- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (018) سورة الكهف
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أكبر مصيبة على الإطلاق أن تعتقد أنك على صواب وأنت على خلاف ذلك :
أيها الأخوة الكرام ؛ الآية الثالثة بعد المئة والتي تليها من سورة الكهف وهي قوله تعالى :
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) ﴾
أي أكبر مصيبة على الإطلاق ألا تدري ، وألا تدري أنك لا تدري ، أن ترتكب أشنع الخطأ ، وتظن أنك على صواب ، أن تكون أبعد الناس عن الحق ، وتظن أنك على الحق وما سواك على الباطل ، هذه أكبر مصبية تصيب الإنسان .
من الناس من يدري ويدري أنه يدري فهذا عـالم فاتبعوه ، ومنهم من لا يدري ويدري أنه لا يدري فهذا جاهل فعلموه ، ومنهم من لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فهذا شيطان فاحذروه .
المصيبة أن تعالج ارتفاع الضغط بمزيد من الملح ، المصيبة أن تعالج أزمة القلب بمزيد من الجهد ، هذه أكبر مصيبة ، أن تمشي في الطريق المعاكس ، ولماذا تمشي في الطريق المعاكس ؟ بجهل مستحكم ، ولماذا لا تسمع النصيحة ؟ لأنك تعتقد أنك على صواب ، هذا العناد أي خطأ فاحش ، وعناد مع جهل .
تعريف الخاسرين :
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ
ما قال بالخاسرين ؟ قال :
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِين
الأخسر اسم تفضيل على وزن أفعل ، أي أشد الناس خسارة على الإطلاق ، الذي يظن أنه إذا بالغ في انغماسه في الشهوات فهو من الأذكياء ، الذي بالغ في أكل أموال الناس بالباطل فهو من الشاطرين ، الذي بالغ في استعباد الناس فهو من الأقوياء .
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
السعي : العمل
﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) ﴾
العمل ، بالتعبير الآخر الحركة ، أي حركة الإنسان في الحياة ، الإنسان له حركة ، يستيقظ ، يأكل ، يشرب ، يبتسم ، يضحك ، يغضب ، يعنف ، يقبض المال ، ينفق المال ، هذه الحركة يجب أن تتجه لمرضاة الله عز وجل ، هذه الحركة ، العمل ، السلوك ، يجب أن يتجه ليكون ثمن الجنة ، هذا هو الإنسان المهتدي ، ألم تقرؤوا بالفاتحة كل يوم عشرات المرات بل بضع عشرات المرات :
﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)﴾
العمل يجب أن يتجه إلى مرضاة الله ، أو العمل يجب أن ينطبق على منهج الله ، يجب أن ينطبق ، ويجب أن يتجه ، أي أن ينطبق من حيث السلوك ، وأن يتجه من حيث النية ، أما هؤلاء الأخسرون أعمالاً فعملهم لم ينطبق على المنهج ، ولم يتجه لمرضاة الله .
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ
ذكرت هذا من قبل ، لك مبلغ كبير جداً يجب أن تقبضه من حلب ، يمكن أن تركب قطار حلب ، ويمكن أن تقع في عشرات الأغلاط وأنت في القطار ، قد تركب مركبة فيها شباب يزعجونك ، قد تركب مركبة من الدرجة الثالثة ، وبطاقتك من الدرجة الأولى ، قد تتلوى من الجوع ولا تعلم أن في القطار مركبة طعام ، هذه كلها أغلاط ، لكن القطار يتحرك نحو حلب ، وسوف تصل في الوقت المناسب ، وسوف تأخذ هذا المبلغ الكبير ، لكن الغلط الذي لا يحتمل أن تركب قطار درعا ، عكس الاتجاه ، هذا الخطأ .
من خرج عن منهج الله فقد ضلّ سعيه :
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104)﴾
لكن ما التعليل ؟ لماذا ضلّ هؤلاء ؟ لماذا ضل سعي هؤلاء ؟ لماذا يحسب هؤلاء أنهم يحسنون صنعا ؟ قضية مزاجية ؟ قضية ليس لها تفسير ؟ قضية عشوائية أم قضية مقننة ؟ القضية مقننة ، الدليل الآية الثانية :
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ
آياته الدالة على عظمته كفروا بها ؛ أي ما عبئوا بها ، آياته القرآنية لم يقرؤوها ، آياته التكوينية لم يلتفتوا إليها .
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ
آياته القرآنية ، وآياته التكوينية ، وآياته الكونية ، لم يفكر ، ولم يعبأ ، ولم يتجه .
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ
وكفروا بلقائه ، لو أنهم آمنوا بلقائه لانضبطوا ، يوجد إنسان يؤمن بالحساب ولا ينضبط ؟ أبداً ، ثلاث حقائق والله أيها الأخوة لو أيقن بها لما حاد عن منهج الله ولا قيد أنملة ، أن يؤمن أن الله موجود ، وأنه يعلم ، وأنه سيحاسب ، ثلاث كلمات ، إن آمنت بها إيماناً يقينياً ، والله لا تستطيع أن تخرج عن منهج الله ولا قيد أنملة ، أن تؤمن أنه موجود ، وأنه يعلم ، وأنه سيحاسب .
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ
معاني إحباط العمل :
لما كفروا بلقاء ربهم ولقائه :
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ
إحباط العمل له معنيان ؛ المعنى الأول :
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ
المعنى الثاني :
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (105)﴾
أحد كبار رجال الأعمال في أميركا وجد ميت في يخت في البحر مع امرأة عاهرة ، المؤمن كريم على الله عز وجل ، يموت في أبهج حالة ، حياته مقدسة ، بيته مقدس ، علاقاته مقدسة ، لكن أهل الدنيا لا شأن لهم عند الله ، يسقطون من نظر الله ، والله الذي لا إله إلا هو لأن يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض فتتحطم أضلاعه أهون من أن يسقط من عين الله ، الإنسان إذا اقترف المعاصي سقط من عين الله ، إذا اعتدى على خلق الله سقط من عين الله ، إذا بخل مما أتاه الله عز وجل سقط من عين الله .
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً
هؤلاء يوازنون مع قوله تعالى :
﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18)﴾
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
هؤلاء يوازنون مع هذا الصحابي الجليل الذي قال عنه النبي الكريم :
(( والله يا معاذ إني لأحبك ))
أيوازن هذا مع هذا ؟! هذه مرتبة الآخرة .
أعلى مرتبة ينالها الإنسان في الدنيا أن يشعر أن الله راض عنه :
أن تشعر أن الله راض عنك أعلى مرتبة تنالها في الدنيا ، والله الذي لا إله إلا هو هي خير لك من حمر النعم ، من أموال الأرض ، من الدنيا وما فيها ، من نعم الدنيا مجتمعة ، أن يكون الإنسان في رضوان الله ، ثم أحياناً يوجد أشخاص أقوياء وكبراء ، لا تستطيع أن تنال رضوانهم ، رضاهم مستحيل ، مغلق على أناس معدودين ، لكن الله سبحانه وتعالى رضوانه مبذول لكل عبد ، لا يوجد فئة محرومة وفئة مسموح لها ، لا .
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً(110) ﴾
باب الله مفتوح لكل إنسان ، أبيض ، أسود ، غني ، فقير ، مثقف ، غير مثقف ، يقول لك : أنا لست مثقفاً ، قل له : مثقف ، يقول لك : كيف ؟ ألست مستقيماً على أمر الله ؟ نعم ، الحمد لله ، هذا علم لقول النبي الكريم :
(( كفى بالمرء علماً أن يخشى الله ، وكفى به جهلاً أن يعصيه ))
والله لو شخص معه بورد ، ويشرب الخمر هو عند الله جاهل ، وآذن ، حاجب ، يغض بصره عن محارم الله ، ويتحرى الحلال ، هو عند الله عالم ، كل واحد منكم مستقيم هو عند الله عالم ، بالدليل القطعي .
(( كفى بالمرء علماً أن يخشى الله ، وكفى به جهلاً أن يعصيه ))
فالعاصي جاهل ، والمطيع عالم
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (105)﴾
" رب أشعث أغبر ذي طمرين ، مدفوع بالأبواب ، لو أقسم على الله لأبره "
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)﴾
أقسم الله بعمر النبي ، هل هناك تكريم بعد هذا التكريم ؟
مكانة النبي الكريم عند الله عز وجل :
ما خاطب الله النبي باسمه أبداً ، قال :
﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً (12) ﴾
﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ
﴿ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً (7)﴾
﴿ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ
﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)﴾
﴿ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ
ولم يقل أبداً : يا محمد بالقرآن كله ، يا أيها النبي ، يا أيها الرسول ، جاء اسمه خبراً لكن ما جاء اسمه مخاطباً .
﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ
أما بالخطاب ، يا أيها النبي ، يا أيها الرسول ، ورفعنا لك ذكرك ، لا إله إلا الله ومحمد رسول الله ، ولماذا أراد الله أن يكون قبر النبي في المدينة ؟ لو كان في مكة المكرمة ، الحجاج أثناء أداء المناسك يزورون النبي ، بالجملة ، جعل قبره بالمدينة ، ليزوره الناس خصيصاً له ، تكريماً له ، تجد الآلاف ، مئات الألوف يقصدون زيارة النبي عليه الصلاة والسلام ، ويسعدون بها .
ابتغاء الرفعة عند الله :
لذلك :
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً
"رب أشعث أغبر ذي طمرين ، مدفوع بالأبواب ، لو أقسم على الله لأبره "
النبي الكريم جاءه أحد الصحابة الكرام ، قال : أهلاً بمن خبرني جبريل بقدومه ، قال أو مثلي ! يبدو أنه فقير ، قال : نعم يا أخي خامل في الأرض علم في السماء ، قد تكون أنت موظفاً من الدرجة العاشرة ضارب آلة كاتبة ، و ظفرك أفضل من مليون شخص ، ظفرك أفضل من مليون عاص ، أنت مستقيم .
لذلك أخواننا الكرام ؛ ابتغوا الرفعة عند الله ، لا تبتغ رفعة عند الناس ، الناس يموتون ، ولا قيمة للمكانة عندهم ، الآية أصبحت على الشكل التالي :
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) ﴾
والحمد لله رب العالمين