- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (013) سورة الرعد
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه ، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
الطرد من رحمة الله أكبر عِقابٍ يُعاقَب به الإنسان :
أيها الأخوة المؤمنون ، الآية الخامسة والعشرون من سورة الرعد ، وهي قوله تعالى :
﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)﴾
اللَّعْنُ هو الإبْعاد ، أكبر عِقابٍ يُعاقَب به الإنسان أن يطْردَهُ من رحْمتِه تعالى ، فَمَعنى أن يلْعَنَهُ أيْ يطْرُدَهُ فاللَّعْنُ هو الطَّرْد .قد يُعْطيك الله المال كما تشاء ، ويُعطيك القوَّة كما يشاء ، والجمال والذَّكاء والشَّأن ، ولكنْ يطردك من رحمتِهِ ، يا رب ! ماذا فَقَدَ مَن وَجَدَك ؟ وماذا وَجَدَ مَن فقَدَك ؟ والمصير : لهم سوء الدار ، ماذا يَفْعَلُ هؤلاء ؟ قال : ينقضون عهْد الله من بعد ميثاقِه .
أحدهم قال لِصَديقِهِ وكان تاجِر عَمار : هل عندَكَ بيت ؟ فقال له : أنا لا أُؤجِّر ولكن أبيع ، فهذا الطالب قال له : والله إن أرَدْتَ البيت أُسَلِّمُهُ لك بعد أربعٍ وعِشرين ساعة ، وبعد إلْحاحٍ سلَّمَ هذا الأخ البيت - القِصَّة قديمة - سكَنَ هذا فيه ثماني سَنَوات ، فجاء زبون بِثَمانمئة ألف ؛ فدَقَّ بابهُ وقال له : أنت وَعَدْتني أنَ تخرج بعد أرْبَعٍ وعشرين ساعة ، وأنا أعْطيك ستَّة أشْهر ، فقال هذا الأخ : أنا قلتُ لك أربعًا وعشرين ساعة، فهذا لم يُصَدِّق كلامهُ ، وكذا الجيران ، سألوا عنه : أين هو ؟ قالوا : بالفندق ، باع أثاثهُ ، ذهب إليه وقال له : هذا البيت لك وسأبيعُك إياه بِسِعر يوم سَكَنْتَهُ ، والنبي عليه الصلاة والسلام قال :
((ألا لا إيمان لِمَن لا أمانة له ، ولا دين لِمَن لا عهْد له . . . .))
المؤمن أخلاقي يصل ولا يقْطع :
أنا قلتُ لكم : أزْمَتُنا أزْمة إسكان وليست أزمة سَكَن ، لا يوجد هناك ثِقَة ؛ قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)﴾
أحْيانًا يطوف الإنسان حول الكعبة ويُعاهِد الله على ألا يعصِيَهُ ، فإذا وصل إلى الشام رَجَعَتْ حليمة إلى عادَتِها القديمة ، غِش بالبيع ، وأيمان كاذِبَة . قال تعالى :﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)﴾
شَخص عادي تائِه شارِد دخل المَسْجد فإذا بالناس يقولون له : ما لك والمَسْجِد ، ولمَ الصلاة ؟!! عندما كان تائِهًا لم يسأل عنه أحد فإذا تاب عارَضَتْ شياطين الإنس ؛ هذا موقف لا أخلاقي ، المؤمن يصل ولا يقْطع ، أما غيره فالطَّعْن والحسَد والتَفْنيد ، دِقَّة الآية :﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)﴾
الله أمَرَك بِوَصْل والِدَتِك ، تقول لك زوْجتُك : لا تَصِل أمَّك ! لماذا ؟ ألم يأمرني الله بِوَصْلِها ؟! والنبي سُئِل : مَن أعظم الرِّجال حقًّا على المرأة ؟ قال : زوْجُها ، فلمَّا سُئِل : مَن أعظم النِّساء حقًّا على الرجل ؟ قال : أمُّه ، ولم يقل زوْجتُهُ ، فَمَن منَعَك أن تصِل والِدَيك فلا تردّ عليه ، وأيُّ إنسانٍ أمَرَكَ أن توقِعَ بين الناس فهذا يقْطع ما أمر به أن يوصَل ، والنبي الكريم قال:((ليس مِنَّا من فرَّق . . ))
الدعاة إلى الله صِنفان ؛ دُعاة إلى الله ودُعاةٌ إلى ذواتِهم :
بالمناسبة أيها الأخوة الدعاة إلى الله صِنفان : دُعاة إلى الله ، ودُعاةٌ إلى ذواتِهم بِدَعوة مُغَلَّفَة إلى الله ، فَمِن لوازِم الدَّعوة إلى الذات الحسَد والتنافس والطَّعن وعدم الإنصاف ، ومِن لوازم الدعوة إلى الله الاتِّباع والتَّعاوُن والإنصاف والاعْتِراف بالفَضْل ، فينبغي أن يكون الدعاة يدًا واحِدة مُتَعاوِنين ومُتَفاهمين ، أما الطَّعْن والتَّجريح والتَّقليل مِن أهَمِيَّة الآخرين مِن أجل أن تبْرز وحْدَك فهذا ليس من الدِّين في شيء ، والآية دقيقة جدًا :
﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ(25)﴾
إما أنَّهُ عاهَدَ الله أو أشْهَدَ الله على شيء ، فإذا أشْهَدْتَهُ على شيء فينبغي أن تُنَفّذ العَهْد ، لذلك المؤمن يُنَفِّذ وَعْدَهُ ولو كان مُرًّا .صفات المطرود من رحمة الله :
ثمَّ قال تعالى :
﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ(25)﴾
فالله أمرَكَ بِوَصْل أقْرِبائِك وَصْل حِكم ، وأمرك بوصْل العلماء ، وحُضور مَجالس العِلْم، فَكُلّ مَن نهاك عن شيء أمَرَك الله به فتُطَبَّقُ عليه هذه الآية . قال تعالى :﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)﴾
فالماء مثلاً لو وَضَعْت فيه قطرة نفط أو غسَلْتَ فيه يدك أصبحَ فاسِدًا ، فالإفْساد إخْراج الشيء عن طبيعَتِهِ ، فالله عز وجل جَعَلَ المَوَدَّة والرحمة بين الزِّوْج وزَوْجته فيكفي أن تقول لأُخْتِك : جاء العيد ولم يُهْدِكِ شيئًا ! أهذا زَوج ؟! فأنت خَرَبْتَ بيْت أُخْتِك ، وأَفْسَدْتَ العلاقة بينها وبين زوْجِها ، وكلَّما أردت أن تُنقِص من أزواج أخواتك أو بناتك حتى تصبح العلاقة بينهم سيِّئَة فهذا مُفْسِد ، فالإفْساد إما علاقات أو إفْساد البيئة ، بنْتٌ طاهرة وتقِيَّة تُفْسِدُها قدَّم له صحناً فضائياً ، أحدهم تزوَّجَت ابنته وبعد الزواج قدَّم لها صحناً فضائياً فأصبَحتْ لا تعتني به ، وتسْهر للساعة الثانية ليلاً ، وكذا الحال مع زوجها .فهذه ثلاث صِفات ؛ ينقضون عهْد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصَل ، ويُفْسِدون في الأرض ، فلو كنت تَسكن في بيت ضَخم ، لماذا تقول لِغَيرِك : هل هذا بيت تسْكنهُ ؟! لماذا تَطعن بِبَيْت أخيك ؟! أو تقول لأختك : كيف يمكنك أن تعيشي مع زوْجك ؟ فهذا كيفما تحرَّك أفْسَد ، إما أن يُخبِّب امرأةً على زوْجِها ، أو عَبْدًا على مَوْلاه ، أو يُفْسِد العلاقات والأجوَاء ، أو يُلْقي بُذور الحسَد والعَدَاوَة والبَغْضاء ، لذا نَعوذ بالله أن نكون من المُفْسِدين . قال تعالى :
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)﴾
هذا هو الإفساد .والشيء الثاني أن تقطعَ ما أمَرَ به الله أن يوصَل ، يجد أخاه الْتَزَم عند داعِيَة فيقول له : لا تلتزِم معه فهذا لا يعْرِف شيئًا ، لقد رأيتَهُ طوال حياته في الشَّهوات فما كلَّمْتهُ ، وحينما رأيْتَهُ أراد الالْتِزام أردْتَ أن تُعَكِّر عليه أجواء الدِّين !! كُنْ أداة جَمْعٍ لا أداة تَفْريق ، وأداة إصْلاح لا أداة إفْساد . فالأولى ينقضون عهْد الله من بعد ميثاقه ، والثانية يقطعون ما أمر الله به أن يوصَل ، والثالثة يُفْسِدون في الأرض .
عقاب المطرود من رحمة الله :
اِسْمعِ العِقاب الآن قال تعالى :
﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)﴾
مَلْعون ، ومَقطوع عن الله ، وقلبهُ مُتَصحِّر ، وإذا جالَسْتَهُ تضايَقْت ، كلُّهُ إساءة ونقد وكلام قاس وبذيء . قال تعالى عن هؤلاء :﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)﴾
فالقضِيَّة خطيرة جدًا ، أحد الصحابة قال : أو نُؤاخذ بما نقول ؟ قال : ويحك ...." قبل أن تتكلَّم الكلمة عُدَّ للمليون ، ولو بالإشارة فهذه غيبة :((إنَّ الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً . .))
وقد قالت عائشة عن أختها صفِيَّة إنها قصيرة . . ." المياه السوداء بالبِحار تمشي خمسين كيلومتراً ، ومع ذلك البحر ماؤُهُ طويل ، هذِّب لِسانَك واضْبُطْهُ وإلا تهوي بِكَلامِك سبعين خريفًا ، فهذه ثلاث صِفات ؛ الأولى ينقضون عهْد الله من بعد ميثاقه ، والثانية يقطعون ما أمر الله به أن يوصَل ، والثالثة يُفْسِدون في الأرض ، قال تعالى :﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)﴾