- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (005)سورة المائدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا بما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
قصة قابيل وهابيل هي قصة البشر وقد جعلها الله عز وجل درساً بليغاً للإنسان :
أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس السابع عشر من سورة المائدة، ومع الآية السابعة والعشرين، وهي قوله تعالى:
﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) ﴾
أيها الأخوة الكرام؛ إن قصة قابيل وهابيل هي قصة الإنسان في ارتفاعه وانحطاطه، في طاعته ومعصيته، في سعادته وشقائه، في سموه وسقوطه، هي قصة البشر، ولقد جعلها الله عز وجل درساً بليغاً لهذا الإنسان.
في هذه القصة أيها الأخوة؛ الله عز وجل يطلب من نبيه الكريم عليه أتم الصلاة والتسليم أن يتلو على هؤلاء اليهود قتلةِ الأنبياء الذين حسدوا الناس على ما آتاهم الله من فضله، أن يتلو عليهم هذه القصة، ففي بعض جوانبها تنطبق عليهم أشد الانطباق، الإنسان يغدو فوق الملائكة، أو يسقط حتى يكون دون الحيوان، تسمو نفسه إلى الله فيسعد إلى أبد الآبدين، وتسفل نفسه فيكون أشقى خلق الله أجمعين.
قصة قابيل وهابيل قصة التكليف، قصة قابيل وهابيل قصة الشهوة، قصة قابيل وهابيل صراع بين المبدأ والشهوة، قصة قابيل وهابيل قصة الطاعة والمعصية، يمكن أن تلخص أحداث الدنيا إلى يوم القيامة بهذه القصة، قابيل وهابيل، ولأن الذين استمرؤوا قتل الأنبياء، واستمرؤوا الكفر بالأنبياء، وهم يعرفونهم كما يعرفون أبناءهم.
قصة قابيل و هابيل إضاءة لنا في الطريق إلى الله :
أيها الأخوة؛ ما من معرفة أوثق وأوضح وأسرع من معرفة الأب لابنه، ولقد بيّن الله عز وجل أن هؤلاء القوم يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نبي مرسل كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك الاستكبار، والحسد، والبغي، والعدوان حال بينهم وبين الإيمان بهذا الرسول، لو دققنا في هذه القصة لوجدناها قصة البشرية جمعاء، لو دققنا في هذه القصة لوجدناها تعبيراً عما يجري الآن، في مناطق العالم، كيف أن الشهوة شهوة التسلط وشهوة الاستمتاع بالحياة تقضي على كل قيمة وكل مبدأ، وكيف أن الناس رجلان، غر كريم وخب لئيم، إنها قصة بليغة إلى أقصى حد، وأراد الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه القصة إضاءة لنا في الطريق إلى الله، فينبغي ألا نكون كقابيل الذي قتل آخاه ظلماً، وينبغي أن نطيع الله عز وجل:
إذا كان الخطاب من خالق الأكوان فينبغي أن تأخذه وكأنك تراه :
لأن الله سبحانه وتعالى هو المتكلم، ولأن الله تعالى هو الذي يقص هذه القصة، فهذه القصة بالحق، أي لابس الحق أحداثها، أي إن هذه القصة هكذا وقعت تماماً، ولقد علمنا القرآن الكريم أن نأخذ إخبار الله كأننا نراه، قال:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) ﴾
مع أننا جميعاً لم نرَ هذا الحدث، مع أن الأمة الإسلامية جميعها لم ترَ هذا الحدث، والله عز وجل يقول:
أيها الأخوة؛ الله عز وجل حينما يقص علينا بعض القصص يقول:
﴿ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ۚ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) ﴾
هذه القصة وقعت مئة بالمئة، ثبوتها قطعي، صوابها قطعي، فائدتها ليس لها حدود، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) ﴾
