- السيرة / ٠1السيرة النبوية / ٠3الشمائل المحمدية
- /
- ٠1الشمائل المحمدية 1995م
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقا، وارزقنا اتِّباعَه، وأرنا الباطلَ باطلا، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنَه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أدبه صلى الله عليه وسلم في المجالس :
أيها الإخوة الكرام ؛ مع الدرس الثاني والعشرين من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى آدابه صلى الله عليه سلم في مجالسه.
الأدب الأول : لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر الله .
فكان عليه الصلاة والسلام لا يجلس ولا يقوم إلا على ذِكر لله تعالى، لأن الله سبحانه و تعالى يقول:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) ﴾
وقد ورد في السنة أنه
(( برئ من النفاق من أكثر من ذكر الله ))
والمؤمن يذكر اللهَ عفوًا، دون تكلُّف، لأن كلَّ نشاطه وكل اهتمامه منصبٌّ على معرفة الله.
والإنسان لو يلاحظ نفسه إذا جلس مع صديق، في سهرةٍ، أو في سفر أقول: فلْيُلاحِظْ نفسَه عن أيِّ موضوع يتكلم، الموضوع الذي يتحدَّث عنه كثيرا هو الذي يشغله، دعْك من الرقابة الذاتية، لو تكلمتَ عن سجيَّتك، لو سافرت مع صديق، ففي الطريق عن أيِّ موضوع تتحدَّث، لو سهرت مع أصدقائك ، عن أيِّ موضوع تتحدَّث، دون أن تراقب نفسك، و دون أن تتكلَّف، ودون أن تحملها على غير سجيَّتها، الموضوع الذي تتحدَّث عنه دائما هو الموضوع الذي يشغل ساحتك النفسية، فمَن أكثر مِن ذكر الله دون قصد ودون تكلُّف ودون طلب للأجر، ودون تصنُّع، أينما جلس يذكر اللهَ عز وجل، فهو تارة يذكر آياته، وتارة يذكر أحكامه الشرعية، وتارة يتحدَّث عن أنبيائه، وتارة يتحدَّث عن أفعاله المعجِزة، فهذا يدل على مدى وثوق صلته بالله سبحانه، الموضوع الذي تتحدَّث عنه عفو الخاطر، من دون تكلف، ومن دون تصنُّع، ومن دون تركيز، ومن دون رقابة ذاتية، هذا الموضوع الذي يشغل ساحة نفسك كلها، هو أنت، لذلك كل إنسان يكثر من ذكر الله عزوجل فهذا دليل أنه يحبُّ الله، والله سبحانه و تعالى يقول:
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ ﴾
أحيانا تجلس مع إنسان، كل حديثه عن السيارات، إنسان آخر كل حديثه عن التجارة والاستيراد والبيع والشراء والوكالات والميزانيات، إنسان يحدِّثك عن اللوحات الفنية فرضا، وآخر يحدِّثك عن الفنادق، فما الذي يشغل ساحتك ؟ هو الموضوع الذي تكثر الحديث عنه، فالنبي الكريم يقول:
(( برئ من النفاق من أكثر من ذكر الله ))
الشيء الآخر إخواننا الكرام؛ جرِّب حينما تتحدَّث عن الله سبحانه و تعالى تنجذب القلوبُ إليك، وتنعقد الأبصارُ حولك، يذوب الحاضرون في بوتقة واحدة، وإنْ تتحدَّث عن الدنيا يتفرَّق الناسُ، الفقير يتململ، والغنيُّ يتكبَّر، المحروم يتحسَّر، والذي ناله من الدنيا شيء يستعلي، الدنيا تفرِّق، والآخرة تجمع، إذا أردتَ أن تسعد في كل مجلس فليكن هذا المجلس ذكرًا لله عزوجل، عَنْ الْأَغَرِّ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
(( لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا حَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ ))
وما من قوم جلسوا مجلسا لم يذكروا الله فيه إلا قاموا عن أنتن من جيفة حمار.
واللهِ أيها الإخوة ؛ ولا أبالغ ؛ أحيانا يسمر المؤمنون، أو يسهرون، أو يتنزَّهون، ويكون حديثُهم عن ربهم، فإذا قال أحدهم: كنا في جنة فهو لا يبالغ، أجل في جنة، ليس هناك مجلس علم ومجلس ذكر، مجلس مذاكرة علم، مجلس حديث عن خلق الله، عن الصحابة وعن الأنبياء، مجلس فيه تقرُّب إلى الله عزوجل إلاّ ويشعر المرء أنه انتشى، أي امتلأ سعادة، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ يَخُوضُ فِي الرَّحْمَةِ حَتَّى يَجْلِسَ فَإِذَا جَلَسَ اغْتَمَسَ فِيهَا ))
فالإنسان المسلم في بيته وفي دائرته، وفي سفره، في حِلِّه وتِرحاله، في لقاءاته وفي ندواته كل حديثه حول دينه وذكر ربه، الآن هناك والحمد لله، وهذا من فضل الله علينا حتى أعراس النساء فيها كلمات تُلقى، وإنها كلمات موزونة تُلقى من بعض الداعيات، تجد مديحا لرسول الله، ثم كلمة حق أُلقيت في أثناء فترة المديح، هذا عرس فيه رحمة، وهناك أعراس كلها فسق، وفجور، وتفلُّت، وغناء، وطرب، لكنك تجد عقود قران تُلقى فيها كلمات مَدْح النبيُّ عليه الصلاة والسلام، يقول لك: و اللهِ كنا في جنة، فإذا إنسان أراد سعادة الدنيا فليُكثر من ذكر الله عز وجل.
وبالمناسبة لما الإنسان يذكر الله عزوجل ؛ دقِّقوا في هذا الحديث القدسي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:
(( أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ))
الله عز وجل يرفع لك ذكرك، و يصير اسمُك متألِّقًا، والناس يثنون عليك، هذا شيء ثمين جدًّا، هذا لا يناله كلُّ الناس إلا من أخلصوا لله عزوجل، فلذلك اجعل همَّك وديدنك ذكر الله، و من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوقف ما أعطي السائلين، فكان عليه الصلاة و السلام لا يجلس، ولا يقوم إلا على ذكر الله تعالى.
أُمرتُ أن يكون صمتي فكرا، ونطقي ذكرا، ونظري عبرة، والآيات التي من حول الإنسان تتيح له ذكر الله، ومعرفته لا تُعدُّ، ولا تُحصى:
في كل شيء له آية تدلُّ على أنه واحد
***
كأس الماء يمكن أن تحدَّث الناس عنه ساعات طويلة، هذا الطعام والشراب الذي تتناوله هو مِن نِعَم الله العظمى، طفل صغير أمسكتُه البارحة، وزنه ثلاثة كيلو غرام، فيه دماغ، وفيه أعصاب، وفيه سمع، وفيه بصر، فيه شَعر خفيف، وفيه عضلات، وفيه أربطة، فيه معدة، وفيه أمعاء، فيه كبد، وفيه طحال، وفيه بنكرياس، وفيه غدة نخامية، وفيه غدة درقية، وفيه كليتان، وفيه أوردة، وفيه شرايين، وفيه قلب، والأُذين والبُطين، بعد تسعة أشهر كان قبلها نقطة من الماء لا تُرى، من ماء مهين، أصبح بشرا سويا أنت أمام آيات كثيرة جدًّا، فكل إنسان يكثر من ذكر الله بريء من النفاق و الأمر الإلهي ليس منصبًّا على أن تذكر فقط، لا، أبدا، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) ﴾
الأمر الإلهي منصبٌّ على كثرة الذكر لا على الذكر فقط.
الأدب الثاني : كان عليه الصلاة والسلام ينهى عن توطين الأماكن .
من شمائله صلى الله عليه وسلم في مجالس أصحابه أنه لا يوطِّن الأماكنَ، وينهى عن إيطانها، فأيّ مكان يجلس، وكلُّ مكان لأي إنسان، ليس لإنسان مكان خاص، توطين الأماكن، كأنْ يقال: هذا المكان لفلان، وهذا لفلان وهذا لفلان، لا بل المؤمنون سواسية، يتفاوتون عند الله بتقواهم، أما كل إنسان فله مكانة، وله مرتبة، في أول صف، أو ثاني صف، أو ثالث صف، مقاعد مرقَّمة، وعليها أسماء أصحابها، هذه البروتوكولات دخيلة علينا ما كان يحبُّ أن تُوطَّن الأماكن، وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قومٍ جلس حيث ينتهي به المجلس، كان الشيخ بدر الدين رحمه الله تعالى يطبِّق السنة بحذافيرها، فكان إذا دخل إلى مجلس يجلس حيث ينتهي به المجلس، الآن إذا لم يكن له مكان في الصف الأول، وأريكة خاصة فإنه يتَّهم القوم أنهم ما عرفوا قدري، وما عرفوا قيمتي، وأنا لن أعيدها، ولن آتيَ إلى أيّ عقد قران، أين السنة النبوية المطهَّرة ؟ كان النبيُّ الكريم على عظم قدره وعلى جلالة مكانته يجلس حيث ينتهي به المجلسُ، والأبلغ من ذلك كان الأعرابي إذا دخل على مجلس رسول الله لا يعرفه ويقول: أيُّكم محمد ؟ أين كان جالسا ؟ لو كان له كرسيٌّ ضخم ما قال: أيكم محمد ؟ لو كان هناك طرَّاحة فخمة ما قال: أيكم محمد ؟ لو كان له لباس مزخرف ما قال: أيكم محمد ؟ معناه أن سيدنا محمدا جالس على الأرض مع أصحابه، ليس له و لا ميِّزة إلا وضاءة وجهه، يقولون له: ذاك الوضيء، انظُر إليه فهو محمد، إذا كان النبيُّ لم يسمعه، أما إذا سمعه النبيُّ يقول له أنا قد أصبت، تكفي هذه، و هذا الذي فاق الخلقَ بأخلاقه، قال: وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلسُ، ومرة كان الصحابة جالسين، والجالس إذا أكرم القادم، فهذا من فضله، وسيدنا النبي اللهم صلِّ عليه جالس وإلى جنبه سيدنا عليّ، دخل سيدنا الصدِّيق فقام سيدنا علي وأعطاه مكانه، النبيُّ أُعجب بهذا الأدب، قال: لا يعرف الفضل لأولي الفضل إلا أهلُ الفضل، فإذا آثر الإنسان إنسانًا أكبر منه بمحلِّه، فهذه فضيلة، أما إذا فرض الكبير على الناس مكانا معيَّنا فقدْ خالف السنة، أنت كبير بأيِّ مكان، ولدينا قول دقيق: المكان الذي يجلس فيه الكبير هو الكبير، في أي مكان تجلس فيه، فهذا المكان يكتسب مكانة منك، صار هو الصدر، أمّا نحن فمِن ضعفنا.
