- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (011) سورة هود
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
من علامات تخلف المجتمعات أن يقيّم المرء بالمقاييس المادية فقط :
أيها الأخوة الكرام ؛ في سورة هود ، القصة الأولى قصة سيدنا هود عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام :
﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ)27(﴾
أنظر أيها الأخ الكريم إلى مقياس أهل الدنيا ، معنى كلمة أراذلنا ، أي فقراؤنا ، الآن كلمة أراذل لها معنى آخر ، لكن الرذيل في أصل اللغة هو الفقير ، مقاييس البشر البعيدين عن الله عز وجل مقاييس مادية ، وقد أشار إلى هذا الإمام علي كرم الله وجه ، فقال : في آخر الزمان قيمة المرء متاعه .مكانتك من موقع بيتك ، من مساحة بيتك ، من أثاث بيتك ، من مركبتك ، من دخلك، من حجمك المالي ، ولو كان أسقط الناس ، والفقير لا يعبأ به أحد ولو كان أكرم الناس .
هذا من علامات آخر الزمان ، من علامات تخلف المجتمعات أن يقيّم المرء بالمقاييس المادية فقط ، ويبدو أن هذا شأن الكافر في كل زمان .
﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ(27)﴾
أي التفكير المحدود ، نحن متعمقون ، نحن أصحاب فلسفات عميقة ، نحن أصحاب ثقافات عريقة ، نحن أهل المجد ، نحن علية القوم ، من هؤلاء الذين اتبعوك ؟ هم فقراء من عامة الناس ، من سوقتهم .﴿ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) ﴾
اسمعوا الجواب ، قال : يا قوم ، هذا الجواب من الآيات النادرة قال :﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) ﴾
أنا أعرف لماذا خلقت ، ولماذا أنا في الدنيا ، وماذا بعد الموت ، وما الجنة ، وما النار ، والله سبحانه وتعالى ، أسماؤه الحسنى ، صفاته الفضلى ، أنبياؤه ، رسله ، معي دليل ، دليل عقلي ، ودليل نقلي ، ودليل فطري ، ودليل واقعي ، والأمور واضحة تماماً كالشمس ، إنني أرى الحقيقة كما أراكم .﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) ﴾
بعد أن اهتديت .﴿وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ﴾
أنا من السعداء ، سعيد بمعرفة الله ، سعيد بالإقبال عليه ، سعيد بالتوكل عليه ، سعيد بالتفويض له ، سعيد بالعمل له ، سعيد بالإخلاص له ، سعيد بالإنابة إليه ، قلبي يأتيه من الله التجليات .﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) ﴾
إذا شخص لم يذق العسل في حياته ، لو أقسم بالله أيماناً مغلظة أن أطيب شيء أكله هو الدبس هو صادق ، لأنه لم يذق العسل بعد ، هذا العسل عميّ عليه ، ما رآه .﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) ﴾
أنا معي أدلة ، أنا معي رؤية صحيحة ، معي فهم عميق ، معي تصور دقيق ، معي عقيدة صحيحة ، أنا أعرف أين كنت ، ولماذا أنا هنا ، وماذا بعد الموت ، أنا لي منهج أسير عليه ، أنا عندي منظومة قيم ، عندي مجموعة أوامر ، عندي منهج ، عندي دستور .﴿إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ﴾
هذا الجانب الفكري .﴿وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ﴾
أنا سعيد جداً ، سعيد بالتوحيد ، سعيد بفضل الله ، سعيد بمعرفته ، سعيد بالإقبال عليه ، سعيد بالتوكل عليه ، سعيد بالإنابة له .﴿وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾
أحياناً الإنسان يجد محلاً صغيراً ، متر بمتر ، وقديم ، متداع ، متهالك ، قد يكون غلته باليوم مئة ألف، لكن هذا الذي نظر للمحل ، بشكله المتواضع ، وحجمه الصغير ، ما نظر للغلة اليومية الخاصة به ، لماذا فلان متمسك بهذا المحل ؟ إذا كنت تعرف الغلة الخاصة به تقعد أنت فيه ، تقريباً من باب التقريب .المؤمن موصول بالله ومطمئن برحمته :
المؤمن موصول بالله ، المؤمن مقبل عليه ، المؤمن مطمئن برحمته ، مطمئن لعدالته، لا يوجد عنده تشرذم ، لا يوجد عنده تبعثر ، لا يوجد عنده ضياع ، لا يوجد عنده خوف، لا يوجد عنده قلق ، لا يوجد عنده نفاق ، لا يوجد عنده تملك ، هذه أمراض الكفار ، كلها بريء منها ، القلق ، القهر ، هذا كله لا يصيب المؤمن ، هذه رحمة من الله .﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ﴾
صادق ، لا تأخذه في لله لومة لائم ، لا يوجد عنده استعداد أن يتكلم خلاف الحقيقة ، على الله رزقي ، الله هو خلقني وكرمني ، والله عز وجل ما كلفني أن أكذب من أجل الرزق ، تجد الطرف الثاني يكذب ويحلف أيماناً ، ويتمسح بالأغنياء ، ويتضعضع أمامهم ، يتذلل ، ويتمسكن ، مقهور، مرفوض ، شاق ، بشاق حياته ، لأن القاعدة :﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)124) ﴾
إذا الآية هذه لا تنطبق على أي إنسان في الأرض يكون هذا الكلام ليس كلام الله عز وجل ، قال لك :﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)﴾
إذا وجدت إنساناً سعيداً في البعد عن الله يكون هذا الكلام ليس كلام الله ، إله يتكلم.هناك شخص سئل قال : ما بال الأغنياء والملوك عندهم كل شيء ، ما عندهم مشكلة بحياتهم ؟ فأجاب المفسرون : ضيق القلب ، المعيشة الضنك للغني هي ضيق القلب ، يقول لك : متضايق ، مالل ، سوف أخرج من جلدي ، معك مئات الملايين ، ضيق القلب لا يوجد سعادة .
أحياناً شخص ببيت صغير مع زوجة وأولاد يتجلى الله عليه تجده أسعد الناس على زيتونة وكأس شاي أسعد الناس ، فربنا عز وجل إذا تجلى على إنسان بالرحمة ، يسعد بها ولو فقد كل شيء ، وإذا حرمه من رحمته يشقى بالدنيا ولو ملك كل شيء ، لو ملك كل شيء يشقى بالدنيا ، و لو حرم كل شيء يسعد بالدنيا ، برحمة الله . قال :
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) ﴾
هذه الرحمة التي عميت عليكم ، لا تأتي بإلزام ، ولا بإكراه ، هذه تطلب ولا تعطى ، كيف ؟ أي تؤخذ ولا تعطى ، يختارها الإنسان ولا يلزم بها ، لقوله تعالى :﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) ﴾
كلام دقيق .﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)﴾
السعيد من كشف رحمة الله واستقام على أمره :
لذلك من هو السعيد ؟ الذي كشف رحمة الله ، وممكن أن يعيش بين أناس لا يعرفونها ، ينكرون عليه ، يقول لك : لم يرَ شيئاً من الدنيا إلا الله الله ، ومن بيته للجامع ، إنك لم تر الملاهي ، ولا الحفلات المخملية مثلاً ، ولا السهرات الجميلة .
لذلك المؤمن أسعد الناس ، والله أقول لكم : إذا ما قلت بكل جوارحك ، بكل خلايا جسمك ، بكل قطرات دمك : أنا أسعد الناس ، يكون بالإيمان شك ، إذاً الإيمان مسعد ، أنت مع الله ولو كنت فقيراً ، أنت مع الله ولو كنت مريضاً ، لأن ربنا عز وجل إذا أعطى أدهش ، إذا أعطاك من رحمته تجلى عليك ، شعرت أنك إنسان آخر . فالسعادة بمقياسها المادية سخيفة جداً، مملة ، لكن السعادة برحمة الله لا توصف .
لذلك قال يوم القيامة المؤمن يسمح له أن يرى وجه الله عز وجل فيغيب خمسين ألف عام من نشوة النظرة . فيا أيها الأخوة الكرام ، علينا برحمة الله ، الله عز وجل قال :
﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) ﴾
إذا معه ثلاثة آلاف مليون ، ثم جاءه ملك الموت ! وليس له عمل صالح ، هذا فقير، ضعوا في أذهانكم هذه الكلمة لسيدنا علي رضي الله عنه : الغنى والفقر متى ؟ قال : بعد العرض على الله .الآن لا يسمى الغني غنياً ولا الفقير فقيراً ، الغنى والفقر بعد العرض على الله ، بعد الموت والحساب ، من دخل الجنة فهو الغني ومن دخل النار فهو الفقير ، يقول لك : عرس كلف عشرين مليوناً بالشيراتون ، فرقة رقص بخمسين ألف دولار جاءت من هولندا ، والزهور من المكان الفلاني ، والألبسة من المحل الفلاني ، هذا كلام لا قيمة له إطلاقاً ، ليست هذه رحمة الله، وهي في العرس قال لها : طالق طالق ، طالق لأنه انضغط بشكل لا يوصف .
لأن الكفار البعيدين عن الله إذا أمسكوا المال ، أمسكوا بخلاً وتقتيراً ، وإذا أنفقوه أنفقوه إسرافاً وتبذيرا ، تجد زواجاً واحداً كلف عشرين مليوناً ، ويوجد عشرون ألف شاب يكفيهم مئتين ألف ليتزوجوا ، لا ينفقوا . لذلك هدفنا رحمة الله .
﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) ﴾
رحمة الله تحتاج إلى صلاة ، تحتاج إلى استقامة ، إلى عمل صالح ، إلى بذل ، إلى إنفاق .﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) ﴾