وضع داكن
26-04-2025
Logo
الدرس : 09 - سورة المائدة - تفسير الآية 7 نعم الله علينا، ابتغاء الرفعة عند الله.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
 الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين.
اللّهمّ لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهمّ علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس التاسع من دروس سورة المائدة، ومع الآية السابعة وهي قوله تعالى: 

﴿ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَٰقَهُ ٱلَّذِى وَاثَقَكُم بِهِۦٓ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ (7)﴾

[ سورة المائدة ]


الذاكرة من نِعم الله تعالى على الإنسان:


أيها الإخوة؛ من فضل الله على الإنسان أنه منحه ذاكرة، فالشيء الذي يراه ينطبع في ذاكرته، فكلمة ﴿وَٱذْكُرُواْ﴾ أي تذكّروا نِعم الله عليكم، أنت حينما تأكل، حينما تشرب، حينما تأوي إلى فراشك، حينما ترى زوجتك وأولادك، حينما تتمتع بطعم الطعام، حينما ترى جمال الطبيعة، حينما ترى ابنك بين يديك؛ هذه كلها نِعم الله وقد انطبعت في ذاكرتك، فأنت مكلّف أن تذكر هذه النعم أي أن تستحضرها مِن ذاكرتك، فالتذكّر يعني الحفظ، والتذكّر يعني الاسترجاع، والذكر يعني الكلام، والإنسان لا يتكلم إلا إذا انطبع شيء في ذاكرته، يتكلم من ذاكرته؛ لذلك إذا قال إنسان: ذكرك فلان؛ أي تكلم كلاماً مأخوذاً من ذاكرته، ذكر كذا، لكن -أيها الإخوة- موضوع الذاكرة شيء عجيب، فيما قرأت عن ذاكرة الإنسان أن حجمها لا يزيد على حبة العدس، تتسع لسبعين مليار صورة، وأن هذه الذاكرة مبرمجة برمجة عجيبة، فهناك بؤرة لهذه الذاكرة وهناك حواشٍ، فقد توضع صورة في بؤرتها، وقد تنتقل صورة إلى حواشيها، لكن الإنسان في وقت واحد لا يستطيع إلا أن يلتقط شيئاً واحداً، فإذا جاءه شيء وهو مشغول بشيء فالثاني لا ينطبع، أي وأنت داخل إلى المسجد تضع حذاءك في مكان، هذا المكان له مكان في الذاكرة، ليس الحذاء له مكان في الذاكرة، لا، مكان هذا الحذاء له في الذاكرة مكان، فإذا خرجت من المسجد دون أن تشعر تتجه إلى المكان الذي رُكّز في ذاكرتك وتأخذ الحذاء وتمشي، أحياناً وأنت داخل يحدثك أخ حديثاً معيناً، فذاكرتك تتلقى من هذا الأخ، فإذا وضعت الحذاء في مكان هذا المكان لا ينطبع في الذاكرة، فإذا خرجت تقول: أين وضعت حذائي؟ في وقت واحد لا تلتقط الذاكرة إلا شيئاً واحداً، الآن أنت مشغول بموضوع، الموضوعات التي التقطت سابقاً موضوعة في الحواشي، ما لم تكن هناك مناسبة لا تذكرها، أنا التقيت مع إنسان من ثلاثين عاماً، أخ كريم رجاني أن أتوسط له-وهو قاضٍ- في موضوع فذهبت إليه، قبل أيام كنت في عقد قران صافحني رجل، قال لي: هل تعرفني؟ غير هذا اللقاء لم أره من ثلاثين عاماً، قلت له: الأستاذ فلان، طبعاً ملامح وجهه تغيرت تغيراً كبيراً، لكن بقيت ملامح أساسية، ما هذه الذاكرة؟ من ثلاثين عاماً لقاء في ربع ساعة فقط فتذكرت، فنعمة الذاكرة نعمة لا تقدر بثمن. 

﴿ وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَٰهُمْ عَلَىٰ مَكَانَتِهِمْ فَمَا ٱسْتَطَٰعُواْ مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)﴾

[ سورة يس ]

حدثني أخ، توفي -رحمه الله- صاحب معمل، قال لي ابنه: والدي خرج من معمله، ونسي أين بيته، بقي ساعة يجول في شوارع دمشق، أين بيتي؟ لكنه تذكر بيت ابنه، ذهب إليه ودله ابنه على بيته، الإنسان حينما يفقد ذاكرته لا يحتمل وضعه، قد لا يعرف أولاده، فنعمة الذاكرة نعمة كبيرة، هذه الذاكرة أولاً لها بؤرة ولها حواشٍ، لو أنك تلقيت آلاف الأفكار والصور هذه تنطبع وتوضع في الحواشي بحسب أهميتها والأهميات متنوعة، هناك درجة أولى، درجة ثانية، درجة ثالثة، درجة رابعة، ويوجد مكان هو سلة مهملات.
سافرتَ إلى بلد وأنت بعيد عن هذا النشاط التجاري كلياً، أعطاك أحدهم بطاقة فيها رقم هاتفه، قرأتها لا تذكرها أبداً، وضعتها في سلة المهملات، لكن أحياناً حينما تُبلّغ أن رقم هاتفك كذا تحفظه مرة واحدة ولا تنساه أبداً، فصار في الذاكرة بؤرة وحواش، وفي الذاكرة مستويات، وفيها سلة مهملات، فالذاكرة تقوم بعمل خطير جداً، أولاً تحفظ، وتحفظ في عدة مستويات، ولها بؤرة نشاط، ولها حواشي تخزين، ولها سلة مهملات، فموضوع الذاكرة موضوع دقيق جداً، وهو من أجلِّ نِعم الله علينا، والإنسان من دون ذاكرة ينسى معلوماته كلها، تدرس الطب بعد سنة تذهب المعلومات، أين معلوماتك؟ كل خبراتكم في الذاكرة، كل الخبرات والمعلومات والمهارات كلها في الذاكرة، من دون ذاكرة ما من إنسان له نشاط أبداً، تنتهي مهمة الإنسان في الحياة ﴿وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَٰهُمْ عَلَىٰ مَكَانَتِهِمْ فَمَا ٱسْتَطَٰعُواْ مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ﴾ ، فالله -عزَّ وجلَّ- امتنّ علينا بنعمة الذاكرة، وأحياناً صاحب محل تجاري يبيع قطع تبديل، قد يكون في محله عشرة آلاف نوع، فيأتيه إنسان: عندك القطعة الفلانية؟ يقول لموظف عنده: اصعد إلى الأعلى في الدرج السابع، في الرف الأول هناك قطعة ائتِ بها، ما معنى ذلك؟ أن كل هذا المحل في ذاكرته، وأكثر ربات البيوت تعرف ما عندها، تحتاج إلى مادة غذائية تقول لابنتها: اصعدي إلى المكان الفلاني وائتي بقطعة، فهذه الذاكرة نعمة كبرى، لكن الله -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ ، أحبوا الله لما يغدوكم به مِن نِعمه، ذكرهم بأيام الله، طبعاً النعم لا تعد ولا تحصى، لكن أجلّ هذه النعم أنه خلقك، أجلّ هذه النعم أنك موجود، أنت موجود ولك حيز، لك اسم، مُنحت اختياراً، مُنحت حرية، كُلّفت بطاعة الله -عزَّ وجلَّ- منحك نعمة الوجود هذه أجلّ نعمة؛ لأن هذه النعمة تؤهلك لتكون في جنة الله إلى أبد الآبدين، منحك الله نعمة الوجود، وفوق نعمة الوجود منحك نعمة الإمداد، ما قولك لو أن الهواء بثمن؟! أمدك بالهواء، أمدك بالماء، أمدك بجو مناسب، أمدك بطرف آخر تسكن إليه ويسكن إليك، أمدك بأموال وبنين، نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد، ثم أنزل على نبيه قرآناً؛ نعمة المنهاج والإرشاد ﴿وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ ، الله -عزَّ وجلَّ- قال بآية ثانية:

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِـَٔايَٰتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّىٰمِ ٱللَّهِ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)﴾

[ سورة إبراهيم ]

الله -عزَّ وجلَّ- له أيام ﴿وَذَكِّرْهُم بِأَيَّىٰمِ ٱللَّهِ﴾ ، من أيام الله -عزَّ وجلَّ- أنه امتنّ عليك فزوّجك، مِن أيام الله -عزَّ وجلَّ- أنه أسمعك الحق.

﴿ وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ ۖ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ(23)﴾

[ سورة الأنفال ]

مِن أيام الله -عزَّ وجلَّ- أنه جعلك مِن بيئة صالحة، مِن أم وأب مسلمَين وهذه نعمة كبرى، جعلك في زمن يمكن أن تعمل أعمالاً صالحة، اختيار وجودك في مكان وفي زمان، ومِن أمّ معينة ومّن أب معين أيضاً هذه نعمة كبرى من نِعم الله -عزَّ وجلَّ-، قال تعالى: ﴿وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ طبعاً جاءت الكلمة مفردة؛ لأن النعمة الواحدة لو أمضيت كل حياتك لا تستطيع أن تحصي منافعها، نعمة هذا المفصل؛ لو لم يكن ثمة مفصل كيف تأكل؟ لا بد أن يأكل الإنسان كالقطة، ينبطح ويأكل بلسانه مباشرةً، لولا هذا المفصل لا يأتي الطعام إلى فمه، هذا المفصل نحو الداخل، لكن مفصل الرِّجل نحو الخارج، هناك حكمة بالغة، لولا المثانة كل عشرين ثانية هناك قطرتا بول، تحتاج إلى فوط الرجل السعيد، طبعاً المثانة تجمع هذا البول لخمس ساعات، لولا أن لهذه المثانة عضلات تحتاج إلى نصف ساعة، والبول لا ينزل؛ لأنه يحتاج إلى تنفيس، تحتاج إلى أنبوب، نعمة أن المثانة لها عضلات هذه نعمة لا تقدر بثمن. 

من نعم الله علينا التي لا تعد ولا تحصى:


﴿ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُۥ عَيْنَيْنِ (8)﴾

[ سورة البلد ]

العين الواحدة ترى بعداً واحداً فترى طولاً وعرضاً، ولكن لا تستطيع أن تضم إبرة بعين واحدة ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُۥ عَيْنَيْنِ﴾ ، بالأذنين تعرف جهة الصوت، بأذن واحدة لا تعرف جهة الصوت، هناك جهاز دقيق في الدماغ يحسب لك تفاضل وصول الصوتين، والفرق بينهما واحد على ألف وستمئة وعشرين جزءاً من الثانية، يصل الصوت إلى هذه الأذن قبل هذه الأذن وتعرف جهة الصوت، تستمع إلى بوق مركبة تنحرف نحو الجهة المعاكسة، من دلك أنها عن يمينك؟ جهة الصوت التي كشفها جهاز في الدماغ، نعمة السمع، نعمة البصر، نعمة الشم، نعمة الذوق، نعمة الدماغ الذي فيه مئة وأربعون مليار خلية لم تُعرف وظيفتها بعد، أربعة عشر مليار خلية قشرية في الدماغ تقوم بوظائف تعجز عنها كل حواسيب العالم. 

﴿ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُۥ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)﴾

[ سورة البلد ]

هذا الكلام كل حرف تُسهم في تشكيله سبع عشرة عضلة، فإذا كانت الخطبة نصف ساعة أو ساعة فكم كلمة فيها؟ والكلمة كم حرف؟! دون أن تشعر تأكل وتنام، وتتم عمليات هضم لا تعد ولا تحصى، لو أن الله أوكل لك الهضم فعندك سبع ساعات هضم، بنكرياس، الغدة الفلانية، الصفراء، تقع في عسر هضم وإسهال وأنت نائم، لو ترك لك الله نعمة التنفس بيدك لا تنام الليل تنام فتموت، تنام ملء العين والتنفس يعمل بانتظام، يتجمع اللعاب في الفم، تذهب إشارة إلى الدماغ أن اللعاب تجمع في الفم، فيعطي الدماغ أمراً للسان المزمار ليفتح طريق المريء ويغلق طريق القصبة الهوائية فتبلع اللعاب وأنت نائم دون أن تشعر، مَن أعطى أمرًا للبروستات لتغلق طريق ماء الحياة ليكون طريق البول سالكاً؟! في اللقاء الزوجي يُغلق طريق البول ويفتح طريق ماء الحياة، وماء الحياة ماء طاهر والمجرى سابقاً فيه بول، لا بد من مادة مطهرة- المذي-، ومادة معطرة، ومادة مغذية دون أن تشعر هذه الغدة تعمل ثمانين عاماً، تفتح باب المثانة وباب الخصيتين، تفتح وتغلق وأنت لا تشعر ﴿وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ ، والله لو ذهبنا نتحدث عن نعم الله في أجسامنا تنقضي الأعمال ولا ينقضي الحديث عنها، فنعمة واحدة؛ عيناك متألقتان بسبب أن هناك دمعاً مستمراً يغسل العينين، بقايا هذا الدمع الذي غسل عينيك أين يجري؟! يجري في قناة دقيقة دَقيقة إلى الأنف، لماذا الأنف تراه رطباً؟ من قناة الدمع من العين إلى الأنف، لو أن هذه القناة انسدت لأصبحت الحياة لا تطاق، دائماً ينبغي أن تمسح الدموع من على خدك حتى لا ترسم الدموع مجرى ملتهباً على ظاهر الخد، مَن جعل هذا الجفن يتحرك حركة آلية ويغسل العينين؟! هناك مرض اسمه مرض ارتخاء الجفون، لا ترى إلا بهذه الطريقة، ما قولك كلما أردت أن ترى إنساناً تمسك بإحدى يديك الجفن وبالثانية ترفع؟ من جعل الجفن يتحرك حركة عفوية آلية؟ أيها الإخوة هذه أمثلة ﴿وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ ، اذكر أن لك ولداً، لك زوجة، اذكر أن هناك ماءً عذباً فراتاً، اذكر أن هناك هواءً، اذكر أن هناك طعاماً، اذكر هذا الحليب المتوافق مع جسمك تماماً، الحديث يطول عن نِعم الله -عزَّ وجلَّ-، ولكن النعمة الواحدة لو أمضينا كل حياتنا في متابعة دقائقها وخصائصها وفضائلها لا تنتهي، لذلك قال تعالى: 

﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحْصُوهَآ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (18)﴾

[ سورة النحل ]


تمام النعمة الهدى :


﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ﴾ فأنت من الممكن أن تقول لإنسان: خذ هذه الليرة فعدّها، وهكذا يقول الله: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ﴾ معنى ذلك أن النعمة الواحدة فيها خيرات لا يعلمها إلا الله؛ لذلك إذا كنتم عاجزين عن إحصائها فأنتم عن شكرها أعجز، أي إذا جاء إنساناً غلامٌ وتلقى هدايا، جلس مع زوجته مساءً قال لها: هذه من أين؟ قالت له: من بيت فلان، وهذه من بيت فلان، أحصاها، أيهما أهون أن تحصي الهدايا أم أن تردها كلها؟ إحصاؤها سهل جداً، أما أن تقابل كل هدية بهدية فهذا شيء يحتاج إلى مبالغ كبيرة جداً ووقت وشراء، إذا كنتم يا عبادي عاجزين عن إحصاء النعم فلأن تكونوا عاجزين عن شكرها من باب أولى، نعجز عن شكر نعمة واحدة يقول الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ نعمة الهدى -بشكل مختصر-، نعمة الإيجاد، ثم نعمة الإمداد، ثم نعمة الهدى والرشاد، لكن تمام النعمة الهدى، لكن أصل النعم أن تعرف الله واحداً، لك زوجة صفر، لك أولاد صفر ثان، لك دخل صفر ثالث، لك مأوى صفر رابع، كنا بواحد صرنا بعشرة، بمئة، بألف، بعشرة آلاف، لك سمعة طيبة صفر خامس، وهبك الله أولاداً ذكوراً وإناثاً صفر سادس، اسحب الواحد الحياة كلها أصفار.

﴿ أَمْوَٰتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍۢ ۖ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)﴾

[ سورة النحل ]

لذلك قالوا: تمام النعمة الهدى.

مواثيق الله -عزَّ وجلَّ- للإنسان:


﴿وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَٰقَهُ ٱلَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ﴾ ، ماذا تعني كلمة (واثقكم)؟ (واثق) على وزن فاعل تعني المشاركة، و(قتل) غير (قاتل)، من يقول: قاتلت الحشرة؟ تقول: قاتلت العدو؛ لأن العدو معه سلاح وقوي وأنت معك سلاح، فيوجد فعل مشاركة، أما الحشرة فتقول: قتلتها، ولا تقول: قاتلتها، فالمقاتلة فيها معنى المشاركة. 

1-ميثاق الفطرة:

إذا قال الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَمِيثَٰقَهُ ٱلَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ﴾ أي الله -عزَّ وجلَّ- أعطانا ميثاق الفطرة، فطرتك متوافقة مع منهج الله -عزَّ وجلَّ-، لا ترتاح نفسك إلا إذا أطعت ربك، لا ترتاح نفسك إلا إذا كنت وفق منهج الله، لا ترتاح نفسك إلا إذا كنت صادقاً، لا ترتاح نفسك إلا إذا كنت أميناً، الله -عزَّ وجلَّ- جبلك على حب الأمانة وأمرك أن تكون أميناً، فجبلّتك متوافقة لمنهج الله، جبلك على حب العدل وأمرك أن تعدل، إذاً الميثاق الأول ميثاق الفطرة، وأنت في الأساس مؤمن بالفطرة من دون دليل، مركوز في أصل فطرتك أن لهذا الكون إلهاً، مركوز في أصل فطرتك أن لهذا الكون رباً، مركوز في أصل فطرتك أن لهذا الكون مسيّراً، مركوز في أصل فطرتك أن هذا الإله رحيم وعادل وحكيم، هذا كله بالفطرة، حينما يهتدي الإنسان إلى الله يهتدي إلى فطرته، فمَركبة مصمّمة لطريق معبد، وأنت إذا سرت بها في طريق وعر فيه أكمات وصخور وحفر، والأصوات العالية جداً التي تصدرها، والأصوات الشاذة التي تسمعها كأنها تقول لك: هذا المكان ليس لي، هذا المكان لمدرعة، لمجنزرة، مكاني على الطريق المعبد، فإذا نقلتها إلى طريق معبد تختفي كل هذه الأصوات وتنطلق بانسياب رائع، إذاً هذه المركبة مصممة للطريق المعبد، ارتفاع أسفل المركبة عن الأرض مسافة قليلة جداً لأن الطريق معبد، العجلات مصممة على طريق معبد، أما إذا وجد تفاوت كبير بين الصواعد والنوازل فالطريق تحتاج إلى مجنزرة، فالفطرة توافق برمجة النفس وجبلة النفس وخصائص النفس مع منهج الله -عزَّ وجلَّ-، فكل إنسان يستقيم ترتاح نفسه، يطيع الله يطمئن قلبه فهذا ميثاق، أي الله -عزَّ وجلَّ- منحك فطرة تدفعك دائماً إلى طاعة الله، حسنًا لو أن الفطرة تخالف الإيمان بالله من الذي يرتاح عندئذ؟ الكافر يرتاح؟! الآن من يرتاح؟ المؤمن، لأن أصل فطرتك إيمان بالله وعدل ورحمة وطاعة وإنصاف وإحسان، هكذا جُبلت، هكذا صُممت، هكذا خُلقت، فهذا الميثاق الذي واثقكم به هو ميثاق الفطرة، سوف تُسأل عنه.

2-ميثاق العقل:

الآن يوجد ميثاق ثانٍ هو ميثاق العقل، أعطاك عقلاً، أي من منا يصدق -بربكم- هذه الطائرة العملاقة سبعمئة وسبعة وأربعين أنها وجدت من دون مصنع؟! من يصدق أن كتاباً ضخماً جداً مؤلف من ألف صفحة، قاموس فيه مواد، وفيه دقة بالغة في التأليف، واسم فاعل واسم مفعول واسم زمان واسم مكان واسم آلة، المصادر، ضبط المصادر، كتاب ضخم جداً أنه نتج من الانفجار في مطبعة، من يصدق؟! من يصدق أن هذه الطائرة سبعمئة وسبعة وأربعين إنما نتجت عن انفجار في مستودع معدني، طائرة بأربعة محركات، مقاعد ركاب، أجهزة، أجهزة تبريد، أجهزة صوت، من يصدق؟! خلق الإنسان أعظم بكثير، فلذلك الميثاق الثاني ميثاق العقل، أعطاك الله -عزَّ وجلَّ- عقلاً، الفطرة تدلك على خطئك، وعقلك يدلك على الله، الفطرة والعقل في كل إنسان بلغته رسالة أم لم تبلغه، جاءه نبي أو لم يأتِ إليه، كان بجزيرة، أم كان بمدينة، أم كان بقرية، التقى مع علماء أم لم يلتقِ، كان في مسجد أم لم يكن في مسجد، الميثاق أي الفطرة والعقل معاً، والذي لم تبلغه رسالة يُحاسب على الفطرة التي أودعت به والتي تكشف له خطأه، ويحاسب على العقل الذي ركّز فيه، وهو كاف ليدله على الله، وبعض المفسرين -لا أقول كل المفسرين- يفهم قوله تعالى: 

﴿ مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (15)﴾

[ سورة الإسراء ]


الرسول هو العقل أحياناً، وأحياناً المصائب رسائل: 


﴿ وَلَوْلَآ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌۢ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلَآ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ ءَايَٰتِكَ وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ (47)﴾

[ سورة القصص ]

المصيبة هنا جاءت بمعنى الرسالة، فأحياناً هذا الضغط على المسلمين رسالة من الله، أنتم أيها المسلمون لستم على ما أرضى؛ يوجد ضغط، فإذا نقضوا عهد الله وعهد رسوله سلّط الله عليهم عدواً يأخذ ما في أيديهم، تُحتل أرضهم، وتُنهب ثرواتهم، ويُقتّل أبناؤهم، وجئنا كي نحرركم، هذه الرابعة أصعب: جئنا لننقذكم، لا طعام ولا شراب، ولا أمن ولا استقرار، ولا كهرباء ولا ماء، وجئنا من أجلكم، وبترولكم أصبح ملكنا؛ هذه رسائل أيضاً.

3-ميثاق الرسل والكتب:

من الميثاق الإلهي الفطرة، ومن الميثاق الإلهي العقل، ومن الميثاق الإلهي الكتاب والسنة، رسل الله -عزَّ وجلَّ-: 

﴿ لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍ (164)﴾

[ سورة آل عمران ]

هو أعطاهم العقل وهو كاف لمعرفة الله، فطرهم فطرةً كاملةً كافيةً لمعرفة الخطأ والصواب، وفوق هذا وذاك منحهم التشريع، الأنبياء، والرسل، الكتب ﴿وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَٰقَهُ ٱلَّذِى وَاثَقَكُم بِهِۦٓ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ مِن قِبَلكم: سمعنا وأطعنا، ومِن قِبَلنا: الفطرة والعقل والتشريع، تُحاسب على فطرتك وعلى عقلك، وإذا بلغتك رسالة تُحاسب على تفاصيل الشريعة، وإن لم تبلغك رسالة تُحاسب على الفطرة والعقل وهما كافيان لمعرفة الله وطاعته. 

﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِىٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُواْ بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَآ ۛ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَٰفِلِينَ (172)﴾

[ سورة الأعراف  ]

هذا هو الميثاق، منحك فطرة، منحك عقلاً، منحك رسالة، الفطرة مقياس نفسي، والعقل أداة معرفة الله، والرسالة أمر تفصيلي افعل ولا تفعل، فالذي لم تبلغه الرسالة محاسب على الفقرتين الأولى والثانية؛ على الفطرة التي فُطر عليها، وعلى العقل الذي مُنح إياه، ﴿وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَٰقَهُ ٱلَّذِى وَاثَقَكُم بِهِۦٓ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ قلنا: (واثقكم) فعل مشاركة، منكم السمع والطاعة، ومن الله الفطرة والعقل والتشريع، الله منحك الفطرة والعقل والتشريع هذا من الله، ومن العباد السمع والطاعة.

ضرورة وجود الحساب والعقاب وضرورة الإيمان باليوم الآخر:


﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾ أي اتقوا عذاب الله، اتقوا غضب الله، اتقوا سخط الله، اتقوا عقاب الله، إذا خرجتم عن فطرتكم لم تعدلوا، خرجتم عن فطرتكم لم ترحموا عباده، خرجتم عن فطرتكم لم تنصفوا، إذاً سوف تعاقبون عقاباً شديداً من الله -عزَّ وجلَّ-، وإذا خرجتم عن عقلكم الذي مُنحتم إياه، فلم تُعملوا عقلكم في معرفة الله، قال تعالى: 

﴿ أَيَحْسَبُ ٱلْإِنسَٰنُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّۢ يُمْنَىٰ (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ (38) فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلْأُنثَىٰٓ (39)﴾

[ سورة القيامة ]

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾

[ سورة المؤمنون ]

أيعقل؟! ففي الميناء ترى رافعة تحمل ثمانين طناً، هذه الرافعة التي تحمل ثمانين طناً صُممت لعلب فارغة أم لمعدات ثقيلة جداً؟ لا بد من تناسب، هذه الرافعة مصممة لمعدات ثقيلة جداً، قد تحمل قطاراً، قد تحمل مركبات كبيرة جداً، فأنت من حجم الرافعة ومن استطاعة الرافعة تقرر المهمة التي صُنعت من أجلها، وهذا الكون العظيم من أجل أن تعيش أربعين سنة، خمسين سنة، كلها متاعب، وهناك قوي وضعيف، وغني وفقير، وذكي وغبي، وصحيح ومريض، وتنتهي الحياة، ويأتي طاغية يقتل، يهدم بيوت، يقتل الآلاف، وتنتهي الحياة ولا شيء بعدها، والذي مات مات، والذي عاش عاش، والذي اغتنى اغتنى، والذي افتقر افتقر، ولا شيء بعد الموت، هل يقبل العقل ذلك؟! العقل لا يقبل، لا بد من تسوية الحسابات، ولولا الإيمان بالآخرة الحياة لا تُحتمل، تسعون بالمئة من ثروات الأرض بيد عشرة بالمئة، هم غارقون في اللذائذ والشعوب تموت من الجوع، وهؤلاء الأغنياء الأقوياء غارقون في لذائذهم ونعيمهم وقد بلغوا من الإجرام درجة خطيرة جداً، هم الآن يجربون الأدوية على البشر في الشعوب النامية، تنتهي الحياة هكذا ولا شيء أبداً، لا شيء بعد الموت؟! العقل لا يقبل ذلك، بل إن الإمام ابن القيم الجوزية -رحمه الله- يرى أن الإيمان باليوم الآخر عقلي لكن تفاصيله نقلية، أما أصل الإيمان بالآخرة فعقلي، مستحيل أن تكون هذه الفتن وهذه الحروب وهذه الاجتياحات، حيث تُلقى قنبلة ذكية تدمر مئات الأشخاص، الآن هناك قنابل تميت الأشخاص والبناء يبقى كما هو، كما لا يتأثر أبداً صانعو الأسلحة الجرثومية والكيماوية والقنابل الذرية، حينما ألقيت على هيروشيما وناكازاكي باليابان ثلاثمئة ألف ماتوا بثوان معدودة، وتنتهي الحياة هكذا لا شيء أبداً؟! الذي أعطى أمراً بإلقائها مات وانتهى الأمر فأين الله؟! الله موجود. 

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْـَٔلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (93)﴾

[ سورة الحجر  ]

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّٰلِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍۢ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلْأَبْصَٰرُ (42)﴾

[ سورة إبراهيم  ]

إخواننا الكرام كلمة للتاريخ؛ أسماء الله الحسنى محققة في الدنيا كلها إلا اسم العدل. 

﴿ وَهُوَ ٱلَّذِى يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ۚ وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلْأَعْلَىٰ فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ (27)﴾

[ سورة الروم ]

﴿ لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ (15)﴾

[ سورة طه ]

لكن اسم العدل متحقق جزئياً، قد يعاقب الله بعض العباد ردعاً للباقين، وقد يكافئ بعض العباد تشجيعاً للباقين، لكن تسوية الحسابات يوم القيامة، لذلك قال تعالى: 

﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا (71)﴾

[ سورة مريم ]

أي ما منكم واحد إلا وسيرد النار-أعوذ بالله- كلنا، لكن العلماء قالوا: ورود النار غير دخولها، ورود النار ترى مَنْ فيها ولا تتأثر بوهجها لترى عدل الله، لترى هؤلاء الطغاة أين هم؟ لتتأكد أن الله حينما قال: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّٰلِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍۢ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلْأَبْصَٰرُ﴾ ، إذا قال الصادق المصدوق، والذي لا ينطق عن الهوى: 

(( عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعاً فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ قَالَ: فَقَالَ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: لَا أَنْتِ أَطْعَمْتِهَا وَلَا سَقَيْتِهَا حِينَ حَبَسْتِيهَا وَلَا أَنْتِ أَرْسَلْتِهَا فَأَكَلَتْ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ  ))

[ أخرجه البخاري، ومسلم عن عبد الله بن عمر   ]

فما قولكم بما فوق الهرة؟! ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّٰلِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍۢ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلْأَبْصَٰرُ﴾ ، في التاريخ الحديث يقول لك: هذا قتل خمسين مليوناً، هذا أربعين مليوناً، هذا ثمانين مليوناً، الجماعة مرتاحون تماماً وبراءة الأطفال في أعينهم، قتل خمسين مليون هكذا! لذلك الإيمان بالآخرة يجب أن يكون كإيمانك بوجودك، بطولتك ليس أن تنجو الآن بل يوم العرض الأكبر على الله.

﴿ وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْـُٔولُونَ (24)﴾

[ سورة الصافات ]

﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ (3)﴾

[ سورة الواقعة ]


قيمة الدنيا عند الله -عزَّ وجلَّ-:


ترى إنساناً أشعث أغبر ذي طمرين، طالب علم يسكن في بيت صغير، دخله محدود، يسأل الله النجاة والرحمة، يقرأ القرآن الكريم، يصلي، يغض بصره، لا أحد يأبه له، لا يوجد أضواء ولا كاميرات ولا شيء، لا أحد يعلم به، هذا يوم القيامة في أعلى عليين ﴿وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْـُٔولُونَ﴾ 

((  رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ ))

[ أخرجه مسلم عن أبي هريرة   ]

لا تهتم بالشهرة، أشهر واحد إبليس لا أشهر منه بالعالم كله، الشهرة لا قيمة لها، لا تهتم أن تخطف الأضواء فلا قيمة لها، لو أن أهل الأرض أثنوا عليك وكان الله غاضباً عليك لا قيمة لكل ثنائهم، ابتغوا الرفعة عند الله، بطولتك أن تكون عند الأمر والنهي، هذا اسمه نصر ولكنه نصر مبدئي، فمثلاً: أنا ضعيف لأنني مستقيم قُتلت في بلاد إسلامية، لأنني أدعو إلى الله أنهوا لي حياتي، أنا منتصر والذي قتلني منهزم، أنا نصري أن أموت موحداً مطيعاً لله -عزَّ وجلَّ-، هذه الدنيا لا قيمة لها، صدّقوا رسول الله: 

(( لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ ))

[ أخرجه الترمذي، وابن ماجه عن سهل بن سعد الساعدي  ]

جناح بعوضة له قيمة، البعوضة كلها لها قيمة، جسمها، ورأسها، وأرجلها، وأجنحتها؟! (لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ)

﴿  فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَٰبَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوٓاْ أَخَذْنَٰهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44)﴾

[ سورة الأنعام  ]

لذلك: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾ اتقِ غضب الله، اتقِ سخطه، اتقِ عقابه، اتقِ مصائب الدنيا، اتقِ مصائب الآخرة، اتق النارِ، معنى (اتقِ الله) اتقِ عقابه، اتقِ عدله، اتقِ انتقامه.

الله -عزَّ وجلَّ- عليم بما في الصدور:


﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ﴾ تكلم ما شئت، نمّق كلامك، يوم القيامة ماذا يقول الله في القرآن؟ 

﴿ ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰٓ أَفْوَٰهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (65)﴾

[ سورة يس ]

أسبغ على الجريمة طابعاً إنسانياً؛ الهدف التحرير، الهدف الحرية، الهدف كذا، تكلم ما شئت ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ﴾ ، لا ليس كذلك، قرأت القرآن الكريم ليُقال عنك قارئ وقد قيل، خذوه إلى النار، تعلمت العلم لُيقال عنك عالم وقد قيل، خذوه إلى النار ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ﴾ لا تخفى عليه خافية، من الممكن أن تقدم لمسجد أرضاً، والناس جميعاً يثنون عليك: يا أخي محسن كبير، وأنت هدفك أن يرتفع سعر الأرض، حينما تقدّم أرضاً لمسجد يُعاد تنظيم الأرض ويرتفع سعرها، فعند الناس أنت محسن كبير، ولكن عند الله لست محسناً ﴿إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ﴾
تكلم ما شئت لكن الله -عزَّ وجلَّ- متكفّل أن يضعك في حجمك الحقيقي، فلذلك لا تخفى عليه خافية، علم ما كان وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، هذه الآية تكفي ﴿وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَٰقَهُ ٱلَّذِى وَاثَقَكُم بِهِۦٓ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ﴾ ، 

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين. 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور