- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وُحول الشهوات إلى جنّات القربات.
ما من إنسان على وجه الأرض إلا وهو مفطور على حبّ وجوده وحبّ سلامة وجوده :
أيها الأخوة الكرام، أحبّ بادئ ذي بدء أن أضع مصطلحاً خطيراً هو مصطلح "شيء مصيري"، معنى شيء مصيري يترتب على فعله إن كان أمراً سلامتك وسعادتك، ويترتب على عدم تركه إن كان نهياً شقاؤك وهلاكك، أي قد تأكل هذه الفاكهة أو لا تأكلها، أما حينما يأكل إنسان السم فيموت، موضوع السم غير الفواكه، هناك أعمال إن فعلتها سعدت إلى أبد الآبدين، وإن لم تفعلها شقيت إلى أبد الآبدين، فحينما تكون الموضوعات في الدين موضوعات مصيرية فالأمر خطير جداً، لأنه ما من إنسان على وجه الأرض إلا وهو مفطور على حبّ وجوده، وعلى حبّ سلامة وجوده، وعلى حبّ كمال وجوده، وعلى حبّ استمرار وجوده، الستة آلاف مليون إنسان بالقارات الخمس بل من آدم إلى يوم القيامة مفطورون على حبّ وجودهم، وعلى حبّ سلامة وجودهم، وعلى حبّ كمال وجودهم، وعلى حبّ استمرار وجودهم، من أين يأتي الشقاء إذاً؟ يأتي من الجهل، الجهل أعدى أعداء الإنسان، والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به، لذلك أزمة أهل النار في النار أزمة جهل:
﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾
عظمة هذا الدين أن أحد أكبر عبادته صلاة الجمعة :
لذلك عظمة هذا الدين أن أحد أكبر عبادته صلاة الجمعة، وأهم ما في الصلاة خطبة الجمعة، عبادة تعليمية، أي أنت لو لم تحضر مجلس علم أنت مفروض عليك أن تحضر خطبة جمعة، وفي الخطبة شرح لآية، أو شرح لحديث، وقد أجمع علماء التفسير حينما أمرنا الله عز وجل بالمسارعة إلى صلاة الجمعة:
﴿ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ﴾
قال العلماء: ذكر الله الخطبة، أي هذا الذي يأتي بعد انتهاء الخطبة ويقول: الحمد لله أدركت صلاة الجمعة، لا يكفي، حكمة هذه الصلاة بخطبتها.
الذنوب أنواع منوعة :
لذلك أيها الأخوة الموضوع اليوم موضوع متعلق بما يسمى موضوعات مصيرية، الظلم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام ظلمات يوم القيامة، لذلك قالوا: الذنوب أنواع منوعة، منها ما هو من الكبائر، ومنها ما هو من الصغائر، المؤمن قد تزل قدمه فيرتكب صغيرة، لكن الكبائر خطيرة جداً، الكبائر طريق للهلاك.
لكن هناك حديثاً جامعاً مانعاً عن النبي عليه الصلاة والسلام أن هناك ذنباً واحداً ينتهي بصاحبه إلى النار، وأن هناك عملاً مخلصاً واحداً ينتهي بصاحبه إلى الجنة، إذاً هذان موقفان خطيران جداً؛ موقف يأخذك إلى الجنة، موقف آخر يأخذ صاحبه إلى النار:
((عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا))
يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب :
لذلك أيها الأخوة الكرام حديث شريف أردده كثيراً، لأنه خطير جداً:
(( يطبع المؤمن على الخلال كلها ...))
أي قد تجد مؤمناً منطوياً على نفسه طبعه هكذا يحب العزلة، و قد تجد مؤمناً منفتحاً يحب اللقاء مع الناس، مؤمن يحب الحركة فيسافر، مؤمن آخر يحب الاستقرار، مؤمن طابعه اجتماعي، مؤمن طابعه انعزالي، مؤمن أنيق جداً، مؤمن أقل أناقة، مؤمن عصبي المزاج، مؤمن وديع المزاج، الطباع لا تعد ولا تحصى، بل كل إنسان له طبع:
(( يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب ))
فإذا كذب وخان ليس مؤمناً، حديث:
(( يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب ))
الكذب تبديل الحقائق، أي وقعت مظالم فلما احتج المظلومون كان القتل، فلما عبروا عن هذه المشكلة جاء الكذب، هناك ظلم وهناك قتل وهناك كذب، فلذلك الكذب خطير جداً، الكذب يقلب الحقائق:
(( يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب ))
فالذي يخون أمانته، يخون ضميره، يخون دينه، يخون قناعاته، يخون أمته، ليس مؤمناً:
(( يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب ))
أخطر أنواع الكذب أن يكذب الإنسان على الله عز وجل :
أخوتنا الكرام، الحقيقة الدقيقة الحديث الذي ذكرته قبل قليل:
(( إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا))
أخواننا الكرام، الكذب أنواع، والكذب درجات، أحياناً إنسان يكذب على زوجته بسعر بعض الحاجات، طبعاً هذا كذب، قد تقول لابنك: تعال خذ، فقال عليه الصلاة والسلام: ماذا أردت أن تعطيه؟ قالت: تمرة، فقال لها عليه الصلاة والسلام: أو إن لم تفعلي ذلك لعدت عليك كذبة، لذلك هذه نصيحة للآباء والمعلمين: ألف محاضرة في الصدق من امرأة لابنتها تهدم هذه المحاضرات إذا كذبت على زوجها وابنتها تعلم، الناس يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم، أي ألف محاضرة في موضوع تلغى بسلوك مخالف لهذا الموضوع، لذلك:
(( يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب ))
لذلك أخطر أنواع الكذب أن تكذب على الله، يقول الله عز وجل:
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾
هذا من أشد أنواع الكذب، بتعبير دقيق أن تفتي بخلاف ما تعلم، تعلم أنت الفتوى الصحيحة، إذا أفتيت بخلاف ما تعلم لمصلحة تريدها أو ممالأة لجهة قوية، إذا أفتيت بخلاف ما تعلم وقعت في شيء كبير، وفي ذنب خطير:
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾
وفي بعض الأقوال:
(( من أعان ظالما سلطه الله عليه ))
(( من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله ))
لذلك قل الحق ولو كان مراً، أبو جعفر المنصور لقي أبا حنيفة النعمان، قال: يا أبا حنيفة لو تغشيتنا، قال له: ولِمَ أتغشاكم وليس لي عندكم شيءٌ أخافكم عليه؟ وهل يتغشاكم إلا من خافكم على شيء؟ إنك إن أكرمتني فتنتني، وإنك إن أبعدتني أزريت بي.
من يقول على الله ما لا يعلم فقد وقع في إثم عظيم :
أيها الأخوة، موضوع دقيق الآية الأولى:
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾
لكن هناك آية أخرى ربنا سبحانه و تعالى رتّب الذنوب والمعاصي ترتيباً تصاعديًّاً، فذكر الفحشاء والمنكر، وذكر البغي والعدوان، وذكر الشرك، وذكر الكفر، وجعل في رأس هذه الكبائر:
﴿ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾
لذلك قال بعض العلماء: لأن يرتكب العوام الكبائر أهون من أن يقولوا على الله ما لا يعلمون، أنت حينما تقول على الله ما لا تعلم تطمئن العاصي أو تخوف التائب، ابن عمر دينك دينك إنه لحمك ودمك، خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا.
