- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (013) سورة الرعد
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه ، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
التقوى تصل بالإنسان إلى أعلى المراتب :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ الآية الثامنة عشرة من سورة الرعد وهي قوله تعالى :
﴿ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) ﴾
الاستِجابة لله عز وجل الانْصِياع لأمْرِهِ ، والتوبة له ، وطاعته ، وفتْحُ صفْحةٍ جديدة معه ، والإنابة إليه ، والتَّوَكُّل عليه ، فالله تعالى دعانا فاسْتَجَبْنا ، والله عز وجل يقول :﴿ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) ﴾
أمَرَكَ بِغَضِّ البَصَر فغَضَضْتَهُ ، معنى هذا أنَّك اسْتَجَبْتَ ، اِدْفَعْ زكاة مالِكِ ، وأنْصِف الناس فزكَّيْتَ وأنْصَفْت ؛ هذه هي الاسْتِجابَة ، كُنْ عفيفًا ومُنْصِفًا ومُحْسِنًا ورحيمًا ، وأدِّ الصلوات الخمس ، وغضّ بصرَك ، وحرِّرْ دَخْلَك أنْفِق مالك في الوجه الصحيح ؛ كل هذا يعني أنَّك اسْتَجَبْتَ .المُطْلَق على إطْلاقِهِ ، ماذا تعني الحُسنى ؟ حُسْنى في صِحَّتك وزواجِك ، وحُسنى في عملك ، هناك فندق في ألمانيا خمس نُجوم ، ذكر لي أخ نام في هذا الفندق مَكتوب على لَوْحَة : إذا تَقلَّبْتَ بالليل وأصابك الأرق فالعِلَّة ليْسَت في السرير ولكن فيك ، الحُسنى سلامة مع نفْسِك ، يمكن أن تصل إلى أكبر مرتبة اجْتِماعِيَّة ، وإلى أكبر دَخْل ، ولكنّ هذا الدَّخْل مَبني على إنقاذ الآخرين ، وعلى الكذب والغِشّ والاخْتِيال ، الذي له حساسِيَّة لا يرْتاح ، المؤمن العاقل يطلب السلامة لِنَفْسِه ، إذْ يُمكن أن يكون إنساناً لا يكذب ودخلهُ حلالاً ، وهو عند الناس بالدَّرجة الدنيا ، ولكنَّه عند الله تعالى في أعلى عِلِيِّين ، دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه فقال عليه الصلاة والسلام :
((أهلاً بِمَن خبَّرني جبريل بِقدومه ، فقال هذا الصحابي : أَوَ مِثْلي ! قال : نعم ، أنت خامِل في الأرض علم في السماء ))
يجوز أن يكون ضارب آلة كاتبة ، والمدير له ثمانية هواتف ، وسِكرتارْيا ، ومكتب طوله ثمانية أمتار ، وقد يكون هذا الخادم أفضل منه عند الله ، التقوى ترفع الإنسان ، لذلك قال تعالى :﴿ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) ﴾
وعظمة القرآن أنّ المطلَق على إطْلاقِهِ ، حُسنى في أسْرته ، وحُسنى في عملهِ ، وحُسنى في صِحَّتِه ، وحتى في مماتِه .كنتُ في تَعْزِيَة ، وإلى جانبي كان أحد عُلماء دمشق الأكارم ؛ وله دعوة ، خرج من بيْت التَّعْزِيَة ، وما إن خرَجَ من بيت التَّعْزِيَة حتى رآهُ رجل ، فقال له : هل لي أن أوصِلَكَ إلى البيت ؟! وكان هذا الشَّخص بيتهُ إلى جانب بيت التَّعْزِيَة ، فأوْصَلَهُ ونزل هذا العالِم من السيارة ، وصَعِد أربعة طوابق ، نزع ثيابه وتمدد على فِراشِهِ ، وقُبِضَتْ روحُهُ ، فالله سخَّر إنسانًا يوصِلُهُ إلى بيتِه ويموت فيه مرتاحًا ، ولا يموت كما يموت البعض شرّ موتة ، فأحيانًا يموت الإنسان بالطريق ويبقى بها خمس ساعات حتى يؤخَذ ، وهناك من يموت بالمرحاض ، كما أنّ هناك من يموت وهو ساجِد ، وهناك من يموت في الحج ، وكذا الحسنى بالآخرة :
﴿ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) ﴾
أيْ كيفَما تحرَّكْت يكْرِمُكَ الله .أمة التبليغ وأمة الاستجابة :
لهذا قال العلماء : هناك أمَّة الاسْتِجابة ، وهناك أمَّة التَّبليغ ، فأُمَّة الاسْتِجابة الذين اسْتَجابوا لِرَبِّهم ، وأمَّة التَّبليغ هم الذين يولدون مسلمين بِحُكم أنَّ أوْلِياءهم مسلمون ، فكلمة مسلم بالهَوِيَّة لا تُقَدِّم ولا تؤخِّر ، أمَّة التبليغ إذا كنت منها لا ميِّزَة لك ، ولكنّ الميِّزة أن تكون من الذين استجابوا ؛ اسْمعوا لهذه الآية :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24)﴾
عندنا بِأصول الفقه قواعِد كُلِيَّة ، أي عندنا المعنى والمعنى المُخالِف العكسي ، فإذا الواحِد ما اسْتَجاب فَمَن هو ؟ ميِّت ، والله تعالى قال :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ(22)﴾
وقال تعالى :﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ(21)﴾
فالطبيب إذا فحص مُصابًا على الأرض ، ورأى أنَّ النَّبْض معدوم ، وكذا التَّنفس والاسْتِجابة منعدمة ، معنى هذا أنّ المُصاب مُنْتَه ، قال لي فلان : فلانة سافرة ومُتَبَرِّجة ومات زوْجُها ومُوَظَّفة فكيف العدَّة بالنِّسبة لها ؟! فقلتُ له : هذه لا عُدَّة لها ، لا صلاة ولا صوم ؛ هذه مُنعدِمَة ، قال تعالى :﴿ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) ﴾
فالاستِجابة حياة ، والإنسان إذا بدأ يُصَلِّي ، وغضَّ بصره ، وأنفق ماله فهذا دليل الحياة ، وأنَّ فيه نبْضاً ، أما أن تجعل القرآن للموتى فقط فهذا جَهل ، مَن دخل الأربعين فقد دَخَل أسواق الآخرة ، تجده لا يدخل المنزل إلا ليلاً ، أين كنت ؟!النجاة من سوء الحساب مستحيلة لمن كفر بربه :
ثمَّ قال تعالى :
﴿ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) ﴾
لم يُزَكِّ ماله ، ولم ينفق ، وما غضَّ بصره ، وما عَدَل ، وما حرَّر دَخْلَهُ ، قال تعالى:﴿ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) ﴾
إذا شخص له محلّ بالحمراء ؛ يقول لك : المتر بمئة وخمسين ألفاً ! لو أنَّ لك الشام كلّها ، وكل شركات الطيران ، وكل النَّفط لك ، قال تعالى :﴿ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(18)﴾
أحيانًا يُكتب بالجريدة ثلاث كلمات : إنَّنا سَنَسْتَوْرِد سيارات ، تجد في اليوم التالي أنَّ أسعار السيارات نزَلَت إلى مئتي ألف ليرة ، إذا إنسان صرَّح تتغيَّر كل أسعار البلد ، وهذا إله يقول لك : لو تَمْلِك كلّ الدنيا وكل الأسواق والشركات ؛ هناك شركات ضَخمة جدًا كما في اليابان تجد الفائض من الشركات بالملايين ، الله تعالى :﴿ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)﴾
أي خلِّصوني وخُذوا كلّ شيء ، لن يتخلَّص إنسان من ذلك ، هذا كلام إله وخالق الكون ، قال تعالى :﴿ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)﴾
قال تعالى :﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8)﴾
فهذه الآية تكفينا :﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)﴾
فالكافر مستعِد أن يدْفع كلّ شيء ويتدَيَّن من أجل أن ينجو من سوء الحِساب .خيار الإنسان مع الإيمان خيار وقت فقط :
قال تعالى :
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)﴾
لماذا أعْطَيْتَ ؟ لماذا مَنَعْتَ ؟ لماذا طلَّقْت ؟ لماذا صافَحْتَ ؟ والآن نحن في بَحْبوحة، ومادامت هناك حركة بالقلب فباب التَّوبة مَفتوح ، مُشكلة الإيمان أنَّ الخِيار ليس قبولاً أو رفْضاً ، قال تعالى :﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88)إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89)﴾
ففِرْعَون آمن بعد فوات الأوان .