ولم يطعه، لا بد من طاعة طوعية، وليست قسرية، وأن تكون هذه الطاعة الطوعية ممزوجة بمحبة قلبية، فمن أجل أن تحب الله ينبغي أن ترى نعمه، والإنسان نسّاء، قد ينسى، قد يكون متزوجاً، والزواج نعمة، وقد يكون سليم الأعضاء، والسلامة نعمة، وقد يملك عقلاً راجحاً، والعقل نعمة، وقد يكون عنده أولاد نجباء، والأولاد نعمة، لكن بعض مشكلات الحياة تصرفه عن شكر الله، فلذلك البطولة أن ترى ما عندك، والذي عندك كبير، وإذا أردنا أن نعدد النعم فالنعم لا تعد ولا تحصى، بل إن النعمة الواحدة لا يمكن أن نستقصي خيراتها طوال الحياة، من هنا جاء قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ ﴾
أية نعمة أنعم الله بها عليك ينبغي أن تملأ قلبك محبة له، ورد في بعض الآثار القدسية أن أحد الأنبياء قال: يا رب أيّ عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك؟ قال: أحبُّ عبادي إلي تقي القلب نقي اليدين، لا يمشي لأحد بسوء، أحبني وأحب من أحبني، وحببني إلى خلقي.
استقرار محبة الله والخوف منه وتعظيمه في قلب المؤمن :
ينبغي أن تحب الله، وينبغي أن تحب من يحب الله، أحبني وأحب من أحبني، وحببني إلى خلقي، فقال: يا رب إنك تعلم أنني أحبك، وأحب من يحبك، فكيف أحببك إلى خلقك؟ قال: ذكّرهم بنعمائي، وآلائي، وبلائي، النعمة تدعوك إلى محبة الله، والبلاء يدعوك إلى الخوف منه، والآلاء تدعوك إلى تعظيمه، لا بد من أن تعظمه، لأن هذا الذي في النار يخبر الله عنه:
﴿ إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ﴾
ينبغي أن تعظمه، وينبغي أن تحبه، وينبغي أن تخاف منه، فهذه مشاعر ثلاثة ينبغي أن تكون مستقرة في قلب المؤمن، فالله عز وجل يأمرنا، وكل أمر يقتضي الوجوب:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ ﴾
أنت لستَ ملاحقاً، أليست هذه نعمة؟ أنك حر، ليس عندك فضيحة في البيت، أحياناً يستدعى إنسان إلى قسم الشرطة ليسلَّم ابنته الزانية، ما الذي يحصل لهذا الأب؟ عندك بنات شريفات مصونات، عندك أولاد لهم سمعة طيبة، لك زوجة ترضيك، وترضي الله عز وجل، لك دخل قليل، أقلُّ من حاجتك، هذا ممكن، هذه الدنيا دار ابتلاء، ومعنى دار ابتلاء أن الله امتحنك بها بزمرتين من الامتحانات؛ امتحنك فيما أعطاك، وامتحنك فيما زوى عنك، لأن الله سبحانه وتعالى جعل حقيقة الدنيا الابتلاء.
﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
بعض من نعم الله علينا التي لا تعد ولا تحصى :
الله عز وجل يقول:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا ﴾
إذاً التحدث للنفس بنعم الله، سبحان الله! فهم بعضهم التحدث بنعم الله أن تجلس في مجلس، وأن تتحدث عن رحلاتك، وعن إنفاقك للمال، وعن ولائمك، وعن أصحابك، وعن مصروفك الشهري، فتدخل الأسى على قلوب هؤلاء الذين حولك، التحدث بنعم الله أن تحدث نفسك بنعم الله، أكبر نعمة أنعم الله بها عليك أنك موجود.
﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ﴾
نعمة أخرى: جعلك من أبوين، ولست لقيطاً، لك أب، ولك أم. نعمة ثالثة: منحك السلامة في الأعضاء والأجهزة، هذه نعمة ثالثة. نعمة رابعة: عرفك بذاته، وهذه أعظم النعم، النعم إذا صنفت يقع على رأسها معرفة الله عز وجل، فأنت في حياتك حلال وحرام، وشيء مسموح وشيء ممنوع، عندك مجموع قيم تنتظم سلوكك، هؤلاء الذين يديرون بيوت الدعارة هل عندهم قيم؟ الذين يبنون رزقهم على إفساد الآخرين، يبنون حياتهم على موت الآخرين، يبنون أمنهم على خوف الآخرين، يبنون عزهم على إذلال الآخرين، كنت أقول دائماً: في آخر الزمان إن لم تكن طرفاً في مؤامرة قذرة لإفقار المسلمين أو لإضلالهم أو لإذلالهم أو لإفسادهم فأنت في نعمة لا تقدر بثمن، تنام مساء مرتاح البال، لست سبباً في شقاء إنسان، أنا أذكركم بالنعم السلبية، قبل أن تكون غنياً، قبل أن تكون قوياً، فما لم تكن سبباً في شقاء الخلق فهذه نعمة كبرى، لك نسب واضح، لك أم وأب، تتمتع بصحة، لك مأوى تأوي إليه، لك زوجة تحصنك عن أن تتطلع إلى ما عند الآخرين، لك أولاد يملؤون البيت بهجة وسروراً، هذه كلها من نعم الله.
الشكر يحصن النعمة :
وعدنا الله عز وجل فقال:
﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾
الشكر يحصن النعمة، بل إن علة خلقك في الدنيا أن تعرفه، وأن تشكره، بدليل قول الله عز وجل:
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾
ينبغي أن تشكره بعد أن تعرفه، فحينما تتعرف إليه، وحينما تشكره تحقق الهدف من وجودك:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾
نعمة الإيجاد، نعمة الإمداد، نعمة الهدى والرشاد، نعمة أنه أسمعك الحق، لو ذهبت إلى بلاد بعيدة شرقاً وغرباً حيث لا زواج ولا بعقد مدني، ولا بعقد الكنيسة، يعاملها كزوجة، وفي أية لحظة يركلها بقدمه، هكذا يعيش الغرب والشرق، أنت لك زوجة بعقد شرعي، تشعر أنك تحت غطاء الله عز وجل، ولك أولاد نسبهم معروف، أنا أذكركم بالنعم التي نتمتع بها، والتي لا تقدر بثمن، في حياة المسلمين شيء اسمه حرام، وشيء اسمه حلال، شيء اسمه مكروه، شيء اسمه واجب، شيء اسمه مستحب، أشياء كثيرة، هذه من الخيرات التي ينعم الله بها على المسلمين المتمسكين بدينهم، أما هؤلاء الذين لم يتمسكوا فقد خسروا الدنيا والآخرة، فلا هم مع أهل الكفر بقوتهم واستمتاعهم بالحياة كما يحبون، ولا هم مع أهل الإيمان بتطلعهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ولا هم راضون عن الله عز وجل، لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء.
تمام النعمة الهدى :
أيها الأخوة، لكن يجب أن تعلم علم اليقين أن نعمة الهدى لا تعدلها نعمة، وتأكد أن نعمة الهدى تشبه الرقم واحداً، فإذا كنت صحيحاً فأمام هذا الواحد صفر، وإذا كنت منعماً عليك بقدرات معينة مهنية أو عقلية فهذه نعمة ثانية، الصحة نعمة، القدرات العقلية نعمة، الزوجة نعمة، الأولاد نعمة، كلها أصفار، لكن لو سحبت هذا الواحد من هذا الرقم ماذا بقي من هذا الرقم؟ أصفار، لذلك قالوا: تمام النعمة الهدى.
والإمام علي كرم الله وجهه يرى أنه من أولى النعم بالشكر هدايتك إلى الله عز وجل، تأتي بعدها الصحة، وبعدها الكفاية. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا))
أي مطمئنّاً إلى الله عز وجل، مطمئنّاً إلى مصيره مع الله.
﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾
أصبغ الله عليه بنعمة الأمن، الأمن خاص بالمؤمنين.
