الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس السابع من دروس سورة المائدة، ومع الآية السادسة وهي قوله تعالى:
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ
بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَٱطَّهَّرُواْ ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰٓ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍۢ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُۥ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(6)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ لا بدّ مِن وقفة متأنية عند الصلاة الذي يُعدّ الوضوء شرطاً لها.
أيها الإخوة؛ الحقيقة الأولى أن أركان الإسلام خمسة: صوم وصلاة وحج وزكاة ونطق بالشهادة؛ النطق بالشهادة مرة واحدة، يُنطق بالشهادة مرة واحدة، والحج يسقط عن المريض وعن الفقير، والصيام يسقط عن المسافر والمريض، والزكاة تسقط عن الفقير، ما الفريضة المتكررة التي لا تسقط بحال؟ إنها الصلاة، الفرض الأول الذي لا يسقط بحال هو الصلاة، والصلاة عماد الدين، مَن أقامها فقد أقام الدين، ومَن تركها فقد هدم الدين، وبين المؤمن والكافر ترك الصلاة، وفي الصلاة معنى الصيام؛ لأن الصائم يدع الطعام والشراب، بينما المصلي يدع الطعام والشراب والكلام والحركة، وفي الصلاة معنى الحج؛ لأن المصلي يتوجه إلى بيت الله الحرام، وفي الصلاة معنى الزكاة؛ لأن المصلي يقتطع من وقته وقتاً ليصلي، والوقت أصل في كسب المال، وفي الصلاة نطق بالشهادة، إذاً في الصلاة كل أركان الإسلام وهي عماد الدين، هي غرة الطاعات، وسيدة القُربات، ومعراج المؤمن إلى رب الأرض والسماوات.
أيها الإخوة؛ يمكن أن يفهم أحدهم الدين على أنه فكر وهذا فهم قاصر، فقد تجد إنساناً تفكيره إسلامي، تفكيره يقتنع بالدين، وبالفكر الديني، وبالمبادئ الدينية، وبالقيم الدينية، ولكن ما لم يتصل بالله فلا قيمة لهذه الأفكار التي يعتقدها، وأدق دليل على ذلك أن الإنسان حينما يصاب بمرض جلدي ويقول له الطبيب: شفاؤك الوحيد أن تتعرض لأشعة الشمس، فهذا الإنسان لو اعتقد أن الشمس ساطعة، وأن الشمس مشرقة، وأن الشمس مفيدة، وأن أشعتها مطهِّرة، ما لم يتعرض لأشعة الشمس فلا قيمة لكل هذه الاعتقادات وتلك الأفكار، صار الآن هناك إسلام فكري، كل المذاهب الوضعية سقطت ولم يبقَ في الميدان إلا الإسلام، وأصبح الإسلام الآن ورقة رابحة بأيدي جميع الناس، ذكرت لكم أن أحد العلماء الذي زار بريطانيا -وهو مسلم- التقى بالجالية الإسلامية وقال لها: "أنا أستبعد أن يستطيع المسلمون اللحاق بالعالم الغربي في المدى المنظور لاتساع الهوة بينهما، ولكنني أعتقد أن العالم بأكمله سوف يركع أمام أقدام المسلمين؛ لأن خلاص العالم بالإسلام، لكن عليهم أن يُحسنوا فهم دينهم، وأن يُحسنوا تطبيقه، وأن يُحسنوا عرضه للناس"، إذاً أن تقتنع أن الإسلام حق، وأن الجنة حق، وأن النار حق، ولا تتحرك وفق قناعتك، أنا الآن أضع يدي على جراح المسلمين، فلو التقيت بمليون مسلم، بمئة مليون، بألف مليون، بمليارات المسلمين ما منهم واحد إلا وهو مقتنع أن الإسلام حق، وأنه دين الله، وأنه من عند الله، وأن القرآن كلام الله، وأن النبي معصوم، وأن الجنة حق، وأن النار حق، ما لم تتحرك وفق قناعاتك فلا قيمة لقناعاتك ذلك لأن العلم في الإسلام ليس هدفاً بذاته إنما هو وسيلة.
أيها الإخوة؛ يمكن أن نتحدث عن الصلاة من زاوية فقهية، وهذا شيء بين أيديكم، بل إن مناهج التربية الإسلامية في التعليم الإعدادي والثانوي تتحدث عن الصلاة، وعن فرضيتها، وعن شروطها، وعن واجباتها، وعن سننها، وعن مستحباتها، وعن دخول الوقت...، هذا شيء معروف بين أيدي الناس جميعاً، ولكن -أيها الإخوة- هناك إنسان يعلم علم اليقين الأحكام الفقهية المتعلقة بالصلاة، وهناك إنسان آخر يعلم كيف تستطيع أن تتصل بالله، وهناك إنسان ثالث اتصل بالله، تماماً كمن يملك خارطة قصر، ومن يعرف الطريق الموصل إليه، ومن يدخله، فلا أريد في هذا الدرس أن نبقى في الأحكام التي بين أيدي الناس جميعاً، بل نريد أن نرقى بها قليلاً إلى الطريق، أحكام الصلاة كخارطة القصر، نريد أن نصل إلى القصر، ما الطريق؟
أيها الإخوة؛ من الثابت أن المسلم إذا كان متلبساً بمعصية، إذا كان مخالفاً لحكم، إذا كان مقصّراً في واجب، إذا كان في كسبه شبهة، إذا كان في إنفاقه شبهة، إذا كان في علاقاته معصية، فإن هذا التقصير وتلك المخالفات وهذه المعاصي تحجبه عن الله، فليست العبرة أن أقف منتصب القامة، وأن أفتتح الصلاة بالتكبير، ثم أن أقرأ قراءة صحيحة، ثم أن أركع مطمئناً، ثم أن أسجد مطمئناً، ثم أن أقعد القعود الأخير، وأن أتلو الكلمات، وأن أؤدي الحركات بالتمام والكمال على أن الصلاة مجموعة أعمال وأقوال تُفتتح بالتكبير وتُختتم بالتسليم وانتهى الأمر، يجب أن نعلم أن هذا الخالق العظيم الذي أمرك أن تصلي في اليوم خمس مرات لا يمكن أن يكون أمره أمراً شكلياً؛ تقف وتقرأ، وتركع، وتسجد، ثم تسلم وانتهى الأمر، وأنت أنت لا تجد فرقاً بين مسلم يصلي وبين إنسان لا يصلي، لكن إن لم يكن الفرق شاسعاً بين الذي يصلي و بين الذي لا يصلي فليست هذه الصلاة التي أمرنا الله بها، والذي رأى خيمة في حياته، الخيمة -أيها الإخوة- في وسطها عمود لو سحبته لانتهت الخيمة، قيام هذه الخيمة بهذا العمود، قد تجد خيمة دائرية واسعة كبيرة، كل هذه الخيمة لولا هذا العامود لكانت قطعًا من القماش لا تسمى خيمة؛ أي الدين صلاة، وأن الدين اتصال هذا المخلوق الحادث الضعيف الجاهل الفاني بمبدع الكون، أنت لا شيء والله كل شيء، فأنت بالله قوي، وبالله غني، وبالله عالم، فما لم تجد فرقاً صارخاً بين المصلي وبين غير المصلي فلا يمكن أن تكون الصلاة من دون أن ترى أثرها في السلوك، وفي الأخلاق، وفي المعاملات، لا يمكن أن تكون الصلاة بهذه الطريقة التي يؤديها المصلون بالمستوى الذي أراده الله -عزَّ وجلَّ-.
الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر:
هل يمكن للمصلي أن يكذب؟ مستحيل، هل يمكن للمصلي أن يخون؟ مستحيل، هل يمكن للمصلي أن يحتال؟ مستحيل، هل يمكن للمصلي أن يأخذ ما ليس له؟ مستحيل، هل يمكن للمصلي أن يظلم؟ مستحيل، هل يمكن للمصلي أن يخادع؟ مستحيل.
﴿ ٱتْلُ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)﴾
إن الصلاة تنهى نهياً ذاتياً عن الفحشاء والمنكر، أيها الإخوة؛ يمكن أن يقوم نظام بالغ الدقة على نظام الردع، لكن الصلاة تعطي النظام الإسلامي طابع الوازع، فالإنسان يخاف أن ينقطع عن الله فلا يكذب، ولا يغش، ولا يحقد، ولا يظلم؛ لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر إما نهياً إرادياً أو نهياً ذاتياً، إما أنك تخشى أن تنقطع عن الله -عزَّ وجلَّ- فلا تظلم، ولا تكذب، ولا تفعل شيئاً يقطعك عن الله-عزَّ وجلَّ-، وإما أن الكمال الذي حصّلته بالصلاة يدفعك إلى أن تكون في أعلى مقام عند الله -عزَّ وجلَّ-؛ هذه واحدة.
الآن أريد من هذا الدرس -أيها الإخوة- أن يكون درسَ تطبيقٍ عملي، الصلاة تُطهر قلب المؤمن من الأدران، فالمصلي لا يحقد، الصلاة تطهر قلب المصلي من الحقد، تطهر قلب المصلي من الحسد، تطهر قلب المصلي من الغل، تطهر قلب المصلي من كل رذيلة نفسية أو قلبية لأن الصلاة طهور، فالمصلي عنده براءة الأطفال، بريء صافٍ ليس ساذجاً وليس غبياً؛ لأن سيدنا عمر يقول: (لست بالخِب، ولا الخب يخدعني)، لستُ من الخبث حيث أَخدع، ولا من السذاجة حيث أُخدع، (لست بالخب، ولا الخب يخدعني) ، فالمصلي بعد أن اتصل بالله -عزَّ وجلَّ- تراه سليم القلب، طاهر الفؤاد، لا يحقد، ولا يحسد، ولا يحتال، ولا يكذب، ولا يظلم، هذه ثمار الصلاة -أيها الإخوة- لكنك تجد أناساً كثيرين غارقين في معاصٍ وآثام واعتداءات على حقوق من حولهم ومع ذلك يصلون، هذا الذي يحير العالم اليوم، العالم الإسلامي يعدّ ملياراً وثلاثمئة مليون ليست كلمتهم هي العليا، وليس أمرهم بيدهم، وللطرف الآخر عليهم ألف سبيل وسبيل، ما السبب؟ إنهم لا يصلّون كما كان الصحابة يصلّون، إنهم لم تطهر قلوبهم بالصلاة التي هي في الأصل، كما قال الله-عزَّ وجلَّ-: ﴿إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ﴾ ، وقد قال الله-عزَّ وجلَّ-: ﴿وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ﴾ أي أكبر ما فيها.
ثم إن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول:
(( الطُّهُورُ شَطْرُ الإيمانِ، والْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ المِيزانَ، وسُبْحانَ اللهِ والْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ -أَوْ تَمْلأُ- ما بيْنَ السَّمَواتِ والأرْضِ، والصَّلاةُ نُورٌ، والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ، والصَّبْرُ ضِياءٌ، والْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ، أوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها، أوْ مُوبِقُها. ))
[ رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري ]
ما من سلوك منحرف إلا وتسبقه رؤية غير صحيحة، فالذي يسرق لماذا يسرق؟ لأنه رأى أن السرقة تعطيه مالاً وفيراً بجهد قليل، فظن نفسه أذكى من كل من حوله فسرق، الصلاة نور تهبك نوراً تمشي به في الناس.
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِۦ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِۦ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِۦ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(28)﴾
الصلاة نور، مستحيل وألف ألف مستحيل أن تركب مركبة في الليل ولها أضواء كاشفة أن تقع في حفرة، أو أن ترتطم بجدار، أو أن تقع في مشكلة؛ لأن هذا النور يكشف لك الطريق، وهكذا المؤمن، الصلاة نور، نور يُقذف في قلب المؤمن في أثناء الصلاة، لذلك تجد أن هذا القرآن حينما يطبقه المؤمن يهدي المؤمن سُبُل السلام؛ لأنه طبق تعليمات الصانع، يهدي القرآن المؤمنين سُبُل السلام، في سلام مع نفسه، ليس فيه ضيق داخلي، ولا اختلال توازن، ولا شعور بالذنب، ولا عقدة؛ لأنه مستقيم على أمر الله، ينام خالي البال، لذلك في بعض الفنادق كتب على زاوية السرير: "إن تقلبت في الفراش ولم تنم فليست العلة في فرشِنا إنها وثيرة، ولكن العلة في ذنوبك إنها كثيرة" ، الإنسان حينما يخرج عن منهج الله يخرج عن فطرته.
أكاد أقول لكم -والله أعلم- يمكن أن تكون الصلاة ميزاناً لاستقامتكم، إن فعلت هذا الفعل هل تستطيع أن تصلي بعده؟ قطعاً لا، تستطيع أن تقف، وأن تقرأ الفاتحة، وأن تركع، وأن تسجد، وأن تسلم، وأن تقول لمن حولك: تقبّل الله، ولكن لا تستطيع أن تتصل بالله، فكأن الصلاة ميزان، من وفّى الاستقامة حقها استوفى من الصلاة ثمراتها بالضبط، إذاً أول بند: هي عماد الدين، ثاني بند: هي طهور، مستحيل أن يكون هناك أمراض في قلب المؤمن وهو يصلي، أما أن يصلي صلاة شكلية فعنده من الحقد، والحسد، والبغض، والنكد، والتطاول، والظلم، والاحتيال ما لا يُعدّ ولا يُحصى، طهور ونور والمصلي مستنير يقذف الله في قلبه النور، يريه الحق حقاً والباطل باطلاً.
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّـَٔاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ(29)﴾
الحق واضح والباطل واضح، الخير واضح والشر واضح، الاستقامة واضحة والانحراف واضح ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِۦ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِۦ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾ النور من ثمرات الصلاة.
الصلاة حبور، فيها سعادة لقول النبي -عليه الصلاة والسلام-:
(( يا بلالُ أقمِ الصلاةَ، أرِحْنا بها ))
[ صحيح أبي داود عن سالم بن أبي الجعد ]
﴿ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ (28)﴾
القلب لا يسعد، ولا يطمئن، ولا يتوازن، ولا يستقر، ولا يأمن إلا بذكر الله ﴿أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ﴾ لذلك: (أرِحْنا بها) .
الآن الصلاة عقل.
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰٓ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)﴾
فهذا الذي لا يعلم ما يقول في حكم السكران ﴿لَا تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾ ، فينبغي أن تعلم ما تقول في الصلاة، تقول:
﴿ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ (2) ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ (3) مَٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ(4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) ٱهْدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ(6) صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ(7)﴾
كأن القرآن كله جُمع في الفاتحة، وكأن الفاتحة جُمعت في: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ، أنت حينما تقرأ الفاتحة وتقرأ آية:
﴿ وَقُل لِّعِبَادِى يَقُولُواْ ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ كَانَ لِلْإِنسَٰنِ عَدُوًّا مُّبِينًا (53)﴾
(الله أكبر) ، (سبحان ربي العظيم) ، أنت الآن سألت الله أن يهديك الصراط المستقيم، وجاء الرد الإلهي: ﴿وَقُل لِّعِبَادِى يَقُولُواْ ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ﴾ هذا هو الأمر، فإذا ركعت كأنك خضعت لله -عزَّ وجلَّ-، وإذا سجدت كأنك طلبت العون من الله، لذلك ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن لكل سورة حظها من الركوع والسجود، أية سورة تقرأها بعد الفاتحة لها ركوع خاص بها، ولها سجود خاص بها، فالركوع خضوع، والسجود طلب العون من الله -عزَّ وجلَّ-، الركوع والسجود ترجمة عملية لقولك في الفاتحة: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ إياك نعبد في الركوع سمعاً وطاعة يا رب، وإياك نستعين في السجود، إذاً الصلاة وعي، وإدراك، وعقل ﴿لَا تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾ وليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها.
الآن الصلاة ذكر.
﴿ إِنَّنِىٓ أَنَا ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعْبُدْنِى وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكْرِىٓ (14)﴾
﴿وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ﴾ أكبر شيء في الصلاة أن تذكر الله، أكبر شيء في الصلاة على الإطلاق أن تذكر الله -عزَّ وجلَّ- ﴿وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكْرِىٓ﴾ ، لكن بعض العلماء يقول في تفسير قوله تعالى ﴿وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ﴾ : إن ذكر الله لك أكبر من ذكرك له، إنك إن ذكرته عبدته، لكنه إذا ذكرك وفّقك، إذا ذكرك طمأنك، إذا ذكرك أمّنك، إذا ذكرك ألهمك الحكمة، إذا ذكرك ألقى في قلبك السكينة، إذا ذكرك أسعدك، إذا ذكرك جعلك ذا هيبة، إذا ذكرك جعلك مِن الموفقين، إذا ذكرك أجرى على يديك الخير، إذا ذكرك قرّبك إليه، لذلك في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ﴾ أي ذكر الله لعبده في الصلاة أكبر من ذكر العبد لربه، أنت تقوم بواجب لكن عطاء الله يكون حينما يمنحك من أسباب السعادة والتوفيق ما لا سبيل إلى وصفه، إذاً من معاني الصلاة الذكر.
ومن معاني الصلاة:
﴿ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب (19)﴾
القرب من الله.
﴿ وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ قُرْءَانًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُواْ لَوْلَا فُصِّلَتْ ءَايَٰتُهُۥٓ ۖ ءَا۬عْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ ۗ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ ۖ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِىٓ ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أُوْلَٰٓئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍۢ (44)﴾
فالإنسان إما أن يكون بعيداً عن الله أو قريباً منه، بالصلاة تقترب من الله، دائماً- أيها الإخوة- كيف أن الإنسان أحياناً يتقرّب إلى إنسان يراه عظيماً أحياناً بهدية، هديتك إلى الله في الصلاة أن تكون محسناً لخلقه، هذا معنى إشاري بعيد:
﴿ يَٰبَنِىٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍۢ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُوٓاْ ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ(31)﴾
[ سورة الأعراف ]
طبعاً المعنى البسيط الواضح الذي يلزم من كلمات هذه الآية أن تكون نظيفاً وذا هيئة حسنة، ولكن الإنسان أحياناً يتزين بهدية إذا زار عظيماً، فالهدية أيضاً من معاني الزينة حينما تخدم عباد الله، حينما ترحمهم، حينما تنصحهم، حينما تدلهم على الله، حينما تكرمهم، حينما تطعمهم، حينما تواسيهم، حينما تجبر كسرهم، فالله -عزَّ وجلَّ- ينتظرك في الصلاة ليكرمك جزاء إكرامك لهم، لأن الله شكور، إذاً من معاني الصلاة أيضاً أنها قرب من الله -عزَّ وجلَّ-.
الصلاة عروج إلى الله -عزَّ وجلَّ-:
والصلاة أيضاً عروج إلى الله -عزَّ وجلَّ-، وقد ورد أيضاً في بعض الآثار أن: ( الصلاة معراج المؤمن) تعرج أنت في الصلاة إلى رب الأرض والسماوات، فالصلاة تحتاج إلى تعظيم لله -عزَّ وجلَّ-، والتفكر في خلق السماوات والأرض يجعلك تعظّم الله -عزَّ وجلَّ-، وقد ورد في الأثر: (يا رب، أيُّ عبادك أحب إليك، أحبُّه بحبك؟ قال: يا داود، أحبُّ عبادي إليَّ نقيُّ القلب، ونقيُّ الكفين، لا يأتي إلى أحد سوءًا، ولا يمشي بالنميمة، تزول الجبال ولا يزول، أحبني وأحبَّ مَن يحبني، وحبَّبني إلى عبادي، قال: يا ربِّ، إنك لتعلم أني أحبك، وأحبُّ من يحبك، فكيف أُحبِّبك إلى عبادك؟ قال: ذكِّرهم بآلائي، وبلائي، ونعمائي، يا داود، إنَّه ليس من عبد يعين مظلومًا، أو يمشي معه في مظلمته، إلا أُثبت قدميه يوم تزول الأقدام .
(( ليس كل مصلٍ يصلي، إنما أتقبَّل الصلاة ممن تواضع لعظمتي، وكف شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي، وأطعم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب، وآوى الغريب، كل ذلك لي، وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوء عندي من نور الشمس على أن أجعل الجهالة له حلماً، والظلمة نوراً، يدعوني فألبيه، ويسألني فأعطيه، ويقسم عليّ فأبرّه، أكلأه بقربي، واستحلفه بملائكتي، مثله عندي كمثل الفردوس لا يمس ثمرها، ولا يتغير حالها. ))
[ رواه الديلمي عن حارثة بن وهب (ضعيف جدًا) ]
يفكر في خلق السماوات والأرض وهو مستقيم على أمر الله، التفكر والاستقامة، (ولم يصر على معصيتي) سريع التوبة؛ توّاب، إخواننا الكرام، (إنما أتقبَّل الصلاة ممن تواضع لعظمتي) أي فكر في خلق السماوات والأرض، وتعرف إلى الله -عزَّ وجلَّ-، وإلى عظمته، وإلى أسمائه الحسنى وصفاته العلى، (وكف شهواته عن محارمي) استقام على أمر الله، تفكر في خلق الله، واستقام على أمره، (ولم يصر على معصيتي) المؤمن مذنب توّاب سريع التوبة.
﴿ وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(135)﴾
هذه ثلاثة، تعرّفَ إلى الله بالتفكّر، واستقام على أمره، وبادر إلى التوبة النصوح، (وأطعم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب، وآوى الغريب) هذه الأعمال الصالحة: تفكّر، استقامة، عمل صالح، صلاة، أربع نقاط في الدين كلها مرتكزات؛ أن تفكّر في خلق السماوات والأرض فتعرفه، وأن تستقيم على أمر الله فيكون الطريق سالكاً إليه، وأن تعمل الأعمال الصالحة فتتحرك إليه.
﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّٰلِحُ يَرْفَعُهُۥ وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَٰٓئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)﴾
العمل حركة، والاستقامة إزالة العقبات، والشيء الأخير أن تتصل به فتسعد في الدنيا والآخرة، إذاً: (وأطعم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب، وآوى الغريب، كل ذلك لي)
﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلَا شُكُورًا (9)﴾
الآن ثمار الصلاة: (وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوأ عندي من نور الشمس، على أن أجعل الجهالة له حلماً) غضوب صار حليماً، بخيل صار كريماً، محتال صار مستقيماً، (على أن أجعل الجهالة) الأخلاق السيئة (له حلماً) ، (والظلمة نورًا) كان في عمًى فصار في هداية، كان في ظلماء فصار في مكان منير وضاح،(على أن أجعل الجهالة له حلماً، والظلمة نورًا، يدعوني فألبيه) صار مستجاب الدعوة، (ويسألني فأعطيه، ويقسم عليّ فأبرّه، أكلأه بقربي، واستحلفه بملائكتي، مثله عندي كمثل الفردوس لا يمس ثمرها، ولا يتغير حالها) ، ونختم هذا الدرس بآية كريمة، وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)﴾
شديد الخوف.
﴿ إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعًا(20) وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعًا(21)﴾
حريص على ما في يديه، خائر القوى إن استمع إلى خبر سيئ.
﴿ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعًا(20) وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعًا(21) إِلَّا ٱلْمُصَلِّينَ(22)﴾
المصلي مُعافى من الهلع والحرص، ﴿إِلَّا ٱلْمُصَلِّينَ﴾ كل مَن وقف، وكبّر، وقرأ الفاتحة، وركع، وسجد يصلي، لكن كلما أضفنا صفة ضاقت الدائرة.
﴿ إِلَّا ٱلْمُصَلِّينَ (22) ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَآئِمُونَ (23)﴾
ضاقت الدائرة.
﴿ وَٱلَّذِينَ فِىٓ أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ (25) وَٱلَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ(26) وَٱلَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ(27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍۢ(28) وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَٰفِظُونَ(29) إِلَّا عَلَىٰٓ أَزْوَٰجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(30) فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ(31) وَٱلَّذِينَ هُمْ لِأَمَٰنَٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَٰعُونَ (32) وَٱلَّذِينَ هُم بِشَهَٰدَٰتِهِمْ قَآئِمُونَ (33) وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاٰتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُوْلَٰٓئِكَ فِى جَنَّٰتٍۢ مُّكْرَمُونَ(35)﴾
كي تتضح جلياً: الإنسان ستة آلاف مليون، الآن قل: إنسان مسلم: مليار ومئتا مليون، إنسان مسلم عربي: أربعمئة مليون، إنسان مسلم عربي مثقف: مليون، إنسان مسلم عربي مثقف طبيب: مئتا ألف، كلما أضفت صفة ضاقت الدائرة، فهذه الصلاة التي تنجيك من الهم والغم والحزن والقلق والانهيار، وأن تكون منوعاً وجزوعاً، ما كل مصلٍ يصلي، اقرأ هذه الآية واقرأ تفصيلاتها، ثم انظر أية صلاة تقطف ثمارها؟ التي ترافقها هذه الخصائص.
أيها الإخوة؛ في درس قادم -إن شاء الله- نتناول الوضوء، وتفاصيل أحكام الوضوء، وأحكام الغُسل الذي هو شرط أساسي من شروط الصلاة.
الملف مدقق