- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (013) سورة الرعد
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه ، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
الله وحده الذي يبسط الرِّزْق ويمْنعهُ :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ الآية السادسة والعشرون من سورة الرعد ، وهي قوله تعالى :﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)﴾
لو أنَّ الله تعالى قال : يبسط الله الرزق لِمَن يشاء ويقدِر ، هذا الكلام يعني أنَّ الرزق من عند الله ومن عند غيرِهِ ، أما حينما قال الله عز وجل :﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)﴾
تَقْديم لفْظ الجلالة يُفيد القَصْر والحَصْر ، فالله وحده الذي يبسط الرِّزْق ويمْنعهُ ، والإنسان يوجد عنده في حياتِهِ شيئان خطيران ؛ حياتُهُ ورِزْقُه ، فحياتُكَ بِيَدِهِ وموتك بِيَدِهِ ، ورِزْقُكَ بِيَدِهِ كثرةً وقِلَّةً ، فماذا بَقِيَ للبشر ؟ إذا أيْقَنْتَ أنّ حياتَكَ بِيَدِهِ ، وأنَّ الرزق بِيَدِهِ ، وأنَّ كلمة الحق لا تقطع رزقاً , ولا تقطع أجلاً , الله عز وجل يبسط الرزق لِمَن يشاء ، لكن مشيئة الله عز وجل مُتَعَلِّقَة بالحِكْمة المُطْلقَة ؛ فهُوَ تعالى يبْسُطُ الرِّزق لِمَن يستقيم على شرْعِهِ قال تعالى :﴿وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا(16)﴾
وقال تعالى :﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(96)﴾
وقال تعالى :﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ(66)﴾
فهذه الآية :﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)﴾
هذه آية مُجْمَلَة ومُفَصَّلة بآياتٍ كثيرة .الاسْتِقامة والأمانة تزيدان في الرِّزق :
ثم قال تعالى :
﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)132)﴾
معنى ذلك أنَّ البيت المُسلِم الذي تُقامُ فيه الصلاة ، ويأمر الأب أهله بالصلاة ، هذا البيت مَرْزوق ، فهذا عامِلٌ للرِّزق .عامِلٌ آخر ؛
(( الأمانة غِنًى . . .))
فالأمين غَنِيّ ، ومعه أكبر رأس مال ، وهو الثِّقَة به ، والناس يتهافتون عليه ، فالاسْتِقامة والأمانة تزيدان في الرِّزق ، يقول عليه الصلاة والسلام :(( صلة الرحم تزيد في الرزق وتبارك في الرزق))
فالذي له أخوات إناث أو ذُكور ، أولاد أخ أو أخت , تفقَّدَهم وأعانهم ؛ فهذا إنسان مَرْزوق ، قال تعالى :﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10)يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(11)وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا(12)﴾
معنى ذلك أنّ هذا الذي يسْتغفِر ، ويتوب ، ويُحاسِب نفسه ، ويُصلي ، ويقرأ القرآن ، هذا يجْلب الرِّزق ،(( اسْتمطِروا الرزق بالصدقة . . .))
فالذي يتصَدَّق يجْلب لِنَفْسِه الرِّزْق ، إذًا الاستقامة والأمانة والصدقة وصلة الرحم هذه كُلُّها تزيد الرزق .المعْصِيَة تقْطع الرِّزق :
حينما يقول الله : " الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر . ." مشيئتُهُ وِفْق حِكْمةٍ مُطْلَقة؛ فالمُستقيم يرْزقُهُ الله ، وفي الأثر :
(( قد يُحْرَمُ المرء بعض الرِّزْق بالمَعْصِيَة ! ))
فالمَحَلاَّت إذا صارَتْ أماكن الغَزَل والمُحادَثَة ومعْصِيَة الله ، فهذا المحلّ يُمْحَق الرِّزْق فيه .المعْصِيَة تقْطع الرِّزق ، والاسْتِقامة تجْلبُهُ ، صلةُ الرحم تجْلبهُ ، وقطيعة الرحم تقطع، وكذا الأمانة والخِيانة ؛ وأحيانًا إتْقان العَمَل يجْلب الرِّزق ، قال النبي صلى الله عليه وسلم :
(( إنَّ الله يحب من العبد إذا عمل عملاً أن يتقنَهُ . . ))
لكنَّ الله تعالى يعلم ما تخفي الأنفس ، فهناك من يسْتقيم في الضيق ، ويفلت في الرخاء ، هؤلاء بِعِلْم الله يُعطيهِم رِزْقاً مَحْدوداً ، والدليل قوله تعالى :﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ(27)﴾
فالرِّزق في بعض عواملِهِ مُتَعَلِّق بِحِكمة الله ؛ إنّ من عبادي من لا يصلحُ له إلا الغِنى فإذا أفْقَرْتُهُ أفْسَدْتُ عليه دينَهُ ، وإنَّ مِن عِبادي مَن لا يصلحُ له إلا الفقْر فإذا أغنَيْتُهُ أفْسَدْتُ عليه دينهُ.نُلَخِّص الموضوع ؛ الاستِقامة والاستِغفار والأمانة وصلة الرحم والصلاة هي عوامل زِيادة الرِّزق ، وحينما تتوفَّر كل هذه الحالات ويبقى الرِّزق مَحْدودًا فهُناك حِكْمَةٌ لو كُشِفَ الغِطاء لاخْتَرتم الواقِع ، قال تعالى :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ(101)﴾
وليس بالإمكان أبدعُ مِمَّا كان ، فالله تعالى يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر.منع الله ليس حرماناً :
لكن هناك ناحِيَة مهمَّة جدًا ؛ قال تعالى :
﴿فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي(15)وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي(16)كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ(17)﴾
ماذا تعني كلَّا ؟! هي ليْسَت حرف نَفْي ، إنمَّا حرف رَدْع ، فلو قلتُ لك : هل أنت جائع ؟ تقول لي : لا ، ولكن إن قلتُ لك : هل أنت سارق ؟ فتقول لي : كلَّا ، ترْدَعُني ، فالله عز وجل يقول لنا ردْعًا : ليس عطائي لكم إكرامًا , وليس مَنْعي لكم حِرْمانًا , عطائي ابتِلاء وحِرْماني دواء ، فإذا كان الرزق قليلاً لا تشْعر أنَّك مُهان , هذا غلَط ، فلو أنّ الأب كان رحيماً ومنَعَ ابنه مِن تناوُل أكلةٍ يُحِبُّها مِن أجل أنَّه مريض فهل هذه إهانَة للابن ؟! لا ، فالله تعالى يَحمي عبدَهُ المؤمن من الدنيا كما يَحمي أحدكم مريضه من الطعام ، والله تعالى إذا أكرم الإنسان فهذا ليس إكراماً بل ابتِلاء ، ثمّ قال تعالى :﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي(16)كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ(17)﴾
وليس كذلك هذا مَنعًا.المال حيادي :
آخر نقطة بالدرس ؛ الله تعالى أعْطاكَ مالاً فهل يُسَمَّى هذا المال نِعْمَةً ؟ الجواب : لا يُسَمَّى هذا المال نِعْمةً ولا نِقْمة ، فهُوَ حِيادي ، هو ابْتِلاء ، فإذا أنْفَقْتَهُ في طاعة الله انْقَلَبَ إلى نِعْمة ، وإذا أنْفَقْتَهُ في مَعْصِيَة الله انْقَلَبَ إلى نِقْمة ، فَعَطاء الله ابْتِلاء وليس إكراماً ، لكن بعد أن يُعْطِيَكَ المال أو الصِحَّة أو الجمال وتُوَظِّفُ هذا في طاعة الله تنقلبُ هذه النِّعَم إلى إكرام ، وكذا لو حرَمَ الله عبدهُ من الدنيا ، وكان هذا سبَباً لإقبال العبد على طاعة الله ، هذا الحِرْمان ينقلب إلى عَطاء ، فَرُبَّما كان المَنْعُ عَيْن العَطاء ، وربَّما كان العطاء عَين الحرمان ، فهذا المعنى يرفع معنوِيَّات المؤمنين ، فإذا أراد الله أن يجعلَكَ ذا دَخْلٍ مَحدود فهذه حكمة ما بعدها حِكْمة ، ولو كُشِفَ الغِطاء لاخْتَرْتُم الواقِع .
الآخرة هي الحياة الحقيقيَّة :
أيها الأخوة ؛ يقول سيدنا علي رضي الله عنه :" الغِنى والفقْر بعد العَرْض على الله، ولا يُسَمَّى الغنِيّ غنياً ولا الفقير فقيراً ، إنَّما الغِنى الحقيقي بعد العَرْض على الله " ، قال تعالى:
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(185)﴾
قال تعالى :﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاع(26)﴾
ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يأخذ المخيط إذا غُمِسَ في مياه البحر , والمؤمن ينتقل من ضيق الدنيا إلى سَعَة الآخرة كما ينتقل الجنين من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا ، لذلك الآخرة هي الحياة الحقيقيَّة ، قال تعالى :﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى(23)يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24)فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ(25)وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾
كلمة الحق لا تقطع رِزْقًا ، ولا تُقرِّب أجلاً ، وهذا هو التوحيد ، والضامِن هو الله تعالى ، قال تعالى :﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(123)﴾
الأمر مُعَرَّف بأل وهذا للاسْتِغراق ، ولا طاعة لِمَخلوق في معْصِيَة الخالق .تلخيص لما سبق :
الذي أراد أن يزيد رِزْقهُ عليه بالاسْتِغفار والاستِقامة والأمانة والصلاة والإتْقان وهي عوامل زيادة الرزق ، فإذا اجْتَمَعَت هذه العوامل ولم يرزق فهناك حكمة ما بعدها حكمة ولو كُشف لك الغطاء لَذُبْت كما تذوب الشَّمْعة ، لذلك قال تعالى :
﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(10)﴾
فلو ضربك إنسان من أجل مَصْلحَتِك لرُبِّما كان هناك عقرَب فأبْعَدَك عُنْفاً كي لا يلْدَغَكَ فهل تغضب منه ؟! لا ، بل تشْكرهُ ، قال تعالى :﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(216)﴾