الأدب الثالث : يعطي كل جلسائه نصيبه .
قد تكون مشاركًا في سهرة، وتجد اثنين يستقطبانك، والعشرة تركتهم صفرا على الشمال، لا تنظر إليهم، ولا تتطلع إليهم، ولا تهتم بملاحظاتهم، أمّا اللذان استقطباك فقد يكون أحدُهما غنيًّا، وقد يكون أحدهما من أصحاب الحول والطول، فتجدك انجذبت إليه، والبقية درجة ثانية، أما النبيُّ عليه فكان يعطي كل جلسائِه نصيبهم، أبدا، ينظر إلى الجميع، ويبتسم إليهم، ويصافحهم، ولا يحسب أحد أن أحدا أكرم عليه منه، أنت تقدر أن تعامل ألف شخص أو ألفين، كلُّ واحد يعتقد أنه هو أقرب الناس إليك، حقًّا هذه فوق طاقة البشر، كل واحد من أصحابه على كثرتهم كان يعتقد جازما أنه أقرب الناس لرسول الله، يخصُّ كلَّ إنسان بابتسامة و بكلمة طيِّبة، و بمؤانسة، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أَقْبَلَ سَعْدٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( هَذَا خَالِي فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ ))
وعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ))
دخل سيدنا الزبير، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَوْمَ الْأَحْزَابِ قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، ثُمَّ قَالَ مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ ))
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنْ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ ))
وفي رواية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رِجَالٌ يُكَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ فَإِنْ يَكُنْ مِنْ أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَعُمَرُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ نَبِيٍّ وَلَا مُحَدَّثٍ ))
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
(( خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَقَالَ رَأَيْتُ قُبَيْلَ الْفَجْرِ كَأَنِّي أُعْطِيتُ الْمَقَالِيدَ وَالْمَوَازِينَ فَأَمَّا الْمَقَالِيدُ فَهَذِهِ الْمَفَاتِيحُ وَأَمَّا الْمَوَازِينُ فَهِيَ الَّتِي تَزِنُونَ بِهَا فَوُضِعْتُ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ فَوُزِنْتُ بِهِمْ فَرَجَحْتُ ثُمَّ جِيءَ بِأَبِي بَكْرٍ فَوُزِنَ بِهِمْ فَوَزَنَ ثُمَّ جِيءَ بِعُمَرَ فَوُزِنَ فَوَزَنَ ثُمَّ جِيءَ بِعُثْمَانَ فَوُزِنَ بِهِمْ ثُمَّ رُفِعَتْ ))
لا أحدَ من الصحابة إلا وعرف شأنه وعرف إمكاناته، وعرف إخلاصه، وعرف تفوُّقه، وعرف مكانته عند الله، ووصفه بما يليق به، ما ظلم أحدا، ولا طمس مكانة أحد، أحيانًا الطغاة والعظماء لا يحتملون أن يُذكر إنسان معهم أبدا، كلُّ من حولهم في الظلِّ، في التعتيم، الأضواء كلها على واحد، أما النبيُّ فما كان كذلك، فكلُّ مَن حوله مِن أصحابه أخذ نصيبَه من التعريف، يعطي كلَّ جليس نصيبَه، ولا يحسب جليسُه أن أحدا أكرم عليه منه.
الأدب الرابع : من جالسه أو فاوضه في حاجة صابَرَهُ حتى يكون هو المنصرف .
هناك أشخاص تجدهم يتحرَّكون، امشِ، بعضهم يقف، كل واحد يصنع طريقة لصرف الناس عنه، لكن المؤمن المقتدي برسول الله عليه الصلاة والسلام، صعب الحركة، تشعر أنه هو ملَّ، لا يصرفه أبدا، أحيانا يكثر النظر في الساعة، أحيانا السكوت، أحيانا التّململ، و أحيانا التثاؤب، أي انتهى، النبيُّ عليه الصلاة و السلام ما كسر خاطر إنسان في حياته، من جالسه أو فاوضه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف، وحتى يشبع ويتملَّى من رسول الله ويحلُّ كل مشاكله، ويسأله، ويستأنس به، حتى ينصرف مِن تلقاء نفسه، هذا صبر الأنبياء، قلت لكم سابقا: الأقوياء ملكوا الرقاب، والأنبياء ملكوا القلوبَ، وشتَّان بين أن تملك القلوب وأن تملك الرقاب.
الأدب الخامس : من سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول .
أحيانا لا تستطيع أن تلبِّي هذه الحاجة يتكلم المؤمن كلاما يقطر أدبا ورحمة ولطفا، لا تؤاخذني، أتمنى واللهِ، هذا الوضع أمامك، تجد أنك رفضت، أو عجزت عن تلبية الطلب، لكن يخرج هذا الإنسان وهو مجبور القلب، ولو أنك لم تلبِّ حاجته، فكان عليه الصلاة من سأله حاجة لم يردَّه إلا بها، أو بميسور من القول، هذه قضية دقيقة، لما يكون الإنسان أثيرا عند الله عزوجل يجعل حوائج الناس إليه، إذا أحبَّ الله عبدا جعل حوائج الناس إليه، أن يتَّجه الناسُ إليك بحاجاتهم، هذا دليل أنك ذو مكانة عند الله عزوجل، ولو أن الله عزوجل رفضك لانفضَّ الناسُ مِن حولك، فالإنسان المحبوب بابه مطروق، واللهِ حدَّثني أخٌ له أعمال طيِّبة، قال لي: واللهِ خلال ساعتين أظنُّ أنَّ خمسين هاتفًا جاءني، كلها حلول لمشكلات الناس، قلت له: بارك الله فيك، أنت شعارك: "إذا أحب اللهُ عبدا جعل حوائج الناس إليه"، فالإنسان لا يتأفَّف، لأنه إذا علم الله فيك خيرا يسوق الناسَ إليك، وإذا أحبَّ الله عبدا جعلَه مفتاح خير، فإنّ من خَلْق الله مفاتيح للخير، فإنْ جعلك مفتاحا للخير فهذا تكريم منه لك، وإذا غضِبَ الله عزوجل على إنسان جعله مفتاحا للشر، إذا أراد أن يرفع شخصا ويعلي شأنه، وقد وسع الناسَ منه بسطُه وخلُقه، صيَّره لهم أبًا، وصاروا عنده في الحق سواء، هناك إنسان يضيق بالناس ذرعا، لا يستوعب، و ليس له قلبٌ كبير، ذاتي، بالتعبير الشائع الخطأ " أناني" صوابه"عنده أثرة " أي متمركز حول ذاته، أما أنه يسع الناسَ، ويفهم همومهم، ومشكلاتهم، ويتألم لألمهم، يحاول حلَّ مشكلاتهم، ويستوعبهم، ويتفهَّم طباعهم، ويتفهم أمزجتهم، ويتفهم أوضاعهم، يرثي لحالهم، فهذه لا بدَّ لها من قلوب كبيرة، فالنبي الكريم قد وسع الناسَ منه بسطُه وخلقُه، فصار لهم جميعًا أبًا، والإنسان كلما هبط مستواه رأيتَه ينحاز لفئة قليلة، كلما هبط انحاز، والتعصُّب دليل الجهل والبعد عن الله عزوجل، وكلما كبر الإنسان عند الله عزوجل كبُر قلبُه، واتَّسع للناس جميعا، سيدنا حاطب بن أبي بلتعة ارتكب خيانة عُظمى، سيدنا عمر ما اتَّسع له، وما تحمَّله، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
(( بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَأَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ وَكُلُّنَا فَارِسٌ فَقَالَ انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنْ الْمُشْرِكِينَ مَعَهَا صَحِيفَةٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهَا حَيْثُ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قُلْنَا أَيْنَ الْكِتَابُ الَّذِي مَعَكِ قَالَتْ مَا مَعِي كِتَابٌ فَأَنَخْنَا بِهَا فَابْتَغَيْنَا فِي رَحْلِهَا فَمَا وَجَدْنَا شَيْئًا قَالَ صَاحِبَايَ مَا نَرَى كِتَابًا قَالَ قُلْتُ لَقَدْ عَلِمْتُ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَأُجَرِّدَنَّكِ قَالَ فَلَمَّا رَأَتْ الْجِدَّ مِنِّي أَهْوَتْ بِيَدِهَا إِلَى حُجْزَتِهَا وَهِيَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ فَأَخْرَجَتْ الْكِتَابَ قَالَ فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا حَمَلَكَ يَا حَاطِبُ عَلَى مَا صَنَعْتَ قَالَ مَا بِي إِلَّا أَنْ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا غَيَّرْتُ وَلَا بَدَّلْتُ أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي وَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكَ هُنَاكَ إِلَّا وَلَهُ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ قَالَ صَدَقَ فَلَا تَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْرًا قَالَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَدَعْنِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ قَالَ فَقَالَ يَا عُمَرُ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ الْجَنَّةُ قَالَ فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ))
قال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقد ارتكب خيانة عظمى، و لكن قلب النبيِّ أكبر بكثير من أن يضيق ذرعًا بإنسان، قال له: يا حاطب ما حملك على ما فعلت ؟ قال له: واللهِ يا رسول الله ما كفرت ولا ارتددتُ، ولكن أردتُ أن يكون لي عند هؤلاء القوم يدٌ بيضاء أحمي بها أهلي ومالي، لكنني ما كفرت، ولا ارتددت، فالنبي الكريم بإخلاص عجيب قال: إني صدَّقته فصدِّقوه، ولا تقولوا فيه إلا خيرا، وقال: لا يا عمر، إنه شهد بدرا، عليك أنْ تستوعب، إذا أنت لم تستوعب الناسَ لستَ أهلا لأن تقودهم إلى الله عزوجل، إذا كنت ضيِّق الأفق صغير القلب قاصر النظر، فأنت لا تصلح أن تكون بابا لله عزوجل، هناك صاحب الحاجة، وصاحب الحاجة أحيانا يكون أرعن، وصاحب الحاجة أعمى، هناك إنسان شاب، وإنسان كبير في السن، وهناك متألِّم، وآخر مريض، لهذا قال عليه الصلاة و السلام:
(( إنكم لن تسعوا الناسَ بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم ))
معك خمسة آلاف نفقة على عيالك، فلا تستطيع أن تنفق على الآخرين إلا القدر المعقول، لكن فسعوهم بأخلاقكم، فابتسامتك صدقة، وطلاقة وجهك صدقة، واستقبالك الطيِّب صدقة، وترحيبك صدقة، أن تمشي مع أخيك في عمل صالح صدقة، فإذا كان دخلُك لا يكفي لتنفق يمينا وشمالا، فأخلاقك تسع الناسَ، والتعبير الدقيق: ربما كان مالُك لا يسع الناسَ، دخلك محدود لا يسع الناس، لكن أخلاقك العليَّة، وبسط وجهك، ولين عريكتك، وكبر قلبك يسع الناسَ جميعا، إذا كان الإنسان لا يحبَّ الناسَ فلا يستطيع أن يهديهم إلى الله عزوجل.