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
تذكُّر النعم من العبادة :
الآن ربنا عز وجل في آيات أخرى يقول:
﴿ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ﴾
أيام الله هي الأيام العصيبة التي لاح لك فيها شبح مصيبة كبيرة، ثم نجاك الله منها بقدرة قادر، هذا يوم ينبغي ألاّ تنساه:
﴿ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ﴾
ما من مؤمن إلا وله مع الله أيام، بامتحان، بتهمة هو بريء منها، بعقدة في عمله، بعقدة في زوجته، بصحة زوجة، بمرض داهم أحد أولاده، ثم شفاه الله عز وجل، هذه الأيام ينبغي أن تذكرها:
﴿ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ﴾
يبدو أن تذكُّر النعم من العبادة، وحينما يذكر الإنسان الإيجابيات تصغر عنده السلبيات. أذكر مرة أنه جاءني أخ أجمعَ على أن يطلق زوجته، أنا استدرجته إلى ميزاتها دون أن يشعر، قلت له كلمة لكنها قاسية: لعلها تكون كذا؟ قال لي: معاذ الله يا أستاذ، إنها امرأة شريفة، لعلها لا تحسن الطبخ؟ قال لي: والله طبخها ممتاز، لعلها ليست نظيفة؟ قال لي: لا والله، إنها نظيفة، فهو دون أن يشعر ذكر أنها شريفة، وأنها نظيفة، وأنها طباخة ماهرة، وأنها أم أولاده ثم استحيا أن يتابع الموضوع واستأذن وانصرف لقد كان غافلاً عن هذه النعم.
البطولة أن نرى الإيجابيات والسلبيات معاً :
كل بطولتك أن ترى الإيجابيات والسلبيات معاً، وهذا الذي يرى السلبيات شيطان، لما التقى النبي عليه الصلاة والسلام بصهره بين الأسرى ما معنى أن يكون صهره بين الأسرى، أي أنه كان مشاركاً في معركة ضد صهره، وإذا شارك إنسان في معركة ماذا ينتظر؟ أن يقتل، أليس كذلك؟ فلما نظر إلى صهره بين الأسرى قال: والله ما ذممناه صهراً، فهو كصهر ممتاز، أرأيت إلى الإنصاف، حتى إنك إن أردت أن تعاتب إنساناً، أو أن تلفت نظره إلى تقصير يقول علماء النفس: ينبغي أن تبدأ بإيجابياته، وهكذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام حينما دخل إنسان، وأحدث جلبة وضجيجاً بالمسجد ليلحق بركعة مع رسول الله، فلما انتهت الصلاة قال النبي عليه الصلاة والسلام: زادك الله حرصاً، فعَنْ أَبِي بَكْرَةَ:
((أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَاكِعٌ فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: زَادَكَ اللَّهُ حِرْصاً وَلَا تَعُدْ))
ميزة، زادك الله حرصاً ولا تعد، شوشت علينا، لكن زادك الله حرصاً، وطّن نفسك أنك إذا أردت أن تنتقد إنساناً انتقده نقداً بناء، أو أن تلفت نظره إلى قضية وطّن نفسك أن تذكر له ما يتمتع به من إيجابيات كي يطمئن إلى إنصافك، النموذج الذي لا يحتمل في المجتمع أنه لا يرى إلا العيوب، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله من إمام سوء، إن أحسنت لم يقبل، وإن أسأت لم يغفر، وكان يستعيذ عليه الصلاة والسلام بجار سوء، إن رأى خيراً كتمه، وإن رأى شراً أذاعه، وبين المسلمين إنسان لا يرى إلا الخطأ، وهو قناص، فإن أصاب خطأ شهّر به، ويكون صاحب هذا الخطأ مليئاً بالفضائل، هذا الذي قال فيه تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
هذا الذي ينشر القصص السيئة، أو يبني على أوهام قصة لم يتحقق منها، حتى إنه قد قيل في الأثر: " قذف محصنة يهدم عمل مئة سنة "، هذه التي قالت لأختها: قصيرة، السيدة عائشة ماذا قال لها النبي عليه الصلاة والسلام؟ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
((حَكَيْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً فَقَالَ: مَا يَسُرُّنِي أَنِّي حَكَيْتُ رَجُلاً وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ صَفِيَّةَ امْرَأَةٌ وَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا كَأَنَّهَا تَعْنِي قَصِيرَةً فَقَالَ: لَقَدْ مَزَجْتِ بِكَلِمَةٍ لَوْ مَزَجْتِ بِهَا مَاءَ الْبَحْرِ لَمُزِجَ))
على الإنسان أن يحب الله ووسائل محبة الله أن يذكر نعمه :
على الإنسان دائماً أن يتذكر النعم، نعمة البيت، لك مأوى، لك عمل، لك زوجة، لك أولاد، لك مسجد، أنت على شيء من العلم، لا تضجر، الله عز وجل أراد أن يمتحنك في الدنيا، وقد قال الله عز وجل:
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾
لو أن واحداً لا سمح الله ولا قدر كانت زوجته لا ترد يد لامس كيف يعيش في عمله؟ مضطرباً، قلقاً، خائفاً، في شك، في اضطراب، ليس مرتاحاً لعفة زوجته، أما نعمة الزوجة العفيفة هذه لا تقدر بثمن، تسافر وتغيب وأنت مطمئن أن أحداً لم يدخل بيتك في غيبتك، وأن إنساناً لم يضع يده على يدها، نعمة هذه، فكلما ذكرت نعم الله عز وجل أحببته، وقد ورد:
(( أحبوا الله لما يغدوكم به من نعمه.))
أي يجب أن تحب الله، ووسائل محبة الله أن تذكر نعمه، لذلك علمنا النبي عليه الصلاة والسلام أنك إذا رأيت إنساناً مبتلى بمرض عضال ينبغي أن تشكر الله على أنه عافاك من هذا المرض من دون أن تسمعه ذلك، فعَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((مَنْ رَأَى صَاحِبَ بَلَاءٍ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلاً إِلَّا عُوفِيَ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَاءِ كَائِناً مَا كَانَ مَا عَاشَ... وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا رَأَى صَاحِبَ بَلَاءٍ فَتَعَوَّذَ مِنْهُ يَقُولُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَلَا يُسْمِعُ صَاحِبَ الْبَلَاءِ))
إذا كان الإنسان عاجزاً عن إحصاء النعم فلأن يكون عاجزاً عن شكرها من باب أولى:
هذا من أدبك مع الناس، أن تدعو له بالشفاء بينك وبين نفسك، وينبغي أن تشكر الله على أنه عافاك من هذا المرض، عافاك من هذه المشكلة، عافاك من هذه المصيبة، نعم الله لا تعد ولا تحصى، نحن عاجزون عن شكرها، بل عن إحصاءها.
كنت أضرب هذا المثل دائماً، ثمة رجل جاءه مولود، فجاءته مئة هدية، أيهما أسهل أن يمسك ورقة وقلماً، ويكتب عدد هذه الهدايا ومن قدمها بربع ساعة، أم أن يرد على كل هذه الهدايا بهدية مثلها، أيهما أهون؟ الإحصاء أهون بكثير، فإذا كان الإنسان عاجزاً عن إحصاء النعم فلأن يكون عاجزاً عن شكرها من باب أولى.
والله أيها الأخوة: نعمة البصر، نعمة السمع، نعمة النطق، نعمة إفراغ الفضلات، هذا الذي يحمل كيساً إلى جانبه، وثمنه مبلغ كبير يريد تبديله كل فترة، ولا يعرف متى خرج هذا الغائط منه، أناس كثيرون معهم هذا المرض، إنسان يضطر إلى أن يغسل كليته كل أسبوع ثلاث مرات، وكل مرة بثلاثة آلاف ليرة، وكل مرة خمس ساعات، كليتاك تستعملان بانتظام، فهذه نعمة، النبي علمنا أدعية كثيرة، في النوم والاستيقاظ منه: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ عَنْ فِرَاشِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَلْيَنْفُضْهُ بِصَنِفَةِ إِزَارِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ بَعْدُ فَإِذَا اضْطَجَعَ فَلْيَقُلْ: بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ فَإِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ فَإِذَا اسْتَيْقَظَ فَلْيَقُلْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ))
هناك إنسان يأتي إلى البيت بعد الفجر، لكن من الملهى، لا من المسجد، شتان بين أن تأتي البيت بعد الفجر من المسجد وأن تأتيه من الملهى، أليس كذلك؟ أيها الأخوة:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾
كن مع الله بنعمه.
الفرق الكبير والجوهري بين المؤمن والكافر أن الكافر مع النعمةلكن المؤمن مع المنعم:
أخواننا الكرام: الفرق الكبير والجوهري بين المؤمن والكافر أن الكافر مع النعمة، لكن المؤمن مع المنعم، المؤمن خرق النعمة إلى المنعم، فإذا كان في بحبوحة يرى فضل الله عليه، وإذا كان في أمن يرى فضل الله عليه، وإذا كان في صحة يرى فضل الله عليه، وإذا كانت له زوجة يرى فضل الله عليه، له أولاد يرى فضل الله عليه، هذه النعم إذا شكرت الله عليها حصّنت، وإذا كفرت أتلفت، حتى إن الله عز وجل إذا أنعم على عبد نعمة، وبخل بها عن الناس حوّلها إلى غيره، يقرّها فيهم ما بذلوها، فإن منعوها أهلها صرّفها عنهم.
أروي قصة قديمة، قصة بيت من بيوت دمشق العريقة فيها شجرة ليمون تنتج في العام أربعمئة حبة أو أكثر، كل أهل الحي كلما احتاجوا إلى حبة ليمون يطرقون الباب، وفي هذا البيت امرأة صالحة كبيرة في السن، فكلما سئلت حبةَ ليمون قدّمت للسائل هذه الحبة، ثم توفيت، عندها زوجة ابن شابة رعناء، طرق الباب فطردت السائل، والثاني طردته، في العام الثاني يبست هذه الشجرة، قيسوا عليها كل شيء.
تبذل يمدك الله، تمنع فضلك يحرمك الله، بل إذا أراد الله إظهار فضله عليك خلق الفضل ونسبه إليك، وإن الله يحب أن يكون الخير على يديك، بدليل قوله تعالى:
﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ ﴾
الله قادر ألاّ يبقِي كافراً، لكن قال لك: يا عبدي أحب أن تقوم أنت كي أجري على يديك هذا النصر.
﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾
فالله عز وجل فتح لنا في الدنيا أبواب جنته على مصاريعها عن طريق الأعمال الصالحة، وأجمل شيء يمكن أن يقال في هذه الآية: إن الطريق إلى الله واحد، لكن طرق الضلال لا تعد ولا تحصى، والدليل:
﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ﴾
﴿ صِرَاطِي ﴾
مفرد،
﴿ مُسْتَقِيماً ﴾
فبين نقطتين لا يمر إلا مستقيم واحد، الثاني يأتي فوقه تماماً، ارسم نقطتين على ورق، وائتِ بمسطرة، وارسم خطّاً بينهما، ارسم خطّاً ثانياً، يأتي فوق الأول، والخط الثالث فوق الثاني، فالحق لا يتعدد أبداً،
﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً ﴾
لكن بين هاتين النقطتين يمر مليون خط منكسر، ومليون خط منحنٍ، فالباطل متعدد، والحق واحد.
الباطل متعددأمّاالحق فلا يتعدد :
قال تعالى:
﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾
﴿ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ ﴾
جمع:
﴿ إِلَى النُّورِ ﴾
طيب قد يقول قائل: لمَ لمْ تكن الآية: يخرجهم من الظلمات إلى الأنوار، أو من الظلمة إلى النور، لا! من الظلمات، الباطل ظلمات بعضها فوق بعض، الباطل متعدد، أمّا الحق فلا يتعدد، لذلك قالوا: الحرب بين حقين لا تكون، لماذا؟ لأن الحق لا يتعدد، مستحيل، وبين حق وباطل لا تطول، لأن الله مع الحق، وبين باطلين لا تنتهي، مع العمر تنتهي، وبين حق وباطل لا تطول، بين حقين لا تكون، بين باطلين لا تنتهي.
من النعم الظاهرة ما تتمتع به من صحة ومال ومن النعم الباطنة ما زوي عنك :
أيها الأخوة، من العبادة أن تذكر نعمة الله عليك، النعم العامة والنعم الخاصة، النعم الخاصة أيام الله، الصحة نعمة عامة، والزواج نعمة عامة، مرة لاح شبح مرض أصاب ابنك ـ لا سمح الله ـ فدعوت الله، وتصدقت، وأخذته إلى طبيب تثق بعلمه، فشفاه الله، وأصبح المرض ذكرى، هذا من أيام الله، أن الله استجاب لك وشفى لك ابنك، لكن المؤمن أحياناً كما قال الله عز وجل:
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾
لذلك من النعم الظاهرة ما تتمتع به من صحة ومال وغيرها من النعم، ومن النعم الباطنة ما زوي عنك، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يدعو ويقول: اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعل عوناً لي فيما تحب، أي رزقتني صحة، أن تكون في طاعة الله، رزقتني مالاً، أن يكون في رضوان الله، وما زويت عني ما أحب، فلانة كنت أتمنى أن أتزوجها لكن الأمر لم ييسر، وما زويت عني ما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب.
مرة طالب علم كان في درس أمامي، قال لي: ما حكمة الزوجة التي هي أقلُّ من طموح زوجها؟ قلت له: حتى نراك في الدرس، أحياناً يعبد الإنسان امرأته من دون الله، وينسى أنه يعبدها، لحكمة بالغة كانت هذه زوجتك، ارض بها تكن أغنى الناس.
حينما نفقد المثل الأعلى نضيعونتيه في الحياة وهذه إحدىأكبر مشكلات المسلمين :
قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾
لكن الآية تشير إلى نعمة خاصة، النبي عليه الصلاة والسلام كان بينه وبين بني قريظة عهد، فلما زارهم لينفذ بنود العهد ائتمروا على قتله، فأجلسوه في مكان وأعطوا إشارة لمن يأتي إلى السطح، ويرمي النبي بصخرة تقتله، فجاءه الوحي وغادر قبل أن يفعلوا فعلتهم، فالملمح في الآية أن هذه نعمة ليست للنبي بل للمؤمنين، والإنسان قوته في مرجعيته الدينية، فإذا كان لك مرجع ديني أنت واثق منه، مرتاح له، تثق بورعه وعلمه وتستشيره، ويدلك على الله عز وجل فهذه نعمة كبيرة، وأنا أقول لك: أكبر مصيبة أن يفقد الناس المثل الأعلى، حينما نفقد المثل الأعلى نضيع، ونتيه في الحياة، وهذه إحدى أكبر مشكلات المسلمين، ليس لهم مثل أعلى، ومن بعض المؤامرات على المسلمين أن يُهزّ المثل العليا الآن حتى نيأس، يقال لك: ليس هناك مثلٌ جيد أعلى، هذا فقرة من فقرات الكيد للمسلمين، أن تهتز عندك المثل العليا، أنت لك قريب بجامع ومستقيم، وسمته حسن وصالح، وله أعمال طيبة، إنه لا يرضي الله أن تهز مثله الأعلى، ما دام التزم بالمسجد وهو يمشي بشكل صحيح، ويغلب عليه الصلاح والتستر، عقيدته سليمة، يؤدي الفرائض تماماً، لا يأكل مال حرام، فمن الخطأ الكبير أن تهز له مثله الأعلى، البطولة أن تأتِي بإنسان من ملهى إلى المسجد، لا من جامع إلى جامع، إذا كنت بطلاً فآت بالعاصي تارك الصلاة من ملهى إلى مسجد، أما أن تذهب إلى جامع آخر لتفسد هذا الطالب على شيخه فهذا سلوك غير مقبول إلا إذا كان فيه انحراف خطير في العقيدة هذا موضوع ثان، وتصير هذه نصيحة له، أما أن يغلب على هذا المسجد الصلاح والتستر، وليس فيه مشكلة كبيرة في العقيدة، فالأولى أن يكون الإنسان أداة جمع لا أداة تفريق.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ﴾
﴿ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾
إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟ ويا رب ماذا فقد من وجدك؟ وماذا وجد من فقدك؟