- أحاديث رمضان / ٠14رمضان 1428هـ - القوانين والمقاصد
- /
- 2- رمضان 1428 هـ - مقاصد الشريعة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
أيها الإخوة الكرام، لازلنا في سلسلة دروس عن مقاصد الشريعة الإسلامية، وكنا في أركان الإسلام، وانتقلنا إلى أركان الإيمان، والحديث اليوم عن الإيمان باليوم الآخر.
مقدمة عن اليوم الآخر:
1 – الدنيا عالَمُ المحسوسات، والآخرة عالَمُ الأخبار:
الحقيقة الأولى: أن الدنيا محسوسة تراها بحواسك الخمس، ترى القصر المنيف، ترى المركبة الفارهة، ترى المنطقة الجميلة، ترى المرأة الجميلة، الدنيا محسوسة، تراها بحواسك الخمس، إلا أن الآخرة خبر، خبر ورد في القرآن الكريم، لذلك بطولة المؤمن أنه آمن بالغيب، آمن بالخبر، وأعرض عن المحسوسات، معظم البشر عاشوا المحسوسات، واستمتعوا بها، ولم يلتفتوا إلى الخبر، أما هذا الذي التفت إلى الخبر، وأعرض عن المحسوسات فهذا عنده عقل راجح، لأنه تعامل مع الأشياء بعقله لا بحواسه.
للتقريب: قد تأكل طعاماً طيباً جداً، لكنه طعام مدمر، يؤذي القلب، يؤذي الشرايين، يسد معظم الشرايين، فإذا تعامل الإنسان مع الطعام بحواسه يجب أن يأكل كل شيء، وبلا قيد أو شرط، أما إذا تعامل مع الطعام بعقله فيأكل الطعام الذي لا يؤذيه.
2 – التعامل العقلي مع الأشياء قد يجلب الضرر:
الحياة هكذا، إذا تعامل الإنسان مع بالشيء مع عقله تحدث حالةٌ اسمها الحب العقلي، والكراهية العقلية، وحالة ثانية هي الحب الحسي، والكراهية الحسية، الطاعات أحياناً متعبة حسياً، الاستيقاظ إلى صلاة الفجر شيء متعب لمن نام متأخراً، لكن حينما يستيقظ يشعر براحة نفسية كبيرة جداً.
3 – الإنسان إمّا تابعٌ للخبر الصادق أو تابعٌ للهوى:
إذاً: أنت أمام خيار صعب، إما أن يستجيب الإنسان للهوى، وإما أن يستجيب للخبر الصادق، فالمؤمن صدق بالخبر، والشيء المحسوس إذا كان مناقضاً لما وعده الله به يعرض عنه.
إذاً: الدنيا محسوسة، والآخرة خبر، والمؤمن صدق الخبر، ولم يعبأ بالمحسوسات، لذلك استحق الجنة، وثمن الجنة كقال تعالى:
﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) ﴾
لذلك الإيمان صبر، الإيمان قوة إرادة، الإيمان أن تتحرك وفق المساحة التي سمح الله بها.
4 – كلُّ شهوة في الإنسان لها قناة شرعية نظيفة:
لكن بالمناسبة، ما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناة نظيفة تسري خلالها، أية شهوة فيها حيز مسموح به فالمؤمن جعل حركته في هذه الشهوة في الحيز المسموح به، قال تعالى:
﴿بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) ﴾
الآية الثانية:
﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ (50) ﴾
معنى ذلك أن الذي يتبع هواه وفق هدى الله عز وجل لا شيء عليه.
المحسوسات والمعقولات والإخباريات:
أيها الإخوة الكرام، الذي أتمنى أن يكون واضحاً، في الإسلام ثلاثة دوائر كبرى، دائرة المحسوسات، ودائرة المعقولات، ودائرة الإخباريات، وأيّة قضية في حياتك لا بد من أن تنضم إلى إحدى هذه الدوائر.
1 – المحسوسات تُدرَك بالحواس الخمس أو ما كان في حُكمِها:
الأشياء المادية التي ظهرت عينها كهذه الطاولة، وهذا الضوء، وهذا المسجد، وهذا الأثاث، أداة اليقين بها الحواس الخمس، أو استطالات الحواس الخمس، ميكروسكوب استطالة، والتليسكوب استطالة، هذا جانب ليس عليه خلاف إطلاقاً.
2 – المعقولات تُدرَك بالعقل:
الجانب الثاني: الأشياء إذا غابت عينها وبقيت آثارها، أداة اليقين بها العقل، مهمة العقل أن تعطيه شيئاً مادياً محسوساً، شيئاً يُرى، شيئاً يُسمع، شيئاً يُلمس، فيحكم على صانعه، صانعه غاب عنك.أنت أمام غرفة نوم، النجار لا تراه، لكن ترى صنعته، فمهمة عقلك أن تحكم على الصانع من الصنعة، وعلى المسير من التسيير، وعلى الحكيم من الحكمة، مهمة العقل أن تعطيه شيئاً محسوساً، وأن يستنبط منه شيئاً غائباً عنه، فلذلك أية قضية غابت عينها، وبقيت آثارها أداة اليقين بها العقل، يا ترى هذا المسجد هل فيه الكهرباء؟
الكهرباء لا ترى، لكن ترى آثارها، تألق المصباح، تكبير الصوت، عمل المكيف، هذه آثار الكهرباء، فالكهرباء غابت عينها، وبقيت آثارها، هذا شأن العقل، لذلك الله عز وجل خالق السماوات والأرض لا تدركه الأبصار، ولكن الكون كله يدل عليه، ذاته العلية لا نراها، لكن نرى آثارها، نرى الكون، نرى الأطيار، نرى الأسماك، نرى البحار، نرى الجبال، نرى النباتات، نرى كل شيء، فكل هذا الكون أثر من آثار الله عز وجل.
إذاً: يمكن أن تؤمن بالله بعقلك، العقل أصل في الإيمان، أداة الإيمان هي العقل بالله خُلِقتْ في الإنسان، لتكون أداة للإيمان بالله.
إعمالُ العقل في الكون طريق إلى الإيمان بالله:
أيها الإخوة الكرام، هذه الدائرة الثانية.
الآن الكون هو الثابت الأول، وهو يدلك على الله، فإذا أعملت عقلك في الكون توصلت إلى أن هذا الكون لا بد له من إله عظيم، إله حكيم، إله قدير، إله غني، إله رحيم، إله لطيف، يمكن أن تؤمن بالله من خلال عقلك عن طريق الآثار التي تراها بعينيك، وتسمعها بصوت أذنيك.
3 – الغيبيّاتُ لا تُدرك إلا بالخبر الصحيح عن الله ورسولِه:
لكن الشيء إذا غابت عينه، وغابت عنك آثاره فلا الحواس الخمس يمكن أن تصل إليه، ولا العقل يمكن أن يصل إليه، وليس هناك إلا شيء واحد يصل إليه، إنه الخبر الصادق، لذلك أجمع العلماء على أن الإيمان باليوم الآخر يقين إخباري، لأن الله أخبرك.
التسلسل أنك إذا فكرت في خلق السماوات والأرض آمنت بالله خالقاً ومربياً ومسيراً، آمنت بصفاته الحسنى وصفاته الفضلى.
إذا قرأت القرآن، ورأيت وقوع الوعد والوعيد، ورأيت إعجازه العلمي توصلت بعقلك إلى أنه كلام الله، لوجودِ أدلة قاطعة على أنه كلامه، وأن هذا الذي جاء به هو رسوله، إذاً: يمكن أن تؤمن بالله بعقلك، وبكتابه بعقلك، وبرسوله بعقلك، وانتهى دور العقل، وجاء دور النقل، وأيّ شيء عجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به في النقل.
يمكن إذا دخلتَ جامعة أن تكتشف بعقلك الأذواق في بنائها، والمرافق الأساسية في بنائها، وأن تحكم على المهندس بالتفوق، وكأن المهندس طالب جامعي يعرف كل مشكلات الطلاب في الغرف الجامعية، في الحدائق، في المدرجات، في المخابر، فأنت بعقلك يمكن أن تستنبط آلاف الحقائق من خلال البناء والحدائق، والمدرجات والمخابر، والمكتبات، لكن لا يمكن أن تعرف بعقلك من هو عميد الجامعة، ولا من هم رؤساء الأقسام، ولا نظام القبول، ولا نظم النجاح والرسوب، إلا أن تقتني كتاباً عن الجامعة، هذا هو النقل.
الإيمان بالآخرة إيمان إخباري نقلي سمعي:
لذلك أيّ شيء عجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به، الإيمان بالآخرة إيمان إخباري نقلي سمعي أسماء لمسمى واحد سمعي إخباري نقلي، والإيمان بالله والإيمان برسوله وبقرآنه إيمان عقلي، والإيمان بالأشياء إيمان حسي، فعندك وإيمان حسي، وإيمان عقلي، وإيمان إخباري.
رأي ابن قيم الجوزية في الإيمان باليوم الآخر بالعقل:
إن للإنصاف أن نقول: إن الإمام الجليل ابن قيم الجوزية انفرد من بين العلماء، فقال: إن الإيمان باليوم الآخر إيمان عقلي، لأن هناك يومها سؤلا كبيرا، وفي الدنيا غني وفقير، قوي وضعيف، وسيم ودميم، عبقري ومحدود، والحظوظ موزعة في الدنيا توزيعا متفاوتا، فهل يعقل أن يستمتع الغني بالمال، ويأكل ما لذ وطاب، ويسكن أجمل البيوت، ويركب أغلى المركبات، ويسافر، ويختار أجمل زوجة، بينما الفقير محروم من لقمة الطعام، وتنتهي الحياة ؟!
إنسان قاد حرباً فأفنى بها خمسين مليونا، ومات، وتنتهي الحياة ؟! العقل لا يقبل ذلك، لا بد من تسوية الحسابات، لا بد من يوم تسوى فيه الحسابات، لا بد من يوم يدفع كل إنسان ثمن عمله، قال تعالى:
﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) ﴾
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) ﴾
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) ﴾
﴿لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ (17)﴾
﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ (70) ﴾
﴿وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)﴾
النقير هو رأس النواة المؤنّف كالإبرة الدقيق:
﴿وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)﴾
﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) ﴾
النقير هو خيط بين فلقتي النواة.
والفتيل هو غشاء رقيق يلفّ النواة، قال تعالى:
﴿فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)﴾
لذلك العقل لا يصدق يكون إنسان غني كبير، وإنسان فقير فقرا مدقعا، وتنتهي الحياة هكذا !!! إنسان جاء فملَك الدنيا كلها بين يديه، وإنسان لا يستطيع أن يسكن في غرفة، بل ينام في الطريق، وتنتهي الحياة، ولا شيء بعد الحياة !!! هذا الذي أكده ابن القيم رحمه الله تعالى.
أيها الإخوة الكرام، الإيمان بالآخرة إيمان إخباري عند معظم العلماء لأن الله أخبر عنه، أما عند ابن القيم فالإيمانُ بالآخرة عقلي.
بعض العلماء جاء بمثل لطيف: لو أن أناسا حضروا مسرحية، وفي أول الفصل وُجد إنسان مقتولا في المسرحية، وأرخي الستار، لا أحد يقوم، ما انتهت المسرحية، لا بد أن نرى النتائج، مَن القاتل ؟ ماذا فُعل به ؟ فلذلك الإنسان لا يقبل حدثا عنيفا بلا نتائج، بلا عقاب، بلا ثواب.
لابد من الجزاء الحسَن للمحسن والعقاب للمسيء:
أسماء الله الحسنى كلها محققة في الدنيا، إلا اسم العدل فمحقق جزئياً، فالله سبحانه وتعالى يكافئ بعض المحسنين تشجيعاً لبقية المحسنين، ويعاقب بعض المسيئين ردعاً لبقية المسيئين، ولكن الحساب النهائي والختامي يوم القيامة، قال تعالى:
﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (185) ﴾
لذلك ورد في بعض الآيات:
﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا (71) ﴾
وقال علماء التفسير: " ورود النار غير دخولها "، ورودها شيء، ودخولها شيء آخر، دخولها عقاب، أما ورودها فاطلاعٌ، لا يتأثر وارد النار بوهجها.
مرة ذهبت إلى معرض للثعابين في طهران، بيني وبين ثعبان طوله عشرين مترا تقريباً عشرة سنتمترات، لكن بيننا بلّور من ثمانية مليمترات، لذلك دققت في دقائق جسمه، وفي رأسه، وفي لسانه، وفي سمه لوجود الحاجز، لذلك قالوا: ورود النار لا يتأثر الوارد لها بوهجها، لكن لترى عدل الله في الآخرة، ترى هؤلاء الطغاة الذين تفننوا في إبادة البشر، تفننوا بإذلالهم، تفننوا بإفقارهم، بنوا مجدهم على أنقاضهم، ترى عدل الله التام، لذلك:
لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
أسماء الله الحسنى كلها محققة في الدنيا إلا اسم العدل فمحقق جزئياً، لذلك الدنيا ليست دار جزاء، هي دار ابتلاء فقط، والحظوظ موزعة في الدنيا توزيع ابتلاء.
الإنسان في الدنيا ممتَحَنٌ:
1 – الإنسان ممتَحَنٌ بالنِّعم:
أنت في الدنيا ممتحن، وعندك زمرتان من الامتحان: أول زمرة: النعم التي أعطاك الله إياها، فأنت ممتحن بها، أعطاك صحة، مالا، زوجة، أولادا، ممتحن بهذه.
2 – الإنسان ممتَحَنٌ بالمنع والحرمان:
أنت ممتحنٌ إذا لم يسمح الله لك بدخل غير محدود، دخلك محدود، حرمك الدخل المطلق، حرمك الغنى، حرمك الوسامة، هناك إنسان وسيم جداً، وإنسان أقلّ وسامة، وإنسان غير وسيم فلذلك أنت ممتحن بما أعطاك ممتحن بما زوي عنك، ومن أجمل
الأدعية: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ:
(( اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِي حُبُّهُ عِنْدَكَ، اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ ))
يا رب هذا الذي كنت أحبه، وقد أكرمتني به فاجعله عونا لي على طاعتك، وما زويت عني ممّا أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب.
أنت تشكر الله مرتين: مرة على ما أعطاك، ومرة على ما زوى عنك، وأنت في كلا المرتين مثاب عند الله عز وجل.
الحظوظ في الدنيا موزعة توزيع ابتلاء و في الآخرة توزيع جزاء:
أيها الإخوة الكرام، الحظوظ في الدنيا موزعة، هناك غني وفقير، قوي وضعيف، إنسان يستطيع أن يحجز حرية الآلاف، وبلا سبب، وإنسان لا يقدر على ابنه، هناك قوي وضعيف، غني وفقير، هناك امرأة جميلة جداً، وامرأة دميمة جداً، الدميمة لها حق عند الله، حق كبير، لولا الآخرة لنشأ مليون سؤال لا جواب له، هذه الدميمة ما ذنبها ؟ والله قد تكون أسعد امرأة في الآخرة، صبرت، واستقامت، وحفظت نفسها.
أحيانا تأتي امرأة من عشرة آلاف كيلو متر تخدم في البيت من شدة الفقر، تركت زوجها وأولادها من أجل مبلغ يسير تأخذه لتطعم زوجها وأولادها، وهي مستقيمة، وتصلي، وتصوم، ومحجبة، هذه ما لها شيء عند الله عز وجل ؟!! قلامة ظفر هذه الخادمة افضل من آلاف النساء، والخادمة التي عندك قد تكون أسعد من أي امرأة من علية القوم، وفي الآخرة تسوّى الحسابات.
(( كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ ))
فالحظوظ موزعة في الدنيا توزيع ابتلاء، وسوف توزع في الآخرة توزيع جزاء، قال تعالى:
﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ (21) ﴾
هل رئيس غرفة تجارة كبائع متجول ؟ كلاهما تاجر، هل هذا كذاك ؟
هل أستاذ جامعي كأستاذ في قرية كمعلم ابتدائي ؟ هناك فرق في المكانة والدخل والأدوات.
هل طبيب قلب جرّاح كممرض ؟ مستحيل.
هل رئيس أركان كجندي غر في خندق في الخطوط الأمامية في الشتاء ؟ هل هذا كذاك ؟
﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)﴾
حظوظ الدنيا لا معنى لها، وقد تعني العكس، قال تعالى:
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً (44) ﴾
أما حظوظ الآخرة فأبدية، ومراتب الآخرة أبدية، وتعني كل شيء، والبطولة أن يكون لك في الآخرة مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأكبر خسارة تصيب الإنسان أن يخسر الآخرة.
الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء:
أيها الإخوة الكرام، الدنيا دار ابتلاء، وليست دار جزاء، وهذه حقيقة مهمة، وعندما تعقل هذه الحقيقة لا تتألم إطلاقاً، قد يكون هذا المبتلى الفقير قلامة ظفره تساوي أكبر قوي في الأرض، وهناك أقوياء في الأرض وأناس يحكمون القارات الخمس، يهددون، ويحاصرون، ويتوعدون، ويتهمون بالإرهاب من يريدون، كلمتهم مسموعة، وأمرهم نافذ، وقد يأتي إنسان خادم مستقيم لو كشف الغطاء لظهر أن هذا الخادم أسعد أهل الأرض عند الله، لذلك:
﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) ﴾
الذي كان في القمة قد يصبح في الحضيض، والذي كان في الحضيض قد يصبح في القمة، هذا الإيمان بالآخرة.
أيها الإخوة الكرام، الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، الدنيا دار تكليف، والآخرة دار تشريف.
التقييم الحقيقي للأعمال بمعايير الآخرة لا بمعايير الدنيا:
أنا أنصح إخوتي: لا تقيّم شيئاً في الدنيا إلا أن تضمّ له الآخرة، مطعم متواضع جداً، صاحبه مستقيم، كل الأشياء تباع فيه شرعية، مطعم من خمس نجوم تباع فيه الخمور، والأماكن إضاءتها خافتة، لأيّ واحد أحب أن يجلس جلسة طويلة مع فتاة لا تحل له، يبقى ساعات يأكل، وكل الظروف ميسرة له، مطعم دخله في اليوم مليون ليرة، ضمّ الآخرة إلى المطعمين تجد المطعم المتواضع الصغير الذي يبيع بضاعة وطعاما حلالا مئة بالمئة أفضل ألف مرة من ذلك المطعم، حتى المناصب، ضمّ المنصب إلى النتائج.
أحيانا أعمال أساسها ابتزاز أموال الناس، أعمال أساسها إلقاء الرعب في قلوب الناس، يجب أن تقيّم العمل والشيء والمادة مع إضافة الآخرة إليها، هذه البطولة، لذلك امرأة بارعة الجمال دعت سيدنا يوسف، بالمقاييس الحسية إن لم يُقدِم فهو أحمق، بمقاييس الآخرة:
﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ (23) ﴾
أيها الإخوة الكرام، حينما تؤمن بالآخرة لا بد من أن تنعكس مقاييسك مئة بالمئة، إن لم تنعكس فالإيمان بالآخرة مشكوك فيه، لأنه من يؤمن بالآخرة سعادته بالعطاء لا بالأخذ، والذي آمن بالدنيا سعادته في الأخذ لا في العطاء.
أيها الإخوة الكرام، لعل هذا الموضوع يحتاج إلى درس آخر، وإن شاء الله نتابع هذا الدرس غداً.