حدَّثني رجلٌ عنده مدرسة خاصة، فكلما أراد أن يعيِّن معلِّما، يقول له: هل تحبُّ الصغار ؟ إن كنتَ لا تحبُّهم لا يمكن أن تنفعهم في شيء، لا أقبل إلا من يحبُّ الصغارَ، هناك إنسان يضيق بهم ذرعا، هذا لو كان يحمل أعلى شهادة في التربية لا يصلح أن يكون معلِّما، المعلِّم يجب أن يحبَّ الصغار، والإنسان إذا دعا إلى الله يجب أن يحبَّ الناسَ، وإذا لم يحبَّهم، ولم يتَّسع قلبُه لهم جميعا، ولم يسعهم منه بسطُ الوجه، وحسنُ الخلق، فهذا لا يستطيع أن يقودهم إلى الله عزوجل، أمّا إذا صار ينحاز إلى فئة منهم، إلى الأغنياء الأقوياء فقد انتهى، ولكن اعلمْ أنّك للكل، وللجميع، ومن كان كذلك فقد صار لهم أبًا، وفي القرآن الكريم آية حيَّرت العلماءَ، سيدنا لوط يقول:
﴿ قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) ﴾
هل يُعقل أنّ سيدنا لوط يضحِّي ببناته لهؤلاء الشَّاذين ؟! غير معقول، لكن هناك تفسير وجيه لهذه الآية: الأنبياء مقامهم في أتباعهم مقام الأب، فكل النساء في قوم لوط في مرتبة بنات سيدنا لوط، والإنسان ذو القلب الكبير لا يرى بنات إخوانه إلا بناته، إذا تزوَّجن يرتاح، وإذا لم يتزوجن فهو في قلق، أنت عندما تنحلُّ مشكلةُ أخيك تشعر بشيء أُزيح عن كاهلك، فلا تقل: أنا زوَّجت بناتي فما لي علاقة بأحد، هذا كلام لا يُقال، لا بدَّ أنْ ترى مشكلات الناس على أنها مشكلاتك، هناك أزمات سكن، وهناك أزمات عمل، إذا كان الإنسان لا عمل له فساعِدْه، والله نصحت مرةً أخا من أهل الغنى، قال لي: أنا معي مال يكفيني إلى آخر حياتي، أنفق بأعلى درجة، لا أريد أن أوجع رأسي بهذا المعمل، قلت له: إذا كان عندك ثمانون عاملا، ويعيشون من معملك، وفتحوا بيوتهم، وأغنوا أُسرهم، فهذا أعظم عمل تجده في الآخرة، ولو لم تربح، ولو كان المصروف بقدر الربح، أنت لما تيسِّر الأعمال للناس، وتهيِّئ دخلا لثمانين أسرة، فهذا عمل عظيم، فليس كلُّ ربح ماديًا، كذلك مجلسه مجلس علم وحياء و صبر، تجد هناك مجالس فيها ضحك غير معقول أو مزاح خشن بالعورات، أو مزاح غليظ بالإيذاء أحيانا، أو لعب نرد، أو لعب ورق، أو ذكر النساء، وذكر العورات، مجلس قذر، انظُر إلى هذا التعبير كان مجلسُه مجلس علم و حياء و صبر، فيه علم، علم ثمين، كأنه غذاء، يمتلئ عقلُك غذاءً من كلامه، و بعد ذلك فيه أدب، وفيه حياء، وأصحابه يوقِّرون الكبير، ويعرفون حقَّ الصغير، فإذا رأيت أخا معه ابنُه، واللهُ يشهد أشعر بسعادة لا تُوصف، وأحب أن يكون الصغير مكرَّما في المسجد تكريما بالغا، لأن الطفل حين يجد نفسه مكرَّما في المسجد يحبُّ بيوت الله عزوجل، فلا أحد يؤخِّر طفلا إلى الصف التالي، اتركه فالصف الأول من حقه، النبي الكريم كان إلى يمينه غلام، لا أذكر دقَّة القصة، قال له: أتأذن لي يا غلام أن أعطيَ فلانا قبلك ؟ قال: والله لا أتنازل عن حقي لأحد، طفل يجلس إلى جنب النبي على يمينه، لا مانع اترُك الطفل يكون قويَّ الشخصية، إذا دخل إلى المسجد شعر بمكانته، له مكان بحسب دوره، وبحسب مجيئه باكرا، ما أحد يؤخِّر طفلا إلى صفٍّ آخر، مجلسه مجلس علم، وحياء، وصبر، وأمانة، لا كذب فيه، ولا صياح، ولا ضجيج، ولا شتائم، ولا مزاح رخيص، ولا تُرفَع فيه الأصواتُ، ولا تُذكر عورات الناس، فيُفضح إنسان أمام النبي، لا يسمح، النبيُّ كان عنده حياء، كان يقول:
(( لا تحمِّروا الوجوه ))
إذا أراد أن يرشد أصحابه لشيء وبينهم صحابي أخطأ، يصعد المنبر ويقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، ضيَّعوا، أنت يمكن أن تنصح الناسَ، إنسان أخطأ إذا واجهته بخطئه يستحي منك، تكلَّمْ بشكل عام، و قل حدَث بغير مسجد، وقد يكون في مسجدك، قل: في بعض المساجد هناك ناسٌ يفعلون كذا وكذا، حين قلت غير مسجد لم يعُد هناك إحراج، أنت كلما بعدت، ايتِ بنماذج بعيدة، واذكر الأخطاء بدون تسمية، بهذه الطريقة تتلافى الإحراج، وتحمير الوجوه كما يقولون.
كان أصحابه صلى الله عليه وسلم يتفاضلون بالتقوى، لكن في عصرنا الحاضر يقول القائل: أنا عندي بيت مساحته مئتا متر، أو أربعمائة، ثمنه كذا، بينما إذا أصحابه يتفاضلون بالتقوى، الإنسان إذا دخل بيت الله لا بدَّ أن يترك خارج المسجد مرتبته العلمية، ومكانته الاجتماعية، وحجمه المالي، هذا البيت بيت الله، و كلنا عباد الله عزوجل، من آداب دخول المساجد ألاَّ ترى لنفسك مكانة أعلى من أيِّ مصلٍّ آخر، هكذا الأدب، لأن هذا الذي تراه أقلَّ منك قد يكون أرقى عند الله منك، وأصحابه رضوان الله عليهم كانوا متواضعين، يوقِرون الكبيرَ، ويرحمون الصغيرَ، في العمرة الأخيرة، في محراب النبيِّ عليه الصلاة والسلام الإنسان يحبُّ أن يصلِّيَ بمحراب رسول الله، لفت نظري المحراب نصف قوس، وضعوا ثلاثة كراسي، عليها مصاحف بشكل مستقيم حتى لا أحد يصلي، ويدخل رأسَه إلى نصف الدائرة، لأنّ هذا مكان النبي بالذات، أنا أعجبني هذا الترتيب، تريد أنْ تصلي فصلِّ، هذا محراب النبي، لكن لا تستطيع أن تقف ضمن المحراب تماما، حيث في أثناء السجود تكون ضمن المحراب، هذا مقام النبي، فهذه الكراسي الثلاثة الموضوعة بشكل مستقيم حيث تحجز المصلِّين أن يدخلوا أجسامهم في نصف الدائرة في المحراب، فهناك أدب رفيع، وبينما كنتُ أصلي في هذا المكان جاء إنسان ضخم الجُثَّة أزاح هذه الكراسي وملأ المحرابَ بكاهله، وصلى، فلفت هذا التصرُّفُ نظري وأذهلني، هذه الكراسي الثلاثة عليها مصاحف ألم ترها ؟ عليك أنْ تصلي وراءها، أما أنْ تصلي محلَّ النبي بالذات فهذا الشيء لا يكون، هذا مقام النبي وحده، سيدنا عمر لما وقف على المنبر بعد استلامه الخلافة نزل درجة، قال: ما كان اللهُ ليراني وأنا أرى نفسي في مقام أبي بكر، ما تحمَّل أن يقف على درجة سيدنا الصديق، طبعا سيدنا عثمان لحكمة لا تقلُّ عن هذه الحكمة لم ينزل درجة، أحد خلفاء بني أمية سأل وزيرا له، قال له: (لِم لم ينزل سيدنا عثمان درجة ؟ قال: واللهِ لو فعلها لكنت في قاع بئر)، لو نزل كل خليفة درجة لكان لا بدَّ أن يحفروا تحت الأرض، كذلك ولحكمة بالغة ما فعله سيدنا عمر حين أظهر كمال أدبه إذْ نزل درجة، سيدنا عثمان أدرك أنه إذا أراد أن يفعلها فلن يبقى هناك محراب أساسا، ولا منبر، ويصير المكان بئرا، قال له:(واللهِ لو فعلها لكنت في قاع بئر)، يوقِّرون الكبير، ويرحمون الصغير، أما هذا الذي أزاح الكراسي، وملأ المحراب بكاهله فهو بعيد جدًّا عن الأدب الذي أراده النبيُّ، ومن السنة كذلك أنه إذا وقف الإنسان أمام قبر النبي ألاّ يقترب من القبر كما لو كان النبيَّ حيًّا يُرزَق، فأين يقف ؟ هناك شخص يقف أمامك ملاصقا، لو ترك ثلاثين سنتيمترًا لكان أكمل، هناك مسافة تعبِّر عن حسن ذوق، فالإنسان أمام رسول الله لا ينبغي أن يلتصق بالمقام، لا، ابتعدْ، اتركْ أمامك مترًا، أو مترين لا مانع، حتى هناك علماء ما جرؤوا أن يدخلوا من باب السلام، بقوا خارج المكان، قال: يا بنيَّ نحن إلى أدبك أحوج منا إلى علمك، سئل:(أيكما أكبر أنت أم النبي ؟ قال: هو أكبر مني وأنا وُلدتُ قبله)، فكان أصحابه رضي الله عنهم يوقِّرون الكبيرَ ويرحمون الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب.
الأدب السادس : كان دائم البشر سهل الخلق لين الجانب .
ومن آدابه مع جلسائه صلى الله عليه وسلم أنه كان دائم البِشر، سهل الخلق، ليِّن الجانب، ليس بفظٍّ، ولا غليظ، ولا صخَّاب، ولا فحَّاشٍ، ولا عيَّاب.
أيها الإخوة الكرام ؛ يمكنك أن تقعد مع أخ تصاحبه أربعين سنة أو خمسين سنة من دون أنْ تسمع منه كلمةً نابية، ولا اسم عورة ؛ ولا مزحة جنسية، لكنْ قد تقعد مع ناس ربع ساعة كل الكلام ملغوم، كله عورات، و كله مزاح متعلِّق بالجماع، من قلَّة الذوق، انظر، ليس بفحَّاش أبدا، ليس عنده كلمة نابية، ولا اسم عورة، فعَنِ ابْنِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ أَبَاهُ أُسَامَةَ قَالَ:
(( كَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبْطِيَّةً كَثِيفَةً كَانَتْ مِمَّا أَهْدَاهَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ فَكَسَوْتُهَا امْرَأَتِي فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَكَ لَمْ تَلْبَسْ الْقُبْطِيَّةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتُهَا امْرَأَتِي فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْهَا فَلْتَجْعَلْ تَحْتَهَا غِلَالَةً إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَصِفَ حَجْمَ عِظَامِهَا ))
فقط، هناك كلمات مثيرة، ليس بفظٍّ، ولا غليظ، لماذا ليس بفظٍّ ؟ لك قانون، قال تعالى:
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾
بسبب رحمة استقرَّت في قلبك من خلال اتِّصالك بالله لِنتَ لهم، معناه الرحمة من لوازمها اللين، ولو لم تكن هذه الرحمة في قلبك:
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾
يعني الاتِّصال بالله رحمة واجتماع، أمّا الانقطاع فهو قسوة وتفرُّق، كلما اقتربت من الله التفَّ الناسُ حولك، وكلما ابتعدت عنه صرتَ فظًّا غليظا، كلامك قاسٍ، قلبك كالصخر، لا يرحم، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخَّاب، أيْ هناك أشخاص صوته صخَّاب في الأسواق، لا بد للواحد ان يركِّب كاتما للصوت، ليس معقولا هذا الصوت، صوت عالٍ وكلام بذيء، وصياح، وضجيج، ليس بصخَّاب، ولا فحَّاش، ولا عيَّابٍ لطعام، الأكل ليس طيِّبا، هذه مالحة، وهذه محمضة، ما هذا الأكل ؟ فهذا لا يكون منه، دخل إلى بيت، ما هذا البيت، كأنه علبة، كيف تسكنون فيه، ركب سيارة، ما هذه السيارة ؟ هذه سيارة ! أينما قعد ينتقد، لا يعجبه بيت، ولا مركبة، ولا طعام، ولا وليمة، فذاك عيَّابٌ دائما، لكن هذه آداب النبي ؛ ما عاب طعاما قط، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ ))
يجيب ولو على مأدم، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخَّاب، ولا فحَّاش، ولا عيَّاب، ولا مدَّاحٍ، هناك شخص عندما يمدحك يخجلك، وكلامه مدح غير معقول إطلاقا، مرة حضرتُ عقد قران، قام شخص، وأثنى على العروس ثناءً جعله وليًّا، وأنا أعلم علم اليقين أنه منحرف، ولا يصلي، وله انحرافات أخلاقية خطيرة، أيُعقَل أنْ يستخفُّ بعقول الآخرين ؟ أنت لا تذمَّه، أما أن تعطيه صفات، وهو مفتقر إليها فهذا الشيء يهزُّ مكانتك، فالنبي ليس بمدَّاحٍ، ولا مزَّاح، يتغافل عما لا يشتهي، ظاهرة ما أحبَّها يتغافل عنها، قد يجد أحدُ المدعوِّين لوليمة شعرة في الأكل، فيعيب على صاحب الدعوة، وصاحب الدعوة ينسلق بدنه، مِن الممكن أن تكون شعرة في الأكل، اسحبها، ولا تقل أيَّة كلمة، اسكت، وكأنك لم ترَ شيئا، لكنه صلى الله عليه وسلم يتغافل عما لا يشتهي، يتغافل واللهِ شيء جميل، ليس بفظٍّ، ولا غليظ، ولا صخَّاب، ولا فحَّاش، ولا عيَّاب، ولا مدَّاح، ولا مزَّاح، فكثرة المزاح تذهب الوقار، مَن كثر مزاحُه استُخف به، وأمّا النبيُّ فكان يمزح، ولكن في اعتدال، كالملح في الطعام، إذا زاد عن حدِّه انقلب إلى ضدِّه.
هذه الخصال يجب أن نحفظها، ليس بفظٍّ، ولا غليظ، ولا صخَّاب، ولا فحَّاش، ولا عيَّاب، ولا مدَّاح، ولا مزَّاح، يتغافل عما لا يشتهي، قد ترك نفسه من ثلاث ؛ من المراء، والمشاحنة، والإكثار، وما لا يعنيه أحيانا، أنت تفهم الموضوع بكلمة، أعيدها لك مرة ثانية، ومرة ثالثة، ومرة رابعة، فهذه مزعجة، أحيانا القصة أسمعها مائة مرة من شخص، يا أخي فهمت، وحفظتها عن غيب، فالإعادة مملَّة، والدليل قلة الملاحظة، انظر إلى النبي كان قد ترك نفسه من ثلاث ؛ المراء والمشاحنة، والإكثار، وما لا يعنيه، الابن جاء من فرنسا، درس الفلسفة، جلس للطعام مع والده ووالدته، وهناك فرُّوجان على المائدة، قال الابن: يا أبت أنا أستطيع أن أقنعك أن هذين ثلاثة، بالدليل، وهما اثنان، والأب أذكى من ابنه، قال له: أنا آكل الأول، وتأكل أمُّك الثاني، وأنت كُل الثالث، أجل كل الثالث، هذا العيُّ، قيل وقال، فلان حكى، وفلان ما حكى، فلان ردَّ عليه، هذه معركة قذرة، قد ترك نفسه من ثلاث ؛ المراء، المشاحنة، والمجادلة، والإكثار، وما لا يعنيه، لماذا طلَّقها ؟ ما دخلك فيه ؟ طلقها، وانتهى الأمر، ما السبب، منه أو منها ؟ أنت ما تعنيك هذه الحادثة ؟ هذه أمور زوجية خاصة، يريد أن يفهم لماذا طلَّقها، يقول أحدهم: أنا موظَّف هنا، كم يعطونك في الشهر ؟ واللهِ هذه محرِجة، كم تتقاضى ؟ أين تذهب ؟ وإنْ رأيت شخصا قد تسأله إلى أين تذهب ؟ قد يكون ذاهبًا ليأكل في مطعم، وقد تلاسنَ مع زوجته، ولن يقول لك: إلى أين هو ذاهب، اترُكه يمشي، انظر: ترك نفسه من ثلاث ؛ المراء والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناسَ من ثلاث ؛ كان لا يذمُّ أحدا، ولا يعيبه، ولا يتعقّب عوراتِه، ولا يتكلم إلا فيما يُرجى ثوابُه، وإذا تكلم أطرق جلساؤُه، كأن على رؤوسهم الطيرُ، فإذا سكت تكلموا، بعضهم في زماننا هذا يقاطعك مائة مرة، فإذا سكت تكلموا، مرة زارني شخص، فبقي عندي ساعتين لم يتركني أتكلَّم كلمةً، ولا كلمة، بعد ذلك قال: أتسمح لي ؟ قلت له: مع السلامة، فإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده الحديثَ، ولا يتشاحنون أمامه، يسكت أحدهم، وغريمه أمامه، لأنك عندما تسيء إلى أخيك أمام شخص فهذه إهانة للشخص الثالث، ومن تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، كان عليه الصلاة والسلام يضحك مما يضحكون، هذه مشاركة، أحيانا تُدار طُرفة في الجلسة يضحك الناسُ، فإذا لم تضحك أخجلتهم، فمن الأدب أن تضحك معهم، كان يضحك مما يضحكون، ويتعجّب مما يتعجَّبون منه، ويصبر على جفوة الغريب، أحيانا شخص غريب يتكلم بقسوة، أحيانا يمسكك من يدك ويجرُّك، هذا ممكن، أعرابي شدَّ النبيَّ من ثوبه حتى أثَّر على خدِّه الشريفة، ابتسم فقط، اللهم صلِّ عليه، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:
(( دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الصَّنْعَةِ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ خَلْفِهِ فَجَذَبَ بِطَرَفِ رِدَائِهِ جَذْبَةً شَدِيدَةً حَتَّى أَثَّرَتْ الصَّنْعَةُ فِي صَفْحِ عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَعْطِنَا مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ قَالَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَسَّمَ ثُمَّ قَالَ مُرُوا لَهُ ))
و كان يقول عليه الصلاة و السلام:
(( إذا رأيتم طالب حاجة فأرفدوه ))
لا يقبل الثناء إلا من مكافئ، أي لا يقبل الثناء من أيِّ إنسان، قد يكون الشخص تافهًا، يتكلم على مزاجه، لا بدَّ أن يكون إنسانا قريبا منه حتى يقبل الثناء منه، هذا اسمه ثناء، أما الباقي فاسمه استخفاف، وكان عليه الصلاة والسلام لا يقطع على أحد حديثه حتى يجوزه، أي كان حسن الاستماع، والحقيقة أكثر الناس المتكلمون يحسنون الكلام، لكن قلَّة من الناس يحسن الاستماع، الاستماع له أدب
وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه ولعله أدرى بــه
***
أما سكوت النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: كان سكوتُه على أربع ؛ على الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكُّر، إما أنْ يسكت في تجاوز، فيسكت سكوت حلم، أو يسكت سكوت حذر، من كثر كلامُه كثر خطؤه، أو يسكت سكوت تقدير، أيْ يقدِّر الظرف، أو يسكت سكوت تفكر، عن تفكُّر، أو تقدير، أو حذر، أو حلم، و جُمع له صلى الله عليه وسلم الحلمُ، والصبرُ، فكان لا يُغضبه شيء، ولا يستفزُّه، أي كالجبل الأشمِّ الراسخ، هناك إنسان كالقارب، أقلُ موجة تقلبه، وهناك إنسان كالسفينة الكبيرة في البحر كأنها علَم، فكلما استفزَّك الناسُ، وأغضبوك، فأنت عندئذٍ صغير، أما إنْ كنت ذا شأن كبير، فلن يقوى أحدٌ على استفزازك، وكان عليه الصلاة والسلام يأخذ بالحسن ليُقتدَى به، ويدع القبيح لينهى عنه، و جمع خير الدنيا والآخرة، أي كذلك أصحابه دلَّهم على خير الدنيا، وعلى الكسب، وعلى العمل والاستقامة، ودلَّهم على خير الآخرة.
و في درس آخر إن شاء الله تعالى نتابع صفاته، وآدابه العظيمة التي كما يقولون: تتنزَّل من خلال روايتها الرحمةُ على المؤمنين.