وضع داكن
25-04-2025
Logo
الدرس : 08 - سورة المائدة - تفسير الآية 6 أحكام الوضوء والتيمم.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
 الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين.
اللّهمّ لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهمّ علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثامن من دروس سورة المائدة، ومع الآية السادسة وهي قوله تعالى: 

أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ

 بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَٱطَّهَّرُواْ ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰٓ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍۢ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُۥ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(6)﴾

[ سورة المائدة ]


العقد الإيماني الذي بين المؤمن وبين الله:


أيها الإخوة الكرام؛ في العالم اليوم ثلاثمئة مليون إنسان مريض بمجموعة أمراض تحت عنوان: أمراض القذارة، العالم الإسلامي يُعدّ تجاه هذا المرض أو تجاه هذه الأمراض حزاماً أخضر بسبب الوضوء والغُسل، ثلاثمئة مليون إنسان مصاب بمجموعة أمراض تحت عنوان: أمراض القذارة، والعالم الإسلامي بسبب فرائض الغُسل والوضوء والمبالغة في النظافة يُعدّ حزاماً أخضر تجاه هذه الأمراض، فالله -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ﴾ ، وأي مؤمن يستمع إلى هذه الآية أو إلى مثيلاتها ينبغي أن يعلم علم اليقين أنه معنيّ بهذا الخطاب لأن بينه وبين الله عقداً إيمانياً؛ آمن بالله، آمن بكتابه، آمن بالملائكة، آمن بأنبيائه ورسله، آمن باليوم الآخر، آمن بالقدر بخيره وشره من الله تعالى، إذاً بدأ يتلقى عن الله، العملية -أيها الإخوة- تؤمن فتتلقى، تستخدم عقلك وهو أداة معرفة الله من أجل أن تؤمن، فإذا آمنت جاء دور النقل؛ دور التلقي، فأي آية في القرآن الكريم تبتدئ بقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ﴾ أي يا مَنْ آمنت بوجودي، يا مَنْ آمنت بوحدانيتي، يا مَنْ آمنت بكمالي، يا مَنْ آمنت بعلمي، يا مَنْ آمنت برحمتي، يا آمنت بحكمتي، يا مَنْ آمنت أنك مخلوق للجنة افعل كذا ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ﴾ ، وعلامة إيمان المؤمن أنه إذا قرأ قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ﴾ يشعر بكل خلية في جسمه وبكل قطرة في دمه أنه معنيّ بهذا الخطاب، ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ﴾ أي إذا أردتم أن تصلُّوا.

﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءَانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ (98)﴾

[ سورة النحل ]

أي إن أردت أن تقرأ القرآن، وهذه حالة دقيقة ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءَانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ﴾ أي إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله، إن أردت أن تصلي فافعل كذا وكذا.

حكم الوضوء:


﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ﴾ لأن الصلاة لقاء مع الله فينبغي أن تكون طاهراً، بل ينبغي أن تكون متجمّلاً، وقد ذكرت في درس سابق أن قوله تعالى من بعض معانيه الإشارية: 

﴿ يَٰبَنِىٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍۢ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُوٓاْ ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ(31)﴾

[ سورة الأعراف  ]

فضلاً عن الطهارة والنظافة والتطيب والتجمل ينبغي أن يكون معك عمل صالح تضعه بين يديك في هذا اللقاء مع الله، ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ﴾ لا بد من بعض التفصيلات، قال فريق من العلماء: هذا لفظ عام في كل قيام إلى الصلاة؛ هذا أول اتجاه في فهم هذه الآية أنه ينبغي أن تتوضأ سواء أكنت طاهراً أم محدثاً ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ﴾ ، هناك أثر آخر أن ابن سيرين يقول: كان الخلفاء الراشدون يتوضؤون لكل صلاة، وقال بعضهم: الخطاب موجّه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال آخرون: المراد بالآية الوضوء لكل صلاة طلباً للفضل؛ أي أفضل شيء أن تتوضأ لكل صلاة، وحملوا هذا الأمر على الندب لا على الوجوب، مندوب أن تتوضأ لكل صلاة، أنا أعطيكم آراء العلماء نحو هذه الآية، وكان كثير من الصحابة الكرام منهم ابن عمر يتوضؤون لكل صلاة طلباً للفضل، وكان عليه الصلاة والسلام لأنه المشرّع يفعل ذلك إلى أن جمع يوم الفتح بين الصلوات الخمس بوضوء واحد لأنه مشرّع رحمةً بأمته، لك أن تأخذ بسنة النبي، ولك أن تتوضأ لكل صلاة من باب زيادة الفضل ومن باب الندب لا من باب الوجوب، وقال بعض العلماء: إذا قمتم إلى الصلاة من النوم فيجب أن تتوضؤوا قولاً واحداً، إذا قمتم إلى الصلاة من النوم -من المضاجع-، لكن جمهور العلماء يقول: معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة محْدِثين لستم على وضوء، ﴿إِذَا قُمْتُمْ﴾ بمعنى: أردتم الصلاة، كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءَانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ﴾ أي إن أردت أن تقرأ القرآن، إذاً النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو المشرّع صلى خمس صلوات يوم الفتح بوضوء واحد؛ هذه هي السنة، إن أردت الفضل على أن الأمر ندب وليس أمراً فلك أن تتوضأ لكل صلاة، أي إذا كنت في أيام الصيف وفي مكان جميل، والمياه غزيرة، وأنت في حالة شعور بالحر، وتوضأت وأنت متوضئ فلا مشكلة، أما إذا كنت في أيام البرد أو في وضع صعب فلك أن تأخذ بسنة النبي -عليه الصلاة والسلام-، كان يتوضأ لكل صلاة، وصلى خمس صلوات بوضوء واحد، هذه وتلك.

أعضاء الوضوء المفروضة:


الموضوع الثاني في هذه الآيات: ﴿فَٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ﴾ ذكر الله في الوضوء أربعة أعضاء: 1- الوجه: وفرضه الغُسل من شحمة الأذن إلى شحمة الأذن، ومن منبت الشعر إلى الذقن؛ هذا هو الوجه، والوجه يغسل غسلاً، فلو قلنا لإنسان: اغسل لنا هذا الكأس، فذهب ووضعها تحت الصنبور وجاء بها، هل هذا هو الغسل؟! أما أن يعالجها بيديه أو بشيء آخر مرةً ومرةً وَمرةً حتى تغدو نظيفة، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- فَهِم مِن قول الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿فَٱغْسِلُواْ﴾ أن تغسل مرة أولى وثانية وثالثة، أول مرة يُصبّ عليها الماء، والمرة الثانية تدعك، والمرة الثالثة يُصبّ عليها الماء كي يزول الماء الذي استخدم في دعكِها وغسلها، ﴿فَٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ﴾ ذكر الله تعالى أربعة أعضاء، الوجه وفرضه الغسل.
2- واليدين كذلك: قبل أن تستخدم اليدين لغسل الوجه، لا بد من أن تغسل اليدين، أرأيت إلى الترتيب الذي فهمه النبي -عليه الصلاة والسلام-؟! حسنًا هذا الماء الذي تتوضأ به هل يجوز أن تتوضأ به؟ رجل أعلن إسلامه في مصر، والتحق بمسجد ليتعلم الفقه، أبقاه الشيخ الذي يعلمه الفقه ستة أشهر في أحكام المياه فخرج من جلده، وكاد يعود عن هذا الدين، إلى أن التقى بعالِم أوتي الحكمة، قال له: الماء الذي تشربه توضأ منه، حينما تمضمض النبي -عليه الصلاة والسلام- هذه المضمضة فضلاً عن أنها تطهير للفم، فالماء الذي لا تستسيغ أن تضعه في فمك إيّاك أن تتوضأ منه، ثم إن النبي -عليه الصلاة والسلام- حينما استنشق الماء الذي يتوضأ به معنى ذلك فضلاً عن تنظيف الأنف، الماء الذي لا تستطيع أن تشم رائحته إيّاك أن تتوضأ منه، أي أن المضمضة والاستنشاق والاستنثار فضلاً عن تطهير وتنظيف الفم من بقايا الطعام، والأنف من بقايا التنفس، ينبغي أن تعلم أن حكمة المضمضة والاستنشاق أن الماء الذي لا تستطيع أن تضعه في فمك، ولا تستطيع أن تضعه في أنفك إيّاك أن تتوضأ منه، فذكر الوجه وفرضه الغسل، واليدين كذلك.
3- والرأس: وفرضه المسح اتفاقاً ﴿وَٱمْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ﴾. 
4- واختُلف بالرجلين: لم يُذكر سوى هذه الأعضاء الأربعة، إذاً هذه فرائض الغسل، وفيما سوى ذلك سنن وآداب ومستحبات.

أهمية النية:


أيها الإخوة؛ رأى جمهور العلماء على أن الوضوء لا بدّ له من نية، وقد قال عليه الصلاة والسلام:

((  إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّما لِكلِّ امرئٍ ما نوى فمن كانت هجرتُهُ إلى اللَّهِ ورسولِهِ فَهجرتُهُ إلى اللَّهِ ورسولِهِ ومن كانت هجرتُهُ إلى دنيا يصيبُها أو امرأةٍ ينْكحُها فَهجرتُهُ إلى ما هاجرَ إليْهِ ))

[ متفق عليه عن عمر بن الخطاب ]

 وفسّر بعضهم قوله تعالى: 

﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِۦ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا (84)﴾

[ سورة الإسراء ]

أي على نيته، وقيمة عمله من قيمة نيته، فالوضوء يحتاج إلى نية على رأي جمهور العلماء، وقد قال عليه الصلاة والسلام: 

(( لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وإذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا. ))

[ رواه مسلم عن عائشة أم المؤمنين ]

 فالنية أصل كل عمل وكتوضيح؛ لو وضعنا على الطريق ليرة ذهبية ووقف مصوّر، فجاء إنسان والتقط هذه الليرة ووضعها في جيبه، فصوره المصوّر صورة متحركة ملونة، ثم وضعنا ليرة ثانية على الرصيف ووقف مصور، رآها إنسان آخر التقطها ووضعها في جيبه وصوره المصوّر، عرضنا الصورتين، الصورتان متشابهتان تمام التشابه إلا أن الأول نوى أن يبحث عن صاحبها، والثاني نوى أن يأكلها؛ أي أن يأخذها، العمل في صورته مشابه للآخر تماماً، ولكن في حقيقته واحد يعلو، والثاني يسقط: (إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ) ، بعض العلماء قال: الوضوء لا يحتاج إلى نية، لماذا؟ قال: لا تجب النية إلا في الفروض المقصودة لذاتها، الوضوء ليس فرضاً مقصودًا بذاته، فليس هناك إنسان يتوضأ ويجلس ويقول: الحمد لله أدينا ما علينا، الوضوء تعقبه صلاة، فالوضوء ليس مقصوداً لذاته، بل مقصود كوسيلة إلى الصلاة، الإمام الشافعي وتابعه في ذلك أبو حنيفة: أن العبادة التي ليست مقصودة لذاتها لا تحتاج إلى نية، النية للعبادة المقصودة لذاتها، إذاً الوضوء شرط لصحة الصلاة.
كملمح لطيف؛ التكبير شرط أو ركن؟ الركن يُؤدى وتنتقل إلى ركن آخر، الوقوف ركن، والركوع ركن، والسجود ركن، الركن تنتقل به إلى ركن آخر، أما الشرط فيدوم طوال الصلاة، فاستقبال القبلة ينبغي أن يستمر طول الصلاة، والطهارة من الحدث ينبغي أن تستمر طول الصلاة، هل تكبيرة الإحرام ركن أم شرط؟ قال بعضهم: شرط؛ لأنه ينبغي أن تستحضر عظمة الله طول الصلاة، أما الذي قال: هي ركن، الركن ينقضي، فالقصد من كلمة (الله أكبر) أنك في الصلاة، وهذا أكبر عمل من أي شيء آخر، أكبر من إنهاء الحسابات، أكبر من لقائك مع زيد أو عبيد، الله أكبر تركت الدنيا كلها وانغمست في صلة مع الله -عزَّ وجلَّ-، والدليل على أن الوضوء لا يحتاج إلى نية أنه من لا صلاة له لا يجب عليه الوضوء، لو أن امرأة في أيام العذر تسقط عنها الصلاة، هل يجب عليها الوضوء؟ لا، إذاً الوضوء ليس عبادة مقصودة لذاتها، بل هو أداة لعبادة كبرى هي الصلاة.

كيفية الوضوء:


﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ﴾ فهل المرفق داخل في الغسل أم (إلى) تفيد انتهاء الغاية؟ المرفق دخل أم لم يدخل؟ قال قوم: لا يدخل المرفق، لكن بعضهم قال: ما بعد (إلى) إذا كان من جنس ما قبلها يدخل، أي من الرسغ إلى المرفق يد، وما بعد المرفق يد، من الرسغ إلى المرفق لحم وجلد وعضلات، وما بعد المرفق جلد وعضلات ولحم، إذا كان ما بعد (إلى) من نوع ما قبلها فالمرفق داخل، لكن ما قيمة هذه المناقشة المنطقية إذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- أدار الماء على مرفقيه؛ قضية حاسمة، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- حينما توضأ أدار الماء على مرفقيه. 

(( عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مِرْفَقَيْه))

[ رواه الدارقطني والبيهقي عن جابر بن عبد الله (صحيح)  ]

وما فهم أحد مقطع المسألة إلا القاضي أبو محمد، حيث قال: إن قوله (إلى المرافق) حدٌّ للمتروك من اليدين لا للمغسول فيهما، إذاً المرافق تدخل في الغسل.
﴿وَٱمْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ﴾ الباء للإلصاق: أمسكت بيده، وهناك معنى لطيف استنبطه العلماء حينما قالوا في شرح قوله تعالى:

﴿ وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِۦ شَيْـًٔا ۖ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَبِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱلْجَارِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلْجَنۢبِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)﴾

[ سورة النساء ]

ينبغي أن يكون إحسانك إلى والديك بذاتك مباشرة لا أن تقول لأحدهم: اذهب إلى أبي وأعطه هذه الحاجة أو خذه إلى نزهة، لا، ينبغي أن تباشر الإحسان إلى الوالدين بذاتك، ينبغي أن يكون إحسانك ملاصقاً لوالديك، إحسانك أن تقوم أنت بالذات بهذا الإحسان، وهناك استنباطات -أيها الإخوة- مذهلة، استنبط بعض العلماء أن قوله تعالى:

﴿ قَالَ سَـَٔاوِىٓ إِلَىٰ جَبَلٍۢ يَعْصِمُنِى مِنَ ٱلْمَآءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ (43) ﴾

[ سورة هود ]

عن سيدنا نوح حينما أراد الله أن يغرق ابنه الذي أبى أن يؤمن بالله -عزَّ وجلَّ-، وأن يركب معه في السفينة، قال: 

﴿ وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍۢ كَٱلْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُۥ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍۢ يَٰبُنَىَّ ٱرْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ ٱلْكَٰفِرِينَ(42) قَالَ سَـَٔاوِىٓ إِلَىٰ جَبَلٍۢ يَعْصِمُنِى مِنَ ٱلْمَآءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ (43)﴾

[ سورة هود ]

أيها الإخوة؛ حينما أراد الله إغراقه جاءت موجة حالت بينه وبين أبيه، فالله -عزَّ وجلَّ- رحمة بالأب لم يغرق ابنه تحت مرأى عينه، ماذا نستنبط؟ هذه التي استشهدت قبل أيام في حيفا، قُتل أخوها أمامها وأمام أبيه وأمه، وقد رجا الأب أن يأخذوه، لا، لا بد من أن نقتله أمام أمه وأبيه وأخته، أرأيتم إلى أدب القرآن الكريم؟! ما الذي حدث أن هذه الفتاة لم ترَ للحياة طعماً حتى فعلت ما فعلت، فلو أننا تأدبنا بأدب القرآن لكنا في حال غير هذا الحال، طائرة تحمل ثمانية وثلاثين عالماً كبيراً تدربوا على أحدث الأسلحة، وركبوا جميعاً في طائرة واحدة وقد أسقطت الطائرة. 

﴿ وَقَالَ يَٰبَنِىَّ لَا تَدْخُلُواْ مِنۢ بَابٍۢ وَٰحِدٍۢ وَٱدْخُلُواْ مِنْ أَبْوَٰبٍۢ مُّتَفَرِّقَةٍۢ ۖ وَمَآ أُغْنِى عَنكُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَىْءٍ ۖ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ (67)﴾

[ سورة يوسف ]

لو قرأت القرآن بدقة وعناية لوجدت فيه من التوجيهات والآداب ما لا يصدقه العقل، طبعاً: ﴿وَٱمْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ﴾ الوجه من الرأس، فهل ينبغي أن تمسح وجهك بالماء؟ لأن آية مستقلة خصت الوجه بالغسل فإذاً من الرأس عدا الوجه؛ أي سطح الشعر، ﴿وَٱمْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ﴾ المسح لفظ مشترك، أما الرأس فهو عبارة عن الجملة التي يعلمها الناس ضرورة ومنها الوجه، فلما ذكر الله -عزَّ وجلَّ- الوجه في الوضوء وعيّن الوجه للغسل بقي باقيه للمسح، فمسح الرأس أي مسح الشعر، ومسح ربع الرأس يُجزئ، والباء للإلصاق؛ ينبغي أن تلصق يدك المُبتلة بربع رأسك فهذا مما يتم تأدية هذه الفرائض في الوضوء، ﴿وَٱمْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ﴾ لو أن الآية: (وامسحوا برؤوسكم وأرجلِكم) لكان المعنى أن الأرجل تمسح مسحاً، ولكن ﴿وَٱمْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ﴾ (أَرْجُلَكُمْ) تابعة ﴿فَٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ﴾ ، دقة اللغة العربية شيء رائع، مثلاً قال تعالى: 

﴿ إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِىَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٍۢ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)﴾

[ سورة التوبة ]

الآن يوجد واو حرف عطف، لو أن القارئ قرأ: (وكلمةَ الله هي العليا) فالمعنى فاسد؛ أي كانت سفلى فأصبحت عليا، لا: ﴿وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا﴾ دائماً، هذه جملة استئنافية.
أيها الإخوة؛ ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾ أي اغسلوا أرجلكم، فالفرض في الرجلين الغسل دون المسح، وهذا مذهب الجمهور والكافة من العلماء، وهو ثابت في فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، واللازم من قوله في بعض أحاديثه الشريفة، وقد رأى قوماً يتوضؤون، وأعقابهم تلوح، فنادى بأعلى صوته: 

(( ويلٌ للأعقابِ منَ النَّارِ، أسبِغوا الوُضوءَ ))

[ متفق عليه عن عبد الله بن عمرو  ]

فغسل الرجلين أجمع عليه جمهور العلماء، بل العلماء كافة؛ لأن هذا الحديث-وهو في الصحاح- رواه الإمام البخاري ومسلم، ولازم هذا الحديث أن غسل الرجلين فرض في الوضوء. 

أحكام التيمم:


﴿وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَٱطَّهَّرُواْ﴾ أي بالاغتسال بالماء، طبعاً هذه العبارة لمن ﴿وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَٱطَّهَّرُواْ﴾ ؟ هذا الحكم لواجد الماء، تسكن في بيت وفيه ماء فلا بد من أن تغتسل إذا كنت جُنباً، أما الجُنب عادم الماء فله أن يتيمم، هناك حُكم لجنب واجد للماء، وهناك حُكم لجُنب فاقد الماء، ﴿وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَٱطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ﴾ لا تستطيع أن تتوضأ، ﴿أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ﴾ لا تجد الماء في السفر، ﴿أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ ٱلْغَآئِطِ﴾ أي جاء من مكان منخفض قضى فيه حاجته، ﴿أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ﴾ كناية عن جماعهن، ﴿فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ﴾ تضرب الصعيد الطيب الطاهر بيديك، وتمسح به وجهك ومرفقيك؛ هذا هو التيمم، ﴿وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَٱطَّهَّرُواْ ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ﴾ أي الماء يؤذيكم، ﴿أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ﴾ الماء مفقود، أو انتقض وضوؤكم وأنتم في سفر أو مرضى، أي إذا كنتم مرضى أو على سفر وأحدثتم حدثاً أصغر أو حدثاً أكبر، ﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰٓ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ﴾ الحالة الأولى: الماء يؤذيك، والحالة الثانية: الماء لا تجده، وأصابك حدث أصغر؛ أي جئت من مكان منخفض بعد قضاء الحاجة، ﴿أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ﴾ كناية عن الجماع، ﴿فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍۢ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُۥ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾

أهمية العلم وعدم التشدد:


أيها الإخوة؛ أذكر لكم حادثة وقعت في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن صحابياً أصابته جنابة في سفر، فسأل فقيل له: اغتسل، ويبدو أن الوقت كان بارداً جداً، فاغتسل فمات، فلما علم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو سيد الخلق في لطفه وفي رحمته قال: 

(( خَرَجْنا في سَفَرٍ، فأصابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فشَجَّه في رَأْسِه، ثم احتَلَمَ، فسألَ أصحابَه، فقال: هل تَجِدونَ لي رُخصةً في التَّيمُّمِ؟ فقالوا: ما نَجِدُ لكَ رُخصةً وأنتَ تَقدِرُ على الماءِ. فاغتَسَلَ، فماتَ، فلَمَّا قَدِمْنا على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُخبِرَ بذلك، فقال: قَتَلوه قَتَلَهمُ اللهُ، ألَا سألوا إذْ لم يَعلَموا؛ فإنَّما شِفاءُ العِيِّ السُّؤالُ، إنَّما كان يَكفيه أنْ يَتيَمَّمَ ويَعصِرَ أو يَعصِبَ -شَكَّ موسى- على جُرحِه خِرقةً، ثم يَمسَحَ عليها ويَغسِلَ سائِرَ جَسَدِه ))

[  أخرجه أبو داود عن جابر بن عبد الله   ]

لا تسرع بالفتوى، إن لم تعلم فاسأل أهل العلم. 

﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِىٓ إِلَيْهِمْ ۚ فَسْـَٔلُوٓاْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)﴾

[ سورة النحل ]

قال: (قَتَلوه قَتَلَهمُ اللهُ) ، لا أذكر ما إذا كان الجو بارداً جداً أو كان جرحه بليغاً، فلما اغتسل أصاب الجرح التهاب فمات، فلما علم النبي ذلك قال: (قَتَلوه قَتَلَهمُ اللهُ، ألَا سألوا إذْ لم يَعلَموا) إن كنت واثقاً من الحكم الشرعي فقل، وإلا فاسأل، ﴿فَسْـَٔلُوٓاْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ﴾ هم أهل الوحيين الكتاب والسنة ﴿إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ، الحقيقة أن الذين يحمّلون أنفسهم ما لا يطيقون هؤلاء ليسوا على حق. 

(( إنَّ اللهَ يُحبُّ أن تُؤتَى رُخَصُه، كما يُحبُّ أن تُؤتَى عزائمُه ))

[ أخرجه البزار، وابن حبان، والطبراني عن عبد الله بن عباس  ]

لا تكن متعنتاً، لا تكن متشدداً، مرةً دعي النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى وليمة ومعه أحد الصحابة، فلما دُعي إلى الطعام قال: إني صائم يا رسول الله، قال: أخوك دعاك، وتكلف لك، وتقول: إني صائم! أفطر وصُم يوماً مكانه، هناك أناس متشددون يزايدون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ اللهَ يُحبُّ أن تُؤتَى رُخَصُه، كما يُحبُّ أن تُؤتَى عزائمُه)، لذلك في بعض المذاهب القصر واجب، عند الأحناف واجب ما دمت في سفر ولو نزهة، يجب أن تقصر لأن الله أرادك أن تخفف من الركعات في السفر، صل الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، فالله -عزَّ وجلَّ- حينما سمح لك أن تقصر ينبغي أن تقصر، إن سمح لك أن تُتم ينبغي أن تُتم، هذه آية الوضوء -أيها الإخوة- أعيدها على أسماعكم في نهاية هذا الدرس.

بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَٱطَّهَّرُواْ ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰٓ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍۢ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُۥ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(6)﴾


الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين. 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور