- التربية الإسلامية / ٠4تربية الأولاد في الإسلام
- /
- ٠1تربية الأولاد 1994م
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيِّدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهمَّ لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنَّك أنت العليم الحكيم، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحقَّ حقاً وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الأخوة الكرام مع الدرس العاشر من سلسلة دروس تربية الأولاد في الإسلام.
تربية الأولاد النفسية:
لقد تحدّثنا في دروسٍ سابقة عن مسؤوليَّة الآباء في تربية أولادهم الإيمانيّة، وفي تربية أولادهم الخلُقيَّة، والجسميَّة، والعقليّة، وها نحن ننتقل إلى أخطر موضوعٍ في التربية وهو تربية الأولاد التربية النفسيّة.
فالأب الواعي العاقل الموفّق يستطيع أن يجعل من أبنائه شخصيّاتٍ فذّةً في المجتمع، والأب غير الواعي والذي يرتكب أخطاء فادحة في حقّ أبنائه ـ بالتعبير المألوف يحطِّمهم ـ يجعلهم يشعرون بالنقص، يجعلهم يجبنون عن مواجهة الحياة، يجعلهم في صفةٍ ينبذها المجتمع، فلذلك أقول دائماً: الأُبوَّة مسؤوليَّة.
الإنسان بنيان الله، وملعونٌ من هدم بنيان الله، أحياناً الأب بكلمة غير واعية غير مدروسة متعجِّلة فيها ارتجال يحطِّم ابنه، وكلمة مشجِّعة أحياناً تبعثُّ الثقة في النفس، تجعل ابنه عظيماً، فالقضيَّة قضيَّة حكمة، الله عزَّ وجلَّ قال:
﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾
يعني مثلاً إذا أخطأ ابنك فبينك وبينه وبأسلوبٍ لطيفٍ ومقنع تقول له: يا بنيّ هذا العمل خطأ، هذا العمل له نتائج خطيرة، وهذا العمل يجعلك في المجتمع منبوذاً، وتأتي له بدليل وشاهد وقصَّة، وبآية وبحديث، فالابن يقتنع، أمّا لو قمت بتعنيفه أمام أصدقائه فقد حطَّمته، ولو عنَّفته أمام إخوته حطّمته، أو لو صببت على أُذنه سباباً مقذعاً فقد حطَّمته، لذلك الأب مسؤول عن تربية أولاده التربية النفسيّة، وتوجد قاعدة في علم التربية لا أريد أن أقولها كي لا يجترئ الأبناء على آبائهم، لكن معظم أخطاء الأبناء مردُّها إلى المربّي، فمثلاً عندما تكذب الأم على زوجها أمام بناتها، فهذا الكذب العملي على الزوج أمام البنات أسقط ألف محاضرة في الصدق، القدوة هي أساس التربية.
هناك أخطاء يرتكبها الآباء وهم يظنون أنها رحمة ولكنها في الحقيقة نقمة:
لذلك أيُّها الأخوة، نقصد بالتربية النفسيّة أن يربَّى الابن على الفضائل، على الصدق، على الأمانة، على الاستقامة، على الجرأة، على الكرامة، على العزَّة، على الانفتاح على الناس، على القدرة على تحمُّل مشكلات الحياة، هناك أخطاء كبيرةٌ جداً يرتكبها الآباء وهم يظنُّون أنَّ هذه رحمة، وإنَّ هذه الرحمة التي توهّموها هي في الحقيقة نقمة على الأبناء.
طبعاً الموضوع واسع جداً لكن نختار من هذا الموضوع ظاهرة الخجل، وظاهرة الخوف، وظاهرة الشعور بالنقص، وظاهرة الحسد، وظاهرة الغضب، هذه الأمراض النفسيَّة المتفشِّية في الصغار.
الخجل: لا يستطيع الطفل أن ينبس ببنت شفة من شدَّة الخجل، الخجل ظاهرة مرضيَّة، طبعاً الحياء غير الخجل، فالحياء فضيلة، الحياء من الإيمان، الخجل ظاهرة مرضيَّة، الخجل نتيجة من نتائج التربية السيِّئة.
الخوف نتيجة من نتائج التربية السيِّئة، الشعور بالنقص، احتقار الذّات نتيجة من نتائج التربية السيِّئة، الحسد، الغضب، هذه بعض الظواهر المرضيَّة المتفشِّية في الأبناء.
الظاهرة الأولى التي يخطئ بها الآباء هي ظاهرة الخجل:
نبدأ بالظاهرة الأولى وهي الخجل، الطفل إذا ذهب مع أبيه إلى بيت لا يستطيع أن يتكلَّم بكلمة، ولا أن يجيب، ولا أن يتصرَّف، ولا أن يصافح، ولا أن يسلِّم، هذا الخجل يتنامى معه فيجعله إذا أصبح شاباً يخجل أن يطالب بحقّه ولو كان محقّاً، يخجل أن يقول: لا ولو كان مصيباً، تضعف شخصيّته، يصبح إمَّعة، كلُّ إنسان يسيطر عليه، من لوازم قوّة الشخصيّة كلمة (لا) في الوقت المناسب، فضعف شخصيَّة الإنسان حينما يصبح راشداً أساسها ظاهرة الخجل حينما كان صغيراً.
هناك فرق كبير بين الخجل كظاهرة مرضية وبين الحياء كفضيلة إنسانية:
مرةً ثانية أيُّها الأخوة نفرِّق دائماً بين الخجل كظاهرة مرضيَّة وبين الحياء كفضيلة إنسانيّة، الحياء من الإيمان، الذي يستحي أن يعصي الله عزَّ وجلَّ، الذي يستحي أن يتطاول على كبير، الذي يستحي أن يأخذ ما ليس له، الذي يستحي أن يفعل قبيحاً، أو أن يفعل فاحشةً، فهذه فضيلة ولعلّها من أرقى الفضائل لذلك كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( الحياء والإيمان قرنا جميعاً فإذا رفع أحدهما رفع الآخر))
والحديث المعروف عندكم:
(( إذا لم تَسْتحِ فَافْعلْ مَا شِئْتَ ))
لهذا الحديث معنيان متناقضان:
1.المعنى الأول إذا لم تستحِ لا حساب ولا عقاب:
المعنى الأوّل أنَّك إذا لم تستحِ لا حساب ولا عقاب، لأنّ أصل المسؤوليّة يسقط إذا اختلَّ الحياء عند الإنسان، المجنون لا يحاسب، وهذا الذي لا يستحي الناس يزهدون في معاتبته، يقولون: إنَّه إنسان وقح، إنسان فاجر، إنسان قذر، يبتعدون عنه.
2ـ المعنى الثاني إذا فعلت عملاً لا تستحي به من الله فلا تخشَ أحداً:
والمعنى الآخر للحديث أنّك لو فعلت عملاً لا تستحي به من الله فلا تخشَ أحداً، افعله ولا تلوِ على أحد، إذا لم تستحِ فاصنع ما تشاء، الأصل أن تكون على اتصالٍ بالله عزَّ وجلَّ، وأن يكون الله راضياً عنك.
أحياناً أخواننا الكرام يستنصحونني فأقول هذه الكلمة دائماً، فمرّة استنصحني موظّفٌ يعمل في التموين فقلت له: إذا كنت بطلاً فهيّئ لربّك جواباً عن كلّ ضبط تكتبه، جواباً لله عزَّ وجلّ. قال: كيف ؟ قلت له: هذا الذي يضع الموادّ الضارة في المواد الغذائيّة ـ فقد حدّثني أخ من يومين وجزاه الله خيراً أن بعض المواد الغذائيّة كالطحينة مثلاً يضعون بها مادّةً مبيِّضة (إسبيداج ) فقال لي: لا بل يضعون أكسيداً لمادّة سامّة وهم لا يعنيهم ذلك سوى أن يبيعوا هذه المادة الغذائيّة بربحٍ كبير، أحياناً يبيعون الصفيحة يضعون بها لحماً لدابّة ميّتة، وبعض أنواع اللحوم فيها لحم قطط، فإذا لم يأخذ الإنسان بيدٍ من حديد على أيدي هؤلاء المنحرفين فالمجتمع يتأخّر ـ فكنت أقول لهذا الموظّف دائماً: هيّئ لربِّك جواباً عن كلِّ ضبطٍ تكتبه، فإذا كان هذا الإنسان مسيئاً، يسيء لأولادنا ولمجتمعه فيجب أن يحاسب، فقد قال الله تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) ﴾
من حقك أن تنتصر إذا بُغي عليك ولكن بالقدر نفسه الذي بُغي عليك فيه:
فقد شرحت مرَّة هذه الآية ـ فهذه الآية تحيّر ـ فهل يا ترى أنّ الله عزَّ وجلَّ يثني على هؤلاء:
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) ﴾
أم يثني على الذين:
﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ (40) ﴾
فأوّلها:
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) ﴾
وآخرها:
﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ (40) ﴾
الله عزَّ وجلَّ على من يثني ؟!!
الجواب: أولاً من حقّك أن تنتصر إذا بُغي عليك، لكن إذا أردّت أن تنتصر ينبغي أن تنتصر بالقدر الذي بُغي عليك فيه:
﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا(40) ﴾
إذا غلب على ظنّك أنّك إذا عفوت على خصمك الظالم تقرِّبه إلى الله، وتقرِّبه من الدين، فينبغي أن تعفو عنه وعندئذٍ أجرك على الله، أمّا إذا غلب على ظنّك أنّ خصمك إذا عفوت عنه تزيده جرأةً على الباطل وعدواناً على الآخرين ينبغي أن لا تعفو عنه وهذه هي الحكمة.
الإنسان أحياناً عندما ينشأ بمرض الخجل إذا أصبح راشداً يخجل أن يطالب بحقُّه وأن يقول: لا، يخجل أن يقول للمخطئ أنت مخطئ وهذه حالة مرضيّة لدى الإنسان، فيصبح كالإمّعة تنعدم شخصيته وتذوب وينتهي.
بعض النماذج عن ظاهرة الجرأة من السنة النبوية الشريفة:
سأُريكم بعض النماذج التي وردت في السنَّة المطهَّرة عن ظاهرة الجرأة.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وكان دون الحُلُم ـ صغيراً ـ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم قال:
(( إنّ من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها وإنّها مثل المسلم فحدِّثوني ما هي ؟ فوقع النّاس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أَنّها النخلة فاستحييتُ ثمّ قالوا: حدِّثنا ما هي يا رسول الله ؟ فقال: هي النّخلة.))
وفي روايةٍ:
(( فأردّت أن أقول هي النَّخلة فإذا أنا أصغر القوم فاستحييت. ))
وفي روايةٍ:
(( ورأيت أبا بكرٍ وعمر لا يتكلَّمان فكرهت أن أتكلّم، فلمّا قمنا حدّثت أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن تكون قلتها أحبُّ إليّ من أن يكون ليَ حمر النَّعم. ))
فقد أحبّ سيّدنا عمر أنّ ابنه يجيب الإجابة الصحيحة أمام النبيّ عليه الصلاة والسلام فيكون جريئاً.
نجد أحياناً طفلاً جريئاً يتكلَّم بأدب، ويتكلم بثقة، ولا يستحي حياءً مرضيّاً، لا يخجل إذا عرف الحقيقة أن يقولها، هذه من آثار التربية الجيّدة.
(( رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أُتي بشرابٍ فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره أشياخ ـ مسنّون ـ فقال للغلام: أتأذن لي أن أُعطي هؤلاء؟ ))
فما هذه التربية ؟! النبيّ سنّ سنّة أنّك إذا أردْت أن تقدِّم ضيافةً فقدِّمها إلى كبير القوم أوّلاً، ثمّ الذي عن يمينه، هكذا السُّنة، فأحياناً هذا التوجيه النبوي أو هذا الأدب النبوي لا يعرفه معظم الناس، يقول لك على اليمين فإذا وجد إنساناً فاضلاً وله قيمته الكبيرة فينبغي أن تبدأَ الضيافة به ثمَّ من على يمينه أي يمين أكبر القوم وليس اليمين المطلق.
(( رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بشراب فشرب منه، وعن يمينه غلام - وفي رواية أصغَرُ القوم - وعن يساره الأشياخُ، فقال للغلام: أتأذَنُ لي أَن أُعطيَ هؤلاء ؟ فقال الغلامُ: ' والله يا رسول الله، لا أُوثِرُ بنصيبي منك أحداً))
جرأة ولكن أدب بالطبع هذا نموذج من نماذج الجرأة.
الجرأة هي وسط بين الخجل والوقاحة:
بالمناسبة قد توجد مسافة قليلة بين الجرأة والوقاحة، فالجرأة بين الخجل وبين الوقاحة، ودائماً وأبداً الفضيلة وسطٌ بين طرفين.
وروى البخاريّ أنّ ابن عباسٍ رضي الله عنهما وكان دون الحُلم درس من البلوغ أنّه قال: كان عمر رضي الله عنه يُدخُلني (أي في أيام خلافته) مع أشياخ بدر في المشورة، فكأنّ بعضهم وجد في نفسه (أي غضب) فقال: لِمَ يدخل هذا معنا ولنا أبناءٌ مثله ؟؟ فقال عمر: من حيث قد علمتم. قال: فدعاني ذات مرّة فأدخلني معهم، فما رأيّتُ أنّه دعاني يومئذٍ إلا ليُريهم، فقال عمر لأشياخ بدر: ما تقولون في قوله تعالى:
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) ﴾
قال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله وأن نستغفره إذا نصرنا وفتح علينا. وسكت بعضهم الآخر ولم يقل شيئاً، فقال لي: أهو كذلك يا ابن عبَّاس ؟ فقلت: لا، قال: فما تقول ؟ قلت: هو أجل النبيّ عليه الصلاة والسلام.
العظماء إذا حقّقوا رسالاتهم تنتهي آجالهم:
سيِّدنا عمر كان يستشير كبار الصحابة ـ هنا في الحديث سمّاهم أشياخ بدر ـ الذين شهدوا بدراً كان يستشير معهم سيِّدنا ابن عبّاس وقد كان دون الحُلُم، ولّما كانوا يرون ابن عبّاس وهو في سنِّ أبنائهم غضبوا وقالوا: هذا الذي معنا لنا أبناء في سنِّه، فقال لهم عمر: من حيث قد علمتم.. فما معنى ذلك ؟
أنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام دعا له وقال:
(( اللهم علمه التأويل وفقهه في الدين ))
ودعاء النبيُّ لا يردّ، فهذا ابن عبّاس ولو أنّه دون الحُلُم دعا له النبيّ بالفقه في الدين وبمعرفة التأويل، وقوله: هو أجل النبيّ عليه الصلاة والسلام.
أي أنّ العظماء حياتهم عظيمة جداً، همومهم كبيرةً جداً، فإذا حقَّقوا رسالتهم انتهى أجلهم، فالأنبياء والعظماء لا يمكن أن يعيشوا ليأكلوا كعامّة الناس، وتقريباً لذلك إذا زار رئيس دولةٍ ما دولة أُخرى فالمباحثات ثلاث ساعات وعند انتهائها يرجع لبلده ولا يقول: يومان آخران لنتنشّط، فهذا غير وارد إطلاقاً، فالمسؤوليّات كبيرةً جداً على عاتقه، وصل إلى الدولة الأخرى، أجرى المباحثات، أصبح هناك إنجاز، فيرجع إلى بلده، أمّا عامة الناس يمكث للسياحة، يتنشّطون، هذا مثل تقريبي، العظماء إذا حقّقوا رسالاتهم تنتهي آجالهم، فقال له ربُّنا عزَّ وجلَّ:
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3) ﴾
الله عز وجل نعى نبيه محمد بسورة النصر:
فقال سيدنا ابن عبّاس: هو أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلَمهُ به بقوله تعالى:
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) ﴾
وذلك علامة أجلك:
﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3) ﴾
فقال عمر رضي الله عنه: ما أعلم منها إلا ما تقول، هذه سورة أجل النبيّ.
رالله عزَّ وجلَّ نعى النبيّ بهذه السورة، أي يا محمّد:
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3) ﴾
على المؤمن استغلال شبابه في طاعة الله:
أحياناً الله يتفضّل على إنسان فينشأَ في طاعة الله من أيام طفولته، طوال حياته يحضر مجالس العلم، يدعو إلى الله، يضبط جوارحه، ينفق ماله، هذا كلما تقدّمت به السّن اشتاق للقاء الله عزَّ وجلَّ، فتجد المؤمن متعلِّقاً بالآخرة ومنصرفاً عن الدنيا، أعتقد أنّه توجد ساعة هي أسعد ساعة للمؤمن حينما يطلُّ على ماضيه فإذا هو طاعةٌ لله، يطلُّ على ماضيه فإذا هو عملٌ صالح، يطلُّ على ماضيه فإذا هو دعوةٌ إلى الله، يطلُّ على ماضيه فإذا هو الإحسان للخلق، هذه النظرة إلى الماضي تملأ قلبه سعادةً.
فالإنسان لا يغترّ، الشباب يمضي سريعاً، فالشاب في مقتبل العمر لا يفكّر في أمراض القلب، ولا دسّام القلب، ولا مرض الضغط، ولا أمراض الكليَة، ويقولون لك: مثل الحصان يحرث حرثاً، ولكن هذا يمضي سريعاً ويأتي وقت تضعف أجهزة جسمه، فقد قرأت كلمة في مجلّة أنّ السعادة الماديّة للإنسان البعيد عن الله عزَّ وجلَّ الذي أراد الدنيا ولذاتها وشهواتها ومباهجها، أراد أموالها، أراد نساءها، مقاصفها، طعامها، شرابها فما الذي يحدث ؟ شيء مضحك لأن السعادة الماديّة في الدنيا تحتاج إلى ثلاثة شروط ؛ الأوّل: الصّحة، الثاني: الوقت، الثالث: المال.
العمر ثلاث مراحل:
1 ـ المرحلة الأولى تجد فيها الصحة والوقت ولا تجد المال:
الآن لاحظوا أنّ أوّل مرحلة بهذه الحياة صحّة ممتازة مثل الحصان ووقته فارغ لا يشغله شيء، ولكن مال لا يوجد ـ منتوف ـ لا يملك شيئاً، إذاً لا يسعد، أين يريد أن يذهب ؟ ليس معه شيء، صحّة طيِّبة ووقت متوافر.
2 ـ المرحلة الثانية تجد فيها الصحة والمال ولا تجد الوقت:
المرحلة الثانية: قام بتأسيس مشروع ففتح محلاً تجاريّاً، وانشغل بالتأسيس، بالمبيعات، بالمشتريات، بالحسابات، الآن لا يوجد وقت، توجد الصِّحة والمال، ولكن الوقت غير موجود، يقول لك: والله نحن مشغولون، وتجد بيتاً قد كلّف الملايين ولا يذهبون إليه إلا في العطلة الصيفيّة فقط ولمدّة أسبوع واحد لعدم الفراغ فالبيت مغلق، أصحابه عندهم مشاريع ومعامل وتجارة ولا يوجد عنده متسع من الوقت ليتنعّم، ويتساءل: هل تناولنا طعام الغداء اليوم ؟ والله قد نسينا ذلك من كثرة العمل بالأسواق والبيع ـ السوق حامي ـ فنسي الغداء وهذه هي المرحلة الثانية: يوجد المال والصّحة ولكن لا يوجد الوقت.
3 ـ المرحلة الثالثة تجد المال والوقت ولا تجد الصحة:
المرحلة الثالثة: قد كبر في العمر وسلّم المعمل لأولاده وأصبح عنده الوقت الكافي وأصبح عنده المال ولكن لا توجد الصِّحة بل أصبح يحمل في جسده خمسين علّة مرضيّة، هذه هي الدنيا: تغُرُّ.. وتضرُّ.. وتَمُر.
أمّا إذا عرف الإنسان الله عزَّ وجلَّ وجعل هدفه ابتغاء مرضاته، فيصبح سعيداً وهو شابٌ، في الشباب من جامع إلى جامع، من درس إلى درس، من عمل صالح إلى عمل صالح، سعيد وهو كهل، سعيد وهو شيخٌ، فقد اختلف الأمر كلّياً منذ أن عرفت الله دخلت في السعادة وإلى الأبد، وما الموت إلا نقطةً على هذا الخط الصاعد.
بعض الأمثلة عن شباب شبّوا على طاعة الله:
أقول لكم قصّة تعرفونها وأقولها دائماً: عندما مرَّ سيّدنا عمر في المدينة وكان بعض الأولاد يلعبون، فلمّا رأوه تفرّقوا جميعاً من شدّة هيبته إلا واحداً منهم وهو سيدنا عبد الله بن الزبير، فعندما مرّ سيدنا عمر أمامه فقال له: يا غلام لمَ لمْ تهرب ؟! فقال له: أيُّها الأمير لستَ ظالماً فأخشى ظلمك، ولستُ مذنباً فأخشى عقابك، والطريق يسعني ويسعك.
الطريق واسع فلماذا أهرب ؟ أخاف من ذنب وأنا لست مرتكباً للذنب وأنت لست ظالماً، كلام بليغ، أي إذا كان واحد خائفاً وهو بريء فتلك والله مصيبة كبيرة جداً أن يخاف البريء، أمّا المصيبة الأكبر أن يطمئنّ المذنب، فإذا كنّا في مجتمع البريء فيه خائف والمذنب فيه مطمئن فهذه والله مشكلة كبيرة.
رأى سيّدنا عمر بن عبد العزيز ولداً له في يوم عيد وعليه ثوبٌ خرق ـ ابن سيّدنا عمر ـ فدمعت عيناه، فرآه ولده فقال: ما يبكيك يا أمير المؤمنين ؟ قال: يا بنيّ أخشى أن ينكسر قلبك إذا رآك الصبيان بهذا الثوب الخرق، فقال: يا أمير المؤمنين إنّما ينكسر قلب من أعدمه الله رضاه أو عقَّ أُمّه وأباه وإنّي لأرجو أن يكون الله تعالى راضياً عنّي برضاك.
أي إذا أنت راضٍ عني فأنا أرجو رضاء الله برضاك.
والله أيُّها الأخوة تجد إنساناً لا يملك من الدنيا شيئاً لما عنده من غنىً في نفسه والله لو وزِّع على أهل بلدٍ لكفاهم، وتجد إنساناً آخر يملك الملايين ويشعر بالفقر وكأنّه أفقر الناس، يقول لك: خسرنا. ماذا خسرت ؟ كانت أرباحه اثني عشر مليوناً فأصبحت عشرة ملايين فقط فخسر مليونين، لا يوجد نموٌ بل تراجعٌ، وتجده متضايقاً، يائساً، هذا فقير، قيل: أنت من خوف الفقر في فقر، وأنت من خوف المرض في مرض، وتوقُّع المصيبة مصيبةٌ أكبر منها. إذا أردْت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك، وإذا أردْت أن تكون أكرم النّاس فاتّقِ الله، وإذا أردْت أن تكون أقوى النّاس فتوكّل على الله.
أمثلة أخرى عن الجرأة من كتب الأدب:
مما روت كتب الأدب: أنّ صبيّاً تكلّم بين يدي الخليفة المأمون فأحسن الجواب، قال له المأمون: ابن من أنت يا غلام ؟! قال: أنا ابن الأدب يا أمير المؤمنين، ألم يقل الشاعر:
كن ابن من شئت واكتسب يغنيك محموده عن النسب
* * *
قال له: أنا ابن الأدب، فقال المأمون: نعم النسب ثم قال المأمون:
كـن ابن من شئت واكتسب يغنيـك محموده عـن النسب
إنّ الفتى من يقول ها أنا ذا ليس الفتى من يقول كان أبي
* * *
ومرّة فيما أذكر أنّ غلاماً ناشئاً قام بعمل عظيم فأراد أحد الأشخاص أن يصغِّره وأن يحجِّمه، فقال له: كم عمرك يا غلام ؟؟ فقال له: أنا عمري كعمر أُسامة بن زيد حينما ولاّه النبيُّ قيادة جيش فيه أبو بكر وعمر. أي هذا عمري فأسكته.
قال: دخل المأمون مرّة بيت الديوان فرأى غلاماً صغيراً على أُذنه قلم، قال: من أنت ؟ قال: أنا الناشئ في دولتك، المتقلِّب في نعمتك، المُؤمّل في خدمتك، أنا الحسن بن رجاء. فعجب المأمون من حسن إجابته وقال: بالإحسان والبديهة تفاضلت العقول ارفعوا هذا الغلام فوق مرتبته.
بالإحسان والبديهة تفاضلت العقول.
وعندما دخل على سيّدنا عمر بن عبد العزيز وفد المُهنئين تقدّم غلام عمره اثنتا عشرة سنة، قال له: اجلس أنت وليقم من هو أكبر منك سنّاً. فقال له الغلام: أصلح الله الأمير المرء بأصغريه.. قلبه ولسانه، فإذا وهب الله العبد لساناً لافظاً وقلباً حافظاً فقد استحقَّ الكلام، ولو أنّ الأمر كما تقول لكان في رعيتك من هو أحق منك بالخلافة.
جاءت وفود إلى هشام بن عبد الملك وكان بين هذه الوفود غلام صغير اسمه ورداس بن حبيب فغضب هشام وقال للحاجب: ما شاء أحد أن يدخل عليّ إلا دخل حتّى الصبيان !!!
فقال الصبيّ: يا أمير المؤمنين، إنّ دخولي عليك لم ينقص من قدرك لكنَّه شرَّفني، أصابتنا ثلاث سنين ؛ سنةٌ أذابت الشّحم، وسنةٌ أكلت اللحم، وسنةٌ دقّت العظم، وفي أيديكم فضول أموال، فإن كانت لله ففرقوها على عباده، وإن كانت لهم فعلام تحبسونها عنهم، وإن كانت لكم فتصدّقوا بها علينا فإنَّ الله يجزي المتصدِّقين ؟
فقال هشام: ما ترك لنا هذا الغلام في واحدةٍ عذراً، فأمر للبوادي بمئة دينار وله بمئة دينار. فقال الصبي: اُرددها يا أمير المؤمنين إلى جائزة البوادي، فإنّي أخاف أن تعجز عن بلوغ كفايتهم ـ أي أعطِ حصَّتي إلى قومي ـ ورفض أن يأخذها. فقال هشام: أما لك حاجة ؟ فقال الصبيّ: ما لي حاجَة فيَّ خاصّة دون عامّة المسلمين.
أحياناً الإنسان يدخل على شخصٍ مهمٍّ فيطلب استثناء، وآخر يطلب خدمةً عامّةً للمسلمين مثل: رفع الحيف أحياناً أو تيسير أمور الناس أو تأمين حاجاتهم، فالإنسان متى يُقيَّم ؟!! إذا طلب حاجةً شخصيّة، استثناء شخصيّاً يكون إنساناً منتمياً إلى ذاته، أما إذا دخل إنسانٌ على شخصٍ مهمٍ وطلب منه حاجة عامّة فهذا شرف له.
على كلٍ هذه الظاهرة ظاهرة الجرأة إذا تطرَّفت وتفاقمت أصبحت وقاحةً، وإذا تطامنت أصبحت مرضاً نفسيّاً وهو الخجل.
لذلك يجب على الآباء إذا تكلَّم الابن أن يستمعوا له، والأب يشجعه، وإذا أخطأ لا تعنِّفه، ولكن إن انتهى قلْ له: هذه الكلمة خطأ أو غلط وصوابها هكذا.
الفرق بين كلمة خطأ وكلمة غلط:
كلمة (خطأ) غلط باللغة، فالخطأ متعلّق بالخطيئة، أمّا الغلط متعلِّق بالعلم، وقد أُلّف كتاب اسمه أخطاؤنا الشائعة وقد انتقد العنوان أحد الأشخاص قائلاً: العنوان خطأ شائع، والصواب: خطيئاتُنا الشائعة.. لأنّ الخطأ جمعها خطيئات، قال تعالى:
﴿ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) ﴾
فجاء شخص ثالث فقال لهم أنتما الاثنان غلطتما، فكلمة خطيئة متعلِّقة بالخطأ الأخلاقي، أمّا الصواب: أغلاطُنا الشائعة. أصبح عندنا في اللغة: خطأ وهو الشيء المتعلِّق بالأخلاق، والغلط هو الشيء المتعلِّق بالعلم.
الحياء في الدين:
لكن الحياء كما تعرفون من الفضائل يقول عليه الصلاة والسلام:
((اسْتحْيُوا مَنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَياءِ، قُلنا: إنَّا لَنسْتَحيي من اللَّه يا رسولَ اللَّه، والحمدُ للَّه، قال: لَيس ذَلِكَ، ولكنَّ الاسْتِحياءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَياءِ: أنْ تَحْفَظ الرَّأْسَ ومَا وَعى، والْبَطْنَ ومَا حَوى، وتذْكْرَ المَوتَ والبلى، وَمنْ أرادَ الآخِرَةَ تَرَك زِينَةَ الدُّنيا، وآثَرَ الآخِرَةَ عَلى الأُولى، فَمنْ فَعلَ ذِلكَ فَقَدِ اسْتَحْي من اللَّه حقَّ الحياءِ.))
وقد روي عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنّه كان يدعو ويقول: اللهم لا يدركني زمانٌ لا يُتّبع فيه العليم، ولا يُستحيا فيه من الحليم.
وقد مرَّ معي حديث يقول:
(( إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأمركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلائكم، وأمركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها ))
وقد روى الإمام أنس بن مالك عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم:
((إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقاً وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ.))
أي أنَّ المؤمن يستحي، فشيء واضح جداً مثلاً إذا جلست مع إنسان يتكلَّم كلاماً بذيئاً، ويتكلَّم بالعورات، وكان مزاحه فاحشاً، فاعتقد جازماً أنّه ليس مؤمناً، لأنَّ الحياء من الإيمان، فلو كان مؤمناً لاستحيا أن يلفظ العورات بلسانه، وأن يمزح مزاحاً فاحشاً، وأن يغمز، وأن يلمز، وأن يغُشَّ الكلام، هذا الذي يغُشَّ الكلام دائماً ويتكلَّم بالعورات ومُزاحه فاحشٌ هذا إنسان لا حياء فيه، ومن لا حياء فيه لا إيمان فيه:
(( الحياء والإيمان قرنا جميعاً فإذا رفع أحدهما رفع الآخر))
وفي المقابل يوجد آباء يشجعون أبناءهم كثيراً إلى درجة أنَّ هذا الطفل الصغير يتكلَّم كلاماً قاسياً، كلاماً فيه تطاول، وكلُّهم يضحك من هذه الكلمات غير المألوفة من هذه السّن، هذا أيضاً يشجِع الابن على الوقاحة وعلى التطاول، فالأب يجب أن يكون موقفه حكيماً إن رأى فيه خجلاً شجّع، وإن رأى فيه تجاوزاً كبح، أنت بين التشجيع لمن يخجل وكبح جماح من يتواقح.
سيّدنا يوسف عندما قال:
﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) ﴾
السجن ليس فيه خطرٌ على الحياة، لكن الجُبَّ كان فيه خطرٌ على الحياة، فمن أدبه العالي لم يذكِّر إخوته بالجُب لئلا يستحيوا بفعلتهم فقد قال:
﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي(100) ﴾
الظاهرة الثانية التي يخطئ بها الآباء هي ظاهرة الخوف:
توجد لدينا ظاهرة ثانية من الظواهر المرضيَّة التي تصيب الأبناء وهي: الخوف فتجده خائفاً خوفاً غير طبيعي.
أولاً الأمّ التي تخوّف ولدها بالأشباح أو بالظلام، أو كما يقولون: بالغول، أو البعبع مثلاً، هذه أمّ جاهلة، فإذا نشأ عند الابن عقدة الخوف فذلك من تربية أمّه له، لأنّ الأم عندما يبكي ابنها تحبّ أن تسكته فتخيفه بأشياء وهميّة، هذه الأشياء غرست فيه غرساً.
وقالوا: الدلال المفرط هذا يسبب الخوف، الحرص الشديد غير معقول، والدلال المفرط، وأي شيء يطلبه يلبّى له وتعطي الأم له، فهذا الطفل تخرّب شخصيّته ولا يستطيع أن يواجه أي شيء، ويخاف من كلّ شيء، لأنّ الأب قد أعطاه كلّ شيء، ومنعه من كلّ جهد، ومنعه من كل تحمُّل للمشقّة، فضعف.
دعونا من الأمور النفسيّة، جسميّاً إذا الإنسان ارتاح كثيراً فيصاب بضعف القلب لا يوجد جهد، لعدم بذل الجهد، فلو مشى خمسة أمتار يلهث نَفَسه، وكذلك لو صعد درجات قليلة لسلم فيلهث أيضاً، أما الرّياضيّون يدرّبون قلوبهم، فلو جلس مستريحاً تصبح دقّات قلبه خمساً وخمسين دقّة في الدقيقة لأنّه جُهزَ على بذل الجهد، وهذه قاعدة ماديّة ومعنويّة، فكل إنسان يبذل الجهد فقد مرّن قلبه على تحمُّل الجهد، وإذا لم يبذل الجهد يضعف قلبه.
وكذلك النفس الإنسانيّة، إذا توافر لها كلّ شيء وأُمّن لها، فإذا وفر الأب أو الأم للأبناء كلّ شيء و أصبح الطفل غير مكلف بشيء، دلال زائد أصبح كثير الخوف، فلا يستطيع شراء أي من الحاجات، يخاف أن ينتقل لبيت آخر.
قال وأسباب الخوف أيضاً: تربية الولد على العزلة الانطوائيّة والاحتماء بالمنزل فالعزلة تسبب الخوف.
أخواننا الكرام، كل إنسان يعيش بعزلة يبني أوهاماً وتكون كلّها بلا أصل، يبني عداوات، تصوّرات، تفسيرات مضحكة للأمور، قام العلماء بإجراء التجارب بعزل إنسان عن المجتمع، فلتهيئة روّاد الفضاء لرحلة فضائيّة تبقى في الفضاء لعدّة سنوات، ولتهيئتهم على هذه العزلة أقاموا بيتاً في الصحراء، وجعلوا هؤلاء الروّاد في هذا البيت وفرضوا عليهم عزلةً تامّةً عن العالم، فانهار نفسياً اثنان منهم، وأساساً في بعض السجون، في السجن الانفرادي قد يسبب مرضاً نفسيّاً، لأنَّ الإنسان اجتماعي، فكل إنسان يعزل نفسه عن المجتمع يصاب بأمراض نفسيّة، فالعلاج أن تكون مع الناس.
فقد قال النبيّ صلوات الله عليه وسلّم من خالط النّاس وصبر على أذاهم، خيرٌ له من مَن لم يخالطهم ولم يصبر على أذاهم.
من أسباب الخوف الدلال المفرط والعزلة والقصص الخيالية والأوهام:
أحياناً قصص خياليّة أساسها الجن والعفاريت تروى للصغار قبل أن يناموا، بالطبع لا بدّ من أن يخافوا، قصص خياليّة وأوهام تخويف دلال مفرط، عزلة انطوائيّة، هذه كلّها تسبب مرض الخوف، والخوف مدمِّر.
الحقيقة غرس العقيدة الصحيحة في نفس الطفل تحميه من الخوف، الله موجودٌ والأمر بيده والله هو الحافظ، وكلّ شيء وقع أراده الله، هذه المعاني تبعثُّ في نفس الغلام الأمان فيبتعد عن الخوف، انظر فما أجمل هذه الآية:
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) ﴾
الأصل أنّ الإنسان يخاف، أمّا المتصل بالله لا يخاف، فقد جاءه مدد من الله، فأخواننا الذين قد ذهبوا إلى الحج بعضهم نظر إلى موقع غار حِراء في رأس الجبل، والطريق إليه يحتمل عدّة ساعات مع الجهد الكبير جدّاً، أي أنّ الشباب وحدهم بإمكانهم أن يصلوا، كان النبيُّ الكريم يبقى هناك الليالي ذوات العدد، الآن الجبل فيه كثير من الأُنس، من الطرقات والسيّارات، فتصوّر جبل قاسيون قبل أن يكون آهلاً بالسكّان، لا أحد فيه، وتصعد إليه وحيداً وتنام ليلتين أو ثلاث بمغارة فهذا شيء فوق طاقة الإنسان فما تفسير ذلك ؟
النبيُّ عليه الصلاة والسلام لشدّة أُنسه بالله غلب أُنسه بالله على وحشة المكان، فكلّما اتصل الإنسان بالله عزَّ وجلَّ يأنس به ولا تفسير آخر لذلك، فالمكان موحش، لكن لشدّة أُنس النبيّ بربّه، أُنسه بالله عزَّ وجلَّ غلب على وحشة المكان.
العقيدة الصحيحة تخففُ من حدّةُ الخوف:
إذاً العقيدة الصحيحة تخففُ من حدّةُ الخوف، الآن يجب أن يعطى الطفل حريّة التصرُّف وتحمُّل المسؤوليّة، وأن يمارس بعض الأعمال التي يقدرُ عليها، أحيانا تجد الأب خائفاً من أن يغلط ابنه فلا يسلِّمه شيئاً أبداً، فيكبر وهو لا يحسن شيئاً، اجعله يستلم عملاً ويغلط وصحح له، فقد ذكرت لكم قبل قليل أنّ الذي لا يغلط هو الذي لا يعمل، فكل من يعمل يخطئ، والخطأ طريق الصواب، وليس العار أن تخطئ، لكنّ العار أن تبقى مخطِئاً، ليس العار أن تجهل، لكنّ العار أن تبقى جاهلاً.
أيضاً عندما يعلّم الإنسان مغازي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه المغازي فيها من مواقف الصحابة وشجاعتهم وبأسهم وشدّتهم هذا مما يبثُّ في نفس الطفل الجرأة من باب التقليد، فقد قال سيّدنا سعد بن أبي وقّاص: كُنّا نعلّم أولادنا مغازي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما نعلِّمهم السورة من القرآن.
(( علّموا أولادكم الرماية والسباحة ومروهم فليثبوا على الخيل وثباً.))
أمثلة ونماذج في شجاعة أبناء الصحابة:
أيضاً توجد عندنا قصص رائعةٌ جداً، نماذج عُليا في شجاعة أبناء الصحابة، لما خرج النبيّ عليه الصلاة والسلام إلى أُحدٍ مع أصحابه استعرض الجيش فرأى فيه صغاراً لم يبلغوا الحُلُم فأشفق عليهم وردَّ من رآه منهم صغيراً، كان في من ردّه عليه الصلاة والسلام رافع بن خُديج وسمرة بن جُندُب ثمّ أجاز رافعاً لما قيل له: إنّه رامٍ يحسن الرماية، فبكى سُمرة وقال لزوج أُمّه: أجازَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رافعاً وردّني مع أني أصرعه، فبلغ ذلك النبيّ فأمرهما بالمصارعة، فكان الغالب سُمرة، فأجازه عليه الصلاة والسلام.
غلامان صغيران، ولعل حجم أحدهم أصغر من الآخر فأجاز النبي الكبير وردّ الآخر فبكى وقال: هذا الذي أجازه النبي أصرعه وبلغ ذلك النبي فجعلهما يتصارعان أمامه، فإذا بسمرة يصرع رافعاً.
ولمّا هاجر النبيّ عليه الصلاة والسلام وصاحبه أبو بكر إلى المدينة وأقاما في غار ثور ثلاثة أيام عملت عائشة وأسماء بنتا أبي بكر في تهيئة الزّاد لهما وقطعت أسماء قطعةً من نطاقها فربطت به على فم وعاء الطعام فسمّيت بذلك: ذاتَ النطاقين، وعمل عبد الله بن أبي بكر على نقل الأخبار ـ عمل عظيم ـ النبي والصديق في غار ثور، وعائشة وأسماء تأخذان الطعام وعبد الله يتعقّب الأخبار.
علينا أن نحسن تربية أبنائنا لأنهم استمرار لنا
ربّما كان الابن امتداداً لأبيه، ولا تنسوا أنّ الابن الصالح صدقةٌ جارية:
(( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم يُنْتَفَعُ به، أو ولد صالح يدعو له.))
فليكن همّ كُلّ أب أن يربّي أولاده تربيةً صالحة بحيث أنّ الأب لو ولّت عينه فابنه استمرارٌ له، و أنجح الآباء في تربية أولادهم هم أسعد الآباء، فلا تتصوّر شعور الأب إذا رأى أولادَه من حوله ديّنين، صائمين، مصلّين، في مراتب عالية، بنجاح وبسمعة طيّبة فهذا شيء لا يقدّر بثمن، وهذا الذي قاله الله عزَّ وجلَّ:
﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) ﴾
بالطبع التربية لا بدّ لها من الجهد، و من دون اهتمام فالابن يفلت لكن فليكن معك دائماً، راقبه، لاحظه، كن له قدوة، اسأله وجاوب على أسئلته، واجلس معه، وناقشه، وبيّن له ووضّح له وفي النهاية لعلّ الله سبحانه وتعالى يرحمُنا بتربية أولادنا.