- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (010) سورة يونس
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
الرسالة التي أنزلها الله على النبي موعظة وشفاء لما في الصدور :
أيها الأخوة الكرام ؛ الآية السابعة والخمسون من سورة يونس ، وهي قوله تعالى :
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)﴾
موعظة ، وشفاء ، وهدى ، ورحمة ، الله عز وجل وصف هذه الرسالة التي أنزلها على النبي صلى الله عليه وسلم بأنها موعظة وشفاء لما في الصدور ، وهدى لعقل الإنسان ، ورحمة لنفسه . موطن الشاهد :﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)﴾
هذا مقياس دقيق جداً ، اسأل نفسك دائماً ما الذي يفرحك ؟ ما الذي يدخل على قلبك السرور ؟ الله عز وجل ينتظر من المؤمن أن يفرح بالهدى ، أن يفرح برحمة الله ، أن يفرح بموعظة بليغة اتعظ بها ، أن يفرح بشفاء لما في صدره من أمراض ، فإذا اعظ بموعظةٍ وشفي صدره من كل حقدٍ ، أو حسٍد ، أو كبرٍ ، أو عجبٍ ، أو أنانيةٍ ، أو انحرافٍ ، أو استعلاءٍ ، هي الأمراض المهلكة ، الأمراض التي تؤدي بصاحبها إلى النار .فالإنسان إذا اتعظ بموعظةٍ ربانية ، وشفي صدره من كل مرض نفسي ، واستنار عقله ثم انغمس في سعادةٍ ، سيتمتع بأربعة أشياء ، جاءته موعظةٌ فاتعظ ، وكان القرآن له شفاءً فشفي به ، واستنار عقله ، ثم انغمس في رحمة الله .
فرح الدنيا مؤقت وفرح الآخرة دائم :
الله عز وجل قال :
﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾
يجوز إنسان يكون له أرض مهملة ، يرسمون إلى جانبها شارعاً ، يقال لك : تضاعفت مئة ضعف ، يقول لك : أنا لا أعطي فرحتي لأحد ، أنا أرقص من الفرح ، أو أنه تمكن أن يصل إلى وكالة حصرية ، بضاعة مطلوبة ، وهو الوكيل حصراً ، أو ممكن أن يشتري بيتاً يصير ثمنه أربعين مليوناً ، كان ثمنه مئتي ألف ، أو أنه تزوج امرأة غنية أخذ كل المال ، مثلاً ، أنا أعطي نماذج من فرح الإنسان .الله عز وجل يقول :
﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾
يمكن أن يأتيك ابن يصير وزيراً ، ابن يصير أكبر طبيب قلب بالقطر ، تقول : هذا ابني ، أنت فرح فيه ، فرح بابنك ، فرح بابنتك ، فرح بصهرك ، فرح ببيتك الواسع ، فرح بتجارتك العريضة ، لكن ربنا عز وجل في هذه الآية ينتظر من عبده المؤمن لا أن يفرح بالدنيا لأنها منقطعة ، لأنها زائلة ، لأنها تنتهي بالموت ، لأن الموت ينهيها ، ينتظر من عبده المؤمن أن يفرح بالآخرة ، يفرح أن يتعظ ، أن يشفى من كل مرض ، أن يستنير عقله ، أن يرحمه الله بسعادةٍ لا توصف . قال :﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾
لذلك خذ القاعدة : قل لي ما يفرحك أقل لك من أنت ، ما الذي يفرحك ؟ أن تأخذ أم أن تعطي ؟ أن تحسن أم أن تسيء ؟ أن يقدر الله على يدك عملاً صالحاً أم أن يعطيك مالاً وفيراً ؟ ما الذي يفرحك مجلس علم أم مجالس طرب وكيف ؟ تجلس ببيتك مع أهلك وأولادك آخذ راحتك ، مزح ، ضحك ، تتابع برامج لا ترضي الله عز وجل ، عندما تقعد ببيت من بيوت الله ، تتعلم كتاب الله ، ما الذي يفرحك ؟ قل لي ماذا يفرحك أقل لك من أنت ، لكن الله ينتظر منك أن تفرح بفضله ، أن تفرح بعملٍ صالح ، أن تفرح بفهمك لكتاب الله ، أن تفرح بخدمة الخلق، أن تفرح أن توفق لهداية الناس ، الله ينتظر منك أن تفرح بعمل يعود عليك خيره بالآخرة ، هناك أعمال في الدنيا ضخمة ، لكن كل خيرها يعود بالدنيا ، انظر هذه المستشفى كلها لي ، خير إن شاء الله ، ستمئة ألف كل يوم ، لكنها تنتهي بالموت ، تصبح ليست لك .على المؤمن أن يفرح بعمل يعود خيره عليه في الآخرة لا في الدنيا :
الله عز وجل ينتظر من عبده المؤمن أن يفرح بعمل يعود خيره عليه في الآخرة لا في الدنيا ، لأن الدنيا يعطيها لمن يحب ولمن لا يحب ، المال أعطاه لقارون ولا يحبه ، كنوز قارون لا يستطيع عصبة من الرجال أن يحملوا مفاتيحه .﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) ﴾
الآن إذا عندي صندوق من الحديد كم وزن مفتاحه ؟ حوالي مئة غرام ، هذا الصندوق نضع به خمسة ملايين ، أما إذا كان ذهباً فأكثر ، وإذا كان دولارات كل دولار بخمسين ليرة ، نضع فيه مئة مليون دولار ، ما وزن المفتاح ؟ مئة غرام .﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) ﴾
وهو لا يحبه ، أعطى المال لسيدنا ابن عوف وهو يحبه ، قال : ماذا افعل إن كنت أنفق مئة في الصباح فيأتي الله ألفاً في المساء ؟ سمع أن هناك من يقول : والله لتدخلن الجنة حبواً ، قال : والله لأدخلنها خبباً ، سيدنا عثمان ألف ناقة محملة ، والله لا أبالغ في مقياس اليوم ألف شاحنة ، ألف شاحنة ! أحياناً تركب لحلب تجد مجموعة شاحنات ، حسب النظام الجديد ( كنفير ) تمل منهم ، أخي كم واحدة ؟ حوالي مئة شاحنة ، تمشي تمشي تمشي ولا ينتهون ، ألف ناقة محملة بالبضائع ، سيدنا عثمان قال : هي لله ، لله كلها .﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾
﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾
إن فرحت ببيت هذا بيت مؤقت ، اقرأ النعوات ، وسيشيع إلى مثواه الأخير .مرة دخلت إلى عزاء شخص ، كان بيته يأخذ العقل ، أين صاحبه ؟ باب صغير ، معناه بيت مؤقت ، مثواه الأخير ، بستان يترك ، زوجة تترك ، مال يترك ، مكتب يترك .
﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾
افرح إذا عرفت الله ، افرح إذا فهمت كلام الله ، افرح إذا جوارحك منضبطة بالشرع ، افرح إذا غضضت بصرك ، افرح إذا صنت أذنك عن الحرام ، افرح إذا يدك بالخير ، افرح إذا أجمل مكان عندك هو الجامع ، افرح إذا كنت طالب علم ، افرح إذا كنت على شيء من العلم ، افرح إذا عقلك مستنير ، افرح إذا كان عملك مستقيماً ، افرح إذا كان بيتك مسلماً ، افرح إذا كان لك زوجة محجبة ، صالحة ، حافظة لكتاب الله ، افرح إذا عندك بنت مستورة زوجت من شاب مؤمن ، هذه فرحة فعلاً ، أما إذا فرحت بالدنيا فالدنيا زائلة .الإنسان إما أن يجمع للدنيا أو أن يعمل للآخرة :
لذلك ملخص درسنا اليوم : قل لي ما الذي يفرحك أقل لك من أنت ، الله عز وجل يقول :
﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾
افرح بهذا ، لو فرضنا تقريباً : إذا أب عنده ابن بالثالث الثانوي ، وكل طموحه أن يكون طبيباً ، قال لأبيه : لعبت ثلاث مرات بالطاولة وفي المرات الثلاثة فزت على رفيقي ، ما قولك بابا ؟ يا ترى إذا جمع مئتين وخمس وعشرين درجة دخل فيهن كلية الطب أليس هذا أفضل ؟ أهله سيفرحون بالعلامات طبعاً وليس بلعب الطاولة .النقطة الدقيقة قال :
﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58(﴾
الإنسان عندما يتجاوز رزقه ، أكله مؤمّن ، بيته مرتب ، بناته مرتبات ، كل شيء مرتب ، ينشأ عنده رغبة جامحة للجمع ، هذا أخي بيته بثلاثمئة مليون ، وهذا بمئتين ، وهذا بمئة ، عندما تؤمّن بيتك ، وسيارتك ، وأولادك ، ودخلك ، لا يوجد عندك أية مشكلة ، يصبح عندك رغبة جامحة للجمع ، الله عبر عنها تعبيراً دقيقاً ، ما قال : مما يكسبون ، مما يرزقون ، لا !! مما يجمعون ، هناك حد للمال ، خط أحمر ، دونه المال بخدمتك ، من فوق الخط الأحمر أنت بخدمته ، خادم له ، لذلك ورد في الحديث القدسي :(( عبدي خلقت لك السماوات والأرض ولم أعيَ بخلقهن ، أفيعييني رغيف أسوقه لك كل حين، عبدي لي عليك فريضة ، ولك علي رزق ، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك، وعزتي وجلالي ، إن لم ترضَ بما قسمته لك فلأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية ، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي ، وكنت عندي مذموماً، أنت تريد ، وأنا أريد ، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد ))
وهو خير مما يجمعون ، فالموازنة الآن ، الإنسان عندما يؤمن بيته ، سيارته ، أولاده، زوجته ، وتجارته ، بقي عنده شيئان ، إما أن يجمع للدنيا ، وإما أن يعمل للآخرة ، من دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة ، من بعد الأربعين ، لا يليق بالإنسان أن يعمل للدنيا ، اعمل للآخرة ، هذا وقت خطير ، وأنت محاسب على الدقيقة ، على اليوم ، على الساعة .لذلك أيها الأخوة الآية دقيقة جداً :
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾
موعظة ،﴿وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى﴾
هدى لعقولكم ،﴿وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)﴾
شاب قال له رفيقه : إلى أين أنت ذاهب ؟ قال له : أنا ذاهب لأشرب على روح أبي، يسكر على روح أبيه ، الإنسان عندما يخلف مالاً لأولاده ، لا يعلمهم ، ينفقون هذا المال في معصية الله ، ترفرف روحه فوق النعش تقول : يا أهلي يا ولدي ، لا تلعبن بكم الدنيا كم لعبت بي ، جمعت المال مما حلّ وحرم ، فأنفقته في حله وفي غير حله ، فالهناء لكم والتبعة عليّ .