الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الآية التالية تدلّ دلالةً قطعيةً على أنَّ الناجينَ قِلّة والمستقيمين قِلّة:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني عشر من دروس مدارج السالكين.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:

﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُم وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)﴾
هذه الآية تدل دلالةً قطعيةً على أنَّ الناجينَ قِلّة، وعلى أنَّ المستقيمين قِلّة، وعلى أنَّ الطائعينَ قِلّة، فإذا وجدتَ نفسكَ في عصرٍ ما مع القِلة الطائعة بعيداً عن الكثرة العاصية، مع القِلّة المنيبة بعيداً عن الكثرة المعرضة، مع القِلّة المتبّعة لسنة النبي عليه الصلاة والسلام بعيداً عن الكثرة التائهة والضالة فهذه علامة طيبة، لأنَّ الله سبحانه وتعالى في هذه الآية وبدلالةٍ قطعية يؤكد أنَّ أكثرَ من في الأرضِ:
﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)﴾

هناك شعور ينتاب المؤمن، يا رب كلُّ هؤلاء الناس على خِلاف الحق، أكثرُ هؤلاء الناس ليسوا على الطريق المستقيم، أيهما على حق أنا أم هم؟ لِئلا تقعَ في هذا الصِراع، لِئلا تشعرَ بالوحشة، لِئلا تشعرَ بأنكَ وحيدٌ في هذا المجتمع التائه، لِئلا تُحس، لعل الحقَّ مع هؤلاء الأكثرية، لعلي على ضلال أنا وحدي، لِئلا تقع في هذه المشاعر التي لا ترتاح لها، جاءت الآية الكريمة تؤكدُ:
﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ﴾ أي بقيةٌ قليلةٌ ينهونَ عن الفسادِ في الأرض، معنى ذلك أنَّ الفسادَ ظهرَ وعمّ، وأنَّ هذه القِلةَ القليلة، وأن هذه الفئة القليلة تنهى عن الفساد في الأرض، لو عرضتَ أمرها على الناس لرأوها فِئةً تائهةً، أي أنت لو أُتيحَ لكَ أن تقبضَ مالاً كثيراً من شُبُهةٍ ورفضته تُتهمُ في عقلك، لو أُتيحَ أن تكونَ في نزهةٍ مع أًصحابٍ، النزهة مختلطة، ورفضتَ هذه النزهة، لاتهمت في عقلك، لو جاءكَ خاطِبٌ لابنتكَ من مستوىً رفيع في ماله وفي جاهه وفي عمله، ورفضتَ هذا الخاطب لرِقةٍ في دينه تُتهمُ بعقلك، فلِئلا تقعَ في هذه المشاعر جاءت الأحاديث الشريفة تؤكد فحوى هذه الآية.
أحاديث شريفة تؤكد فحوى الآيات:
(( يقول عليه الصلاة والسلام: عن أبي هريرة: بَدَأَ الإسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كما بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ. ))
(( قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لينحازن الإيمَانُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا يَحُوزُ السَّيْلُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيَأْرِزَنَّ الإسْلامُ إِلَى مَا بَيْنَ هذين الْمَسْجِدَيْنِ، كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا. ))
[ مجمع الزوائد: خلاصة حكم المحدث: فيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وهو متروك ]

الناس خرجوا في الطرقات بلا احتشام، وبلا وقار، وبلا تستر، وبلا انضباط، تَبِعوا الأجانب في أزيائهم، لو أنَّ ثيابَ المرأةِ الأجنبيّة تبذّلت لتبذّلت المرأة المسلمة معها اتباعاً لها:
(( عن أبي هريرة: لتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن كان قَبلَكم شِبرًا بشِبرٍ، وذِراعًا بذِراعٍ، حتى لو دخَلوا جُحرَ ضَبٍّ لدخَلتُموه. ))
[ خريج المسند لشعيب: خلاصة حكم المحدث : صحيح ]
فحينما ترى أنَّ الكثرة الكثيرة خرجوا في الطرقات بلا حجاب، بلا احتشام، بلا وقار، تتبّعوا عادات الأجانب عادةً عادة، قلّدوهم في كلِّ شيء، قلّدوهم في احتفالاتهم المُختلطة، قلّدوهم في إنفاقهم المُترف، قلّدوهم في أكلهم المالَ الحرام، قلّدوهم في العلاقات الربوية، قلّدوهم في تفلت الناس من منهج الله عزّ وجل، إنَّ رأيتَ مجتمعاً هكذا صِفته، وأنتَ غريبٌ عنه، لا ترضى به، تُنكرُ ما فيه، فهذه بِشارةٌ طيبةٌ على أنك من الغرباء، أي أيها المؤمن لا تشعر بالوحشة، وحشتك طبيعية جداً، وحشتك من الناس طبيعية، بل هيَ شعورٌ صحيّ للمؤمن، يقول عليه الصلاة والسلام:
((بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيلَ: يا رسول الله ! ومن الغرباء؟ الذين يصلحون إذا فَسَدَ الناس)) البطولة أن تُتاح لكَ الدنيا من أوسع أبوابها، أن يُتاح لكَ أن تكونَ في أعلى المراتب، لكنَّ هذه المرتبة التي يطمحُ لها الناس، أساسها إيقاع الأذى بالناس، أو إضلال الناس، أو إفساد العلاقات، فمهما كانت هذه المرتبةُ مغريّةً، لوجود شُبهةٍ فيها تبتعدُ عنها، إذاً:
((يصلحون إذا فَسَدَ الناس)) 
حينما يَعمُّ الفسادُ في الأرض، أكثر الناس لا يبالون أكانَ كسبهم حلالاً أم حراماً، أكثرُ الناس لا يبالون أكانت علاقاتهم مع بعضهم مشروعةً أو غيرَ مشروعة، أكثرُ الناس لا يبالون إذا كانت أعمالهم أساسها طاعة أو معصية، يقول لك: شيء رائج الآن، لكن هذا فيه شبهة، أعرف أخاً كريماً بلا دخل، جاءته وظيفةٌ دخلها كبير، ولكن في ممارسة هذا العمل بعضُ المعاصي فرفضها، لو عرضتَ قصته على الناس لاتهموه جميعاً بالجنون، يشعر بغربة، حتى أهله، حتى أمه، حتى أبوه.
أعرف رجلاً آخر، جاءه عرضٌ لِبضاعةٍ لا تُرضي الله عزّ وجل، عشرة آلاف قطعة صنِّعها وخذ ثمنها، ولكن إذا صنّعتَ هذه القِطع فقد أعنت على الإثم والعدوان، ثيابٌ ترتديها النساء في المسابح لا تُرضي الله عزّ وجل، وهو في أشدّ حالات الضيق فرفضها، أنا أقول لكم: الإيمان ليسَ كما يظن الناس، الإيمان ليسَ صلاةً وصياماً فقط، ليسَ عبادات شكلية جوفاء كما هيَ عندَ الناس، الإسلام مواقف، الإسلام منهج متكامل،

الإسلام يدخل في دقائق عملك اليومية، يدخل في مهنتك، في حرفتك، في بيتك، في نزهتك، في لهوك، في جِدّك، في سفرك، في حَضرِك، الإسلام تقريباً مئة ألف بند، عندما المسلمون اختصروه، اختصروه إلى أربع أو خمس عبادات شكليّة، وفيما سِوى هذه العبادات هم على أهوائهم، وفقَ نزواتهم، وفقَ ما يحلو لهم، وفقَ مصالحهم، وفقَ طموحاتهم الدنيوية، فصلوا الدينَ عن الدنيا، وجعلوا الدنيا في واد والدينَ في واد، لذلك بلغوا ألف مليون في العالم وليست كلمتهم هي العليا، لا أقول: سفلى؛ لكن ليست هي العليا، مع أنَّ الله يقول:
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾
والحديث الصحيح:
(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأكْثَمَ بْنِ الْجَوْنِ الْخُزَاعِيِّ:
عن عبد الله بن عباس: خيرُ الصحابةِ أربعةٌ وخيرُ السرايا أربعمائةٍ وخيرُ الجيوشِ أربعةُ آلافٍ ولا يُغْلَبُ اثنا عشرَ ألفًا من قِلَّةٍ.))
[ خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح: التخريج : أخرجه أبو داود ]

لو أنَّ عددَ المؤمنين الصادقينَ في الأرض اثنا عشر ألف رجل ما غُلِبوا، فكيفَ إذا كانوا ألفَ مليون؟ ماذا يعني ذلك؟ القضية عندَ الله ليست بالمظاهر، المظاهر الإسلامية الصارخة، والثياب الإسلامية، والمصاحف، والأشرطة، والخُطب، والجوامع ملأىَ بالمُصلين، هذه مظاهر، هذه تُبشر بالخير، ولكن ليست كذلك عِندَ الله، عِندَ الله عدد المسلمين هو عدد الطائعين، عدد المُلتزمين، من وليُّ الله؟ أهو الذي يطير في الهواء؟ قال: لا، أهو الذي يمشي على وجه الماء؟ قال: لا؟ الوليُّ كلُّ الوليّ الذي تجده عِندَ الحلالِ والحرام.
فيا أخي الكريم؛ إسلامك في معملك، إسلامك في دكانك، إسلامك في وظيفتك، إسلامك في بيعك وشرائك، إسلامك في تعاملك، إسلامك في جوارحك، في مهنتك، هذا هو الإسلام، أول حديث: ((طوبى للغرباء، قيلَ: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فَسَدَ الناس)) .
حديثٌ آخر، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( عن المطلب بن عبدالله بن حنطب: طوبى للغُرَباءِ. قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، ومنِ الغرباءُ؟ قالَ : الَّذينَ يزيدونَ إذا نقصَ النَّاسُ. ))
[ ابن القيم: المصدر: مدارج السالكين: خلاصة حكم المحدث : إن كان هذا الحديث بهذا اللفظ محفوظا – لم ينقلب على الراوي لفظه وهو (الذين ينقصون إذا زاد الناس – فمعناه: الذين يزيدون خيرا وإيمانا وتقى إذا نقص الناس من ذلك
التخريج : أخرجه أحمد ]
ما معنى يزيدون إذا نَقَصَ الناس؟ أي إذا قلَّ أهلُ الخير زادَ خيرهم، وإذا قلَّ أهل المعروف زادَ معروفهم، وإذا قلَّ أهلُ الورع زادَ ورعهم، وإذا قلَّ أهلُ الالتزام زادَ التزامهم، الذين يزيدون في المعروف، وفي الورع، وفي الطاعة، وفي القربات، وفي البذل، وفي التضحية إذا نَقَصَ الناس.
حديث آخر:
(( عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الأحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الإسْلامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، قِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ. ))
[ أخرجه الترمذي: ابن حزم | المصدر : الإحكام في أصول الأحكام: خلاصة حكم المحدث : في غاية الصحة ]

أي قبيلة خرجَ منها واحدٌ أو اثنان، تعرّفا إلى الله عزّ وجل، وطبقّا أمرَ النبي، وجاهدا في سبيله، وبذلا الغالي والرخيص، والنفسَ والنفيس، فهذا نَزَعَ من القبيلة، واحد أو اثنان، الأكثرية مُقيمةٌ على أكلِ الربا، وعلى لَعِب الميسر، وعلى متابعة الأعمال الفنية الساقطة، الأكثرون هكذا، أي صارَ الناسُ موحدين بنزعاتهم التي لا تُرضي الله عزّ وجل، أي أهدافهم كما قلت قبلاً الإنسان وعاء، أخطر ما في الوعاء ماذا يُصبُّ فيه؟ أنت ما الذي يغذيك ثقافيّاً؟ الغذاء المعروف معروف، الطعام والشراب، أما هذه النفس هي وعاء ماذا يُصبُّ فيها؟ أخبار الفنانين مثلاً؟ أخبار أهل الدنيا؟ أخبار الساقطين والساقطات؟ ماذا يُصبّ؟ ما الذي تقرؤهُ؟ ما الذي تستمعُ إليه؟ ما الذي تُشاهده؟ هذا الوعاء ماذا يُصبُّ فيه؟ لن يخرجَ منه إلا مثلَ الذي يُصبُّ فيه، فإذا ملأتَ وعاءك من أخبار الفنانين فلن تتكلّمَ إلا عنهم، وإن ملأتَ وعاءكَ من أخبار أهل الدنيا، وكيف سافروا؟ وكيف تزوجوا؟ وكم بذلوا؟ والمُتع التي مارسوها؟ والشهوات التي غَرِقوا فيها، والأفعال الخسيسة التي فعلوها، لن تستطيع أن تتحدثَ إلا عن هؤلاء، أما إذا ملأتَ وعاءكَ من كتاب الله، ومن سُنّة النبي عليه الصلاة والسلام، ومن بطولات أصحاب رسول الله، راقب نفسك؛ إذا أردتَ الحديث لن تتحدثَ إلا عن هؤلاء أبداً، هذا الذي قاله الأجداد: كلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضحُ.
أخطر ما في الأمر أن تُراقب من الذي يُغذيك؟ عندك مصادر مسموعة، وعندك مصادر مقروءة، وعندك مصادر مشاهَدة، فالمشاهدات مع المسموعات مع المقروءات، أي كتاب تقرأ؟ كتب، قصص ساقطة، أي مجلات تقرأ؟ أي أشياء تشاهدها في السهرة؟ أي أشياء تستمع إليها؟ هذه المصادر، فلن تتكلم إلا من هذا الذي تستمعُ إليه، ما يخرج منك من جنس ما تُغذى به، قل لي ماذا تقرأ أقل لك من أنت، قل لي ماذا تُشاهد أقل لك من أنت، قل لي ماذا تسمع أقل لك من أنت، قال: ((فطوبى للغرباء، قيلَ: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: النُزّاعُ من القبائل)) أي كل قبيلة ينزع منها رجل أو رجلان تجد أسرة كبيرة في علاقاتها، اختلاط، مع احتفالات، تجد مطاعم كلها إكراماً لشهر رمضان المبارك، تُقدّم وجبات نفيسة وطيبة، ونساء ورجال بأبهى زينة، بلا صلاة، يقول لك: سهرنا للساعة الثانية حتى انطفأ ثم نمنا واستيقظنا صباحاً، أين السَحور بقي؟ أين الفجر؟ هكذا الناس، ((إِنَّ الإسْلامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، قِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِل)) .
حديث رابع:
(( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يُحيون سٌنّتي ويعلمونها الناس. ))
[ رواه البيهقي في الزهد من حديث كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده وهو ضعيف جدًا رقم-207- كما رواه الترمذي برقم -2632-، وقال: حسن، وفي بعض النسخ حسن صحيح!! ولفظه: "فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس بعدي من سنتي" وهذا مما أخذه عليه النقاد، ولعله حسنه أو صححه لكثرة شواهده ]
طبعاً النبي له سُنّة:
وكل يدَّعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا

كلٌّ يدّعي أنه يحبُ رسول الله، وقد قالَ الله عزّ وجل:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)﴾
لا أصدّق أن تدّعي حُبَّ رسول الله أو حُبَّ الله عزّ وجل وأنتَ مُخالفٌ سُنّته، أبداً، علامة حُبكَ للهِ عزّ وجل اتباع سُنّة نبيه، إذاً: ((بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يُحيون سٌنّتي ويعلمونها الناس)) يحيونها بالتطبيق، وينشرونها بالتعليم، والشيء الذي تعرفونه جميعاً وهو قوله تعالى:
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)﴾
أجمعَ المفسرون على أنَّ هذه الآية تعني أنه إذا كانَ النبي عليه الصلاة والسلام بين ظهرانيهم، بينَ أصحابه، لن يُعذبوا، وأنه إذا كانت سُنّته مُطبقةً فيمن بعده لن يُعذبوا، فأنتَ متى لا تُعذب؟ في حالتين؛ إما أن تكونَ مع النبي الكريم شخصيّاً، وإما أن تكونَ سُنّته معك مُطبقةً في بيتك، نعم لا تُعذب، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ أي سنتك مطبقة في حياتهم.
(( عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَاعِدًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: يُبْكِينِي شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَإِنَّ مَنْ عَادَى لِلَّهِ وَلِيًّا، فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الأبْرَارَ الأتْقِيَاءَ الأخْفِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا وَلَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ. ))

أحياناً تأتي الفِتن كقطع الليل المُظلم، إلا من رَحِمَ ربك، إلا من نجّاه الله عزّ وجل، بعيدٌ عن هذه الفِتنة، هناكَ فِتنٌ تدعُ الحليمَ حيرانا، المؤمن الصادق يُنجيه الله عزّ وجل من هذه الفِتن، أخفياء لا يُحبون الشُهرة، أتقياء لا يحبون المعصية، أبرياء ليسوا متهمين، إذا غابوا لم يُفتقدوا، وإذا حضروا لم يُعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل فِتنةٍ عمياء مظلمة كما قيل: ابتغوا الرِّفعةَ عِندَ الله، هم لا يسعونَ إلى رِفعةٍ بين الناس، إلى رِفعةٍ عِندَ الله عزّ وجل، البطولة أن تحجز مكانةً عِندَ الله، قال تعالى:
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)﴾
لك مكان عِندَ الله، لكَ مكانة عِندَ الله، تشعر أنَّ الله يُحبك، تشعر أنكَ على المنهج الصحيح، تشعر أنكَ في الطريق الصحيح، تشعر أنتَ متجهٌ إلى الهدفِ الصحيح، هذا الشعور يُغنيكَ عن مدحِ الناس، وعن الرفعةِ بينَ الناس، وعن تسليط الأضواء، وعن الشُّهرة، وعن الشأن، وعن الجاه، هذه كلها تستغني عنها لشعوركَ أنَّ الله يُحبك.
يقول مُؤَلّفُ هذا الكتاب قال: هؤلاءِ هم الغرباء الممدوحون المغبوطون، لِقلّتهم في الناس، لِقلتهم سُـمّوا غُرباء، مدينة فيها خمسـة ملايين، أحياناً تجد فيها مئة سائح، مئتي سـائح،

سُـميَّ هؤلاء السـياح غرباء لأنهم قِلّةٌ، خمسة ملايين في المخرج، في الصورة خمسة، خمسة عشر، عشرون، ثلاثون، مئة، قال: سُمّوا غرباء لِقلتهم، فإنَّ أكثرَ الناسِ على غيرِ هذه الصفات، قال: أهلُ الإسلام غرباءٌ في الناس، المسلمون إذا وضعتهم مع عامّةِ الشعوب، أربعمئة وخمسون مليوناً في الهند يعبدون البقر، أعوذ بالله، تمشي البقرة في الطريق تقطع الطريق، يبقى الطريق مُعطّلاً ساعات طويلة، البقرة تمشي لا نستطيع، تدخل البقرة إلى بائع الفاكهة فتأكل من هذه الفاكهة ما لذَّ وطاب، وصاحب البقالية مغتبطٌ أشد الاغتباط، في الأعياد يضعون روثَ البقر على أثاثِ بيوتهم، هذه أرقى أنواع العطورات، أربعمئة وخمسون مليوناً، ثلاثمئة وخمسون مليوناً يقولون: لا إله، لا يوجد إله، في الشمال، ثلاثمئة وخمسون مليوناً عقيدتهم الإلحاد، تذهب للغرب، ثلاثون بالمئة من الزنا زِنا المحارم، الأب مع ابنته، والأب مع أخته، والأخ مع أخته، والابن مع أمه، ثلاثون بالمئة، إحصاء دقيق جداً، هذا كلام علمي، ثلاثون بالمئة من الزنا زِنا المحارم، والأمراض الجنسية بأعداد وبائية، كذا مليون يُمارسون الشذوذ الجنسي مع بطاقات، مع هويات يفتخرون بها، معنى هذا المسلمون المقصّرون غرباء أمام هؤلاء، الزواج في أمريكا عياره سنة أو سنة ونصف فقط، مزاج، لأتفه سبب تنفصم العلاقة الزوجية، أي أن يكون للزوجة عِدة أصدقاء، تغيب أحياناً عن البيت أسبوعاً أو أسبوعين، وضع طبيعي جداً، كان أحد الخبراء عِندنا في بلدنا، فعَمِلَ احتفالاً لطيفاً، بقي عندنا أكثر من عام ونصف، قال: جاءني مولود، أنت أين كنت؟ أنتَ في الشام مقيم، وزوجتكَ هناك، هكذا لا يهمه، جاءه مولود فعمل احتفالاً بمجيء مولود، والله المسلمون غرباء أمام هكذا مجتمعات، غرباء جداً، طبعاً يوجد أمثلة كثيرة جداً.

فقال: أهلُ الإسلام في الناسِ غرباء، والمؤمنونَ في أهلِ الإسلامِ غرباء، المؤمن الصادق مع عامة المسلمين، أين تمشي؟ مع الناس يمشي المسلم، يعتقد أنه يوجد إله، ولكنه ليس مطبقاً شيئاً، كله يفعل كما يفعل الناس، المؤمن الصادق مع عامة المسلمين غريب.
قال: أهلُ العِلمِ في المؤمنين غرباء، المُتبحر بالعِلم، الذي عرَفَ سِرَّ وجوده، والهدفَ من وجوده، وعَرَفَ حقيقةَ الدنيا، وعَرَفَ عِظَمَ المسؤولية، ورأىَ أنَّ الكونَ كله مُسخرٌ للإنسان، يرى أنَّ الوقتَ ثمين جداً، وأنه لا يُمضي وقته إلا في عملٍ صالح، فإذا وازنَ نفسه مع المؤمنين يرى نفسه غريباً عنهم.
قال: وأهلُ السنّة الذين يمِيزونها من الأهواء والبِدع، أي أصحاب العقائد الصحيحة، وأصحاب التحقيق العلمي في السنّة، هذا الحديث موضوع، وهذا الحديث ضعيف، وهذه بِدعة النبي لم يقلها، يوجد عِنده صحوة، هؤلاء أيضاً غرباء عِندَ عامةِ أهلِ العِلم.
هذه القضية قضية كلما ارتفع مستوى الإنسان تقلّ الدائرة، مثل الهرم تماماً، إذا أنت مع أول قاعدة واسعة جداً، صعدت درجة القاعدة قلّت، كلما صَعِدتَ في هذا الهرم ضاقت القاعدة، لذلك لو جاء النبي، أيُّ نبي، وجلسَ مع مؤمنين، لا أُبالغ يرى نفسه غريباً عنهم.
(( عن أبي هريرة: أبيتُ عِندَ ربي يطعمني ويسقيني. ))
(( عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالنَّاسِ، فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الأُولَى، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدِ انْجَلَتِ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا». ثُمَّ قَالَ: «يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلبَكَيْتُمْ كَثِيرًا». ))

الأنبياء لو وزِنوا بالمؤمنين يصبحون غرباء، قال تعالى:
﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)﴾
فأنت افتخر وكُن مع الأقليّة، كُن واحداً كألف لا ألفاً كأُف، الله عزّ وجل قال:
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)﴾
حدثني شخص قال لي: كنت في بلد أجنبي، إقلاع الطائرة الساعة الثانية بعد منتصف الليل، طلبت سيارة أجرة، جاءتني إلى الفندق، قال لي: في الطريق أيام شتاء، أيام الثلج والأمطار، وبرد شديد، وجدتُ طابوراً، أقسمَ لي وهو تلميذٌ كان لي سابقاً، أقسمَ لي أنَّ هذا الطابور يزيد طوله عن ثلاثة كيلو مترات، فسأل السائق: ما هذا؟ والساعة الثانية بعد منتصف الليل، قال له: أُذيع الليلة أنه سيوزعُ اللحم الساعة الثامنة صباحاً، قلت: يا الله! قال: في هذا المجتمع الزنا ثمنه قِطعة من المسكة، قطعة واحدة تأخذ أجمل فتاة، قلت هذه الكلمة وصِرت أُكررها: هانَ الله عليهم فهانوا على الله، هانَ الله عليهم فهانوا على الله.

أي في مجتمعٍ بلا تحرش، بلا قلق، بلا وجل، بلا خوف، بلا شعور بالمسؤولية، مادامَ الله قد هانَ عليهم إلى هذه الدرجة، إذاً هم هانوا على الله، ما دامَ لحم النساء قد رَخصَ إلى هذا المستوى، إذاً غلا لحم الضأن إلى هذا المستوى، ثلاثة كيلو متر، والساعة الثانية ليلاً، والثلج والتوزيع الساعة الثامنة صباحاً، هم واقفون وراء بعضهم بعضاً، كلما رخص لحم النساء غلا لحم الضأن، وكلما قلَّ ماءُ الحياء قلَّ ماء السماء، أبداً، فالإنسان البطولة أن يكون مع القِلة المؤمنة، أن يكونَ مع الغرباء كي ينجو من عذاب الله عزّ وجل.
الغُربة تكون في مكان دون مكان:
الآن تعقيب صغير، قال: هذه الغُربة تكون في مكان دون مكان، أي إذا كنتَ في بلدة كدمشق، والحمد لله، أدامها الله علينا، المساجد ممتلئة،

أُناسٌ صالحون كثيرون والله، قلوبهم فيها رحمة والله، وهناك صحوة دينية طيبة جداً، المساجد ممتلئة في كلِّ الأوقات، في التراويح، في صلاة الفجر والحمد لله، أُناسٌ طيبون مقبلون على الدين، ربما لا تحس أنكَ هنا غريب، لكن لو ذهبت إلى بلدٍ أجنبي، ورأيتَ الزنا على قارعة الطريق، لا تحتمل، قال لي شخص: ذهبت إلى فرنسا، وقفت على نهر السين، شاهدت شاباً كئيباً، ولغتي الفرنسية ضعيفة، قلت: أتمرن فيه، فاقتربت وسألته، فقال له: أنا أريد أن أنتحر، قلت له: لماذا؟ قال له: والله الحياة لا معنى لها عندي، قلت له: ما الذي يزعجك؟ قال: أحب فتاة فأخذها مني أبي، سبحان الله! الأب عندنا مُقدّس، الأب كل هدفه ابنه، هدفه أن يزوجه، هدفه أن يأخذ له بيتاً، انظر عندنا، عندنا علاقات طيبة جداً، تجد الأب كل همه في أولاده، إذا زوجهم واشترى لهم بيوتاً واطمأنَ على مستقبلهم يرتاح الأب، هذا أب، أما ذلكَ الأب فقد نافسَ ابنه على فتاة، فيجوز أنت في دمشق لا تكون غريباً، تجد نفسك مرتاحاً، أينما كنت مساجد، آذان، قرآن، الحمد لله هذه نعمةٌ كبرى.
قال: قد تكون في مكان دون مكان، وفي وقت دون وقت، وبين قومٍ دون قوم، يجوز بالشام نفسها حيّ مُحافظ وحيّ غير مُحافظ، أيام رمضان غير بعد رمضان، برمضان له حكم، على كلّ هناك تفاوت في هذه النسبة.
قال: أهلُ الله عزّ وجل لا يأوون إلا إلى الله، ولا ينتسبون إلا إلى رسول الله، ولا يدعو إلا إلى الله، وهكذا.
البطولة أن تكون متواضعاً وتعرف أن المراتب عِندَ الله ليست كما هيَ عِندَ الناس:
هذه الغُربة اسم على غير مُسمى، صاحب هذه الغُربة لا يُحس بالغُربة، يُحس بالأُنس، لأنه مع الله عزّ وجل، هو عِندَ الناس غريب، عِندَ الناس كأنه شاذ، لكن هوَ عِندَ الله مُقرّب، الله عزّ وجل يؤنسه، يتجلى على قلبه.
قال: هذه الغُربةُ لا وحشةَ على صاحبها، بل هو آنسُ ما يكون إذا استوحشَ الناس، إذا الناس خافوا وقلقوا، أحياناً بوادر زلزال ارتعدت فرائص الناس، المؤمن ماذا يقول؟ يتلو قوله تعالى:
﴿ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)﴾
إلى أينَ الذهاب؟ إلى الله عزّ وجل:
﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾
﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)﴾
الإنسان يُحب الحياة، هذا كلام واقعي، لكن لو فرضنا لاحَ شبحُ الموت لمؤمن ومستقيم، وعمله طيب، وفان حياته في طاعة الله، أتظن أنه كل هذا يخاف من الموت؟ يتمنى أن يعيش أطول عُمر، حتى أكون معك واقعياً، لأن: خيركم من طالَ عُمره وحَسُنَ عمله، لكن لو لاحَ له شبحُ الموت، والله أعرف شخص، قصص غريبة جداً، أحد تجار البلد، أصابه سرطان بالدم، بقدرة قادر، وقضية غريبة أن المستشفى اتصلت بالمنزل لتُعلمهم بالنتيجة، هناك هاتف بجانبه، فتع السماعة، ابنه ردّ على الهاتف، قال له: أبوك منته، ثلاثة أيام ويموت، سَمِعها بأذنه، زاره أصحابه، فقال لهم: انتهى الفيلم، هناك صفقة ألغاها، صفقة أوصى بها، جمع أولاده، ودعهم، وتغسّل، وأحد العلماء زاره الساعة الواحدة، وقرؤوا له الأوراد والتهاليل، والساعة الثانية كان قد توفي، لكن الشيء الذي لفت النظر أنه لم يكن جزعان، كان إذا دخل إلى عنده شخص يطلب منه مساعدة، يفتح الصندوق ويقول له: خذ قدر ما تحتاج، ولا تقل لي قدر الكمية، أعرفها عنه، هذا العمل الطيب جعله لما تبلّغ نبأ الوفاة القطعي.
شخص دخل المستشفى، معه سرطان بالأمعاء، كلما دخلَ عليه زائر يقول له: اشهد أنني راضٍ عن الله، يا ربي لكَ الحمد، إلى أن توفاه الله، الإنسان يتمنى أن يعيش أطول عمر ممكن، أما لو لاحَ له شبح الموت لا يوجد عنده هذا الجزع، إلى أين ذاهب؟ كلُّ هذه الحياة لهذه الساعة مهيأة.
إذاً هذه غُربةٌ لا وحشةَ فيها، بل هو آنسُ ما يكون إذا استوحش الناس، وأشدُّ ما تكونُ وحشته إذا استأنسوا، فوليه الله ورسوله والذين آمنوا، وإن عاداه أكثرَ الناس وجَفوه.

(( عَنْ أبي هريرةٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُبَّ أشعثَ مدفوعٍ على الأبوابِ، تنبُو عنه أعينُ الناسِ لو أقسمَ على اللهِ لأَبرَّهُ. ))
معناها هذا غريب.
(( عن معاذ بن جبل: ألَا أُخبرُكَ عن مُلوك الجنةِ؟ رجلٌ ضعيفٌ مستضعفٌ، ذو طِمرينِ، لا يُؤبه لو أقسمَ على اللهِ تعالى لأبرَّهُ ))
[ ضعيف الجامع: حكم المحدث: ضعيف ]
أنت إذا شاهدت مؤمناً مستقيماً، لو كانت مرتبته الدنيوية وسطاً لا تتطاول عليه، لأنَّ الله كبير، لو كان ضارب آلة كاتبة بدائرة، وأنتَ مدير عام، لا تنرفز أمامه كثيراً، لا تقل: أنا ربكم الأعلى، لو كان مستخدماً، انتبه:
(( عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رُبَّ أشعثَ أغبر ذي طمرين مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسمَ على الله لأبرّه. ))
قَالَ:
(( سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ. ))
البطولة أن تكون أنت متواضعاً، وتعرف أن المراتب عِندَ الله ليست كما هيَ عِندَ الناس، الناس يحترمون الغني، يحترمون القوي، يحترمون صاحب الشهادات العليا، يحترمون الوسيم الجميل، يحترمون الصحيح، يحترمون المُتكلَم، يحترمون الذكي، أما ربنا عزّ وجل يُحب الطائعين، أحبُّ الطائعين وحُبي للشابِ الطائعِ أشد، أحبُّ المتواضعين وحُبي للغني المتواضع أشد، أحبُّ الكرماء وحُبي للفقير الكريم أشد، ألا أُخبركم عن ملوك أهلِ الجنة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: كلُّ ضعيفٍ أغبرَ ذي طمرين لا يُؤبه له، لو أقسم على الله لأبرّه.
قال: صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم أول صِفةٍ لهم هيَ التمسك بالسنّة إذا رَغِبَ الناسُ عنها، صلاته مهمة جداً، غضُّ بصره مهمٌ جداً، لا يكون هناك اختلاط مهمٌ جداً، لا يكون هناك شُبُهة بالدخل مُهمٌ جداً، هناك حديث فيه بِشارة لكم جميعاً إن شاء الله تعالى، قال: جُعِلَ للمسلم الصادق في هذا الوقت إذا تمسكَ بدينه أجرَ خمسينَ من الصحابة.

(( ففي سنن أبي داود والترمذي من حديث أَبِي أُمَيَّةَ أتَيْتُ أبا ثَعْلَبةَ الخُشَنِيِّ فقُلتُ له: كيف تَصْنَعُ في هذه الآيةِ؟ قال: أيةً آيةً؟ قُلتُ : قَوْلَهُ تعالى: يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، قال: أما واللهِ لَقدْ سَأَلْتَ عنْها خَبِيرًا ، سَألْتَ عنها رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال :بَلِ ائْتَمِروا بِالمعروفِ، وتَناهَوا عنِ المُنكرِ، حتى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وهَوًى مُتَّبَعًا، ودُنْيَا مُؤْثَرَةً، وإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فعلَيكَ بِخاصةِ نفسِكَ ودَعْ العَوامَّ، فإِنَّ من ورائِكُم أيَّامًا، الصَّبرُ فِيهِنَّ مِثلُ القَبْضِ على الجَمْرِ، لِلعامِلِ فِيهِنَّ مِثلُ أجْرِ خَمسِينَ رَجُلًا يَعمَلُونَ مِثلَ عَمَلِكُمْ. ))
[ سنن الترمذي: خلاصة حكم المحدث: حسن غريب ]
في بعض الروايات: قالوا: لِم؟ قالَ: لأنكم تجدونَ على الخير مِعواناً ولا يجدون، إذا الإنسان استقام، أهله أقرب الناس إليه يرفضونه، زوجته أحياناً ترفضه، شريكه لا يرضى، يقول لك: نبيع خمراً، يا أخي لا يجوز، يقول لك: الزبائن تخف، يصبح درجة رابعة، المطعم أخذناه خمس نجوم، ينزل إلى مستوى أربع نجوم، تنطلق النجوم كلها سيدي، تنزل النجوم إذا ما باع خمراً، في بعض المدن السورية، بائع من أهل الصلاح، بائع لحم، كتب: ممنوع شرب الخمر بأمر الرب، والرزق على الله، عليه ضغط، عليه طلب،

شيء منقطع النظير، أما الآن صار أكثر من خمسين مطعماً وأصحاب المطاعم ليسوا مسلمين كتبوا هذه اللوحة، من أهل الكتاب، ممنوع شرب الخمر بأمر الرب والرزق على الله، في حلب، بدأ مطعم واحد كتب هذه اللوحة، وأقبل الناس عليه، مخلص، وجيد، وسعر معتدل، لكن لما شاهدوا غير المسلمين عليه إقبال شديد فطلبوا.
سمعت بمصر، من عادات المحلات التجارية عِند افتتاحها يأتي قارئ قرآن ويقرأ قرآناً، فيوجد محل بجانبه محل لشخص غير مُسلم وجد كل هؤلاء الناس على جاره، فأحضرَ القارئ، وقال له: اقرأ؟ فالقارئ قرأ: والتين والزيتون، قال له: قل لهم: عِندنا أيضاً حُمُّص.
إذاً القصد أنَّ الغُربة نِعمة وليست نِقمة، إذا كنتَ غريباً فهذه بِشارةٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الملف مدقق