لكلِّ عصر إنسان يسمو به :
أيها الأخوة، ماذا نعمل؟ قال تعالى:
﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
الله عز وجل تعهد لخلقه أن يكون في كل عصر رجال على الحق، قد يكثرون في عصر وقد يقلون، ابحث عنهم، لكل عصر واحد يسمو به، لا تخلو الحياة من أناس صادقين، أناس مخلصين، أناس يخافون الله، أناس يبتغون إلى الله الوسيلة، أناس ورعون، لكل عصر واحد يسمو به، ابحث عن أهل الحق، ابحث عن الذي لا يسألك أجراً:
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
السؤال مفتاح العمل :
أيها الأخوة:
﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
والسؤال مفتاح العمل، لكن أنا أقول دائماً: ليس العار أن تكون جاهلاً لكن العار كل العار أن تبقى جاهلاً، ليس العار أن تكون مخطئاً ولكن العار أن تبقى مخطئاًً:
﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
وصدق ولا أبالغ إن الله عز وجل إن رآك صادقاً في طلب الحقيقة يهديك إلى أهل الحق دون أن تشعر:
﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
ما حكم هذا العمل؟ ما حكم هذا الموقف؟ ما حكم هذا البيع؟ ما حكم هذا الشراء؟
﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
الكتاب و السنة مقياسان للمؤمن في كل زمان و مكان :
ليس العار أن تقول: لا أدري، لكن العار أن تقول: أدري وأنت لا تدري، لذلك جاء وفد إلى الإمام أحمد بن حنبل في بغداد، السير أربعة أشهر، معهم ثلاثون سؤالاً أجاب عن سبعة عشر، قال: والباقي قال لا أعلم، قالوا: الإمام أحمد بن حنبل لا يعلم؟ قال: الإمام أحمد بن حنبل لا يعلم، نصف العلم لا أدري، هذه ورطة يقع بها طلاب العلم، غير معقول أن يقول لا أدري، يقول كلاماً من عنده، نصف العلم لا أدري، كنا مرة في الجامعة أعطانا الأستاذ درساً بليغاً في موضوع كلفنا به اعتمد أحد الطلاب على كلام أستاذه، قال له: وهل تحققت من هذا الكلام؟ هذا الكلام أنا تراجعت عنه، المؤمن عنده مقياس؛ عنده الكتاب والسنة:
(( تَركْتُ فيكُمْ أَمْرَيْنِ لنْ تَضِلُّوا ما تَمسَّكْتُمْ بهما : كتابَ الله، وسنّة رسولِهِ ))
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾
من هم أولي الأمر؟ الإمام الشافعي قال: العلماء والأمراء معاً، العلماء يعلمون الأمر، والأمراء ينفذون الأمر، جهة مشرعة وجهة منفذة، والآن هناك سلطات تشريعية وسلطات تنفيذية.
أي ينبغي أن يأتمر الأمير بتوجيه العالم لأنه يعلم الحق، والأمير يملك السلطة، فإذا تعاونا تكاملا.
بطولة الإنسان أن تأتي موازينه مطابقة لموازين القرآن الكريم :
أيها الأخوة، هناك نقطة دقيقة جداً، الخطأ في الميزان لا يصحح، بينما الخطأ في الوزن لا يتكرر، عندك ميزان غير صحيح هناك فرق مئتي غرام بين كفة وكفة دائماً، لو استخدمته مليون مرة المليون وزن خطأ، أليس كذلك؟ أما مرة استخدمت الميزان فتوهمت أن الكيليين كانوا كيلواً، مرة واحدة، الخطأ في الميزان لا يصحح، بينما الخطأ في الوزن لا يتكرر، أفضل ألف مرة أن تخطئ في الوزن من أن يكون ميزانك مغلوطاً، فالبطولة أن تعتمد ميزاناً صحيحاً، الله عز وجل أعطانا موازين، والأرض لها موازين، القوي مرهوب الجانب، الغني الناس يقبلون عليه، الإنسان مجبول على حب الكمال، والجمال، والنوال، يحب المحسن، يحب الجميل، يحب الكامل، لكن البطولة أن تأتي موازينك مطابقة لموازين القرآن، الله عز وجل يقول:
﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾
ابحث عن موازين القرآن:
﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾
ابحث عن موازين القرآن واسأل نفسك سؤالاً محرجاً: هل موازيني تنطبق على موازين القرآن؟ إن كنت كذلك فهنيئاً لك، وإن كان لك موازين لا علاقة لها بموازين القرآن فأنت على خطر عظيم.
من توجه لغير الله أفقد نفسه إنسانيتها :
أيها الأخوة، هناك وهم عند الناس أن الإنسان إن قام بحجة قبيل نهاية حياته يغفر الله له كل ذنوبه، أقسم لكم بالله هذا وهم كبير، يصوم رمضان يتوهم أن الله غفر له كل الذنوب، هناك ذنب لا يغفر وهو الشرك بالله:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾
عبرت عن هذه الفكرة بمثل؛ إنسان له مبلغ كبير في حلب، ركب القطار قد يقع بأخطاء؛ اشترى بطاقة من الدرجة الأولى وركب عربة في الدرجة الثالثة، هذا خطأ، لكن القطار في طريقه إلى حلب لا يوجد مشكلة، قد يتلوى من الجوع وفي القطار عربة طعام وهو لا يعلم، أمضى الساعات الخمس في جوع شديد، هذا خطأ ثان، لكن القطار في طريقه إلى حلب والمبلغ سيقبضه، قد يركب مع شباب منحرفين، طرائفهم الخبيثة تزعجه، هذا خطأ ثالث لكن القطار في طريقه إلى حلب، أما هناك غلط كبير جداً لا يغفر أن تركب قطار درعا والمبلغ بحلب، فالطريق هنا مسدود:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾
أي إذا توجهت لغير الله ليس هناك شيء، عبد فقير يخاف مثلك، عبد فقير قد يكون أنانياً، قد يكون كذوباً، إذا توجهت إلى إنسان فهذا أكبر خطأ ترتكبه في حياتك، لماذا؟ لأن الإنسان خلق لله عز وجل، أنت لله وقد سخر الله الكون كله إكراماً لك، فإذا توجهت لغير الله أفقدت نفسك إنسانيتك.
الإنسان مخير وفي اللحظة التي يتوهم فيها أنه مجبر يكون قد خرق أكبر محور للعقيدة :
أيها الأخوة، الشيء الدقيق أن الإنسان حينما يتوهم أن الله أجبره على هذا العمل يكون قد وقع في أكبر خطأ في العقيدة، أما القضية ببساطة ما بعدها بساطة، شارب خمر سيق إلى سيدنا عمر فقال: أقيموا عليه الحدّ، قال: والله يا أمير المؤمنين إن الله قدر عليّ ذلك، العوام يقولون: طاسات معدودة بأماكن محدودة، هذا الله شاقيه، كلام يقوله الناس كل يوم، هذا الكلام يتناقض مع العقيدة، فقال: أقيموا عليه الحد مرتين، مرة لأنه شرب الخمر، ومرة لأنه افترى على الله، قال له: ويحك يا هذا إن قضاء الله لم يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار:
﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾
الإنسان مخير وفي اللحظة التي تتوهم فيها أنك مجبر على أعمالك خرقت أكبر محور للعقيدة، الله لا يحاسب إلا المذنب، مرة اقتنيت كتاباً صاحبه كتب على أول صفحة بخط يده: يا رب إن سيئاتي من قضائك، أنا لا علاقة لي، هذا كفر بكمال الله عز وجل، يكتب عليك أن تكون سيئاً ثم يحاسبك؟
ألقاه في اليم مكتوفاً و قال له إيّاك إياك أن تبتل بالماء
***
هكذا خالق الأكوان؟! فقال: أقيموا عليه الحد مرتين، مرة لأنه شرب الخمر، ومرة لأنه افترى على الله، قال له: ويحك يا هذا إن قضاء الله لم يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار.
أيها الأخوة، مرة ثانية:
((إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا))
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين، أستغفر الله.
***
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أنواع الآيات في القرآن الكريم :
1 ـ آيات كونية :
﴿ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾
أي بما يدلهم على الله، الآية علامة لكن بعض العلماء قسموا هذه الآيات إلى أنواع ثلاثة قالوا: هناك آيات كونية:
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
هذه آيات كونية، الآيات الكونية قرآن صامت، والقرآن كون ناطق، والنبي قرآن يمشي، الآيات الكونية تعرفنا بالله عز وجل.
2 ـ آيات تكوينية :
والله عنده آيات تكوينية، أفعاله آيات، حدثني أخ راكب مع إنسان في طريقه إلى المطار، سائق السيارة أراد أن يتسلى بدهس جرو صغير استطاع ببراعة فائقة أن يسحق قائمتيه الصغيرتين، وتابع وأطلق ضحكة عالية أنه تمكن أن يسحق يديه فقط، أقسم لي هذا الأخ بالله أنه في الأسبوع القادم في المكان نفسه تعطلت إحدى عجلات السيارة، فك البراغي، وسحب العجلة، تعطلت الرافعة فهوت المركبة فوق العجلة، والعجلة فوق يديه، بعد ساعتين قطعتا، أقسم لي بالله السبت الماضي قطع يدي جرو صغير السبت القادم قطعت يداه، هذه من آيات الله التكوينية.
حدثني أخ بالقلعة أثناء إعدام قاتل فقال لي: قبل إعدام هذا القاتل قال: قبل أن أشنق سأروي لكم قصتي: أنا لم أقتل هذا الذي اتهمت بقتله، و لكني قتلت إنساناً منذ ثلاثين سنة، كنت رئيس مخفر أودعوا عندي إنساناً فهرب فأحضرت بدوياً و وضعته مكانه، وفي اليوم الثاني أعدمته، الله له آيات كونية، وآيات تكوينية.
رجل يطوف حول الكعبة، ويقول: ربي اغفر لي ذنبي ولا أظنك تفعل؟ وراءه رجل قال له : يا هذا ما أشد يأسك من رحمة الله؟ قال له: ذنبي عظيم، قال له: ما ذنبك؟ قال له: كنت جندياً في قمع فتنة، فلما قُمعت أُبيحت لنا المدينة، فدخلت أحد البيوت فرأيت فيه رجلاً، وامرأة، وطفلين، قتلت الرجل، وقلت لامرأته: أعطيني كل ما عندك، أعطتني كل ما عندها، فقتلت ولدها الأول، ولما رأتني جاداً في قتل الثاني أعطتني درعاً مذهبة - من الذهب-، أعجبتني أيما إعجاب، تأملتها، تفحصتها فإذا عليها بيتان من الشعر قرأتهما فوقعت مغشياً عليّ، البيتان:
إذا جار الأمير وحــاجباه وقاضي الأرض أسرف في القضاء
فـــويل ثم ويل ثم ويل لقاضي الأرض من قاضي السماء
* * *
أقول هذا الكلام لكل الأطراف؛ سفك دم إنسان بريء شيء كبير جداً:
فـــويل ثم ويل ثم ويل لقاضي الأرض من قاضي السماء
* * *
قد تقع عين الأم على ابنها، تقول الأم لابنها: يا بني، جعلت لك صدري سقاء، وبطني وعاء، وحضني وطاء، فهل من حسنة يعود عليّ خيرها؟ يقول لها ابنها : يا أمي، ليتني أستطيع ذلك إنما أشكو مما أنت منه تشكين:
﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾
أبو السائب أحد أصحاب النبي توفي، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيت أبي السائب وهو مسجى على السرير، فسمع امرأة من وراء الستر تقول:
(( رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ فَقُلْتُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ فَقَالَ أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي قَالَتْ فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا ))
بطولة الإنسان أن يكون مستقيماً مع الله عز وجل :
لذلك قال النبي:
((إن الله تعالى لا يعذب العامة بل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة))
﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾
هذا كلام خطير جداً يقول النبي عليه الصلاة والسلام:
((إن الله تعالى لا يعذب العامة بل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة))
والدليل:
﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ﴾
﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ* وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾
شبه الله كيده بحبل، المتانة مقاومة قوى الشد، والقساوة مقاومة قوى الضغط، أقسى عنصر الألماس، أمتن عنصر الفولاذ المضفور،
﴿ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾
هذا الذي يتوهم نفسه قوياً هو في قبضة الله بأي لحظة يدمر، فالبطولة أن تكون مع الله مستقيماً.
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.