القصة هي حقيقة مع البرهان عليها :
القصة أيها الأخوة هي حقيقة مع البرهان عليها، أي أبلغ ألف مرة أن تقول:
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) ﴾
وهي آية قرآنية، والله عز وجل أصدق القائلين، لكنها فكرة، أو أن تأتي مع هذه الآية بقصة لإنسان جمع أموالاً طائلة بالربا، ثم محقها الله له، فهذا المحق برهان على أحقية الحكم، لذلك قال تعالى:
﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) ﴾
تأويل القرآن وقوع وعده ووعيده، القصة أيها الأخوة لها أهداف تربوية عالية، إنها سلاح ذو حدين، فكما أنك بالقصة تسمو إلى الله يمكن أن يسفل الإنسان بقصة ساقطة، لذلك قال بعضهم: لكاتب القصة أن يصور الرذيلة، مسموح له ذلك، ولكن على نحو نحتقرها، وعلى نحو نشمئز منها، أما إذا قرأنا قصة تعظم الرذيلة، وتبين أن فاعليها أبطال إذا حركت القصة المشاعر السفلى، أو الغرائز السفلى، ولم تحرك المشاعر العليا فإن مجتمعاً بأكمله يمكن أن ينهار من خلال هذا الفن الساقط، وأقول لكم إن صح التعبير: إن النتاج العقلي والشعوري للبشرية يصنف في فلسفة وعلم وفن، والفلسفة ما يجب أن يكون، والعلم ما هو كائن، والفن ما هو ممتع، فإذا اعتمدنا على المتعة، وصورنا الرذيلة على نحو نعظم أبطالها، ونشتاق إلى فعلها، وهذا ما يحصل في العالم اليوم، الرذيلة، الخيانة الزوجية، الزنا، الانغماس في الملذات الدنيئة، يصور على أن هذه هي الحياة، هذا هو التفوق، هذه المتعة الحقيقية، هذه هي السعادة.
إذا كان الإنتاج العقلي والشعوري للبشرية مسوغاً للانحراف الأخلاقي على نحوٍ نعجب به، فإن مجتمعاً بأكمله يمكن أن يسقط من خلال هذا الفن:
البشرية كلّها من أب واحد وأم واحدة :
لأنه لا بد من مقدمة فيما روت بعض الكتب، أن الله سبحانه وتعالى بدأ البشرية بسيدنا آدم، وسيدنا آدم في بعض الأحاديث تسمو مكانته إلى ما بعد مكانة النبي عليه الصلاة والسلام.
(( آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة ))
هو نبي كريم، وقد قال الله عز وجل مبيناً هذا البدء بالخليقة:
﴿
السيدة حواء:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) ﴾
الآن هناك ستة آلاف مليون، كلما عدنا إلى الوراء قلّت هذه الأعداد، فإذا تابعنا الرجوع يجب أن نصل إلى إنسانين، آدم وحواء، لأن البشرية كلها من أب واحد، وأم واحدة:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) ﴾
كلما كان التباعد بين الزوجين كان النسل أقوى :
سيدنا آدم والسيدة حواء تزوجا، وأنجبت حواء في البطن الأول قابيل وأخته، وفي البطن الثاني هابيل وأخته، نحن أمام أربعة أولاد، ذكران وأنثيان، من أجل متابعة التوالد لا بد من تشريع مرحلي، لأن أصل منهج الله عز وجل التباعد، فقد ورد عن سيدنا عمر:
﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) ﴾
فالنطفة والبويضة كل منهما فيه مورثات فإذا امتزجا ففي المورثات صفات تفضيلية للإنسان، فإذا التقت صفة في الأب وصفة في الأم الصفة الأقوى تنتصر، فالذي يحصل أن المولود يأتي بصفات أقوى الأبوين، فالنسل يزداد قوة، أما في الاستنساخ الضعف يزداد، لذلك يوجد مفاجئات كبيرة جداً لم تكن في الحسبان، أن صفات الشيخوخة ظهرت مبكرة جداً في سنوات قلة، لأن الله سبحانه وتعالى حينما يصمم، أو حينما يخلق يخلقُ أكمل خلق إطلاقاً، وأي تعديل عن خلق الله عز وجل هو نحو الأسوأ، لأن خلق الله هو قمة الكمال، قمة الكمال في الخلق.
﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) ﴾
هذه القمة، فإذا أخذنا خلية من ثدي حيوان، وأودعناها في رحم أنثاه، ونمت هذه الخلية بما يسمى بالاستنساخ، فإن أخطاء وانحرافات وتشوهات ومشكلات ومتاعب لا تعد ولا تحصى تتأتى من هذه الطريقة التي لم تكن في أصل الخلق، إذاً أي تعديل عن خلق الله عز وجل نحو الأسوأ، إذاً لا بد من التزاوج، ولا بد من التباعد، ولكن كيف يكون التباعد بين بطنين؟ في البطن الأول ذكر وأنثى، وفي البطن الثاني ذكر وأنثى، التباعد النسبي المتاح وقتها أن يتزوج قابيل من أخت هابيل التي ولدت معه من بطن واحد، وأن يتزوج هابيل من أخت قابيل التي ولدت معه من بطن واحد، هذا هو التشريع وقتها.
الله عز وجل أورد القربان في القرآن الكريم :
﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ﴾
أخت هابيل ليست جميلة بالقدر الذي يتمناه الزوج، بينما أخت قابيل كانت جميلة، فقابيل آثر الشهوة، فلمَ أتزوج أخت هابيل؟ أتزوج أختي، ولم يعبأ بتوجيه الله عز وجل، أي غلبته شهوته.
﴿ قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَآلِّينَ (106) ﴾
قابيل غلبته شهوته، ورفض أن يتزوج أخت هابيل، لأن أخته أجمل، فحينما رفع الأمر إلى سيدنا آدم هكذا تروي الروايات والشيء منطقي، أمرهما أن يقربا إلى الله قرباناً، فكان قابيل يعمل في الزراعة، وكان هابيل يعمل في رعي الغنم، فقدم هابيل قرباناً إلى الله، أي شيئاً يتقرب به إلى الله، قدم من غنمه أسمنها وأفضلها، وقدم قابيل قرباناً إلى الله من إنتاجه الزراعي أسوأه وأردأه، هذا موضوع ثان، فتقبل الله قربان هابيل، ولم يتقبل قربان قابيل.
أيها الأخوة؛ الله عز وجل أورد القربان في القرآن الكريم:
﴿ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ۗ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (183) ﴾
أولاً: إرادة قابيل أن يعصي الله عز وجل، ويتزوج أخته التي ولدت معه في بطن واحد، هذا ذنب عظيم.
ثانياً: أنه قدم قرباناً من أسوأ ما عنده، الله عز وجل لم يتقبل منه قربانه لأنه اختار الأسوأ، وقد قال الله عز وجل:
﴿ لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) ﴾
قصة البشرية أن السيئ يمنع الجيد أن يفعل الحسن :
تقبل من هابيل قربانه، لأنه قدم لله عز وجل أفضل ما عنده، فقابيل رفض التشريع المرحلي، واحتكما بتوجيه أبيهما إلى قربانين يقدمان لله عز وجل، ولأن قابيل رفض توجيه التشريع المرحلي، ولأن قابيل قدم أسوأ ما عنده فلم يتقبل من قابيل وتُقبل من هابيل، لذلك قال تعالى:
﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) ﴾
ما هو الحسد؟ السيئ إن رأى إنساناً جيداً يحسده، ويتمنى أن يمنعه أن يفعل الخير، يتمنى العاصي أن يعصي الناس جميعاً، لو أن العاصي قوي لمنع الطائعين من طاعة الله، وهذا ما يجري في الأرض الآن، الإنسان حينما يعصي الله يختل توازنه، كيف يستعيد هذا التوازن؟ يطعن في الطائعين، ويشوه استقامتهم، ويتهمهم بظلم أنهم ليسوا طيبين، أو أنه يمنعهم أن يكونوا طيبين، قد يمنع المرأة من أن تتحجب كما يجري في فرنسا الآن، يمنعها، امرأة منضبطة تخشى الله، تستر مفاتنها عن الناس، أما الثانية فلها حرية مطلقة بأن تتعرى، لها حرية مطلقة في أن تكون كالقنبلة تفسد الشباب، هذه لا تحاسب، هذه لا يقيد تصرفها، هذه لا تؤاخذ، هذه لا تذم، أما التي أرادت أن تطيع الله، وأن تستر مفاتنها التي أعدها الله لزوجها ولأسرتها، لتكون أماً رؤوماً، وزوجة مقبولةً، هذه التي تتحجب طاعة لله مرفوض أن تتحجب، وهذه قصة البشرية، السيئ يمنع الجيد أن يفعل الحسن، حسداً وضيقاً، أو بشكل آخر، الإنسان العاصي يختل توازنه، يستعيد هذا التوازن إذا اتهم الصالح والطائع بأنه سيئ كذلك، قال بعض الشعراء الجاهليين:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
* * *
جعل الأصل هو الظلم.
أول من رفض طاعة الله وأول من تأبى على الانصياع لله عز وجل هو قابيل :
الآن إذا كان للإنسان ثلاث زوجات، يقول لك: الأصل هو التعدد حتى يرتاح، الأصل هو التعدد، مبالغة، التعدد مسموح به، لكن أن تقول: هو الأصل، لا، فالإنسان أحياناً يتملك نفسه، فحينما رأى قابيل أن أخاه هابيل طائعاً لله، وقد قدم أفضل ما عنده، وقد تقبل الله قربانه أدركه الحسد كما أدرك اليهود، من هنا بدأت المشكلة، قال:
(( لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل ))
أول قاتل إلى يوم القيامة في صحيفة قابيل، أعمال شارون كلها في صحيفة قابيل:
(( لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل ))
رفض قابيل التشريع
وآثر أن ينتقم وأن يثبت أن الأصل هو الفساد والشهوة :
أيها الأخوة، رفض قابيل التشريع، وآثر أن ينتقم، وآثر أن يثبت أن الأصل هو الفساد، والأصل هو الشهوة، والأصل أن يعيش وحده، قال:
﴿ وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74 (إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) ﴾
أي بكل سذاجة تقول: مرجعية إسلامية كبيرة، ما دام الحجاب قد منع فلا عليكن أيتها الفتيات المسلمات اللواتي يزيد عددهن عن مليون أن تخلعن الحجاب، هذه فتوى قبل أيام.
هذه القصة تصور البشر إلى يوم القيامة :
هذه القصة تصور البشر إلى يوم القيامة، يقول هذا الابن البار هابيل:
﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) ﴾
الحقيقة هذه الآية تحتاج إلى توضيح دقيق:
﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) ﴾
ليس عن ضعف مني، ليس عن شعور بالضعف، لا، عن خوف من الله، في تشريع تلك المرحلة لم يكن مسموحاً أن تقتل دفاعاً عن نفسك، فإذا قتل أحد أحداً باء بهذه الجريمة أحدهما، فهابيل لخوفه من الله عز وجل أبت نفسه أن يتحمل إثم القتل قال له:
﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) ﴾
أي هذه واضحة جداً، أنا لست عاجزاً عن قتلك، ولكنني أعلم علم اليقين أن القاتل له النار، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه، فالقاتل والمقتول في النار قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه ))
إذا كان لا بدّ من أن تكون قاتلاً أو مقتولاً فكن عبد الله المقتول وهذا تشريع من قبلنا :
في توجيه آخر: إذا كان لا بد من أن تكون قاتلاً أو مقتولاً، كن عبد الله المقتول ، ولا تكن عبد الله القاتل، إذا كان لا بد من أن تكون قاتلاً أو مقتولاً فكن عبد الله المقتول، وهذا أهون الشّرّين، تنتهي حياتك في الدنيا، لكنك كسبت الآخرة، أما الذي قتل عاش سنوات عدة، ثم خسر الدنيا والآخرة، لذلك: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل، أنا أتمنى على أخوتنا الكرام ألا يستنبطوا أن الضعف هون التشريع، لكن في تشريعنا نحن هذا تشريع من قبلنا، في تشريعنا:
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ(39)وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(40) ﴾
أي إذا غلب على ظنك أن عفوك عن أخيك يصلحه ينبغي أن تعفو عنه، ولك عندي جزاء كبير:
﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(40) ﴾
﴿ لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾
أروع ما كتب حول هذه الآية أن هابيل كان ينصح قابيل :
أعيد وأكرر: لم يكن في التشريع وقتها أن الذي يقتل دفاعاً عن النفس ينجو، إذاً كان أمام خيارين صعبين، إما أن يكون القاتل فإلى النار، أو المقتول فإلى الجنة، فآثر أن ينجو من عذاب الآخرة.
﴿ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ(29) ﴾
أي إني أخشى أن أتحمل هذه الجريمة، فإن تحملتها أنت فلا ذنب لي، أيضاً هذه الآية تفهم فهماً ما أراده الله عز وجل:
خسران قابيل الآخرة بقتل أخيه وهي أكبر خسارة على الإطلاق :
الحقيقة يقول الله عز وجل:
﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) ﴾
ما زال الشيطان ينفخ فيه إلى أن حمله على قتل أخيه فكان أول قاتل في البشرية: ﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ ﴾ النفس أمارة بالسوء إن لم تتعرف إلى ربها، وهناك نفس لوامة، وهذه مرحلة جيدة، وهناك نفس مطمئنة، مطمئنة إلى طاعتها لله، وإلى رضاء الله عنها:
﴿ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ ۗ
الويل أشدّ أنواع الهلاك :
أيها الأخوة، إن أغبى البشر قاطبة هم الطغاة، لأنهم ربحوا أن يتبجحوا أمام الناس أنهم قتلوا وهدموا لكنهم خسروا الأبد، لذلك يقول سيدنا علي: (لا أدخل معركة المنتصر فيها شر من المهزوم)، المنتصر هو الشرير، ألم يحرق ملك اليمن أصحاب الأخدود، أثنى الله عليهم مع أنهم احترقوا، لكنهم رفضوا أن يشركوا بالله عز وجل، إلى الجنة: ﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ ﴾ الآن اختل توازنه، ماذا يفعل به، جثة هامدة، ماذا يفعل به؟
﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ (31) ﴾
معنى السوءة المنظر التي تتقزز النفس منه، فإنسان إذا مات وانتفخ، وأصبح أزرق اللون، مخيف، صار هذا الإنسان المقتول سوءة، قال:
(( إن العار ليلزم العبد يوم القيامة، حتى يقول: يا رب لإرسالك بي إلى النار أيسر علي مما ألقى، وإنه ليعلم ما فيها من شدة العذاب ))
هذه القصةهي قصة الإنسان الذي كرمه الله فنسي حمل الأمانة وتنكر لها :
هذا الندم الذي يصيب الكافر لا يتحمل، حتى إن الله تعجب منه.
﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾
﴿ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ۚ
هذه قصة البشرية، هذه قصة الطاعة والمعصية، هذه قصة الشهوة والمبدأ، هذه قصة الدنيا والآخرة، هذه قصة الانسياق مع أمر الله، وقصة التأبي على أمر الله عز وجل، هذه قصة تجدون مثيلاتها في كل أنحاء العالم اليوم وبعد اليوم، إنها قصة التكليف، إنها قصة حمل الأمانة، إنها قصة ارتفاع الإنسان وانحطاطه، إنها قصة سموه وسقوطه، إنها قصة الشهوة التي سببت هلاك البشر، إنها قصة الإنسان الذي كرمه الله فنسي حمل الأمانة وتنكر لها، وحمل شهوته هدفاً كبيراً، وسار وراء هذه الشهوة، هذه قصة البشرية جمعاء ذكرها الله لنا كي تكون لنا موعظة ودرساً، وإضاءةً نهتدي بها في حركتنا اليومية.
لذلك الدرس القادم إن شاء الله يقول الله عز وجل:
﴿ مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) ﴾
والحمد لله رب العالمين