وضع داكن
25-12-2024
Logo
تربية الأولاد إصدار 1994 - الدرس : 12 - التربية النفسية -3- عقدة الشعور بالنقص -2
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهمَّ لا علم لنا إلا ما علَّمتنا، إنَّك أنت العليم الحكيم، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحقَّ حقاً وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

أسباب الشعور بالنقص عديدة منها:


 أيُّها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الثاني عشر من دروس تربية الأولاد في الإسلام، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى مرضٍ نفسيٍ خطير يصيب الأطفال والأبناء ألا وهو الشعور بالنقص، وقد بيّنا أنّه من أسباب هذا المرض الخطير التحقير والإهانة من قبل الأب والأمّ الجاهلين، التحقيرُ و الإهانة من قبل الأب والأم الجاهلين أو الدلال المفرط وله تأثيرٌ لا يقلُّ خطورةً عن التحقير والإهانة.
 في الدلال المفرط تضَعّف شخصيّة الصغير، لا يقوى على مجابهة المجتمع، يشعر دائماً بالنقص أمام أقرانه، والمفاضلة بين الأولاد أيضاً من أسباب الشعور بالنقص، والعاهات الجسديّة التي قدّر الله لحكمةٍ أرادها على هذا الطفل، أيضاً هذه العاهات تسهم بشكلٍ أو بآخر بهذا المرض، الشعور بالنقص، واليتمُ أيضاً من أسباب هذا المرض، والفقر من أسباب هذا المرض.
 تحدّثنا في الدرس السابق عن العنصر الأوّل والثاني وها نحن ننتقل إلى العنصر الثالث.

 

1 ـ عدم المساواة في العطيّة بين الأولاد:

 أيُّها الأخوة الكرام، ليس من شأن المؤمن أن يظلم، النبيُّ عليه الصلاة والسلام يقول:

 

 

((ساووا بين أولادكم في العطية ))

 

[ من الجامع الصغير عن ابن عباس ]

  وأنا والله اطلعت على عشرات بل بضع عشرات من الحالات في هذا المسجد بالذات من أنَّ الآباء يفاضلون بين الأبناء، يخصّون ابناً بالعطاء ببيت، بتزويج، ويهملون الباقي، فإيّاك أن تدّعي أنّك تحبُّ رسول الله وأنت تخالف سُنّته، إيّاك أن تدّعي أنّك تحبُّ الله لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) ﴾

( سورة آل عمران: آية " 31 " )

علامة حبّك لله عزَّ وجلّ اتّباع النبيّ في سنّته:

 علامة حبّك لله عزَّ وجلّ اتّباع النبيّ في سنّته فقد قال عليه الصلاة و السلام:

((ساووا بين أولادكم في العطية ))

[ من الجامع الصغير عن ابن عباس ]

  أي إذا لم تتمكن من شراء بيتٍ لأحد أولادك، فهذا البيت يكتب باسم الجميع، ولعدم استطاعتك فاشتريت بيتاً للابن الأكبر، فهذا البيت ليس ملكه وحده، بل يسكنه مؤقّتاً لكنّه ملك الباقين بالتساوي، فالمؤمن لا يحيد، ولا يحيف، ولا يُحابي، ولا يظلم، ولا يعين الشيطان على أولاده، عليه أن يعين أولاده على الشيطان، عن طريق المساواة في العطيّة.
 والحديث الذي تعرفونه جميعاً وهو من أُصول الأحاديث:

 

(( رحم الله والداً أعان ابنه على بره))

 

[ من الجامع الصغير عن علي ]

  أي إذا قلنا: رحم الله ولداً برّ أباه، فنقول بالتالي: رحم الله والداً أعان ولده على برّه، بعض الآباء لهم طباعٌ صعبةٌ، فتجده قاسياً جداً، أي مثلاً: فتاة مناسبة جدّاً وقد رآها هذا الشاب المؤمن مناسبةً له، لا، سوف أغضب عليك إن تزوّجتها، الزواج ليس لك بل له وقد أعجبته.. أعجبه دينها وأعجبها حفظها لكتاب الله، لكنّ الأب له طموحٌ آخر، فهل الزواج لك أم لابنك ؟
 هذا الذي يدفع ابنه إلى أن يعصيه يحمل ابنه على أن يخالف أمره، ويحمل ابنه على أن يحتال في الإجابة، فليس هذا الأب أباً أعان ولده على برّه، إنّه أعان الشيطان على ابنه، بمعنى أنّه قد حمله على أن يكذب أو على أن يحتال، هذا الحديث: رحم الله والداً أعانه ولده على برّه.

على كل أب أن يعين ابنه على برّه:

 إخواننا الكرام، دائما توجد أحاديث متقابلة، أي مثلاً.. السارق سارق، ولكن هل تصدّقون أنّ الذي يتيح للسارق أن يسرق ليس أقلّ إثماً منه، فإنّكم لا تصدِّقون هذا الكلام، فهناك أحاديث بذلك.
 فمثلاً المال بأحد الدروج ومفتاحه عليه وموجود بالمحل موظّفٌ، وعندما وجد الدرج مفتوحاً وفيه رزماً من النقود، وقد ذهب صاحب العمل للصلاة، هذا الموظّف قد يكون مستقيماً في الأساس ولكنّك قد أغريته كثيراً، وأنت قد حملته على أن يأخذ ما ليس له، أمّا لو كنت قد قفلت الدرج فلا شيء.
فكما أنّه السارق آثم، وكذلك الذي يعين السارق على السرقة، الذي يضع المال معرّضاً للسرقة ليس أقلّ إثماً من السارق.
 الابن عليه أن يبرّ والده فهذا شيء جميل، لكن هذا الأب الذي يعدل بين الأولاد، والذي يرحم أولاده، الذي يعطي من ماله لأولاده، الذي يعينهم على الزواج، يهيّئ لهم.
 فقد سمعت البارحة، إنسان على فراش الموت قالت له ابنته: يا أبتِ.. حرمك الله الجنّة كما حرمتني نعمة الزواج.
 كلّما جاءها خاطب يقول عنه ليس مناسباً، إلى أن أصبحت عانساً، فانحرمت الأمومة، فلا أولاد عندها، وأبوها على فراش الموت، وتقول له: حرمك الله الجنّة كما حرمتني نعمة الأولاد.
 فأيضاً التعنُّت في تزويج البنات، فأنت مستقر ومرتاح وعندك زوجة وسائر أمورك ميسّرة، والبنت تتقلّب وأنت تقول كلّما جاءها خاطب: هذا لم يعجبني، هذا بيته له مدخل مزري، فما تريد أنت من بيته ؟!! فتجد أسباباً مضحكة وسخيفة جدّاً حينما يتعنّت الآباء في تزويج بناتهم.

 

شرُّ الناس من عاش فقيراً ليموت غنيّاً:

 

 

 على كلٍ هذا الحديث كثير الّدقة:

(( رحم الله والداً أعان ابنه على بره))

[ من الجامع الصغير عن علي ]

 بالعدالة، بالرحمة، والله يوجد آباء أبطال، يكون ساكناً بالشام ببيت فخم ويقوم ببيعه ويشتري بيتاً في أطراف المدينة ومساحته مئة مترٍ، ويأخذ لكل ابنٍ بيتاً، هذه بطولة.. فالأُبوّة الكاملة يمكن أن تكون سبباً لدخول الجنّة، الأولاد في ريعان الشباب وشهوتهم مّتقدة، والطرقات فاسدة، فلا يوجد أملٌ أن يتزوّج الابن، فقام ببيع البيت واشترى لكل واحد من أولاده بيتاً في أطراف المدينة وسكن هو معهم، فهذا بطل.
 يوجد آباء أنانيّون، لا يطلع من بيته، يسكن في بيتٍ أربعمئة مترٍ هو وأمّ أولاده، وثمن هذا البيت عشرون مليوناً ببيعه تحل مشكلة خمسة أبناء، فلا يبيعه ولا بأي شكل أو حال من الأحوال، فهو مستقر، ويقول لأولاده: دبّروا أُموركم، فأنا قد أنشأت نفسي بنفسي، أنا عصامي. الآن لا يوجد عصامي فهذا في وقته والآن الوقت قد اختلف وقد توسع الهامش جداً فلا يستطيع أحد من الشباب أن يستقل بدون معونة.
 وكذلك يوجد آباء أُثني عليهم، فكما أن هذا ابنه فكذلك هذه ابنته وهو في بحبوحة، فأمّن بيتاً لابنه كذلك يؤَمّن لابنته، وإذا وجد شاباً مؤمناً راقياً يقول له: هذه ابنتي ومعها بيتٌ. فتجد لابنتك أحسن شاب، أمّا غير مستعد أن يعطي شيئاً للغريب، وحتّى لو قلت له: سجّله باسم ابنتك وبذلك تحل مشكلة هذه البنت وهذا الشّاب.. فإذا لم يعرف الإنسان الله يصبح أنانياً، حريصاً وبخيلاً، وشرُّ الناس من عاش فقيراً ليموت غنيّاً، وأندمُ الناسُ رجلٌ دخل ورثته الجنّة بماله، ودخل هو النار بماله .
 فالحديث أيُّها الأخوة والله لا أشبع من تكراره:

 

(( رحم الله والداً أعان ابنه على بره))

 

[ من الجامع الصغير عن علي ]

((ساووا بين أولادكم في العطية ))

[ من الجامع الصغير عن ابن عباس ]

المؤمن الصادق لا يستجيب لهوى نفسه بل يبذل عنايته التّامة بالأقل شأناً:

 القصّة التي قرأتها عليكم في الدرس الماضي لمّا قال النعمان بن البشير: يا رسول الله.. إنّي نحلت ابني هذا، (أعطيته بستاناً)، فقال عليه الصلاة والسلام: أَكُلّ ولدِك نحلته مثل هذا ؟ قال: لا. قال: فأرجعه. وفي رواية: أفعلت هذا لأولادك جميعهم ؟ قال: لا. قال: عليه الصلاة والسلام: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم.. يا بشير ألك ولدٌ سوى هذا ؟ قال: نعم. قال: أكلُّهم وهبت لهم مثل هذا ؟ قال: لا. قال: فلا تشهدني، فإنّي لا أشهد على جور... ثمّ قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: أيَسُرُّك أن يكونوا لك في البرِّ سواء ؟ قال: بلى. قال: إذاً فلا تعطِ أحداً منهم دون الآخر.
 وقد ذكرت لكم في الدرس الماضي أنّ النبي عليه الصلاة والسلام كان عنده رجل، فجاء ابن هذا الرجل فقبّله وأجلسه على فخذه وجاءت ابنته فأجلسها بين يديه. فقال عليه الصلاة والسلام: ألا سوّيت بينهما في القبلة.
 أيُّها الأخوة... والحديث الذي أختم به هذه الفقرة من الدرس: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم.
 في كلّ شيء، لا تعطِ ابناً أزيد من ابن ولو لم يكونوا في البرِّ سواء، أنت إن عدلت بينهم أعنت الضعيف منهم، أعنت البعيد منهم على برِّك، أمّا إذا فرّقت في العطيّة بينهم أعنت البعيد بعداً على أن يزداد بعداً، وحملته على أن يتمنّى شيئاً لا ترضاه أنت.

2ـ العاهات:

 الآن.. يوجد كثير من البيوت فيها أطفال، وهذا الطفل قد يكون محدود الإمكانيّات وأقل من أخوته، أو لديه عاهةٌ أو ضعفٌ في التفكير، أو دمامةٌ في الخلقة، فهل هو الذي صنع نفسه، أو خلق نفسه ؟ هنا تظهر الرحمة، فالأب المؤمن الرحيم لا يميّز بين ذكيٍّ وغبي، ولا بين وسيمٍ ودميم، ولا بين صحيحٍ وذي عاهة أبداً، في المعاملة، في الابتسام، في العناية، في الترتيب، في الاهتمام.
 وبالطبع الإنسان بشرٌ، ويحبُّ الأكمل، ويحبُّ الأجمل، والأذكى، ويحبّ أكثرهم لباقة وهذا شيء طبيعيّ، ولكن أين البطولة ؟؟ لو أنّ الإنسان قد انساق مع هوى نفسه وقرّب الأكثر وسامةً أو الأكثر ذكاءً فقد أبعد ذاك، أمّا المؤمن الصادق لا يستجيب لهوى نفسه فيبذل عنايته التّامة بالأقل، بالأقل وسامة، بالأقل ذكاء، بالأقل سلامة، حتّى يرضى الله عنه.

 

أسعد الناس من أسعد الآخرين:

 

 لا تنسوا أيُّها الأخوة كلمة: الراحمون يرحمهم الله، يوجد شخصٌ قد تبنّى طفلاً ليس له أب ولا أم وكان به تشوُّهٌ خلقي، فأجرى له سبع عشرة عمليّةً جراحيّة إلى أن استطاع أن يمشي هذا الطفل، وعندما آن الأوان أن يغادر إلى أقرباء له، فأبى هذا الطفل أن يغادر حتّى يودّع هذا الإنسان الذي قد تبنّاه وأكرمه، وعندما وجده أعطاه قطعةً من المسكة تعبيراً له عن شكره. طفل صغير أجريت له عدّة عمليّات ليبرأ من عاهات خلقيّة حتى استطاع أن يمشي فأبى أن يغادر قبل أن يودّع سيّد نعمته، فلمّا رآه أقبل عليه من شدّة محبّته له تعثّر فوقع، ثمّ وقف وأعطى هذا الإنسان قطعة مسكة تعبيراً عن مودّته، وقد قال لي هذا الرجل: والله هذه القطعة من المسكة لا أبيعها ببناية.
 القيم الإنسانيّة عندما تضعف تصبح الحياة موحشة لا معنى لها، فعندما يكون الإنسان محسناً فيصبح أسعد الناس، إذا أردْت أن تسعد فأسعد الآخرين، فهنا النقطة الهامّة، فالطفل الجميل محبوبٌ كثيراً، الطفل الجميل، الذكي، و أنت أين بطولتك ؟ البطولة أن تعتني بالأقل ذكاء، وبالأقل وسامة تكون عنايتك ولو كان عنده عاهة، فهنا وفي هذه المواقف تكون البطولة العظيمة.. عناية واهتمام، والمؤمن يصبر، فالذي يرقى بك إلى الجنّة لا أن تعتني بالجميل والوسيم والذكي، لا.. فقد سمعت كلمة من رجل أُجلُّه وقد توفّي رحمه الله قال لي: الجيّد لا يريدك، الجيّد لنفسه، المؤمن أين بطولته ؟ بطولته تظهر مع الأشخاص السيّئين، بالرحمة وبالعناية وبالاهتمام.

الراحمون يرحمهم الله:

 إذاً يقول عليه الصلاة والسلام:

(( الراحمون يرحمهم الله، الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ))

[ ورد في الأثر]

  ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء:

 

(( لا يؤمن أحدكم حتّى يُحبَّ لأخيه ما يحِبَّ لنفسه ))

 

[ أخرجه البخاري ومسلم عن أنس ]

(( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً.))

[ من الدر المنثور عن السيدة عائشة ]

 أحياناً الإنسان يكون أمامه طفل فيه عاهة، فلو ناداه بهذه العاهة، فيا لطيف، قال عليه الصلاة والسلام:

 

(( إنّ الرجل ليتكلّمَ بالكلمة لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنّم سبعين خريفاً ))

 

[ الترمذي عن أبي هريرة ]

  وإنَّ العبد ليتكلَّم بالكلمة ما يتبيّنُ ما فيها يزِلُّ إلى النار أبعد ما بين المشرق والمغرب، وعندما قالت السيّدة عائشة عن أختها، عن ضرّتها صفيّة: إنّها قصيرة. قال:

 

(( يا عائشة لقد قلت كلمةً لو مُزجت في مياه البحر لأفسدته. ))

 

[ أبو داود ]

  فأين نحن نعيش ؟ تجد إذا عند الزيارات النسائيّة يقمن بتفنيد إحدى النساء تفنيداً بشعاً، يكشفن ما خفى من العيوب، ويتكلّمن بها، ويفصّلنها أمام الرجال، أمام زوجها وأمام أولادها، هكذا طولها، وهكذا عرضها، و هكذا لونها، وعندها حول قليل في عينها، وعندها... أين تمشين أنت ؟ قالت السيّدة عائشة فقط عن ضرّتها: قصيرة. قال: يا عائشة.. لقد قلت كلمة لو مزجت بمياه البحر لأفسدته.

 

المؤمن إنسان كامل يضبط لسانه و لا يؤذي أحداً:

 

 على الإنسان أن يمسك لسانه، فالإيمان شيء عظيم، والمؤمن إنسان كامل، أكثر شيء ضابط لسانه، فلا يتكلّم بكلمةٍ خلافاً للشرع، ولا يتأذّى من أحد إطلاقاً، رحمته تسع كلّ الناس، يوجد أشخاص يحبّون الذكي و يحبون الجريء، أمّا الآخر فيكيل له الإهانات والإعراض والتهكُّم والسخرية، فهذا الشخص وحشٌ.. أمّا المؤمن فغير ذلك.
 أحياناً معلّمون إذا سأله أحد طلاّبه سؤالاً سخيفاً قليلاً فيقوم المعلّم بإهانته وبهدلته وغير ذلك من التسخيف، فبالتالي لن يسألك أحدٌ من الطلاب بعد الآن أيّ سؤال فقد حطّمت الطلاب تحطيماً، وبعد ذلك إن كان عند أحدهم سؤال وجيه فسيخاف ولن يسألك، فيظلَّ الجاهل جاهلاً، فأين بطولتك ؟ بطولة المعلّم أن يجيب على السؤال السخيف بكلّ اهتمام، وإذا الطلاب ابتسموا.. فيقول لهم: معه الحق في أن يسأل، فمفتاح العلم السؤال، ليس العار أن تكون جاهلاً، العار أن تبقى جاهلاً، ارفع معنويّاته، ولو كان سؤاله سخيفاً، يظهر بذلك فضل المؤمن.. فالنفس الإنسانيّة كثيرة الحساسيّة والدّقة.
 إنّ العبد ليتكلّم بالكلمة ما يتبيّن ما فيها يزَلُّ إلى النار أبعد ما بين المشرق والمغرب، كما أنّه عندما يقع الإنسان بمصيبة تجد كثيراً من الأشخاص يتكلّمون بكلام أقسى من الصخر، نصحتك ولم تنتصح، كلمات في منتهى القسوة، منتهى العنجهيّة.

العاقل من لا يظهر الشماتة بأخيه بل يحتويه و يخفف عنه:

 النبيّ الكريم قال:

(( لا تظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله ويبتليك.))

[أخرجه الترمذي عن واثلة بن الأسقع ]

  إيّاك، فأحياناً الإنسان يغلط ويدفع لذلك ثمن خطئه، فيجب عليك أنت أن تحتويَه، أن ترحمه. فمثلاً: سيّدنا حنظلة جلس في الطريق يبكي، فمرّ سيّدنا الصدّيق وسيدنا الصديق سيّد الصحابة وأعلاهم، قال له: ما لك يا حنظلة تبكي ؟ فقال: نافق حنظلة (أي أنا منافق) فقال له: لمَ يا أخي ؟! فقال له: نكون مع رسول الله ونحن والجنّة كهاتين (أي نعيش معه بأحوال جميلة جدّاً) فإذا غادرنا إلى البيوت ننسى (هذه الأحوال)، فقال له: أنا كذلك يا أخي فما هذا التواضع ؟. فإذا شكا أحد الأشخاص لك زوجته، فنقول له: لا.. الحمد لله أنا زوجتي ملاك.، فلا يجوز هذا الكلام هذا الكلام ليس له طعم، فقولك له: والله لا يوجد أحد مرتاحاً.. فبذلك تخفف عنه، وإن كان عنده ولدٌ سيئ، فيقول له: أنا ابني ما شاء الله، الأوّل، ملاك، من السماء منزَّل. فهذا الكلام فيه وقاحة.
 فإن كان عنده ابن سيّئ فخفف عنه قليلاً بلواه وقل له هذه بلوى عامّة، وثلاثة أرباع الناس هكذا.. الطريق صعبةٌ والأصدقاء والرفقاء كذلك حتّى يشعر بالأنس فالله كان يؤانس رسول الله ويذكر له عن الأنبياء السابقين وكيف كُذِّبوا ولم يُصدَّقوا وأُوذوا حتى يرتاح.
إذاً لا تظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك، وكلّكم تعرفون الآية الكريمة:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) ﴾

( سورة الحجرات: آية " 11 " )

  والله أيُّها الأخوة، قد يكون إنسانٌ بأعلى مرتبة، وقد يكون الحاجب المعيّن لديه أرقى منه عند الله ! فأنت لا تعرف، فقد يكون الحاجب المعين عندك أنت في أعلى مرتبة وهو في أدنى مرتبة !هذا في هذه الدنيا، لكن عند الله توجد مقاييس أُخرى.

 

3 ـ اليتم:

  أمّا إذا كان الطفل يتيماً فهو كذلك يشعر بالنقص لذلك قال عليه الصلاة والسلام: أنا وكافل اليتيم كهاتين.

 

 

(( أوَّل من يمسك بحلق الجنّة أنا، فإذا امرأةٌ تنازعني تريد أن تدخُل الجنّة قبلي، قلت من هذه يا جبريل ؟ قال: هي امرأةٌ مات زوجها وترك لها أولاداً فأبت الزواج من أجلهم ))

 

[ ورد في الأثر]

  كم هذا اليتيم غالٍ على الله عزَّ وجلَّ، فهذه المرأة الشّابة وعمرها مثلاً ثلاثٌ وعشرون سنة وقد حرمت نفسها حظَّ الزواج إلى ما شاء الله من أجل تربية أولادها. لذلك قال تعالى:

 

﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) ﴾

 

( سورة الضحى: آية " 9 " )

  ويقول عليه الصلاة والسلام:

 

(( أنا وكافل اليتيم في الجنّة ))

 

[‏ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عن أبي هريرة]

  وفيما رواه الإمام أحمد وابن حبّان أنّه قال:

 

(( من وضع يده على رأس يتيمٍ ترحماً كانت له بكُلِّ شعرةٍ تمر عليها يده حسنة ))

 

[رواه الإمام أحمد وابن حبّان ]

  تجد اليتيم مقهوراً، فالأب عز، فاليتيم ليس له أب والأخ غير الأب فمن عنده يتيم فليرعه وله حق يربيه وهذا هو المناسب، سأل أحدهم النبي عن يتيم يربيه في بيته: أفَأضربه ؟ قال: نعم، مما تضرب منه ولدك.
 فإذا كان عندك هذا المقياس الدقيق، لو أنَّ ابنك وهو فلذة كبدك فعل ذنباً ورأيت من الحكمة أن تضربه لك أن تضرب اليتيم، لكن كما لو أنّه ابنك.

 

(( اللهم إنّي أُحرِّج حقَّ الضعيفين اليتيم والمرأة.))

 

[رواه أحمد عن أبي هريرة ]

  أي أنّ أموال اليتامى ينبغي أن يحافظ عليها، المرأة واليتيم، يروى أنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام رأى طفلاً يتيماً يبكي بأحد الأعياد، فقال له: أما ترضى أن أكون لك أباً وأن تكون عائشة لك أُماً ؟ ففرح هذا اليتيم وصار يتباهى بهذا النسب الجديد.

 

4 ـ الفقر:


 الحقيقة موضوع الفقر أيضاً يسبب الشعور بالنقص وكما تعلمون أيُّها الأخوة عندما قال ربّنا عزَّ وجلَّ:

 

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) ﴾

( سورة التوبة: آية " 103 " )

  التطهير في الزكاة: فقد يطهر الفقير بالزكاة من الحقد، لأن الحرمان يسبب حقداً، وإذا أردتم تأكيداً لهذا المعنى، فيمكن ما من عمل عنيف في العالم إلا وراءه الإحساس بالحرمان، ممكن أن ترجع أكثر أعمال العنف في العالم إلى أنّ فئةً محرومةً من كلّ شيء، لا تخسر شيئاً إذا فعلت أيّ شيء، لذلك تفعل أيّ شيء، وهذه قاعدة، فإذا أردْت أن تطهر المجتمع من الحقد والضغينة وأعمال العنف، أعطِ كُلّ ذي حقٍ حقّه، فإذا فرضنا شخصاً دينه قليل ولكنّه منصف، هذا ينصره الله على إنسان ينتمي إلى الدين انتماءً أشدّ ولكنّه غير منصف.
 لن نذهب بعيداً، فلو فرضنا محلاً تجارياً وصاحبه غير مسلمٍ ويعطي موظّفيه حقوقهم الكاملة، ومحلاً ثانياً صاحبه مسلم وهو في بحبوحة كبيرة يعطي موظفيه أقلّ دخلٍ ممكن، فيجوز أن تجد أنّ صاحب المحل غير المسلم الذي يعطي من حوله حقوقهم الكاملة أن الله يوفقه أكثر من الآخر المسلم.
حتّى قال أحد العلماء ذات مرة: إنّ الله ينصر الدولة الكافرة العادلة على الدولة المسلمة الظالمة.

 

إعطاء كل ذي حقّ حقه يُطهر المجتمع من الحقد و الضغينة:

 

 الأساس أن يكون العدل موجوداً، فلذلك الفقير عندما تدفع له الزكاة تطهّره من الحقد، هذا هو التطهير، والتزكية: النماء، كيف ينمو الفقير ؟ حينما يشعر أنّ المجتمع لم ينسه، حينما يشعر أنّ المجتمع مهتمٌ به، فيحسّ بقيمته.
 فلو فرضنا في أيّام العيد وطرق محسنٌ على باب الفقير وقدم له من الحلويّات واللحم والفواكه والألبسة، فماذا يشعر هذا الفقير ؟ يشعر بعظم المجتمع المسلم، وأن لم ينسه أحد، والجماعة قد تذكّرتني، فيحبّهم.
 فالغنيّ دائماً بين أن يعيش بين محبّين إذا كان كريماً، وبين أن يعيش بين أعداء إذا كان بخيلاً، لأنّك إذا أكرمت من حولك أصبحوا لك حرساً، وإذا بخلت عليهم أصبحوا لصوصاً، بين أن يكون حارساً لك وبين أن يكون لصّاً تخافه، البخل يقلب من حولك إلى لصوص، والكرم يقلب من حولك إلى حرّاس.

العاقل لا يعطي ابنه شيئاً يميزه عن بقية الأطفال

 

 وبعد ذلك أيُّها الأخوة فهذا الحديث الشريف يمكننا أن نتكلّم حوله درساً بكامله.. نفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الإيمان كلِّيّاً:

(( ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائعٌ إلى جنبه وهو يعلم به ))

[روى البزّار والطبراني عن أنس ]

  فمن تطبيقاتنا العمليّة لا أحد منا ليس له أبناء في المدرسة، فإذا كان أحد منا في بحبوحة فليس له الحق في أن يعطي ابنه شيئاً ليس في متناول عامّة الأطفال.. طفلةٌ عمرها ستّ سنوات ذهبت إلى رحلة مع المدرسة للغوطة وأعطاها أبوها ألف ليرة ست سنوات بالابتدائي تعطيها ألف ليرة، وهي في الصّف الأوّل وقامت بصرفها وتوزيعها توزيعاً، فماذا تشعر زميلتها التي أعطاها أبوها خمساً وعشرين ليرة زائدين على أكلها وكلّ شيء معها ؟؟ فالبذخ الزائد على الأطفال ماذا يسبب ؟؟ يسبب الشعور بالفقر والحرمان من زملائهم.
 عندك من الفواكه فأعطِها الفاكهة المألوفة، تفّاحة صغيرة مثل سائر الناس، فلو أعطيتها موزة !! فالموز الآن غالي السعر، وكذلك يوجد بعض الحلوى الأجنبيّة وثمنها أكثر من أربعين ليرة أو خمسين ليرة فأعطها شيئاً بخمس ليرات مثلها مثل رفيقاتها، وإذا أحببت أن تطعمها شيئاً ثميناً فأطعمها ذلك بالبيت.. والحديث معروف:

 

(( ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده، ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها))

 

[ من تخريج أحاديث الإحياء عن عمرو بن شعيب ]

  أيضاً حتّى لا يشعر الطالب أو الطفل بالمدرسة بالحرمان والفقر، فلا ينبغي للموسرين أن يعطوا أبناءهم ما يميِّزهم عن بقيّة الأطفال.

 

من أفقر أسرة له عند الله حساب شديد:

 

 توجد نقطةٌ ثانية مهمّة وهي في الحديث الشريف:

(( كاد الفقر أن يكون كُفراً ))

[رواه أحمدٌ والبيهقي عن علي]

  أي أنّه إذا افتقرت أسرة فالذي أفقرها له عند الله حساب كبير، أحياناً إنسان يتعنّت تعنُّتاً أو يعمل عملاً فيتسبب في فقر أُسرة، كأن يصرف شخصاً من عمله هكذا لكي يغيظه، ويصبح هذا الإنسان بلا عمل وهذه مشكلة، فكاد الفقر أن يكون كفراً، وكان عليه الصلاة والسلام يتعوّذ فيقول:

 

(( اللهمّ إنّي أعوذ بك من الكفر والفقر))

 

[ أخرجه أحمد عن مسلم بن أبي بكرة]

  الكفر، والفقر، لكن الله عزَّ وجلَّ طيّب قلوب الفقراء بقول النبي صلى الله عليه وسلم:

 

(( إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))

 

[ أخرجه البخاري عن أبي هريرة]

  أي أنّ أبسط لباس، وأصغر بيت، وأقلّ أثاث، هذا عند الله ليس في الحساب إطلاقاً، الحساب عند الله بالقلب الطاهر، القلب السليم، والنيّة الطيّبة، إنّ الله لا ينظر لصوركم وأجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.

 شأن الفقير عند الله عز وجل كبير جداً:

 

 الآن نروي حديثاً لسيّدنا الصدّيق له مغزى كبير، روى الإمام مسلم أنَّ أبا سفيان أتى إلى سلمان الفارسي وصهيب وبلال الحبشي في نفر، فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عنق عدوِّ الله مأخذها. فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريشٍ وسيّدهم !! فأتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأخبره. فقال: يا أبا بكر لعلّك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربّك. فأتاهم سيّدنا الصدّيق فقال: يا إخوتي أغضبتكم ؟ قالوا: لا.. يغفر الله لك يا أخي.
 سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عدوِّ الله مأخذها.. وأبو سفيان سيّد قريش وزعيم مكّة، وهؤلاء يقولون عنه ما قالوا، فسيِّدنا الصدّيق ما رأى في هذا القول حكمةً، فقد فتحت مكّة وانتهى الأمر وأسلم أبو سفيان، وقال النبي: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، وهؤلاء ذكّروه بعداوته القديمة فلم يرض الصديق أن يقولوا هذا عنه، فقال لهم: أتقولون هذا لشيخ قريشٍ وسيّدهم !! كأنّه عنّفهم.. وقد استنبط العلماء من هذا الحديث: أنّ الفقير له عند الله شأن كبير.

عطاء الله عز وجل ابتلاء و حرمانه دواء:

 إذا أغضبت فقيراً فكأنّما أغضبت ربّك، فالله قد أفقره لحكمةٍ يريدها ولو شاء لجعله غنيّاً.. مرّة أحد إخواننا الكرام محسن وتبرّع ببيت بكامله ويبلغ ثمنه ستة أو سبعة ملايين لجمعيّة خيريّة وأُقيم له حفل تكريم على هذه المبادرة الطيّبة، وقام أحد إخواننا الكرام بإلقاء كلمةٍ فاجأ بها الحضور، قال في كلمته لهذا المحسن: أُشكر الله عزَّ وجلَّ أن جعلك غنيّاً وقدّمت هذا البيت، والله سبحانه وتعالى قادرٌ على أن يجعلك أحد المنتفعين من جمعيَّتنا.
 ممكن أن يحدث ذلك، فالغني لا يقول أنا غنيّ فيوجد من هو أذكى منك وهو فقير، فتركت هذه الكلمة في نفسه أثراً بالغاً، فالغني الله أغناه والفقير على ذكائه قد يكون الفقر له حكمة، فليس للغني الحق بأن يفتخر بغناه، ولا الفقير يشعر بأنّه أقلّ من غيره لا فقد قال تعالى:

﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ﴾

 

( سورة الفجر )


 كلا: ليس عطائي إكراماً ولا منعي حرماناً، عطائي ابتلاء وحرماني دواء، قال له: يا أبا بكر لعلّك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربّك. فأتاهم سيّدنا الصدّيق فقال: يا إخوتي أأغضبتكم ؟ قالوا: لا يغفر الله لك يا أخي. فاستأذنهم حتى لا يكون أغضبهم كذلك، كلمة تكلّمها.. فانظروا كم لهؤلاء الفقراء عند النبيّ شأنٌ كبير.

 

 

الحكم الشرعي عند دعوة الأغنياء و الفقراء إلى الطعام:

 

 

 لذلك قال العلماء لو كان هناك دعوة والمدعو لها عشرون شخصاً، والموعد الساعة الثالثة، وفي الثالثة والنصف أحد المدعوّين لم يأتِ، يا ترى أنأكل أم ننتظره، فماذا نفعل ؟ وما الحكم الشرعي ؟ وهذا يحدث مع كلّ الناس فما العمل ؟ نأكل أم ننتظر ؟
والعلماء قالوا: الحكم الشرعي هو: إذا كان هذا المتأخّر فقيراً ينبغي أن ننتظره، أمّا إذا كان غنياً فنأكل ولا ننتظر.
 فإذا كان فقيراً وأكلنا قبله فسيشعر بنقص، ويُجرح، أمّا إذا كان شخصاً من مستوى الحضور يقولون له: فلماذا تأخّرت يا أخي فنحن أكلنا. وهذا هو الحكم الشرعي أورده الإمام الغزالي، إذا كان المتأخّر فقيراً ينبغي أن ننتظره جبراً له.
والله عزَّ وجلَّ كما قال في كتابه العزيز:

﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) ﴾

( سورة التوبة)

(( إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بالقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حساباً شديدا، ويعذبهم عذاباً أليما ))

[ من الدر المنثور عن علي ]

  الله يسامح الناس في بعض البلاد، يصنعون وليمة تكلّف مئة ألف، لأمير مثلاً، جمل مكتّف سنّه صغير - قاعود - وهذه أفخر الأكلات، فيأكل الأمير منه أوقيّة من اللحم والباقي يلقى في المزابل، والله سبحانه وتعالى كبير فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: يا عائشة أكرمي جوار نعم الله، فإنّ النعمة إذا نفرت قلّما تعود.

 

من حفظ نعمة الله عز ول رزقه الله من حيث لا يحتسب:

 

 مرّةٍ حضرت عقد قران ومعه عشاء، والعشاء لا أعتقد أن يكون قد أُكل منه خُمسَه، وتكلّف كلّ مدعوٍ ألف ليرة وعدد المعزومين ثمانمئة شخصٍ، وقال لي أحدهم: والله دفع ثمناً للعشاء مليوناً من الليرات بالتمام والكمال. فسألت: ما مصير هذا الطعام بعد أن انصرف المدعوّون، وقد لاحظت أنه لا أحد أكل منه سوى الخمس بل أقل ؟ فقال صاحب الدعوة: والله ما ضاعت حبّة رزّ، كل هذا الطعام أُخذ إلى ميتم ووضع في أكياس من البلاستيك في البرّادات، وأكله هؤلاء الأيتام على فترة أسبوع أو عشرة أيّام، لم تضع لقمة سُدى. فوالله قد سررت بذلك، كما أنّ صاحب هذا الحفل جمع نفقات الحفل ودفع مثلها لتزويج الشباب غير القادرين ففي اليوم الثاني دفع مليون ليرة لتزويج بضعة شباب مقابلها.
 فهذا شيء جميل وقد اطمأننت، فالطعام إذا أُهمل ووضع في المهملات، فهذه نعمةٌ كبيرةٌ جدّاً فالمؤمن لا يضيّع حبّةً من الأرز، ولا يضيّع قطعة من الخبز ولو صغيرةً، واضعاً كلَّ شيء بمحلّه، فأعرف إخواناً كراماً يضعون الأكل الزائد فوق الأسطحة لتأكله الطيور بعض الفُتات والأكلات التي لا تُؤكل معه ولا يلقيها في سلّة المهملات، بل يضعها على شرفة أو سطح فتأتي الطيور وتأكلها كلّها.
 إذاً إنَّ الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بالقدر الذي يسع فقراءهم ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا، إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإنَّ الله يحاسبهم حساباً شديداً ويعذّبهم عذاباً أليماً.

اجتماع أفراد الأسرة حول الطعام يطرح البركة به:

 الحديث الشريف:

(( أفضل الأعمال إدخالُ السرور على المؤمن، كسوت عورته، أو أشبعت جوعته، أو قضيت له حاجته ))

[رواه الطبرانُّي في الأوسط عن عمر رضي الله عنه]

  والنبيُّ عليه الصلاة والسلام يقول:

 

(( من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثلاثة ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامسٍ، بسادس))

 

[ أخرجه البخاري عن عبد الرحمن بن أبي بكر]

  وتوجد بعض الأُسر الأب يأكل وحده، وكذلك الابن، والبنت، فالساعة الثانية يُعدّون الطعام لأحدهم والثالثة يعدّونه للآخر وهكذا فتذهب البركة بالتالي، أمّا إذا وضع الطعام واجتمعوا جميعاً حوله لكفاهم هذا الطعام.

 

قصة النبي الكريم مع رجل من الأنصار يريد عطاء له و لأسرته:

 

 استمعوا لهذه القصّة أيُّها الأخوة فهي من أدقّ القصص، و والله تعدُّ هذه القصّة أحد المفاصل الأساسيّة في السُنّة وهي تعلّم أشياء كثيرة، أوردها أبو داود والنسائي والترمذي، قال: جاء رجل من الأنصار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسأله عطاءً (يريد المساعدة) فقال له النبيُّ عليه الصلاة والسلام: أما في بيتك شيء ؟ قال: بلى.. يا رسول الله، حلسٌ نلبس بعضه ونبسُطُ بعضه (أي قماش)، وقعبٌ نشرب فيه الماء. قال: ائتني بهما. فأتاه بهما. فأخذهما عليه الصلاة والسلام وقال: من يشتري منّي هذين ؟ قال رجل: أنا آخُذُهما بدرهم. فقال عليه الصلاة والسلام: من يزيد على درهم ؟ - بالمزايدة - قال رجل: أنا آخُذهما بدرهمين. فأعطاهما إيّاه وأخذ الدرهمين وأعطاهما للأنصاري وقال: اشترِ بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك، واشترِ بالآخر قُدّوماً و ائتني به. فأتاه به.. فشدّ فيه النبيُّ عليه الصلاة والسلام بيده الشريفة عوداً بيده (عمل النبي الكريم له يداً) وقال: اذهب واحتطب وبع ولا أرينّك خمسة عشَر يوماً. فجاء  وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها طعاماً فقال عليه الصلاة والسلام: هذا خيرٌ لك من أن تجيء والمسألة نكتةٌ في وجهك يوم القيامة.
 باع له الحلس وباع له القعب بدرهمين وقال له: ادفع لأهلك بدرهم طعاماً واشترِ بالآخر قدوماً، وشدّ النبيُّ عليه الصلاة والسلام بيده الشريفة عليه عوداً، وأعطى هذا الأنصاري القدّوم وقال احتطب به ولا أرينّك خمسة عشر يوماً ففعل.

من حفظ ماء وجهه يسر الله له رزقاً كبيراً:

 رأيت مرّة أحد الأشخاص يسأل.. وهو شابٌ وقال: ليس عندي محلٌ، فقلت له: ألا تستطيع أن تشتري كيساً من الفول وتبيعه على الرصيف. قال لي: بلى. فقلت له: اذهب و أحضر كيساً من الفول، جعلته تاجراً ونمت معه الأمور. كيس من الفول اشتره وبعه، الإنسان حينما يريد أن يعمل فالله ييسر له، حينما يريد أن يحفظ ماء وجهه فالله ييسر له، والله هو الكريم، اجعل عطاءك من الله مباشرةً.

   لا تسألنّ بُنيّ آدم حاجــةً       وسل الذي أبوابه لا تغلـقُ
الله يغضب إن تركت سؤاله       وبُنَيَّ آدم حين يُسأل يغضب

***

  باع القعب والحلس واشترى طعاماً لأهلة وبالدرهم الآخر قدّوماً وذهب يحتطب وباع ما احتطبه وقال له الرسول: ولا أرينّك خمسة عشر يوماً. وبعدها جاء بعشرة دراهم، وقال له هذا خيرٌ لك من أن تجيء والمسألة نكتةٌ في وجهك يوم القيامة.
 سيّدنا عمر أعطى لكُلّ مولود تعويضاً عائليّاً.. وكلّكم تعرفون القصّة.. عندما حرس قافلةً مع سيّدنا عبد الرحمن بن عوف، وطفلٌ وبكى، فذهب لأُمّه وقال: أرضعيه. ثمّ بكى، فقال: أرضعيه. وفي المرّة الثالثة بكى، قال: يا أمة السوء.. أصلحي شأن ابنك. فقالت له: لقد أضجرتني - ماذا تريد منّي - إنني أفطمه. فقال: ولمَ ؟ قالت: لأنّ عمر لا يعطينا العطاء إلا بعد الفطام. فسيّدنا عمر يقال إنّه ضرب نفسه، ضرب جبهته وقال: ويحك يا بن الخطّاب كم قتلت من أطفال المسلمين. وأصدر أمراً أن يكون العطاء منذ الولادة وليس مع الفطام، وقف يصلّي، من شدّة بكائه ما سمع أصحابه صوته في الصلاة.
 ما فهموا قراءته في الصلاة، وكان يقول: يا ربّ هل قبلت توبتي فأُهنّئ نفسي، أم رددتها فأُعزّيها.

بذل المال يرفع من شأن المسلم و يحببه بدينه و بربه:

 يروي محمّد بن إسحاق أنّ أُناساً من المدينة يعيشون ولا يدرون من أين يعيشون ومن يعطيهم.. يطرق الباب فيجدون من الخيرات، والأرز، واللحم، ولم يعرفوا من الذي يأتي لهم بالطعام. فلمّا مات زين العابدين بن الحسين فقدوا ذلك فعرفوا أنّه هو الذي كان يأتيهم بالليل بما يأتيهم به.
الليث بن سعد كان ذا غلّةٍ سنويّةٍ تزيد عن سبعين ألف دينار، يتصدّق بها كُلّها حتى قالوا: إنه لم تجب عليه الزكاة، واشترى مرّةً داراً بيعت بالمزاد، فذهب وكيله يتسلّمها فإذا فيها أيتام وأطفال صغار، سألوه أن يترك لهم الدار، فلمّا بلغ ذلك الليث أرسل إليهم: أنّ الدار لكم، ومعها ما يصلحكم كُلّ يوم.
بذل المال عمل عظيم، الإنسان المحتاج مجروح، فإذا بذلت له المال رفعت من شأنه، وحببته بربه، وجعلته يثق بهذا المجتمع المسلم، وإذا أهملته، يكفر بهذا المجتمع.
 ويروى أنّ عبد الله بن المبارك الإمام الكبير المحدّثَ كان كثير الصدقات، كانت تبلغ صدقاته في السّنة أكثر من مئة ألف دينار، خرج مرّةً إلى الحجّ مع أصحابه، فاجتاز ببعض البلاد، فمات طائرٌ معهم، فأمر بإلقائه على مزبلةٍ هناك، وسار أصحابه أمامه وتخلّف هو وراءهم، فلمّا مرّ بالمزبلة، إذا جارية (أي بنتٌ صغيرةٌ) قد خرجت من دارٍ قريبةٍ منها فأخذت ذلك الطائر الميّت، وكما سألها، كيف تأخذينه وهو ميت ؟ فأخبرته أنّها وأخاها فقيران لا يعلم بهما أحد ولا يجدان شيئاً يأكُلانه، فأمر ابن المبارك بردِّ الأحمال وقال لوكيله: كم معك من النفقة؟ قال: ألف دينار. فقال عّدَّ منها عشرين ديناراً تكفينا عودتنا، وأعطها الباقي فهذا أفضل من حجّنا هذا العام، ثمّ رجع فلم يحُجّ.
 أرأيت الفقه.. فقيه وجد أنّ إنقاذ هذه الأسرة الفقيرة أفضل من حَجِّه.. هو ابن المبارك، وأحياناً تجد أباً أولاده يتحرّقون على الزواج، ويقول لك: أنا حججت ثمانٍ وثلاثين حجّة، يكفيك حجّةٌ واحدة وأنفق على أولادك، زوّجهم، فهذا هو الفقه.. أن تعلم ماذا ينبغي أن تفعل، أن تفعل الشيء المناسب في الوقت المناسب، مع الرجل المناسب.

الدنيا درا امتحان و الآخرة دار جزاء و تشريف:

 نلخّص الموضوع: بأنّ من أخطر الأمراض التي تصيب الأولاد الشعور بالنقص، هذا الشعور بالنقص أحد أسبابه تعنيف الآباء الجاهلين، أو الدلال المفرط الدرس الماضي، أو المفاضلة بين الأولاد، أو اليتم، أو العاهة، أو الفقر.. هذه أسباب الشعور بالنقص، والمؤمن الكامل لا يفرّق بين طفل وسيم الطلعة وطفل دميم، بين طفل ذكي وطفل أقلّ ذكاء، بين طفل اجتماعي وآخر انعزالي، يرعى الكّل ولا يفرّق بين أولاده فلعلّ الله سبحانه وتعالى يكرمه، والحياة دار امتحان، والآخرة دار تشريف، والحمد لله ربّ العالمين.. وسوف ننتقل في درسٍ قادم إلى ظاهرةٍ من أخطر الظواهر التي تصيب الأولاد وهي: الحسد والغيرة. هذه ظاهرة تعاني منها معظم الأُسر.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور